بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

 

(هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ) استفهام تقرير وتقريب، (حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) طائفة محدودة من الزمان، وهو ما تقدم من الدهر قبل إيجاد، ( لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا 1) بل كان شيئا منسيا فير مذكور بالإنسانية.

 

(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) أخلاط، لأن المراد بها مجموع مني الرجل والمرأة، وكل منهما مختلفة الأجزاء في الرقة والقوام والخواص؛ ولذلك يصير كل جزء منهما مادة عضو، ( نَبْتَلِيهِ) أي: مبتلين له، مريدين اختباره، ( فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا 2) ليتمكن من مشاهدة الدلائل، واستماع الآيات، ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ) بنصب لعله الدلائل، وإنزال الآيات، وإزاحة العلل، لأنه لا يترك متعبدا من خلقه لطاعته وعبادته سدى، وإنه لا بد أن يهديه هداية، إن شاء يهديه بها، أو هداية يشقيه ويقيم عليه بها الحجة، ولن تكون إلا كذلك، (السَّبِيلَ) الذي لأجله خلق، ( إِمَّا شَاكِرًا) سالكا السيبل الذي هداه إياه، ( وَإِمَّا كَفُورًا 3) صادا عنه إلى الضلال، بعدما مكن من ذا وذا، ثم توعد على من اختار الضلال على الهدى، فقال:

(إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ) بها يسحبون، ( وَأَغْلَالًا) بها يقيدون ( وَسَعِيرًا 4) بها يحرقون، (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ) من خمر، وهي في الأصل القدح، تكون فيه، وتخلق فيه، ( كَانَ مِزَاجُهَا) ما يمزج بها ( كَافُورًا 5) لبرده وعذوبته وطيب عرفه؛ وقيل: اسم ماء في الجنة، يشبه الكافور في رائحته وبياضه، ويخلق فيها كيفيات الكافور، فيكون كالممزوجة بها، ( عَيْنًا) بدل من  كافورا إن جعل اسم ماء، ومن محل من كأس على تقدير مضاف، أي: ماء عين، (يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) أي: ملتذا، أو ممزوجا بها؛ وعباد الله: الذين عبدوه بالإخلاص لا غير، ( يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا 6) يجرونها بها حيث شاءوا إجراء سهلا.

 

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) استئناف ببيان ما رزقوه لأجله، كأنه سئل عنه، فأجيب بذلك، وهو أبلغ في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات؛ لأن من وفى بما أوجبه على نفسه لله، كان أوفى بما أوجبه الله عليه، (وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ) شدائده ( مُسْتَطِيرًا 7) فاشيا منتشرا غاية الانتشار، من استطار الحريق والفجر، وهو أبلغ من طار؛ وفيه إشعار بحسن عقيدتهم، واجتنابهم عن المعاصي، ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ) حب الله، أو الطعام أو الإطعام، (مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا 8) يعني:

أسارى الكفار؛ أو الأسير المؤمن، ويدخل فيه المسبحون والغريم، لما جاء الحديث: غريمك أسيرك، فأحسن إلى أسيرك.

 

(إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ) على إرادة القول، بلسان الحال أو المقال، إزاحة لتوهم المن، وتوقع المكافأة المنقصة للأجر، إذ هو مفعول لوجه الله، فلا معنى لمكافأة الخلق، ( لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً) مكافأة، (وَلَا شُكُورًا 9) أي: شكرا، (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا) فلذلك نحسن إليكم؛ أو لا نطلب المكافأة منكم، ( يَوْمًا) عذاب يوم ( عَبُوسًا) تعبس فيه الوجوه، أو يشبه الأسد العبوس في ضراوته، ( قَمْطَرِيرًا 10) شديد العبوس.

 

(فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ) بسبب خوفهم وتحفظهم عنه، ( وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً) في وجوههم ( وَسُرُورًا 11) في قلوبهم بدل عبوس الفجار وحزنهم، ( وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا) بصبرهم على أداء الواجبات واجتناب المحرمات، وإيثار الأموال، ( جَنَّةً وَحَرِيرًا 12 مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا 13) والمعنى: انه يمر عليهم فيها هواء معتدل، لا حار محم، ولا بارد مؤذ؛ والمعنى: أن هواءها مضيء بذاته، لا يحتاج إلى شمس وقمر، ( وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا) أي: تقرب منهم ظلالها حيث كانوا، كأنها مسخرة لهم في جميع الأماكن والأوقات، ( وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا 14) تذليل القطوف: أن يجعل سهل التناول، لا يمتنع عن قطافها كيف شاءوا.

 

(وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ) أباريق بلا عرى،  (كَانَتْ قَوَارِيرَ 15 قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ) أي: تكونت جامعة بين صفاء الزجاجة وشفيفها، وبياض الفضة ولينها، ومعنى (كانت) أنها تكونت قوارير بتكوين الله إياها؛ وهو تفخيم لتلك الخلقة العجيبة الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين؛ ومثله كان في قوله: (كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا 5)  نحو قوله: (كن فيكون)، (قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا 16) أي: قدروها في أنفسهم فجاءت مقاديرها وأشكالها كما تمنوه، أو قدروها بأعمالهم الصالحة، فجاءت على حسبها؛ أو قدر الطائفون بها، المدلول عليهم بقوله: (ويطاف عَلَيْهِم ...)، فالمعنى: قدروا شرابها على قدر اشتهائهم، قرئ: قدروها، أي: جعلوا قادرين لها كما شاءوا، من قدر، منقولا من: قدرت الشيئ، وقدرنيه فلان: إذا جعلك قادرا له؛ ومعناه: جعلوا قادرين لها كيف شاءوا على حسب ما اشتهوا، وشهوتهم على حسب العمل.

 

(وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا 17) يشبه الزنجبيل في الطعم، وقيل: كانت العرب يستلذون الشراب الممزوج به، وقيل عن ابن عباس: كل ما ذكره الله في القرآن مما في الجنة، ليس له مثل في الدنيا، ولكن سماه بما يعرف؛ وسميت العين زنجبيلا لطعم الزنجبيل فيها، يعني: أنها في طعمه، وليس فيها لذعة ولا غول، خلاف شراب الدنيا، فإنه ممزوج بالكدر والآفات، ولكن نقيض اللذع، وهو السلاسة، كما قال: (عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا 18) لسلالة انحدارها في الخلق، وسهولة مساغها؛ وقيل: أصله سل سبيلا، فسميت به كتأبط شرا، لأنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلا بالعمل الصالح. (  وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُون)َ دائمون، (إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا 19) من صفاء ألوانهم وانبثاثهم في مجالسهم، وانعكاس شعاع بعضهم على بعض.

 

(وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ) ليس ]له[ مفعول ملفظ ولا مقدر، لأنه عام، معناه: أن بصرك أينما وقع ( رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا 20) والمعنى: أن بصر الرائي أينما وقع لم يقع إلا على نعيم عام، وملك كبير؛ وقيل: إذا أرادوا شيئا كان، وفي الحديث: أدنى أهل الجنة منزلة، ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى

أدناه . هذا وللعارف الكثير من ذلك، وهو أن تنتقش نفسه بجلايا الملك، وخفايا الملكوت، فيستضييئ بأنوار قدس الجبروت.

 

(عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) تعلوهم ثياب الحرير الخضر، ما رق منها وما غلظ؛ كأنهم يجدونهم على أجسادهم من غير تحمل لعله لبس؛ أو يلقونها إلى أجسادهم الغلمان كما أرادوا، ( وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا 21) يريد به نوعا آخر يفوق على النوعين المتقدمين، ولذلك أسند سقيه إلى الله تعالى، ووصفه بالطهورية، فإنه يطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الحسية، والركون إلى ما سوى الحق، فيتجرد لمطالعة جلاله، ملتذا ببقاء ثوابه، باقيا ببقائه؛ وقيل: يطهركم من كل شيء سواه؛ وقيل: طهورا ممـا يشوبه من النقـص، ( إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً) لكل واحـد جزاؤه على قدر عمـله، (وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا 22) مجازى عليه غير مضيع.

 

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا 23) مفرقا، منجما مفصلا لحكمة اقتضته، ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) الصادر عن الحكمة والصواب على مكافحتهم، واحتمال أذاهم، ( وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا) في إثمه، ( أَوْ كَفُورًا 24) في كفره، ( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا 25) أي: وداوم على ذكره لا تنساه في ]أي[ وقت، لأن البكرة والأصيل يعم الوقت كله؛ وقيل: دم على صلاة الفجر والظهر والعصر، ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) ومن بعض الليل فصل له، لما في صلاة الليل من مزيد الكلفة والخلوص؛ وقيل: صلاة المغرب والعشاء، ( وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا 26) وتهجد له طائفة طويلة من الليل.

 

(إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ) لا يتعدى نظرهم وفكرهم وسعيهم عنها، ويؤثرونها على الآخـرة، فلا تكن مثلهم، (وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ) أمامهم؛ أو خلف ظـهورهم (يَوْمًا ثَقِيلًا 27) شديدا. (نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ) وأحكمنا ربط مفاصلهم، وقيل: معناه كلفناهم، فشددناهم بالأمر والنهي، (وَإِذَا شِئْنَا) أهلكناهم و (بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا 28) في الخلقة.

 

(إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ) الإشارة إلى السورة، ( فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا 29) يوصل إلى رضاه، (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) وما تشاؤون ذلك إلا وقت أن يشاء الله مشيئتهم، ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا) بما يستأهل كل أحد من علم منه أنه أهل لذلك من فعل الخير والشر، (حَكِيمًا 30) لا يشاء إلا ما تقتضيه حكمته،( يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ) بالهداية والتوفيق للطاعة، ( وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا 31) عاجلا وآجلا.