بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

 

 (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1) أي: المتدثر، وهو لابس الدثار. قال أبو سعيد: سمعت أنه لعله مما قيل: إنه أول ما أرسل الله به لعله نبينا صلى الله عليه وسلم، وأمره بالرسالة قوله: ( يا أيُّها المدَّثِّر قم فأنذر). قلت له: فالمدثر ما هو؟ قال: معنى أنه النائم، قلت له: فقوله تعالى: ( وثيابك فطهِّر) أكانت ثيابه نجسة؟ قال: معي أنه قد لعله قيل: قلبك فطهر، والثياب هاهنا القلب. وقيل: فالرجز ما هو؟ لعله قال مضى معي أنه الشرك، أي: اهجر الشرك. والله أعلم بتأويل كتابه .

 

( قُمْ ) من مضـجعك، أو قم قيام عزم وجد، ( فَأَنْذِرْ 2) مطـلق للتعميم، (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ 3) واخصص ربك بالتكبير؛ وهو وصفه بالكبرياء عقدا وقولا؛ والمقصود من الأمر بالقيام أن يكبر ربه عن الشرك والتشبيه؛ فإن أول ما يجب: معرفة الصانع، وأول ما يجب بعد العلم بوجوده: تنزيهه.

 

(وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ 4) من النجاسات، فإن التطهير واجب ىفي الصلاة، محبوب في غيرها، وذلك بغسلها أو بحفظها عن النجاسة، وهو أول ما أمر به من رفض العادات المذمومة؛ أو طهر نفسك من الأخلاق الذميمة، والأفعال الدنيئة، فيكون أمرا باستكمال القوة العملية، بعد أمره باستكمال القوة النظرية والدعاء إليه؛ أو فطهر ديار النبوة عما يدنسه من الحقد والضجر وقلة الصبر، ( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ 5) واهجر العذاب بالثبات على هجرها ما يؤدي إليه من الشرك وغيره من القبائح.

(وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ 6) لا تعط متكثرا، نهي عن الاستغرار، وهو أن يهب شيئا طامعا في عوض أكثر؛ أو لا تمنن بعبادتك على الله مستكثرا إياها، أو على الناس بالتبليغ متكثرا به الأجر منهم، ( وَلِرَبِّكَ) ولوجهه أو أمره  (فَاصْبِرْ 7) فاستعمل الصبر؛ أو فاصبر على مشاق التكاليف، وأذى المشركين.

 

(فَإِذَا نُقِرَ) نفخ (فِي النَّاقُورِ 8) وهو القرن على ما قيل؛ كأنه قال: اصبر على زمان صعب تلقى فيه عاقبة صبرك، وأعداؤك عاقبة ضرهم، ( فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ 9 عَلَى الْكَافِرِينَ) فإن معناه: عسر الأمر على الكافرين؛ وذلك إشارة إلى وقت النقر ( غَيْرُ يَسِيرٍ 10)

 

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا 11) فريدا لا مال له ولا ولد، (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا 12) مبسوطا كثيرا، أو ممدا بالنماء، (وَبَنِينَ شُهُودًا 13) حضورا معه يتمتع بلقائهم في المحافل لوجاهتهم واعتبارهم، ( وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا 14) أو بسطت له الرئاسة والجاه العريض؛ وقيل: الوحيد باستحـقاق الرئاسة والتقدم، (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ 15) على أن أوتيته، وهو استبعاد لطعمه، كما قال: (كَلَّا) لعله قطع الرجاء عما كان يطمع فيه، (إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا 16) فإنه ردع له عن الطمع وتعليل للردع على سبيل الاستئناف بمعاندة آيات الله المنعم، المناسبة لإزالة النعمة، المانعة عن الزيادة، (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا 17) سأغشيه عقبة شاقة المصعد، وهو مثل لما يلقى من الشدائد. وفي موضع: سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له فيها،وقيل: الصعود: جبل من نار يتصعده حريقا، ثم يهوي فيه كذلك أبدا، ويكلف أن يصعده، فإذا وضع يده ذابت، وإذا رفعها عادت.

 

(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ 18) تعليل للوعيد، أو بيان للعناد؛ والمعنى: فكر فيما يخيل طعنا في القرآن، وقدر في نفسه ما يقول فيه، ( فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ 19) تعجب من تقديره استهزاء به، ( ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ 20) تكرير للمبالغة ( ثُمَّ نَظَرَ 21) قيل: في أمر القرآن مرة بعد أخرى، (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ 22) قطب وجهه لما لم يجد فيه طعنا، ولم يدر ما يقول، ( ثُمَّ أَدْبَرَ) عن الحق، ( وَاسْتَكْبَرَ 23) عن اتباعه، ( فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ 24) يروى ويتعلم،( إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ 25 سَأُصْلِيهِ سَقَرَ 26 وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ 27 لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ 28) لا تبقي على شيء فيها ولا تدعه حتى يهلك، لأن طبعها الإذهاب لما يلقى فيها، إلا من أدخل للتعذيب، فإنه مخلد فيها، ( لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ 29 عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ 30) ملكا، أو صنفا من الملائكة يلون أمرها. (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً) ليخالفوا جنس المعذبين، فلا يرقوا لهم، ولا يستروحون إليهم، ولأنهم أقوى الخلق بأسا وأشدهم غضبا لله، ( وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) وما جعلنا عددهم إلا العدد الذي اقتضى فتنتهم، وهو التسعة عشر، فعبر بالأثر عن المؤثر تنبيها على أنه لا ينفك منه؛ وافتتانهم به: استقلالهم له، واستهزاؤهم به، واستبعادهم أن يتولى هذا العدد القليل تعذيب أكثر الثقلين.

 

(لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) أي: ليكتسبوا اليقين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق القرآن لما رأوا ذلك موافقا لما في كتابهم، ( وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا) بالإيمان به، ( وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي: في ذلك؛ وهو تأكيد للاستيقان وزيادة الإيمان، ونفي لما يعرض للمتيقن حيثما عراه شبهة؛ ( وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شك او نفاق،  (وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) أي شيء اراد بهذا العدد المستغرب استغراب المثل، ( كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يضل الكافرين، ويهدي المؤمنين، ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ) جموع خلقه على ما هم عليه؛ لعله فلله تعالى في القلوب والأرواح وغيرها من العوالم جنودا مجندة، لا يعرف لعله حقيقتها وتفضيل عددها ( إِلَّا هُوَ) إذ لا سبيل لأحد إلى حصر الممكنات، والاطلاع على حقائقها وصفاتها، وما يوجب اختصاص كل منها بما يخصه من كم وكيف، واعتبار ونسبة، (وَمَا هِيَ) وما سقر، أو عدة الخزنة، أو السورة (إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ 31) إلا تذكرة لمن يذكر منهم.

 

(كَلَّا) ردع لمن أنكرها او إنكار ]لأن يتذكروا بها[، ( وَالْقَمَرِ 32 وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ 33 وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ 34 إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ 35) لإحدى البلايا الكبرى، أي: البلايا الكبر كثيرة وسقر واحدة منها، ( نَذِيرًا لِلْبَشَرِ 36 لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ 37) أي: نذير للممكنين من السبق إلى الخير والتخلف عنه.

 

(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ 38) مرهونة عند الله بعملها الخبيث، بدليل قوله: ( إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ 39) فإنهم فكوا رقابهم بتوبتهم من الذنوب، لعله وصالح الأعمال، ( فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ 40 عَنِ الْمُجْرِمِينَ 41) لعله متنعمين بالسؤال، ( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ 42)؟ بجوابه حكاية لما جرى بين المسؤولين والمجرمين أجابوا بها: (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ 43) الصلاة الواجبة، ( وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ 44) ما يجب إعطاؤه، (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ 45) نشرع في الباطل مع الشارعين فيه، ( وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ 46) يوم الجزاء، ( حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ 47) الموت وما بعده.

 

(فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ 48) لو شفعوا لهم جميعا، ( فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ 49)؟ أي: معرضين عن التذكير، يعني القرآن، أو ما يعمه (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ 50 فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ 51) شببهم في إعراضهم ونفارهم عن استماع الذكر بحمر نافرة، فرت من مسرعة؛ والقسورة: هو الأسد على ما قيل، (من قسورة) أي: أسد، فعولة من القسر، وهو القهر، ( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً 52) قراطيس تنشر للقراءة، وذلك كأنهم أرادوا أن يؤتى كل واحد منهم كلاما له بكتاب من السماء فيه: من الله إلى فلان اتبع محمدا.

 

(كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ 53 كَلَّا )ردع عن اقتراحهم الآيات، ( إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ 54) يعني: القرآن مذكر لمن آمن، ( فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ 55) فمن شاء أن يذكره. ( وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) ذكرهم، أو مشيئتهم، كقوله: (وما يشاؤون إلاَّ أن يَشَاء الله) وهو تصريح بأن فعل العبد بمشيئة الله، ( هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى) حقيق بأن يتقى عقابه؛ أو لا تكون التقوى إلا منه، ( وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ 56) حقيق بأن يغفر لعباده المتقين.