بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

 (ن) قيل: هو الدواة، (وَالْقَلَمِ) هو الذي خط اللوح، أو الذي يخط؛ أقسم به لكثرة فوائده، (وَمَا يَسْطُرُونَ 1) وما يكتبون .... الملائكة من أعمال بني آدم. (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ 2 وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا) على الامتثال والإبلاغ،  (غَيْرَ مَمْنُونٍ 3) مقطوع؛ أو ممنون به عليك من الناس.  (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ 4) محتمل من قومك، ما لم يحتمله أمثالك؛ أو خلق عظيم بينك وبين الله. وسئلت عائشة عن خلُقُه فقالت:  كان خلقه القرآن. قال أبو سعيد:  خلق الدِّينِ وغيره من الكرم .

 

 (فَسَتُبْصِرُ) فترى يا محمَّد، (وَيُبْصِرُونَ 5) يعني المشركين. (بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ 6) أيكم الذي فتن بالجنون، الفريق المؤمنون، أو فريق الكافرين؛ أي: في أيهما يوجد من يستحق بهذا الاسم. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِه)ِ  وهم المجانين على الحقيقة، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ 7) الفائزين بكمال العقل. ( فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ 8)  تهييج للتصميم على مخالفتهم فيما دعوه إليه من دينهم. (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ) بأن تدع نهيهم عن الشـرك، أو توافقهم فيه أحيــانا، ( فَيُدْهِنُونَ 9) أي: إن داهنتهم فيداهنوك؛ ومعناه: لو تكفر فيكفرون.

 

( وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) كثير الحلف في الحق والباطل، (مَهِينٍ 10) حقير الرأي، من المهانة: وهي الحقارة. (هَمَّازٍ) عيَّاب، (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ 11)نقال للحديث على وجه السعاية. ( مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) يمنع الناس حقوقهم من ماله؛ أو يمنعهم الإيمان والاتصال والعمل الصالح، ( مُعْتَدٍ) متجاوز في الظلم، ( أَثِيمٍ 12) كثير الآثام. ( عُتُلٍّ ) جاف غليظ لعله منوع للخير، من عتله: إذا قاده بعنف وغلظة؛ وقيل: هو الفاحش الخلق، السيء الخلق، ( بَعْدَ ذَلِكَ) بعدما ععده من المثالب، ( زَنِيمٍ 13) قيل: اللئيم، المعروف بلؤمه، أو بشره؛ قيل عن ابن عباس أنه قال:  يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها حتى قيل: زنيم معرف، وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها، لأن من جفا وقسى قلبه اجترأ على كل معصية، ولأن النطفة إذا خبثت خبث التأسي منها.

 

(أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ 14 إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ 15) قال ذلك حينئذ.

(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ 16) عبر سبحانه بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة، لأن الوسم على الوجه إهانة وذلة؛ وذلك استعارة عن ظهور المعاصي على فاعلها لعله في وجهه مع أهل الدين، لعله كما قال في ضدهم: (سيماهم في وجوههم ...).

 

 (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ ) قيل: ابتلى أهل مكة بالقحط، (كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) وهم قوم كان لأبيهم هذه الجنة، وكان رجلا صالحا فيما قيل، وكان ينادي الفقراء وقت الانصرام، وينثر لهم ما أخطأه الوعاء أو الريح، فيجمع لهم شيء كثير؛ فلما مات قال بنوه: إن فعلنا ذلك، ما كان يفعل أبونا، ضاق علينا، فحلفوا ليصرمنها وقت الصباح خفية عن المساكين، كما قال: ( إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ 17) ليقطعنها داخلين الصباح. (وَلَا يَسْتَثْنُونَ 18) ولا يقولون:  إن شاء الله؛ أو لا يستثون منها حقا للمساكين.

 

(فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ) بلاء طائف،(مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ 19 فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ 20) كالبستان الذي صرم ثماره بحيث لم يبق فيه شيء. ( فَتَنَادَوْا) نادى بعضهم بعضا، (مُصْبِحِينَ 21 أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ) أن اخرجوا إليه غدوة، (إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ 22) قاطعين لثمره. (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ 23) الخفت: إسرار الشيء عن أن يطلع عليه، يتشاورون فيما بينهم. (أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ 24 وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ) عـلى قصــد وجـد (قَادِرِينَ 25) وغدوا قادرين على نكد لا غير؛ من حاردت السنة: إذا لم يكن فيها مطر؛ وحاردت الإبل: إذا منعت درها؛ والمعنى: أنهم عزموا حاصلين على النكد والحرمان، ومكان كونهم قادرين على الانتفاع؛ وقيل غير ذلك.

 

(فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ 26) طريق جنتنا، وليس هذا بستاننا؛ ثم علموا أنها عقوبة، وقالوا: (بَلْ نَحْنُ) أي: بعدما تأملوا وعرفوا أنها هي، (مَحْرُومُونَ 27) حرمنا خيرها لجنايتها على أنفسنا. (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) رأيا أو سنا : ( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ 28) لولا تذكرونه وتتوبون إليه من خبث نيتكم، وقد قاله حيثما عزموا على ذلك، ويدل على هذا المعنى. (قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا) نزهوه عن أن يكون ظالما، وأقروا على أنفسهم بالظلم، (إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ 29 فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ 30) يلوم بعضهم بعضا. (قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ 31) متجاوزين حدود الله لعله نحو منع الفقراء. (عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا) ببركة التوبة والاعتراف بالخطيئة، (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ 32) راجون العفو طالبون الخير.

 

(كَذَلِكَ الْعَذَابُ) مثل ذلك الذي بلونا به من جرت فيه القصة، نعذب من عصانا في الدنيا، (وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ) أعظم منه،( لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ 33) لا حترزوا عما يؤديهم إلى عذاب الدارين؛ ولقد عقب ذكر ضدهم أنهم منعمون في الدارين، بدليل قوله: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي: في الآخرة، أو في جوار القدس، (جَنَّاتِ النَّعِيمِ 34) جنات ليس فيها إلا النعيم.

 

(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ 35) إنكارا لما يتوهمه المجرمون، لأن الشيطان غرهم بالله، ومناهم بالمغفرة على الإصرار لما نهى الله عنه. (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ 36) التفات فيه تعجب من حكمهم، واشعار بأنه صادر من اختلال فكر، واعوجاج رأي. (أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ) من الكتب السماوية (فِيهِ تَدْرُسُونَ 37) تقرؤن، فتجـدون به مـا تمنيتم. (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ 38) إن لكم ما تختارونه، وتشتهونه.

 

 (أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا) عهود مؤكدة بالأيمان، (بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) أي ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة، لا نخرج عن عهدتها حتى نحكمكم في ذلك اليوم؛ أو متعلق ببالغة: أي أيمان تبلغ ذلك اليوم، (إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ 39) .

 

(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ 40) بذلك الحكم قائم يدعيه ويصححه. (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ) يشركونهم في هذه الحكومة، فيحكمون لهم بذلك،( فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ 41) في دعواهم. وقد نبه سبحانه في هذه الآيات على نفي جميع ما يمكن أن يتشبثوا به من عقل أو نقل، أو وعده، أو محض تقليد على الترتيب، تنبيها على دحض حجتهم.

 

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) يوم يشتد الأمر، ويصعب الخطب؛ وكشف الساق مثل لذلك، وأصله تشمير المخدورات عن سوقهن في الحرب؛ أو يوم يكشف عن أصل الأمر وحقيقته بحيث يصير عيانا؛ مستعار من ساق الشجر وساق الإنسان؛ وتنكيره للتهويل، أو التعظيم، (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) توبيخا على ترك السجود إن كان اليوم يوم القيامة، أو يدعون إلى الصلاة لأوقاتها، إن كان وقت النزع؛ وقيل: يدعون إلى الصلاة المكتوبة بالأذان والإقامة. وقال كعب الأحبار: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات.( فَلَا يَسْتَطِيعُونَ 42) لذهاب وقته وزوال القدرة؛ (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) يلحقهم ذل، 

 

(وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) في الدنيا قبل النزع، (وَهُمْ سَالِمُونَ 43) متمكنون منه، مزاحوا العلل فيه.

 

 (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ) كله إلي فإني أكفيكه، (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ ) سنستدنيهم من العذاب درجة درجة بالإمهال، أو إدامة الصحة وازدياد النعمة، ( مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ 44 ) أنهم مستدرجون، وهو الإمهال، والإنعام عليهم، لأنهم حسبوه تفضيلا لهم، مثلما للمؤمنين؛ وقال الحسن: كم من مستدرج بالاحسان إليه، وكم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه. (َأُمْلِي لَهُم )وأمهلهم (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ 45) لا يدفع بشيء؛ وإنما سمي إنعامه استدراجا بالكيد، لأنه في صورته.

 

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا)على الإرشـاد،(فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ 46 أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) اللوح، أو المغيبات، (فَهُمْ يَكْتُبُونَ 47) منه ما يحكمون به، ويستغنون به عن علمك. (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ)وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم، (وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ) يونـس، (إِذْ نَادَى) في بـطن الحوت (وَهُوَ مَكْظُومٌ 48) مملوء غيظا من الضجرة، فتبتلى ببلائه. ( لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) يعني: التوفيق بالتوبة، (لَنُبِذَ بِالْعَرَاء)ِ بالأرض الخالية عن الأشجار، ( وَهُوَ مَذْمُومٌ 49) مليم، مطرود عن الرحمة والكرامة. (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ ) رده على ما كان عليه من الاجتباء، (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ 50) من الكاملين في الصلاح.

 

(وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ ) والمعنى: أنهم لشدة عداوتهم ينظرون إليك شزرا، بحيث يكادون يزلون قدمك، أو يهلكونك، أو أنهم يكادون يصيبونك بالعين، (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) أي: القرآن؛ أي: ينبعث عند سماعه بغضهم وحسدهم، (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ 51) حيرة في أمره، وتنفيرا عنه،  (وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ 52) لما جنبوه لأجل القرآن بين ذكر عام لا يدركه ولا يتعاطاه إلا من ]كان[ أكمل الناس عقلا، وأصوبهم رأيا.