بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

 

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) خص النداء وعم الخطاب بالحكم، لأنه إمام أمته، فنداؤه كندائهم، لأن الكلام معه والحكم يعمهم، والمعنى: إذا أرتم تطليقهن، على تنزيل المشارف له منزلة الشارع فيه، (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أي: وقتها، وهو الطهر، (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) واضبطوها، (وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) من مساكنهن وقت الفراق، حتى تنقضي العدة، (وَلَا يَخْرُجْنَ) باستدادهن ]أ[ ما لو اتفقا على الانتقال جاز، إذ الحق لا يعدوهما، وفي الجمع بين النهيين دلالة على استحاقها السكنى ولزومها، (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) والمعنى: إلا أن تبذو على الزوج، فإنه كالنشور في إسقاط حقها؛ أو إلا أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها؛ قيل: إذا شتمته وآذته وساء خلقها، هكذا يوجد في الجامع. وقيل: إنه الزنا، وقيل: إذا فحشت له القول، وقع ذلك موقع الفاحشة، هكذا في جامع أبي سعيد.

 

(وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) الإشارة إلى الأحكام المذكورة، (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) بأن عرضها للعقاب، (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا 1) وهو الرغبة في المطلقة برجعة أو استئناف.

 

(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) شارفن آخر عدتهن، (فَأَمْسِكُوهُنَّ) فراجعوهن (بِمَعْرُوفٍ) بحسن عشرة، وإنفاق مناسب، (أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) بإيفاء الحق واتقاء الضرر، (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) على الرجعة أو الفرقة، تبرؤا عن الريبة، قطعا للتنازع؛ قيل: هو ندب على الفراق، وفرض على الرد، (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) أيها الشهود عند الحاجة، خالصا لوجهه، (ذَلِكُمْ) يريد: الحث على الإشهاد والإقامة، أو على جميع ما في الآية (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ) فإنه المنتفع به والمقصود تذكيره، لعله ووعظه بما بين من الإمساك بالمعروف، أو المفارقة بالعروف، والإشهاد وأدائها لله، وغير ذلك، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ) بأداء الفرائض والطاعات، (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا 2) من مضائق الأمور، وذل المعاصي. (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) بالوعد لعامة المتقين، بالخلاص عن مضار الدارين، والفوز بخيرهما من حيث لا يحتسبون. وعنه عليه السلام: إني لأعلم آية، لو آخذ الناس بها لكفتهم: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ) فما زال يقرأها ويعيدها ، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) كافية، (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) يبلغ ما يريده، ولا يفوته مراده؛ أو يبلغه ما يصلح به عليه (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا 3) تقديرا أو مقدرا، أو أجلا لا يتأتى تغييره، وهو بيان لوجوب التوكل.

 

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ) لكبرهن (إِنِ ارْتَبْتُمْ) شككتم في عدتهن، أي: جهلتم، (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) ... أو علة فحكمها كما بين، (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ) في أحكامه فيراعي حقوقها، (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا 4)  يسهل عليه أمره، ويوفقه لخير الدارين. (ذَلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من الأحكام، (أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ) في أحكامه فيراعي حقوقها، (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ) فإن الحسنات يذهبن السيئات، (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا 5).

 

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) من وسعكم، أي: ما تطيقونه، (وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) فتلجئوهن إلى الـخارج، أو إلى المسـاكن الضيقة، (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) وليأمر بعضكم بجميل، في الرضاع وغيره، (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ) تضايقتم، (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى 6 لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) لعله على قدرها، (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ) أي: فلينفق كل من الموسر والمعسر ما بلغه وسعة؛ وفيه دليل على أن القبض والبسط بيد الله ليس بسعي، (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا) فإنه تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، وفيه تطيب لقلب المعسر، ولذلك وعد باليسر فقال: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا 7) أي: عاجلا أو آجلا.

 

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ) أعرضت عنه إعراض العاتي؛ وهذا وعظ وتخويف لكل نفس متعبده عن ]أن[ تقع فيما وقع على أهل القرية، (فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا) بالاستقصاء والمناقشة، (وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا 8) منكرا غريبا. (فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا)عقوبة كفرها ومعاصيها، (وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا 9) لا ربح فيه أصلا. (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) تكرير للوعيد، بيان لما يوجب التقوى المأمور في قوله:

(فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا 10 رَسُولًا) يعني: بالذكر جبريل لكثرة ذكره، أو لنزوله بالذكر وهو القرآن؛ أو لأنه مذكور في السماوات، أو ذا ذكر؟، أي: شرف؛ أو محمدا عليه السلام لمواظبته على تلاوة القرآن، (يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي: ليحصل لهم ما هم عليه الآن من الإيمان والعمل الصالح، (مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) من الضلالة إلى الهدى، (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا 11) فيه تعجيب وتعظيم لما رزقوا من الثواب.

 

(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)َ

أي: وخلق مثلهن من الأرض، (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) يعني: أن في كل سماء وفي كل أرض خلقا من خلقه، وأمرا نافذا من أمره، (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا 12) علة لخلق، أو يتنزل، أو مضمر يعمهما؛ فإن كلا منهما يدل على كمال قدرته وعلمه.