بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

 

(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ذكرها هنا وفي ”الحشر“ و”الصف“ بلفظ الماضي، وفي ”الجمعة“ و”التغابن“ بلفظ المضارع إشعارا بأن من شأن من أسند إليه أن يسبحه في جميع أوقاته، لأنه دلالة جلية لا تختلف باختلاف الحالات؛ ومجيء المصدر مطلقا في بني إسرائيل أبلغ، من حيث أنه يشعر بإطلاقه على استحقاق التسبيح من كل شيء، وفي كل حال. وإنما عدي باللام ]إشعاراً[ بأن إيقاع الفعل لأجل الله وخالصا لوجهه، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 1)  حال يشعر بما هو المبدأ للتسبيح، (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ما يصح منه أن يسبح، (يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) وهو اسم جامع لكل ما يقع عليه اسم شيء، (قَدِيرٌ 2) تام القدرة.

 

(هُوَ الْأَوَّلُ) لعله بلا ابتداء، السابق على سائر الموجودات من حيث أنه موجدها وحدثها ما لا يتناهى من الأوقات، (وَالْآَخِرُ) لعله لأنه ليس له غاية ولا نهاية،؟ (وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) الظاهر وجوده لكثرة دلائله، والباطن خفية ذاته فلا تكتنهها العقول؛ والغالب على كل شيء، والعالم بباطنه؛ وقيل: اسمه الظاهر يقتضي بطون كل شيء حتى لا ظاهر ]سواه[، فينطوي حينئذ وجود كل شيء؛ واسمه الباطن يقتضي ظهور كل شيء، حتى لا باطن معه، فيظن إذ ذاك لعله وجود كل شيء، فالحق هو الموجود بكل اعتبار. (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 3) يستوي عنده الظاهر والخفي، والأول والآخر.

 

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا) لعله لا يعزب عنه مثقال ذرة فيها، (وَهُوَ مَعَكُمْ) بالعلم والقدرة، (أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) لا ينفك علمه وقدرته ]عنكم[ بحال، (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 4) فيجازيكم عليه. (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ 5 يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ 6) بمكنوناتها.

 

(آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) من الأموال التي جعلكم الله خلفا في التصرف فيها، فهي في الحقيقة له لا لكم، (فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ 7 وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ) والمعنى: أي عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه بالحجج والآيات؟(وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ) أي: وقد أخذ الله ميثاقكم بالإيمان قبل ذلك، بنصب الأدلة، والتمكين من النظر؛ أو أخذ ميثاكم في ظهر آدم بأن الله ربكم، ولا إله لكم سواه؛ وقيل: (أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ) ركب فيكم العقول، وأقام لكم الحجج لعله والدلائل إلى متابعة الرسل،(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 8)بذلك.

 

(هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، (وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ 9) حيث دعاكم لما يحييكم، ولم يقتصر على ما نصب من الأدلة والحجج العقلية.

 

(وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فيما يكون قربة إليه، وذخرا لكم؛ قبل في لا شيء؛ أو قبل أن يسترد منكم ما خولكم إياه لعله بدليل: (وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يرث كل شيء فيهما، ولا يبقى لأحد شيء، وإذا كان كذلك فإنفاقه بحيث يستخلف عوضا يبقى – وهو الثواب – كان أولى. (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) فتح مكة، (وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً) بيان لتفاوت المنفقين باختلاف أحوالهم، من السبق وقوة اليقين، وحاجة من أنفق عليه، (مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ) الفتح، (وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) أي: وعد الله كلا من المنفقين الحسنى وهي الجنة، (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 10)عالم بظاهره وباطنه، ويجازيكم على حسبه.

 

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) من إنفاق مال، أو بذل بدن، أو استعمال غريزة ابتغاء مرضاته، (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ) أي: يعطي أجره أضعافا، (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ 11)أي: وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه، ينبغي أن يتوخى وإن لم يضاعف، فكيف وقد يضاعف أضعافا، المعنى: وكأنه قال: أيقرض الله فيضاعفه له؟.

 

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) لعله  يوم القيامة، (يَسْعَى نُورُهُمْ) ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة، (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) نورهم على قدر أعمالهم، ويقول لهم الملائكة: (بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ) أي: يقول لهم من يتلقاهم من الملائكة: بشراكم، أي: المبشر به (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 12) الإشارة إلى ما تقدم من النور والبشرى من الجنان المخلدة.

 

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا) انتظرونا، فإنهم بهم إلى الجنة، (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) ، لأنهم ليس لهم نور، (قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ) إلى الدنيا (فَالْتَمِسُوا نُورًا) بتحصيل المعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة، وهو تهكم، (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ) بين المؤمنين والمنافقين (بِسُورٍ) بحائط لعله وهو حاجز بين الجنة والنار، وهو جبل الأعـراف فيمـا قيل، (لَهُ بَابٌ) يدخل فيه المؤمـنون، (بَاطِنُهُ) باطن السور (فِيهِ الرَّحْمَةُ) لأنه يلي الجنة، (وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ 13) من جهته، لأنه يلي النار؛ لعله قيل: هو الأعراف المذكور.

 

(يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) ؟ يريدون موقفه الظاهر، (قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) بالنفاق، ] أهلكتموها لعله بالنفاق والكفر واستعملتوها في المعاصي والشهوات، وكلها فتنة[  (وَتَرَبَّصْتُمْ) ، بالمؤمنين الدوائر، (وَارْتَبْتُمْ) وشككتم في البعث، (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ) لعله حتى بعدتم عنكم الموت، فدهمكم بغتة؛ وقيل: الأباطيل، (حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ) وهو الموت، (وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ 14)  الشيطان مناكم المغفرة على الإصرار، (فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ظاهرا وباطنا، (مَأْوَاكُمُ النَّارُ) لأنها خلقت لكم وخلقتم لها، (هِيَ مَوْلَاكُمْ) هي أول بكم؛ وقيل: متولاكم، كما توليتم موجباتها، (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 15) النار.

 

(أَلَمْ يَأْنِ) يحن، من الحين، (لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ)ألم يأت وقته، يقال لعله أنى الأمر يأنى أنيا، إذا جاء إناه، (وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) أي: القرآن، فيقصروا الأمل بها ويجتهدوا، (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أي: فطال عليهم الزمان بطول أعمارهم وآمالهم؛ والمعنى أن الله عزوجل ينهى المؤمنين أن يكونوا في صحبة.... اليهود الذين قست قلوبهم لما طال عليهم الدهر، (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ 16)  خارجون عن دينهم رافضون لما في كتابهم من فرط القسوة.

 

(اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) ثمتيل لإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة، أو إحياء الأموات، ترغيبا في الخشوع، وزجرا عن القساوة، (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 17)كي يكمل عقلكم لعله بالذكر والكفر.

 

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) لعله تركوا الدنيا وطرحوها لأهلها، وأقرضوا أنفسهم وأموالهم ومهجهم وأعمارهم لله رب العالمين، (يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ 18 وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ )  أي: أولئك عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء، أو هم المبالغون في الصدق، فإنهم آمنوا وصدقوا جميع أخبار الله ورسله، والقائمون بالشهادة لله ولهم، أو على الأمم يوم القيامة، (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) مثل أجر الصديقين والشهداء، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ 19).

 

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) في انقضائها، وقلة حاصلها، وتعب طالبها، (وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ) لما ذكر حال الفريقين في الآخرة، حقر أمور الدنيا – أعني ما لا يتوصل به إلى الفوز الآجل – بأن بين أنها أمور خالية قليلة النفع، سريعة الزوال، لأنه (لعبٌ) يتعب الناس فيه أنفسهم حد أتعاب الصبيان في الملاعب من غير فائدة، (ولهوٌ) يلهون به أنفسهم عما يهمهم، (وزينةٌ) كالملابس الحسنة، والمراكب البهية، والمنازل الرفيعة، (وتفاخرٌ) بالأنساب، (وتكاثرٌ) بالعدد والعدد، ثم ذلك بقوله: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا) وهو تمثيل لها في سرعة تقضيها، وقلة جدواها، بحال نبات أنبته الغيث فاستوى، أعجب به الحراث أو الكافرون بالله، لأنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا، ولأن المؤمن إذا رأى معجبا انتقل فكره إلى قدرة صانعه، فأعجب به؛ والكافر لا يتخطى فكره عما أحس به، فيستغرق فيه إعجابا، ثم هاج، أي: يبس بعاهة فاصفر، ثم صار حطاما؛ كذلك الدنيا وما فيها وعليها؛ ثم عظم أمور الآخرة بقوله: (وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ)  تنفيرا عن الانهماك في الدنيا. وحثا على ما يوجب كرامة العقبى؛ ثم أكد ذلك بقوله: (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ 20)أي: لمن أقبل عليها، ولم يطلب بها الآخرة.

 

(سَابِقُوا) سارعوا مسارعة السابقين. لعله يروى عن الني صلى الله عليه وسلم أنه ]قال[: من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل ، (إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) إلى موجباتها، (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) أي: عرضها كعرضها؛ وإذا كان العرض كذلك، فما ظنك بالطول؛ وقيل: المراد به: البسطة، كقوله: (فذو دعاء عريض). ويؤخذ عن أبي سعيد فيما أرجو: فالجنة كما وصفها الله يمكن أن تكون مكان السماوات والأرض، ويمكن أن تكون في غير السماوات والأرض، وتكون السماوات والأرض بحالهن، ولا يعجز الله في قدرته شيء من الأمور؛ ويمكن أن تكون هذه الجنة مثل السماوات والأرض، وتكون السماوات والأرض بحالهن مكانهن؛ تعالى الله العزيز في قدرته علوا كبيرا. (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) ذلك الموعود يتفضل به على من يشاء من غير إيجاب، (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ 21)  فلا يبعد منه التفضل بذلك، وإن عظم قدره.

 

(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) بالقحط والآفات للثمار، (وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ) بالمرض والخسران في الدين، (إِلَّا فِي كِتَابٍ) إلا مكتوبة في اللوح مثبتة في علم الله، (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) نخلقها، (إِنَّ ذَلِكَ) إن إثباتها ]الذي[ ثبته في كتاب، (عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ 22) لاستغنائه فيه عن العدة والمدة.

 

(لِكَيْ لَا تَأْسَوْا) أي: أثبت وكتب لئلا تحزنوا (عَلَى مَا فَاتَكُمْ) من نعم الدنيا، (وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ) بما أعطاكم الله منها، فإن من علم أن الكل مقدر، هان عليه الأمر؛ وقرأ أبو عمر: وبما أتاكم من الإتيان لتعادل ما فاتكم، وعلى الأول فيه إشعار بأن فواتها يلحقها إذا خليت وطباعها؛ وأما حصولها وبقاؤها، فلا بد لهما من سبب يوجدها ويبقيها؛ والمراد به: نفي الأسى المانع عن التسليم لأمر الله، والفرح الموجب للبطر والاختيال، ولذلك عقبه بقوله: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ) متكبر على الله وعلى خلقه بما أوتي من الدنيا مستغن به عن الله، (فَخُورٍ 23) لعله به على الناس، إذ قل من تثبت نفسه عند وقوع الضراء والسراء.

 

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) بدل من كل مختال فإ"ن المختال بالمال يضن به غالب؛ أو مبتدأ. (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ 24)لأن معناه: ومن يعرض عن الإنفاق، فإن الله غني عنه وعن إنفاقه، محمود في ذاته، لا يضره الإعراض عن شكره بالتقرب إليه بشيء من نعمه؛ وفيه تهديد وإشعار بأن الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق.

 

(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) ليتعاملوا بينهم بالعدل، وإنزاله إنزال أسبابه، والأمر بإعداده؛ ويجوز أن يراد به: العدل لتقام به السياسة، ويدفع به الأعداء، كما قال: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) فإن آلات الحروب متخذة منه، (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ) باستعمال الأسلحة والعدد والمهج (بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ) على إهلاك من أراد إهلاكه (عَزِيزٌ 25) لا يفتقر إلى نصرة؛ وإنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به، ويستوجبوا ثواب الامتثال.

 

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) بأن استنبأهم، وأوحينا إليهم الكتاب؛ وقيل: المراد بالكتاب: الخط، (فَمِنْهُمْ) فمن الذرية، أو من المرسل إليهم؛ (مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ 26) خارجون عن الطريق المستقيم، والعدول عن سنن الإسلام، ومبالغة في الذم، والدلالة على ]أن[ الغلبة للضلال.

 

(ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي: ارسلنا رسولا بعد رسول، حتى انتهى إلى عيسى، (وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) لعله لأهل الإيمان، (وَرَهْبَانِيَّةً) أي: وابتدعوا رهبانية جاؤوا بها من قبل أنفسهم (ابْتَدَعُوهَا) أو رهبانية مبتدعة على أنها من المجعولات، وهي المبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس، منسوبة إلى الرهبان، وهو المبالغ في الخوف، من رهب.

 

(مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) ما فرضناها عليهم (إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) قيل: استثناء منقطع؛ أي: ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان، أي: ولكنهم ابتغوا رضوان الله بتلك الرهبانية، وتلك الرهبانية: ما حملوا أنفسهم من الميثاق في الامتناع من المطعم والمشرب والملبس والمنكح؛ وقيل: متصل، فإن (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ)  بمعنى: ما تعبدناهم بها، وهو كما ينفي الإيجاب المقصود منه دفع العقاب ينفي الندب المقصود منه مجرد حصول مرضاة الله، وهو يخالف قوله: (ابْتَدَعُوهَا) ، إلا أن ]يقال[ ابتدعوها ثم ندبوا إليها؛ أو ابتدعوها بمعنى: استحدثوها وأتوا بها؛ أو لأنهم اخترعوها من تلقاء أنفسهم،(فَمَا رَعَوْهَا) أي: فما رعوها جميعا،(حَقَّ رِعَايَتِهَا) لم يوفوها جميع حقوقها.

 

(فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا) أتوا بالإيمان الصحيح، وحافظوا حقوقها، ومن ذلك الإيمان بمحمد عليه السلام، (مِنْهُمْ) من المتسمين باتباعه، (أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ 27) خارجون عن حال الاتباع.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) بالله والرسل المتقدمة، وما أتوهم به، (اتَّقُوا اللَّهَ) فيما نهاكم عنه، (وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ) محمد عليه السلام، (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ) نصيبين (مِنْ رَحْمَتِهِ) لإيمانكم بمن تقدمه، (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) علما تستضيئون به فيما تعبدتم، تسلكون به إلى جنات القدس،(وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ 28).

 

(لِئَلَّا يَعْلَمَ) أي: ليعلموا و لا مزيدة، (أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) أي: أنهم لا ينالون شيئا مما ذكر من فضله، ويتمكنون من نيله، لأنهم لم يؤمنوا برسوله، وهو مشروط بالإيمان به؛ أو لا يقدرون على شيء من فضله، فضلا أن يتصرفوا في أعظمه، وهو النبوة فيخصونها بمن أرادوا، ويؤيد قوله: (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ 29) .