بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

 

(ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ 1)  الكلام فيه كما مر في (صَ والقرآن ذي الذكر) . والمجيد: ذو المجد والشرف على سائر الكتب، أو  لأنه كلام المجيد، أو لأن من معانيه، امتثل أحكامه مجد،(بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب، وهو أن ينذرهم أحد من أحسنهم، (فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ 2) حكاية لتعجبهم؛ وهذا إشارة إلى اختيار الله محمدا للرسالة، وإضمار ذكرهم، ثم إظهاره للإشعار بتعنتهم لهذا المقال، ثم التسجيل على كفرهم بذلك، (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ 3) عن الوهم أو العادة أو الإمكان؛ (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) ما يؤكل من أجساد موتاهم؛ وهو رد لاستبعادهم بإزاحة ما هو الأصل فيه، (وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ 4) حافظ لتفاصيل الأنبياء كلها، أو محفوظ عن التغيير.

 

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ) بحججه لما قامت عليهم (لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ 5)مضطرب، كالحمار في الطاحونة، وذلك قولهم تارة: إنه شاعر، وتارة: إنه كاهن، وتارة: إنه ساحر. (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا) حين كفروا بالبعث، (إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ) إلى آثار قدرة الله في خلق العالم، (كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا) بالكواكب، (وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ 6) نتوق بأن حلتها ملساء متلاصقة.

 

(وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا) بسطناها، (وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) من كل صنف، (بَهِيجٍ 7) حسن. (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ 8)  راجع إلى ربه، متفكر في بدائع صنعه.

 

(وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا) كثير المنافع لعله لأن به حياة كل شئ، (فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ) أشجار وأثمارا، (وَحَبَّ الْحَصِيدِ 9)  وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد ويدخر. (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ 10)طوالا، أو حوامل؛ من أبسقت الشاة: إذا حملت، وإفرادها بالذكر لفرط ارتفاعها وكثرة منافعها. (رِزْقًا لِلْعِبَادِ) عله لـأنبتنا (وَأَحْيَيْنَا بِهِ) بذلك الماء (َلْدَةً مَيْتًا) أرضا جدبة لا نماء فيها، (كَذَلِكَ الْخُرُوجُ 11) كما حييت هذه البلدة، يكون خروجكم أحياء بعد موتكم.

 

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ 12 وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ 13 وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ 14)  فوجب وحل عليه، وهو تسلية لرسول الله وتهديد لهم.

 

(أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) أفعجزنا بالإبداء حتى نعجز عن الإعادة؛ من "عيي بالأمر": إذا لم يهتد لوجه عمله، (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ 15) أي: هم لا ينكرون قدرتنا على الخلق الأول، بل هم في خلط وشبهة من خلق مستأنف لما فيه من مخالفة العادة؛ وتنكير الخلق الجديد لتعظيم شأنه، والإشعار بأنه على وجه غير متعارف ولا معتاد.

 

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) ما تحدث به نفسه، وهو ما يخطر بالبال؛ والوسوسة: الصوت الخفي، ومنه وسواس الحلي، (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ 16) أي: ونحن أعلم بحاله ممن كان أقرب إليه من حبل الوريد، تجوز بقرب الذات لقرب العلم، لأنه موجبه؛ وحبل الوريد مثل في القرب، وقال: والموت أدنى من الوريد، والحبل: العرق، وإضافته للبيان، والوريدان: العرقان المكتنفان بصفحتي العنق، في مقدمها متصلان بالوتين، يرادن من الرأس إليه، وقيل: سمي وريدا، لأن الروح ترده.

 

(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ) مقدر بـاذكر ، أو متعلق بـأقرب، أي: هو أعلم بحاله من كل قريب حتى يتلقى، أي: يتلقن الحفيظان ما يتلفظ به؛ وفيه إيذان بأنه غني عن استحفاظ الملكين، فإنه أعلم منهما؛ أو مطلع على ما يخفى عليهما، لكنه لحكمة اقتضته، وهي ما فيه من تشديد يثبط العبد عن المعصية، وتأكيد في اعتبار الأعمال وضبطها للجزاء، وإلزام الحجة يوم يقوم الأشهاد، (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ 17) أي: عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد؛ أي: مقاعد. (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) ما يرمى به من فيه (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ) ملك يرقب عمله. قال أبو سعيد:  معي أنه في قوله: (رقيبٌ عتيدٌ) شهيد حفيظ، (عَتِيدٌ 18)  حاضر، و لعله يكتب عليه ما فيه ثواب أو عقاب.

 

(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) لما ذكر استبعادهم البعث للجزاء، وأزاح ذلك بتحقيق قدرته وعلمه، وأعلمهم بأنهم يلاقون ذلك عن قريب عند الموت وقيام الساعة، ونبه على اقترابه بأن عبر عنه بلفظ الماضي؛ وسكرة الموت: شدته الذاهبة بالعقل؛ والمعنى: وأحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر الموعود، أو الحق الذي ينبغي أن يكون من الموت أو الجزاء، فإن الإنسان خلق له؛ (ذَلِكَ) أي: الموت، (مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ 19)  تميل وتفر عنه، والخطاب للإنسان.

 

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) يعني: نفخة البعث (ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ 20)أي: وقت ذلك يوم تحقق الوعيد؛ (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ 21) قيل: ملكان أحدهما يسوقه والآخر يشهد بعلمه؛ أو ملك جامع للوصفين؛ وقيل: السائق: كاتب السيئات، والشهيد: كاتب الحسنات؛ وقيل: السائق: قرينه، والشهيد: جوارجه وأعماله، (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا) على إضمار القول؛ والخطاب لكل نفس، إذ ما من أحد إلا وله أشغال ما تبعده عن الآخرة؛ أو للكافر، أي: لقد كنت في غفلة من هذا اليوم في الدنيا، وجعلت الغفلة كأنها غطاء لك، وغشاوة لعينيك، فكشفنا عنك الغطاء، وزالت عنك الغفلة.

 

(فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ) الغطاء: الحاجب عن التبصرة لأمور المعاد، وهو الغفلة والانهماك في المحسوسات والإلف بها، وقصور النظر عليها؛ (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ 22)  نافذ لزوال المانع للإبصار؛ وقيل: البصر هاهنا العلم؛ يقول: كنت تكذب، فأنت اليوم عالم بالأمر نافذ البصر فيه، وهو مثل قوله: (أَسمِعْ بِهم وأَبصِرْ يومَ يأتُوننا) أي: ما أسمعهم وأبصرهم يومئذ؛ يقول: هم سمعاء وبصراء، لأن الشك قد زال عنهم، ومثله، (ثُمَّ لتَرَوُنَّها عينَ اليقين) ؛ وقيل: الخطاب للني؛ والمعنى: كنت في غفلة من أمر الديانة، فكشفنا عنك غطاء الغفلة بالوحي وتعليم القرآن، فبصرك اليوم حديد، ترى ما لا يرون، وتعلم ما لا تعلمون، وذلك أن الله يذكره نعمته.

 

(وَقَالَ قَرِينُهُ) قال: الملك الموكل عليه، (هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ 23) هذا ما هو مكتوب عندي حاضرا لدي؛ أو الشيطان الذي قيض له: هذا ما عندي وفي ملكتي عتيد لجهنم، هيأته لها بإغوائي واضلالي.

 

(أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ) خطاب من الله للسائق والشهيد أو للملكين من خزنة النار، (عَنِيدٍ 24)  معاند للحق. (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) كثير المنع للمال عن حقوقه المفروضه؛ وقيل: المراد بالخير: بالإسلام، (مُعْتَدٍ مُرِيبٍ 25)  شاك في الله وفي دينه. (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ) وهو يتناول جميع معاصي الله تعالى، وكل من شك في الله وارتاب في ربوبيته يجعل معه إلها آخر، لأنه يجعل إلهه هواه، ولا بد للإنسان أن يعبد الله، أو يعبد هوى نفسه، (فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ 26) أي: الشيطان المقيض له.

 

(قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ) كأن الكافر قال: هو أطغاني، فقال قرينه: ربنا ما أطغيته، (وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ 27)فأعنته عليه، فإن إغواء الشيطان إنما يؤثر فيمن كان مختل الرأي، مائلا إلى الفجور، كما قال: (وَمَا كَانَ لي عَلَيْكُم مِّن سلطانٍ إِلاَّ أن دَعَوْتُكم فاستجبتم لي) . (قَالَ) أي: الله (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ) أي: في موقف الحساب، فإنه لا فائدة فيه، (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ 28) على الطغيان في كتبي، وعلى ألسنة رسلي، فلم تبق لكم حجة.

 

(مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) أي: بوقوع الخلف فيه، فلا تطعموا أن أبدل وعيدي، (وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ 29) بأن أعذب من ليس لي تعذيبه. (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ 30) ؟ وسؤال جهنم وجوابها من باب التخييل الذي يقصد المعنى في القلب.

 

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) قربت لهم حتى يروها قبل الدخول،(غَيْرَ بَعِيدٍ 31) مكانا غير بعيد، (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ) رجاع إلى الله، (حَفِيظٍ 32)  حافظ لحدوده. (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) أي: خشية ملتبسة بالغيب، حيث عقابه وهو غائب، لأنه توقع وقوعه بتصديقه لخالقه، (وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ 33 ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ) سالمين من كل آفة وفناء، (ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ 34 لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ 35) وهو ما لا يخطر ببالهم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

 

(وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ) قبل قومك، (مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا) قوة (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ) فخرقوا في البلاد، وتصرفوا فيها، أو جالوا في الأرض كل مجال حذر الموت؛ وأصل التنقيب: البحث عن الشيء، (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ 36)؟ أي: لهم من الله، أو من الموت.

 

(إِنَّ فِي ذَلِكَ) فيما ذكره في هذه السورة (لَذِكْرَى) لتذكرة، (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) أي: قلب واع يتفكر في حقائقه؛ والمعنى: جعل من لم يتذكر بالقرآن، مفلسا من القلب معدما منه، (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) وأصغى لاستماعه (وَهُوَ شَهِيدٌ 37)  حاضر بذهنه غير ساه ولا غافل لتفهم معانيه، أو شاهد بصدقه، فيتعظ بظواهره، وينزجر بزواجره.

 

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ 38)من تعب وإعياء. (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) من الباطل، (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) ونزهه عن العجز عما يمكن، والوصف بما يوجب التشبيه، حامدا له على ما أنعم عليك من إصابة الحق وغيرها، (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ 39 وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ 40)  أعقاب الصلوات.

 

(وَاسْتَمِعْ) لما أخبرك به من أحوال القيامة، (يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ) قيل: إسرافيل عليه السلام يقول: يا أيتها العظام البالية، والأوصال المتمزقة، والشعور المتفرقة، إن الله تعالى يأمركن أن يجتمعن لفصل القضاء ، (مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ 41)  بحيث يصل نداؤه إلى الكل على سواء، (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ) وهي النفخة الأخيرة، نفخة البعث، (ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ 42)من القبور.

 

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) في الدنيا، (وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ 43)  للجزاء في الآخرة. (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا) مسرعين، أو مأمورة بسرعة، (ذَلِكَ حَشْرٌ) بعث وجمع (عَلَيْنَا يَسِيرٌ 44) هين.

 

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ) تسلية لرسول الله، وتهديد لهم، (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) بمتسلط تقسرهم على الإيمان، أو تفعل لهم ما تريد، وإنما أنت داع ومذكر ومحذر، (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ 45) فإنه لا ينتفع به غيره.