بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

 (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)  خلقا ونعمة ، فله الحمد في الدنيا لكمال قدرته، (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ ) لإن في الاخرة أيضا كذلك، لأن أهل الجنة يتلذذون بتحميده، وهو محمود  لعله بذاته، وان لم يحمده أحد، (وَهُوَ الْحَكِيمُ)  الذي أحكم أمور الدارين، (الْخَبِير) ببواطن الاشياء وحقائقها وظواهرها0 (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) 0

 

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ) إنكارا لمجيئها، ( قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ) أي وزن ذرة،  ( فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) قيل: لا ينفصل عن الغيب شئ إلا مسطورا في اللوح، (ِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) لا تعب فيه ولا من عليه 0

 

( وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا)  بالخوض فيها، وترك العمل بما فيها،  (مُعَاجِزِينَ) مسابقين كي يفوتونا، وقرئ: معجزين أي مشبطين عن الإيمان من أراده،  (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ  )  من سئ العذاب،  (أَلِيمٌ) في الدارين 0

 

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ويعلم أولو العلــم (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) أي ليعلم أولوا العلم عند مجئ الساعة أنه الحق عيانا كما علموه لنا برهانا،  (وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) الذي هو التوحيد والتدرع بلباس التقوى 0

 

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ)  يعنون محمد  (يُنَبِّئُكُمْ)  يحدثكم أنكم ( إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) ؟ إنكم تنشأون خلقا جديدا بعد أن تمزق أجسادكم كل التمزق0 (أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) ؟ جنون يوهمه ويلقنه على لسانه ( بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ)  الادنى، (وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ)  عن الصواب، بحيث لا يرجى الخلاص منه ماداموا على ذلك الحال 0

 

(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاء) المعنى: أعموا فلم ينظروا إلى ما أحاط بجوانبهم من السماء والارض، ولم يتفكروا أهم أشد خلقا أم هي، وأنا إن نشأ نخسف بهم الأرض، أو نسقط عليهم كسفا لتكذيبهم بالايات بعد ظهور البينات!، (إِنَّ فِي ذَلِكَ ) النظر والفكر فيهما وما يدلان عليه، ( لَآَيَةً ) لدلالة  ِ(كُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)  تائب راجع بقلبه إلى ربه، فإنه يكون كثير الأمل في أمره0     

 

( وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ) النبوة وفصل الخطاب، وما فضل به على سائره؛  (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ) قيل: سبحي معه إذا سبح بفعل 000 (وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)  قيل: جعل في يده كالشمع من غير نار ولا ضرب يصرفه حيث يشاء0 ( أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ ) دروعا واسعات0 ( وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ) وقدر في نسجها، بحيث تتناسب حلقها، أو قدر مساميرها فلا تجعلها دقاقا فتفلق، ولا غلاظا فتخرق، (وَاعْمَلُوا صَالِحًا) الضمير فيه لداوود وأهله، (إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)  فأجازيكم عليه 0

 

(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ ) أي سخرنا له الريح،  (غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ) النحاس المذاب أسيل له من معدته، قيل: كان يسيل في الشهر ثلاثة أيام بإذن الله تعالى0  (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا ) ومن يعدل منهم عن ما أمرناه من طاعة سليمان،  (نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ) عذاب الأخرة، ويحتمل في الدنيا، وذلك قيل: إن الله عزوجل وكل بهم ملكا بيده سوطا من نار، فمن زاغ منهم عن امره ضربه ضربة أحرقته.

 

(يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ)  قيل: قصورا حصينة، ومساكن شريفة؛ سميت به، لإنها تذب عنه، ويحارب عليها0  (وَتَمَاثِيلَ ) لعله قوالب لآلات الصنائع، يكون كالمثل لها في الصغر والكبر والهيئه؛ وقيل غير ذلك، َ(جِفَانٍ) وصحاف،  (كَالْجَوَابِ) كالحياض الكبار، جمع جابية0  (وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ)  ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعله  لعظمها، أو خلقـت لها أثافـي منهـا ،

(اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا)  اعمـلوا واعبدوه شكرا، أو لأن العمل له شـكر،  (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)  المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكبر أوقاته، ومع ذلك لا يوفى حقه، لأن توفيقه للشكر نعمه تستدعى شكرا آخر الى ما لا نهاية لذلك، ولذلك قيل: الشكور من يرى عجزه عن الشكر 0

 

( فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ)  ما دل الجن، وقيل: آله،(إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ)  قيل: عصاه، (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ)  فانظر سماه الله عذابا مهينا0

 

( لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ)  علامة ودلالة على وجود الصانع، وأنه القادر على ما يشاء من الأمور العجيبة؛ وقيل: سبأ هو اسم رجل، (جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَه)  على ما رزقكم من النعمة، والمعنى: بطاعته0  (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)  أي هذه البلدة التى فيها رزقكم بلدة طيبة، وربكم الذي رزقكم، وطلب شكركم رب غفور فرطات من يشكره0

 

( فَأَعْرَضُوا ) عن الشكر، ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ) قيل: السيل الشديد الذي لا يطاق، والعرم: الوادي، ( وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ ) ثمر بشع؛ فأن الخمط: كل نبت أخذ طعما من مرارة؛ وقيل: الأراك، وكل شجر لا شوك له، والتقدير أكل أكل الخمط ،  (وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ 16 ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا)  بكفرانهم النعمة0  (وَهَلْ نُجَازِي)  مثل هذا الجزاء  (إِلَّا الْكَفُورَ 17 ) أي لا نجازي بالعقوبة إلا من كفر 0

 

( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ) بالتوسعه على أهلها، ( قُرًى ظَاهِرَةً ) قيل: متواصلة بعضها لبعض،  (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ)  قيل: بحيث يقيل الغادي في قرية، ويبيت الرايح في قرية، (سِيرُوا فِيهَا) على إرادة القول بلسان الحال أو المقال  (لَيَالِيَ وَأَيَّامًا ) متى شئتم من ليل أو نهار، (آَمِنِينَ 18 ) لا يختلف الأمن فيها باختلاف الأوقات؛ او سيروا آمنين وإن طالت مدة سفركم فيها.

 

( فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا ) أشروا النعمة، وملوا العافية كبني اسرائيل؛ وليس سؤال هؤلاء وأمثالهم بأعجب من اختيار الفقر على الغنى، ومعيشة الضنك على الحياة الطيبة، والجهد في طلب المعيشة على العبادة، وهم الذين رزقهم الله ما

يكفيهم، ويطلبون المزيد لغيرهم لا لهم،  (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) بالبصر والطغـيان

حيث بطروا النعمة، ولم يعتدوا بها عدة الآخرة، ( فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) يتحدث الناس بهم تعجبا، ومنهم تفكها، ومنهم من يعتبر بهم ويتعظ، ( وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ)  قيل: فرقناهم، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ ) لعبر ودلالات، ( لِكُلِّ صَبَّارٍ)  عن المعاصي،( شَكُورٍ 19 )  على النعم 0

 

( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ)  أي ظن فيهم ظنا وصدق في ظنه، أو صدق بظن ظنه؛ وفرئ بالتشديد بمعنى: حقق ظنه أو وجده صادقا، لعله وهو قوله : (ولا تجد أكثرهم شاكرين) ، ( فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 20 )  لعله قيل: إن ابليس لعنه الله لما سأل النظرة فأنظره، قال:لأضلنهم ولأغوينهم، لم يكن مستيقنا وقت هذه المقالة أن ما قاله فيهم يتم أم لا، وإنما قاله ظنا، فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم. قال الحسن: إنه لم يسل عليهم سيفا، ولا ضربهم بسوط ، وإنما وعدهم ومنـاهم فاغتروا  ( وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ ) تسلط بالاستـغواء، ( إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ)  ليتميز المؤمن من الشاك. (وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ 21 ) .

 

( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ) أي زعمتموهم آلهة ( مِنْ دُونِ ) المعنى: ادعوهم فيما يهمكم من جلب نفع أو  دفع ضرر، لعلهم يستجيبون إن صحت دعواكم، ثم أجاب عنهم إشعارا بتعين الجواب، وأنه لا يقبل المكابرة فقال: (لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ) من خير أو شر،  (فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ) لأن الاسباب القريبة للشر والخير سماوية وأرضية، ( وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ 22 ) يعينه على تدبير أمرها .

 

( وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ ) فلا تنفعهم شفاعة أيضا كما يزعمون،  (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)  ان يشفع أو يشفع له. ( إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ) وهو عند الموت أو يوم القيامة، وقيل: كشف الفزع عن قلوب المشركين بعد الموت، والله اعلم، ( قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ)؟  في الشفاعة، ( قَالُوا الْحَقَّ)وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى وهم المؤمنون،  (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ 23 ) ذو العلو والكبرياء ليس لملك ولا نبي أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه.

 

( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ؟ يريد تقرير قوله:(لاَ يملكـون)، ( قُلِ اللَّهُ) ،  إذ لا جواب سواه،( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ 24 ) أي : وإن أحد الفريقين من الموحدين المتوحد بالرزق والقدرة الذاتية بالعبادة ، والمشركين به الجماد، النازلين به في أدني المراتب الإمكانية، لعلى أحد من الأمرين من الهدى والضلال المبينين؛ وهو- بعدما تقدم مـن  التقرير البليـغ

الدال على من هو على الهدى، ومن هو في الضلال- أبلغ من التصريح، لإنه في صورة الأنصاف المسكت للخصم المشاغب، لأن الهادي كمن صعد منارا ينظر الأشياء ويتطلع عليها، أو ركب جوادا يركضه حيث يشاء ، والضال كأنه منغمس في ظلام التردد لا يرى شيئا، أو محبوس في مطمورة لا يستطيع الخروج منها.

 

( قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ 25 ) هذا أدخل في الإنصاف، وأبلغ في الأخبات، حيث أسند الأجرام إلى أنفسهم، والعمل إلى المخاطبين. (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ)  يحكم ويفصل بأن يدخل المحقين الجنة، والمبطلين النار، (وَهُوَ الْفَتَّاحُ) الحاكم للفصل في القضايا المنغلقة،  (الْعَلِيمُ 26) بما ينبغي أن يقضي به.

 

( قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ)  لعله با لله في العبــادة ، يعنـي الأصـنام ،(شُرَكَاءَ ) هل خلقوا من الأرض شيئا؟ أم لهم شرك في السماوات؟ لأرى بأي صفة ألحقتموهم بالله في استحقاق العبادة، وهو استفسار عن شبهتهم،  فعد إلزام الحجة عليهم لعله زيادة في تبكيتهم (كَلَّا ) ردع لهم عن المشاركة بعد إبطال المقايسة، ( بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 27 ) الموصوف بالغلبة والكمال القدرة والحكمة، وهؤلاء الملحقون يتسمون بالذلة متأبية عن قبول العلم والقدرة رأسا.

 

( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ) إلا رسالة عامة لهم، من الكف، فإنها إذا عمتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم ، أو جامعا لهم في الإبلاغ، ( بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ 28) فيحملهم جهلهم على مخالفتك .

 

( وَيَقُولُونَ ) من فرط جهلهم : ( مَتَى هَذَا الْوَعْدُ  ) يعنون به المبشر به والمنذر عنه أو الموعود بقوله: (يجمع بيننا ربنا ). ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ 29 ) يخاطبون به رسول الله صلى الله وعليه وسلم والمؤمنين. (قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ 30 ) حين ياتيكم. وهو جواب تهديد جاء مطابقا لما قصدوه بسؤالهم من التعنت والإنكار .

 

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) ولا بما تقدمه من الكتب الدالة على البعث أو الرسول، وهذا القول منهم يقتضي بلسان المقال منهم وهم الكفار الجاحدون، ويقتضي بلسان الحال من المنافقين، ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) أي : في موضع المحاسبة، ( يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ) يتحاورون ويتراجعون القول في التلاوم، وهو حســرة وعذاب

 

عليهم؛ ( يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ) : يقول الأتباع : ( لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا )، للرؤساء( لَوْلَا أَنْتُمْ ) لولا ضلالكم وصدكـم إيانا عن الإيمان ( لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ 31 ) بخلق الله إيانا على الفطرة، والدين القيم؛ ويحتمل هذا القول منهم للمستكبرين من الجن والإنس .

 

( قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ 32 ) أنكروا أنهم كانوا صادين لهم عن الإيمان، وثبتوا أنهم هم الذين صدوا أنفسهم حيث أعرضوا عن الهدى، وآثروا التقليد عليه، ولذلك بنوا الإنكار على الاسم . ( وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) إضراب عن إضرابهم، أي: لم يكن إجرامنا اللصاد، بل مكركم لنا دائبا ليلا ونهارا ، حتى أغرتم علينا رأينا، ( إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا ) يقتضي جميعا معاصي الله، ( وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ) واضمر الفريقان الندامة على الضلال والإضلال، إذ لا ينفع إضهارها، ( وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) لعله يحتمل هذا في الدنيا والأخرة، ( هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 33 ) ؟ أي لا نفعل بهم ما نفعل إلا جزاء على أعمالهم .

 

( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا ) تسلية لرسول الله مما تمنى من قومه؛ وتخصيص المتنعمين بالتكذيب، لأنهم أقرب إلى الكبر والمفاخرة بزخارف الدنيا، والانهماك في الشهوات والاستهانة بمن لم يحظ منها؛ ولذلك ضموا التهكم والمفاخـرة إلى التكذيب، فقالوا: ( إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ 34 وَقَالُوا نَحْنُ

أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا ) فنحن أولى بما تدعون. ( وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ 35 ) يحتمل هذا العذاب الذي نفوه عن أنفسهم في الدنيا، ويحتمل في الأخرة من قبل غرورهم وأمانيهم الكاذبة.

 

( قُلْ ) ردا لحسبانهم  ( إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) ولذلك يختلف فيه الأشخاص المتماثلة في الخصائص والصفات، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ 36 ) فيظنون أن كثرة الاموال والأولأد للشرف والكرامة، وكثيرا ما يكون للاستدراج، كما قال :

 

( وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى) قربة،  (إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا)   أي :الأموال والأولاد لا تقرب إلا المؤمن الصالح، وما عداه استدراج لهم ومكر. وقال ابن عباس: يزيد إيمانه وعمله تقربه مني   (فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ 37 ) من المكــاره. (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا)  بالرد والطعن فيها (مُعَاجِزِينَ ) مسابقين لأنبيائنا، أو ظانين أنهم يفوتوننا، ( أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ 38 )في الدارين.

 

( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ) يوسع عليه تارة ويضيق أخرى، ( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ )إما عاجلا وإما أجلا،( وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ 39) فإن غيره وسائط في إيصال رزقه، ولاحقيقة لرازقيته.

   

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا)  المستكبرين والمستضعفين، أو العـابدين والمعبودين، (ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ 40) ؟ تقريعا للمشركين، وتبكيتا لهم، وإقناطا لهم عما يتوقعون من شفاعتهم، وتخصيص الملائكة،لأنهم أشرف شركائهم. ( قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ ) كأنهم بينوا بذلك برأءتهم عن الرضا بعبادتهم، ثم أضربوا عن ذلك ونفوا أنهم ما عبدوهم على الحقيقة بقولهم: ( بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ) أي الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله، ( أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ 41 ) مصدقون لوساوسهم، تابعون لها؛ فإن قيل: إنهم كانوا يعبدون الملائكة، فكيف وجه قوله: ( يعبدون الجن)؛ قيل: اراد أن الشياطين زينوا لهم عبادة الملائكة؛ يقول: (يعبدون)أي: يطيعون الجن، فبطاعتهم لهم صــاروا لهم عــابدين. (لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ) إذ الأمر فيه كله [لله] لأن الدار دار جزاء ، وهو المجازي وحــده؛ (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ 42).

 

(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ)  واضحات من اللبس، ( قَالُوا مَا هَذَا ) يعنون مـحمدا صلى الله وعليه وسلم، (إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ)  فيستتعبكم بما يستبدعه، ( وَقَالُوا مَا هَذَا ) يعني القران، ( إِلَّا إِفْكٌ ) لعدم مطابقة ما فيه الواقع، ( مُفْتَرًى ) بإضافته إلى الله سبحانه، ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ) من أي حال كان : ( إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ 43 ) ظاهر سحريته .

 

( وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا ) وفيها دليل على صحة الإشراك ، ( وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ 44 ) يدعوهم إليه ، وينذرهم على تركه، وقد أبان من قبل أن لا وجه له، فمن أين وقعت لهم هذه الشبة، وهذا غاية التجهيل لهم، والتسفيه لرأيهم، ثم هددهم فقال :

 

( وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) كما كذبوا، ( وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ ) وما بلغ هؤلاء عشر ما آتينا أولئك من القوة وطول العمر، وكثرة المال، أو مابلغ أولئك عشر ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى، (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ  45) فحين كذبوا رسولي جاءهم إنكاري بالتدمير ، فكيف كان نكير لهم، فليحذر هؤلاء من مثله .

 

(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ)  أرشدكم وأنصح لكم بخصلة واحدة، وهي ما دل عليه ( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ ) وهو الإنتصاب في الأمر خالصا لوجه الله، ومعرضا عن ما سواه،( مَثْنَى وَفُرَادَى ) كنتم جماعة أو متفرقين، ( ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ) في أمر محمد وما جاء به لتعلموا حقيقته، (مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّة) فتعلموا ما به جنون يحمله على ذلك، ( إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ 46 ) قدامه.

 

( قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ ) أي شئ سألتكم من أجر على الرسالة،( فَهُوَ لَكُمْ ) والمراد نفي السؤال؛( إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ 47 ) مطلع يعلم صدقي وخلوص نيتي. ( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ ) يلقيه وينزله على من يشاء من عباده، أو يرمي به إلى أقطار الآفاق فيكون وعدا بإظهار الإسلام وإفشائه، ( عَلَّامُ الْغُيُوبِ 48 ) .

 

( قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ 49 ) وزهق الباطل بحيث لم يبق له أثر ماخوذ من هلاك الحي، فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة، لأن الحـق

يزيح الشبهات من القلوب، ويطهرها من رجس الباطل إذا حل فيها وقبلته. ( قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ ) عن الحق، ( فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي ) فإن وبال ضلالي عليها، فإنه يسيئها إذ هي الجاهلة بالذات والأمارة بالسوء،  ( وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ) أي وحي كان، إلهامياً أو غيره، والمعنى: بلوغ العلم إليه من أي حال بلغه، وإن الاهتداء بهدايته وتوفيقه، ( إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ 50) .

 

(وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا) عند الموت (فَلَا فَوْتَ) فلا يفوتونه بهرب ولا حـصن، (وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ 51 وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ)  بالإسـلام، (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ) ومن أين لهم أن يتناولوا الأيمان وقد ارتفع عنهم حين عاينوا الحقائق عين اليقين من حيث إنهم نبذوا علم اليقين حين أتاهم، (مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ 52 ) لعله فإنهم لا يطيقون تناوله في ذلك الحين، وقد بعد عنهم، وهوتمثيل حالهم في الإستخلاص بالإيمان بعد ما فات عنهم، بحال من يريد أن يتناول الشئ من غلوة بذراعه وقد طار عنه وارتفع فلا يجد ‘ إليه سبيلا، وكيف ينالوا التوبة وهي في أيام التعبد وهي الدنيا وقد ارتحلوا عنها! ‍‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍.

 

(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْل) ذلك أوان التكلف، (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ ) قيل: ويرجمون بالظن، سمي ظنا لأنه غاب علمهم عنه ، والمكان البعيد: بعدهم عن علم ما يقولون، ويتكلمون بما لم يصح معهم بالكفر، (مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ 53 ) من جانب بعيد من أمره، ولعل تمثيل حالـهم في ذلك من يرمي شيئا لا يراه من

مكان بعيد، وقرئ: يقذفون على أن الشيطان يلقي إليهم ويلقنهم ذلك.( وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) من نفع الإيمان والنجاة به من النار،( كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ  ) بأشباههم من كفرة الامم الدارجة، ( إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ 54 ) موقع في الريبة.