بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

 

(الم1 تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ) فيكون(مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ2 أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) معناه: بل يقولون، فإنه إنكار لكونه من رب العالمين، وقوله (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) فإنه تقرير له، ونظم الكلام على هذا أنه أشار أولاً إلى الإعجاز، ثم رتب عليه أن تنزيله من رب العالمين، وقرر ذلك بنفي الريب عنه، ثم أضرب عن ذلك إلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك، إنكارا له وتعجبا منه، فان أم منقطعة، ثم اضرب عنه إلى إثبات أنه الحق المنزل من الله وهو المقصود من تنزيله فقال:

(لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي: لم يأتهم نذير من قبلك، قيل: قال قتادة :  كانت أمة أمية لم يأتيهم نذير قبل محمد صلى الله عليه وسلم؛ وقيل: ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، إذ كانوا أهل فترة،(لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ 3) بإنذارك إياهم. ثم أثبت معنى الربوبية فقال:

 

 (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ( مالكم إذا جاوزتم رضى الله أحد ينصركم ويشفع لكم؛ أو ما لكم سواه ولي ولا شفيع، بل هو الذي يتولى مصالحكم وينصركم في مواطن ما كنتم على طاعته، وان خالفتموه لم يتولكم ولي ولا ناصر،( أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ 4) بمواعظ الله!.

 

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْض)ِ  يدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية كالملائكة وغيرها، نازلة آثارها إلى الأرض، (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ)  يصعد إليه، ويثبت في عمله موجودا، (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ 5) قيل: في برهة من الزمان متطاولة، يعني بذلك استطالة ما بين التدبير والوقوع؛ وقيل: يدبر الأمر بإظهاره في اللوح، فينزل به الملك، ثم يعرج إليه في زمان هو كألف سنة، لان مسافة نزوله وعروجه مسيرة ألف سنة، لانه قيل : ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة؛ وقيل: يقضي قضاء ألف سنة فينزل به الملك، ثم يعرج بعد الألف لألف آخر؛ وقيل: يدبر الأمر إلى قيام الساعة، ثم يعرج إليه الأمر كله يوم القيامة؛ وقيل: يدبر المأمور به من الطاعات منزلا من السماء إلى الأرض بالوحي، ثم لا يعرج إليه خالصاً كما يرتضيه إلا في مدة متطاولة لقلة المخلصين والأعمال الخلص؛ ولم يبن لنا معنى هذا القول، وإنما رسمناه كما وجدناه.

 

(ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ )فيدبر أمرها على وفق الحكمة،(الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ 6)على العباد في تدبيره،وفيه إيماء بأنه يراعي المصالح تفضلا وإحسانا. (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)خلقه وما يستعد به ويليق به، ويمده على وفق الحكمة والمصلحة. قال قتادة: خلق السماء فزينها بالكواكب، وخلق الأرض فزينها بالنبات، وخلق ابن آدم فزينه بالأدب. (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ 7) لعله أي: ضعيفا. (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ 8) لعله من طين.( ثُمَّ سَوَّاهُ)  قومه بتصوير أعضائه على ما ينبغي، (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) إضافته إلى نفسه تشريفا وإشعارا بأنه خلق عجيب، وأن له شأنا، له مناسبة ما إلى حضرة الربوبية، ولأجله فمن عرف نفسه فقد عرف ربه. (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ) خصوصا لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا، ولتقتحموا العقبة،( قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ 9 ) شكرا قليلا.

 

(وَقَالُوا) بلسان مقالهم؛ أو لسان حالهم: (أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ ) أي: صرنا تراب مخلوطا بتراب الأرض لا يتميز منه، أو غبنا فيها،(أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ )؟ وهو نبعث ونجدد خلقا،( بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ ) للجزاء (كَافِرُونَ 10) جاحدون أو شاكون؛ وهذه حالة قد كانت سبب هلاك أكثر الخلق من المتعبدين واستخفوا بعاقبة أمرهم، ولو أنهن على يقين من ذلك، لما بنوا دينهم على اللهو واللعب؛ وقد قال الله:( إلا لنعلم مَن يُؤْمِنُ بالآخِرَة مِمَّن هُوَ منها فيِ شكَّ)  فكيف جعلهم في الدنيا والعمل صنفين، كما فرقهم في الآخرة والجزاء فريقين.( قُلْ : يَتَوَفَّاكُمْ )ستوفى نفوسكم لا يترك منها شيئا، أو لا يبقى منكم أحدا، (مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) لقبض أرواحكم وإحصاء آجالكم، (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ 11) للجزاء.

 

(وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) حياءً وخوفا قائلين: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا )( وعدك ووعيدك، (وَسَمِعْنَا ) منك ما كنا به مكذبين، وسمعنا ما آتانا به، رسلنا ... تصديق رسلك، (فَارْجِعْنَا) الى الدنيا التي هي دار العمل، (نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ12) اذ لم يبق لنا شك بما شاهدنا، فلم ينفعهم ايقانهم ذاك بعد ما رأوه عين اليقين، اذ لم يعلموا علم اليقين في الدنيا، لان ايمانهم ذاك لم يكن ايمانا بالغيب، وقد قال الله: (الذِينَ يُؤْمِنونَ بالغيب)  .

 

(وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا) ( هدى السعادة، لان هدى البيان قد أوتي كل نفس،(وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي)  ثبت قضائي، وسبق وعيدي، وهو: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ 13) وذلك تصريح بعدم ايمانهم لعدم المشيئة والحكم بأنهم من أهل النار، ولا يدفعه جعل ذوق العذاب مسببا عن نسيانهم العاقبة، وعدم تفكرهم فيها لقوله: (فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) فانه من الوسائط والاسباب المقتضية له؛ ومعناه: تركتم الايمان في الدنيا، (إِنَّا نَسِينَاكُمْ)  تركناكم من الرحمة في العذاب ترك المنسي، (وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 14) كرر الأمر للتأكيد، ولما ينط به من التصريح بمفعوله، وتعليله بأفعالهم السيئة، من التكذيب والمعاصي؛ كما علله بتركهم تدبر أمر العاقبة، والتفكير فيها دلالة أن كلا منهما يقتضي ذلك.

 

(إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا ) وعضوا بها، (خَرُّوا سُجَّدًا)  مذعنين منقادين، مسلمين أمرهم لله - خوفا من عذابه- لا يريدون بدلا سواه،(وَسَبَّحُوا ) نزهوه عما لا يليق به، (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)حامدين له، شكرا على ما وفقهم للاسلام وآتاهم الهدى، (وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ 15) من الايمان والطاعة، كما يفعل من يصر مستكبرا. (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ) ترتفع وتتنحى (عَنِ الْمَضَاجِعِ) الفرش ومواضع النوم، (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ) يعبدونه خَوْفًا  من سخطه وَطَمَعًا  في رحمته، (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ 16) في وجوه الخير.

 

(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُم)ْ لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، (مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) مما تقر به عيونهم، (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 17) أخفي للجزاء، فان إخفاءه لعلو شأنه؛ وقيل هذا لان القوم أخفوا أعمالهم، فأخفى الله ثوابهم. (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ 18) في الجزاء كما لم يستووا في العمل. (أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى) فإنها المأوى الحقيقي، والدنيا منزل لعله مرتحل عنه لا محالة؛ وقيل المأوى جنة من الجنان، (نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 19) بسبب أعمالهم.

 

(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ) مكان جنة المأوى للمؤمنين، (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا)عبارة عن خلودهم فيها؛ (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ 20)إهانة لهم. (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ)من ضيق العذاب وشدته عذاب الدنيا؛ وهو وعيد لكل من فسق عن أمر الله، فهو معذب العذاب الادنى دون المؤمنين، بجميع ما يناله من مقاساتها وجمعها، والادخار لها، وفوات محبوباتها، ولا يثابون عليه كالمؤمنين، فتستحيل البلية عليهم نعمة لهم، والفاسقون تستحيل النعمة لهم بلية عليهم، جزاءً على تركهم أمر الله، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 21)  يتوبون.

 

 

 

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّه)ِوهو قيام الحجة بالعلم من أي حال كان، وأثبته وأقواه قيام الدليل من عقله،(ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا) فلم يتفكر فيها، ولم يعمل بها، و ثم لاستبعاد الاعراض عنها، مع فرط وضوحها، وارشادها الى أسباب السعادة بعد التذكير بها عقلا، كما قيل:

               ولا يكشف الغمـاء إلا ابن حرة         يرى غمـرات الموت ثم يزورها

 

(إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ 22 )النقمة: المكافأة بالعقوبة.

(وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ) شك( مِنْ لِقَائِه)ِ من لقائك الكتاب كقوله: (وإنَّك لَتُلقَّى القرآن) فإنا آتيناك من الكتاب مثل ما آتيناه منه، فليس ذلك ببدع حتى ترتاب فيه، أو من لقاء موسى الكتاب، أو من لقائك موسى. (وَجَعَلْنَاهُ) أي: المنزل على موسى، (هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ 23 وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا)إياهم به، أو بتوفينا له،( لَمَّا صَبَرُوا) على التعلم للعلم، والعمل بما فيه، (وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا) بحجتنا البالغة لهم(يُوقِنُونَ 24) لإمعانهم فيها النظر، واليقين: إزاحة الشك.

 

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)يقضي، فيميز الحق من الباطل بتمييز المحق من المبطل، (فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 25) من أمر الدين. (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) لأن الماضي عبرة للآتي، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ 26) ؟!.

 

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) التي لا تنبت لعدم الماء، أو أكل نباتها، الذي جزر نباتها، أي: قطع وأزيل، (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ 27)؟! فيستدلون به على كمال قدرته وفضله!.

 

(وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ) النصر أو الفصل بالحكومة من قوله: (رَبَّنَا افتح بيننا)، (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ 28)  في الوعد به. (قُلْ :يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ 29) قيل: هو يوم القيامة، أو يوم بدر، أو يوم فتح مكة؛ والمراد بالذين كفروا: المقتولون منهم فيه، فانه لا ينفعهم إيمانهم حين القتل، ولا يمهلون.

 

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولا تبالي بتكذيبهم، (وَانْتَظِرْ) النصرة عليهم (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ 30)الغلبة عليك؛ وقرئ بالفتح، على معنى أنهم أحقاء بأن ينتظر هلاكهم، وأن ملائكة الموت ينتظرونهم.