بسم الله الرحمن الرحيم  

 

{سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} قرئت بالتخفيف ، ومعناه: أوحينا ما فيها من الأحكام ، وألزمناكم العمل بها ، وقيل: بالتثقيل ، ومعناه : فصلناها وبيناها ، {وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} واضحات الدلالة ، {لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فتتقون المحارم.

 

{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} في طاعته وإقامة حده ، فتعطلوه ، أو تسامحوا فيه ، {كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فإن الإيمان يقتضي الجد في طاعة الله ، والاجتهاد في إقامة أحكامه ، وهو من باب التهييج. والرأفة والرحمة لا تنال العاصين ، ألم تر أن الله لم يجرهم من عذابه إذا لم يقيموا بدينه؟.

 

{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} زيادة في التنكيل ، فإن التفضيح قد ينكل أكثر ما ينكل التعذيب ، والمراد بالطائفة: جمع يحصل به التشهير.

 

{الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ، وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ، وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} قال أبو سعيد في تأويل هذه الآية :" معي أنه في التأويل مما تأول أصحابنا أن المحدود على الزنا من أهل القبلة لا ينكح إلا محدودة من أهل القبلة على الزنا ، أو مشركة من أهل الكتاب محدودة ، أو غير محدودة ، والمحدودة من أهل الكتاب لا ينكحها إلا محدود من أهل القبلة على الزنا ، أو مشرك من أهل دينها كان محدودا أو غير محدود ، وحرم ما سوى هذا على المؤمنين ، والمحدودة من أهل القبلة لا يجوز لها المشرك على حال من أهل الكتاب ، ولا من غيرهم".

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} بالزنا {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء، فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ، وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ،  إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا ، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ،  وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ ، فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ، وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ } متروك الجواب، أي: لفضحكم وعاجلكم بالعقوبة.

{إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ} بأبلغ ما يكون من الكذب من الأفك، وهو الصرف ، لأنه قول مأفوك عن وجهه ، والمراد ما أفك به عن عائشة . {عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} جماعة منكم ، {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم} مستأنف ، معناه: {يا}عائشة ويا صفوان ، (لعله) وقيل: هو خطاب لعائشة ، {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لاكتسابكم به الثواب العظيم من أجل صبركم ، {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} لكل جزاء ما اكتسب بقدر ما خاض فيه مختصا به ، يعني: من العصبة الكاذبة ، {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} معظمه {مِنْهُمْ} من الخائضين ، {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

{لَوْلَا} هلا {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا ، وَقَالُوا : هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} قال محبوب:" بلغنا أنها نزلت في أبي أيوب ألأنصاري ، إذ قالت له أمرأته: ألا تسمع {يا} أبا أيوب ما يقول الناس في عائشة ، فقال لها أبو أيوب : كنت فاعلة ذلك يا أم أبي أيوب ، فقالت: لا والله ، فقال لها: فعائشة خير منك ، فأنزل الله فيه الآية".

{لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء ، فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء ، فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فإن قيل كيف يصيرون عند الله كاذبين إذ لم يأتوا بالشهداء ، ومن كذب فهو عند الله كاذب ، سواء أتى بالشهداء أو لم يأت؟ قيل:" عند الله " أي: في حكم الله.

{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} المعنى: لولا فضل الله عليكم في الدنيا بأنواع النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة ، ورحمته في الآخرة بقبولها ، {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ} خضتم فيه {عَذَابٌ عَظِيمٌ ، إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} يأخذه بعضكم من بعض {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا} سهلا لا عقوبة له ، ولا سؤال عنه ، {وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} في الوزر واستجلاب العذاب ، وتفويت الرحمة ، وهكذا جميع معاصي الله ، ولو حسبها فاعلها لظنه أنها هينة فلا عذر له ، ولا يسعه جهله مع قيام الحجة.

{وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ، قُلْتُم : مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا} ما ينبيغي وما يصح لنا ، {سُبْحَانَكَ هَذَا} تعجب لمن يقول ذلك ، وأصله أن يذكر عند كل متعجب تنزيها لله تعالى من أن يصعب عليه مثله ، ثم كثر فاستعمل لكل متعجب ، {بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}.

{يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} ما دمتم أحياء مكلفين ، وذلك يتناول تحقيق كل ظن قولا واعتقادا ، {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فإن الإيمان يمنع عنه. {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} الدالة على الشرائع ، ومحاسن الآداب ، كي تتعظوا ، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ} أن تنتشر {الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا، لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } لعله جواب"لو" محذوف ، أي: لعاجلكم بالعقوبة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي: وساوسه ، {وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} فإنه يأمر بضد ما أمر الله به ، وينهى عن جميع ما أمر الله به ، {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} بتوفيق التوبة ، {مَا زَكَا} ما طهر من دنسها {مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} من أولكم إلى آخركم ، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء} يحمله على التوبة ، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

{وَلَا يَأْتَلِ} ولا يحلف ، افتعال من الألية . قيل: نزل في أبي بكر ، وقد حلف أن لا ينفق على مسطح بعد ، وكان ابن خالته ، وكان من الفقراء ، {أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ} في الدين ، {وَالسَّعَةِ} في المال ، {أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلْيَعْفُوا} ما فرط منهم ، {وَلْيَصْفَحُوا} بالإغماض عنه ، {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم ، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} مع كمال قدرته ، فتخلقوا بأخلاقه . روي أن عليه الصلاة والسلام قرأها على أبي بكر ، فقال: بلى أحب ، ورجع إلى مسطح نفقته.

{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} العفائف {الْغَافِلَاتِ} عما قذفن به ، الغافلات عن الفاحشة أن لا تقع في قلوبهن فضلا عن مواقعتها ، {الْمُؤْمِنَاتِ} بالله ورسوله ، استباحة لعرضهن ، {لُعِنُوا} أبعدوا من الرحمة {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} كما طعنوا فيهن ، {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} في الدارين . {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} جزاءهم المستحق ، {وَيَعْلَمُونَ} لمعاينتهم الأمر {أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} الثابت بذاته ، الظاهر الألوهية ، لا يشاركه في ذلك غيره ، ولا يقدر على الجزاء سواه.

{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ، وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ،وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ ،وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} فقد قيل الطيب من القول للطيب من العباد ، والخبيث من القول للخبيث من العباد ، ويخرج في النيات والأعمال ، كما يخرج في الأقوال ، ويخرج في الجنان والنيران لأهلهما ، ويخرج في الأرواح ، ولعله قد قيل ذلك بدليل قوله:{ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ، لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} في الدارين.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} تستأذنوا ، من الاستئناس . بمعنى : الاستعلام ، من أنس الشيء إذا أبصره {وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا ، فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ ، وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } أي: أطهر ، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ، لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } قيل: هي الخانات على طرق الناس ، {فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} لعله من الحر والبرد ، أو منفعة من قضاء حاجة ، {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}.

{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ : يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ، ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } لا يخفى عليه إجالة أبصارهم ، واستعمال سائر حواسهم ، وتحريك جوارحهم ، وما يقصدون بها فيكون على حذر منه في كل حركة وسكون.

{وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ : يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ، وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ، وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} قال أبو الحسن العماني:" فمن أبدى من النساء زينتها فقد كفرت وارتكبت كبيرة ، ويبرأ منها ، من حينها ، وهذا إنما تكفر إذا أصرت على ذلك ولم تتب من حينها ". انتهى كلامه. {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} هو الوجه والكفان ، {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} سترا لأعناقهن ، وقيل لصدورهن وقروطهن ، {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} الخفية التي أمرت بتغطيتها ، وهي ما عدى الوجه والكفين ، {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} قيل: البله الذين يتبعون الناس لفضل طعامهم ، ولا يعرفون شيئا من أمور النساء ، {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء} لعدم تمييزهم ، من الظهور بمعنى الإطلاع ، أو لعدم بلوغهم حد الشهوة من الظهور بمعنى الغلبة ، وقيل: أراد : لم ينكشفوا عن عورات النساء للجماع فيطلعوا عليها ، وقيل: لم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر ، وقيل: لم يبلغوا حد(لعله) الشهوة ، {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}ليتقعقع  خلخالها ، فيعلم أنها ذات خلخال ، فإن ذلك يورث ميلا في الرجال ، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} من التقصير في أمره ونهيه ، {أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

{وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ} زوجوا التي لا أزواج لهن من النساء إن طلبن ، أو استأمرون إن طلبن ، {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} تخصيص الصالحين ، قيل: المراد الصالحون للنكاح والقيام بحقوقه ، {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} المعنى لم يمنعن فقرا الخاطب أو المخطوبة من المناكحة ، فإن في فضل الله غنية عن المال ، فإنه غاد ورائح. (وقيل: الغنى هو القناعة ) ، {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} ذو سعة لا تنفد نعمته ، إذ لا تتناهى قدرته ، {عَلِيمٌ} يبسط الرزق ويقدر على ما تقتضيه حكمته.

{وَلْيَسْتَعْفِفِ} وليجتهد في العفة وقمع الشهوة ، من الاستفعال لطلب العفة عن الحرام والزنا ، {الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} أسبابه ، ويجوز أن يراد بالنكاح ما ينكح ، أو بالوجدان التمكن منه ، {حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} فيجدوا ما يتزوجونه ، أو يتزوجون به.

{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} المكاتبة {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} أمانة وقدرة على أداء المال بالاحتراز. وقد روي مثله مرفوعا ، وقيل صلاحا في الدين ، {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} لأن المال وجميع الخلق من {الله} إنما يؤتي منه من يشاء منهم. {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ} إماءكم {عَلَى الْبِغَاء} على الزنا. قيل: كانت لعبد الله بن أبي ست جوار يكرهن على الزنا، وضرب عليهن الضرائب ، فشكا بعضهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت. {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} تعففا {لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ} على الزنا {فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

{وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} من الحلال والحرام ، يعني الآيات التي بينت في هذه السورة ، وأوضحت فيها الأحكام والحدود ، أو ما تقدم من التنزيل . وقرىء هنا وفي الطلاق بالكسر ، لأنها واضحات تصدقها الكتب المتقدمة والعقول السليمة المستقيمة ، أو لأنها بينت الأحكام والحدود ، {وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ} أي: ومثلا من أمثال من قبلكم {وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} يعني: ما وعظ به في تلك الآيات ، وتخصيص المتقين لأنهم المنتفعون بها.

{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (ومن كتب أصحابنا:" وعن قول الله : {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} المعنى: لعله أنه الهادي لمن في السماوات والأرض). النور في الأصل : كيفية تدركها الباصرة أولا ، وبواسطتها سائر المبصرات ، كالكيفية من النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما، وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى إلا بتقدير مضاف ، كقولك: زيد كرم ، بمعنى : ذو كرم . أو على تجوز ، إما بمعنى: منور السماوات والأرض ، وقد قرىء به ، وأن الله تعالى نورها بالكواكب ، وما يفيض عليها من الأنوار ، أو بالملائكة والأنبياء . أو مدبرها – من قولهم للرئيس الفائق في التدبير : نور القوم ، لأنهم يهتدون به في الأمور – وموجدها ، فإن النور ظاهر بذاته مظهر لغيره ، وأصل الظهور هو الوجود ، كما أن أصل الخفاء هو العدم ، والله سبحانه موجود بذاته موجد لما عداه. أو للذي به يدرك. أو يدرك أهلها ، من حيث أنه يطلق على الباصرة لتعلقها به ، أو لمشاركتها له في توقف الإدراك عليه ، ثم على البصيرة ، لأنها أقوى إدراكا ، فإنها تدرك نفسها وغيرها من الكليات والجزئيات للموجودات والمعدومات ، وتغوص في بواطنها وتنصرف فيها بالتراكيب والتحليل ، ثم إن هذه الإدراكات ليست لذاتها ، وإلا لما فارقتها ، فهي إذن من سبب يفيضها عليها ، وهو الله سبحانه وتعالى ابتداء أو بتوسط من الملائكة والأنبياء ، ولذلك سموا أنوارا . ويقرب منه قول ابن عباس:" معناه هادي من فيهما ". فهم بنوره يهتدون ، وإضافته إليهما للدلالة على سعة إشراقه. أو لاشتمالها على الأنوار الحسية والعقلية ، قصور الإدراكات البشرية عليهما وعلى المتعلق بهما ، والمدلول لهما.

{مَثَلُ نُورِهِ} صفة نوره العجيبة الشأن ، وإضافته إلى ضميره سبحانه ، دليل على أن إطلاقه عليه لم يكن على ظاهره ، {كَمِشْكَاةٍ} كصفة مشكاة: وهي الكوة الغير النافذة ، {فِيهَا مِصْبَاحٌ} سراج ضخم ثاقب ، وقيل المشكاة: الأنبوب في وسط القنديل ، والمصباح: الفتيلة المشتعلة ، {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} في قنديل من الزجاج ، {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} مضيء متلألىء كالزهرة في صفائه وزهرته ، منسوب إلى الدر ، {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ} أي: ابتداء ثقوب المصباح من شجرة الزيتون المتكاثر نفعه ، بأن رويت ذبالتها بزيتها ، وفي إبهام الشجرة ووصفها بالبركة ، ثم إبدال الزيتونة عنه تفخيم لشأنها ، {لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} تقع عليها الشمس حينا بعد حين ، بل بحيث تقع عليها طوال النهار ، كالتي تكون على قلة ، أو صحراء واسعة ، فإن ثمرتها تكون أنضج ، وزيتها أصفى ، أو لأنها نابتة في شرق المعمورة وغربها ، بل في وسطها ، وهو الشام ، فإن زيتونه أجود الزيتون ، أو لأنها {لا} في مضحى تشرق الشمس عليها دائما فتحرقها ، ولا مقنأة تغيب عنها دائما فتتركها نيا. وفي الحديث:"لا خير في شجرة ولا في نبات في مقنأة ، ولا خير فيهما في مضحى".

{يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} أي: يكاد يضيء بنفسه من غير نار ، لتلألئه ، وفرط بيضه ، {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} نور متضاعف ، فإن نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت ، وزهرة القنديل ، وضبط المشكاة لأشعته.

وقد ذكر في معنى التمثيل وجوه:

-   الأول: أنه تمثيل للهدى الذي دل عليه الآيات البينات ، في جلاء مدلولها ، وظهور ما تضمنته من الهدى بالمشكاة المنعوتة، أو تشبيه للهدى من حيث {أنه} محفوف بظلمات أوهام الناس وخيالاتهم ، وإنما ولى بالمصباح الكاف المشكاة{كذا} لاشتمالها عليه ، وتشبيهه به أوفق من تشبيهه بالشمس.

-   أو تمثيل لما نور الله به قلب المؤمن من المعارف والعلوم ، بنور المشكاة ، والمثبت فيها من مصباحها ، ويؤيده قراءة أبي:" مثل نور المؤمن".

- أو تمثيل لما منح الله به عباده من القوى الداركة الخمس المترتبة ، التي ينوط بها المعاش والمعاد ، وهي الحساسة التي تدرك المحسوسات بالحواس الخمس ، والخيالية التي تحفظ صور تلك المحسوسات ، لتعرضها على القوة العقلية متى شاءت ، والعملية تدرك الحقائق الكلية ، والفكرة: وهي التي تؤلف المعقولات لتستنتج منها علم ما لم يعلم ، والقوة القدسية التي تتجلى فيها لوائح الغيب ، وأسرار الملكوت المختصة بالأنبياء والأولياء ، والمعنية بقوله تعالى:{ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا } بالأشياء الخمسة المذكورة في الآية ، وهي: المشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت ، فإن الحساسة كالمشكاة ، لأن محلها كالكوى ، ووجهها إلى الظاهر لا يدرك ما وراءها ، وإضاءتها بالمعقولات لا بالذات ، والخيالية كالزجاجة في قبول صور المدركات من الجوانب ، وضبطها للأنوار العقلية ، وإنارتها بما يشتمل عليها من المعقولات ، والعاقلة: كالمصباح لإضاءتها بالإدراكات الكلية ، والمعارف الإلهية ، والفكرة كالشجرة المباركة لتؤديها إلى ثمرات لا نهاية لها.

الزيتونة: المثمرة بالزيت الذي هو مادة المصباح ، التي لا تكون شرقية ولا غربية ، لتجردها عن اللواحق الجسمية ، أو لوقوعها بين الصور والمعاني متصرفة في القبيلتين ، منتفعة من الجانبين . والقوة القدسية كالزيت ، فإنها لصفائها وشدة ذكائها تكاد تضيء بالمعارف ، من غير تفكير ولا تعليم ، ولا تمثيل للقوة العقلية في مراتبها بذلك ، فإنها في مبدإ أمرها خالية عن العلوم ، مستعدة لقبولها كالمشكاة ، ثم ينتقش بالعلوم الضرورية بتوسط إحساس الجزئيات ، بحيث يتمكن من تحصيل النظريات ، فتصير كالزجاجة متلألئة في نفسها ، قابلة للأنوار ، وذلك التمكن إن كان تفكرا واجتهادا ، فكالشجرة الزيتونة ، وإن كان بالحدس فكالزيت ، وإن كان بقوة قدسية ، فكالذي يكاد زيتها يضيء ، لأنها تكاد تعلم ولو لم تتصل بملك الوحي ، والإلهام الذي مثله النار ، من حيث أن العقول تشتعل منهما ، ثم إذا حصلت لها العوم بحيث يتمكن من استحضارها متى شاءت ، كان كالمصباح ، فإذا استحضرها كان نورا على نور.

{يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ} لهذا النور الثاقب {مَن يَشَاء} فإن الأسباب دون مشيئته لاغية ، إذ بها تمامها ، {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} إدناء للعقول من المحسوس ، توضيحا وبيانا ، {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} معقولا كان أو محسوسا ، ظاهرا كان أو خفيا ، وفيه وعد ووعيد لمن تدبرها ، ولم يكترث بها.

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} عما يستقذر فيها من أعمال الدنيا والأنجاس ، بالثناء والتعظيم . قال أبو سعيد:" فثبت في هذه البيوت أنها المساجد ، لا يعلم في ذلك اختلاف ، من المسجد الحرام وغيره من المساجد ، فمعناها واحد في التعظيم ، وإن اختلف تعظيمها بمنزلة كل واحد منها بما عظمه الله ، فإنها كلها واحدة مرفوعة مطهرة، فيخرج في معاني الإتفاق وما تسنه السنة والكتاب أن المشرك ممنوع من دخول المساجد كلها ، ، فلا يجوز أن يقرب أحد المشركين إلى دخول المسجد الحرام ، لثبوت قول الله تعالى: { فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا } فهو على الأبد".

{وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} عام فيما يتضمن ذكره ، {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} ينزهونه ، أو يصلون له فيها بالغدوات والعشايا ، والغدو: مصدر إطلاق للوقت ، ولذلك حسن اقترانه بالآصال.

{رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} لا تشغلهم تحامرة(لعله تجارة) معاملة دنياوية رابحة ، وهو يتناول جميع أعمال الدنيا. وخص الرجال بالذكر في هذه المساجد ، لأنه ليس على النساء جمعة ولا جماعة ، وخص التجارة بالذكر ، لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الصلاة والطاعات. {وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} عن طاعته وأداء فرائضه ، لقوله:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } مبالغة في باب التعميم بعد التخصيص إن أريد به مطلق المعاوضة ، {وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ} ما يجب إخراجه من المال للمستحقين.

{يَخَافُونَ يَوْمًا} أو لأنهم لا يملكون ثباتها على ما هم عليه من الطاعة مع ما هم عليه من الذكر والطاعة ، {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} تتغير من الهول من هوله{كذا} بين طمع في النجاة ، وحذر من الهلاك ، وقيل تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشك والكفر ، وتتفتح الأبصار من الأغطية ، {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} أحسن جزاء ما عملوا الموعود لهم من الجنة . {وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} أشياء لم يعدهم على أعمالهم ولم تخطر ببالهم ، {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} تقرير للزيادة ، وتنبيه على كمال القدرة ، وإنفاذ المشيئة ، وسعة الإحسان.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} كأنه في النظر ماء ، فإذا قرب منه لم ير شيئا ، {بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء} العطشان . الآية قال أبو سعيد فيها:" إنه قيل: الدائن بضلال يعمل بدين ، ويجتنب بدين ، ومجتهد بذلك ، وأما قوله:{ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ.... } الآية ، أحسب أنه قيل هذا {فيمن} يرتكب ما يدين بتحريمه ويتجاهل ، ويعمل المعاصي بغير دين ، والله أعلم بتأويل كتابه". {حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ} عقابه ، أو محاسبا إياه ، {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ، وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} لا يشغله حساب عن حساب.

{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} أمواج مترادفة متراكمة ، {مِّن فَوْقِهِ} من فوق الموج الثاني {سَحَابٌ} غطى النجوم ، وحجب أنوارها ، {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ} وهي أقرب ما يرى إليه ، {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} لم يقرب أن يراها ، فضلا عن أن يراها ، أو يرى ما هو أبعد منها. {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا} ومن لم يقدر له الهداية ولم يوفقه لأسبابها ، {فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} خلاف الموفق الذي له نور على نور.

{أَلَمْ تَرَ} ألم تعلم علما يشبه المشاهدة في اليقين ، والوثاقة بالوحي ، أو الاستدلال ، {أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ينزهه عن كل نقص وآفة أهل السماوات والأرض . و"من" لتغليب العقلاء ، أو الملائكة والثقلان ، ما يدل عليه ، أو دلالة حال ، {وَالطَّيْرُ} على الأول بتخصيص ، لما فيها من الصنيع الظاهر ، والدليل الباهر ، لذلك قيدها بقوله:{ صَافَّاتٍ} فإن إعطاء الأجرام الثقيلة ما به تقوى على الوقوف في الجو صافة باسطة أجنحتها بما فيها من القبض والبسط ، حجة قاطعة على كمال قدرة الصانع ، ولطف تدبيره. {كُلٌّ} كل واحد مما ذكر ، أو من الطير {قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} أي: قد علم الله دعاءه وتنزيهه ، اختيارا أو طبعا ، لقوله:{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} أو علم كل على تشبيه حاله في الدلالة على الحق ، والميل إلى النفع ، على وجه يخصه بحال من علم ذلك ، مع أنه لا يبعد أن يلهم الله الطير دعاء وتسبيحا ، كما ألهمها علوما دقيقة في تعيشها وغيره ، لا يكاد يهتدي إليه العقلاء.

{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فإنه الخالق لهما ، أو لما فيهما من الذوات والصفات والأفعال ، من حيث أنها ممكنة ، واجبة الانتهاء إلى الواجب ، أي: تقديرها ، وتدبير أمرها ، وتصريف أحوالها كما يشاء ، {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} مرجع الجميع.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} يسوق سحابا إلى حيث يشاء من أرضه وخلقه ، ومنه" البضاعة المزجاة" ، فإنها يزجيها كل  أحد . {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} بأن يكون قزعا ، فيضم بعضه إلى بعض ، {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} متراكما بعضه فوق بعض ، {فَتَرَى الْوَدْقَ} المطر ، {يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} من فتوقه ، جمع خلل ، {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء} من الغمام ، وكل ما علاك فهو سماء ، {مِن جِبَالٍ فِيهَا} من قطع عظام تشبه الجبال في عظمها ، أو جمودها ، {مِن بَرَدٍ} بيان للجبال ، {فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء} فيهلك زرعه وأمواله ، {وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء} فلا يضره ، والضمير للبرد ، {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} ضوء برقه {يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} الناظرين إليه من فرط الإضاءة ، وذلك أقوى دليل على كمال القدرة من حين أنه توليد الضد من الضد.

{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} بالمعاقبة بينهما ، أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر، أو بتغير أحوالهما بالحر والبرد ، والظلمة والنور ، أو بما يعم ذلك ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} فيما تقدم ذكره {لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ} لدلالة على وجود الصانع القديم ، وكمال قدرته ، وإحاطة علمه ، وإنقاذ مشيئته ، وتنزيهه من الحاجة وما يفضي إليها ، لمن يرجع إلى بصيرة.

{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء} هو جزء مادته ، أو ماء مخصوص هو النطفة، فيكون تنزيلا للغالب منزلة الكل ، إذ من الحيوان ما يتولد لا من نطفة ، {فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ، وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ ، وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ ، يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء} مما ذكر ، ومما لم يذكر ، بسيطا ومركبا على اختلاف الصور والأعضاء والهيئات والحركات والطبائع والقوى والأفعال ، مع اتحاد العناصر بمقتضى مشيئته ، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

{لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} للحقائق بأنواع الدلائل ، {وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء} بالتوفيق للنظر فيها، والتدبر لمعانيها ، {إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} هو دين الإسلام الموصل إلى درك الحق ، والفوز والجنة.

{وَيَقُولُونَ : آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا، ثُمَّ يَتَوَلَّى} بالامتناع عن قبول حكمه {فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} بعد قولهم هذا ، {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} سلب الإيمان عنهم توليهم عن قبول حكمه ، وهم المنافقون. {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ} هو شرح للتولي ومبالغة فيه، {وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ} أي: الحكم لا عليهم {يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} منقادين لعلمهم بأن الحكم متوجه إليهم لا عليهم . {أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}؟ كفر أو ميل إلى الظلم ، {أَمِ ارْتَابُوا}؟ بأن رأوا منك تهمة، فزالت ثقتهم ويقينهم بك ، {أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} في الحكومة ، {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} حكم الله عليهم بالظلم بعد{ما} بين فعلهم.

{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا : سَمِعْنَا} قولك ، {وَأَطَعْنَا} أمرك ، {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفلاح هو: الفوز والنجاة ، والبقاء في الخير. {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فيما حكما به عليه ، {وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ، فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} الفوز: النجاة والظفر بالخير ، ضد الهلاك.

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} إنكارا للامتناع عن حكمه وأمره ، {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ} بالخروج عن ديارهم وأموالهم ، {لَيَخْرُجُنَّ ، قُل : لَّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} أي: المطلوب منكم طاعة معروفة لا اليمين ، {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فلا تخفى عليه سرائركم.

{قُلْ : أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} من التبليغ ، {وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ} من الامتثال ، {وَإِن تُطِيعُوهُ} فيما بلغكم {تَهْتَدُوا} إلى الحق ، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} التبليغ الموضح لما كلفتم به ،وقد أدى ، وإنما بقى ما حملتم ، فإن قبلتم فلكم ،وإن توليتم فعليكم.

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ترغيب لقبول ما أمر به الرسول وبلغهم إياه {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ} ليجعلنهم خلفاء متصرفين في الأرض ، تصرف الملوك في ممالكهم ، {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} ممن مضى ، {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} وهو الإسلام ، بالتقوية والعلم والتثبيت ، {وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ} من الأعداء {أَمْنًا ، يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} يعبدونني غير مشركين ، {وَمَن كَفَرَ} ومن ارتد ، أو كفر هذه النعمة {بَعْدَ ذَلِكَ} بعد حصول الخلافة ، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ، وَآتُوا الزَّكَاةَ ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} في سائر ما أمركم به ، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.

{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} لا تحسبن يا محمد ، الكفار معجزين الله عن إداركهم وإهلاكهم ، {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} المأوى الذي يصيرون إليه.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} رجوع إلى تتمة الأحكام السالفة بعد الفراغ من الإلهيات الدالة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام وغيره ، {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ} والصبيان الذين لم يبلغوا ، من الأحرار ، فعبر عن البلوغ بالاحتلام ، لأنه أقوى دلائله ، {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ} لأنه وقت القيام من المضاجع ، وطرح ثياب النوم ، ولبس ثياب اليقظة ، {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم} من اليقظة للقيلولة ، {مِّنَ الظَّهِيرَةِ ، وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء} لأنه وقت التجرد عن اللباس ، {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ} أي: هذه الثلاث الأوقات ، {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ ،كَذَلِكَ} مثل ذلك التبين ، {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ ، فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} الذين بلغوا من قبلهم في كل الأوقات ، {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} (لعله) ومن كتب أهل عمان(لعله): اللاتي قعدن عن الأزواج ، وهي اللاتي ادبراهن الرجال ، {و}استقذروهن ، فأما من كانت فيهن بقية من جمال ، وهو محل الشهوة ، فلا تدخل في هذه الإباحة ، لأن علة الحجر التي لزمها ، لم تزل عنها من أجلها ، وهي المرعي المرجال{كذا} ، {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} (لعله) عند الرجال ، يعني: يضعن بعض ثيابهن وهو الجلباب والرداء الذي فوق الثياب ، فوق الخمار ، فأما الخمار فلا يجوز. {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} قيل: هو الجلباب ، وذلك في المرأة الكبيرة ، التي لا تريد الرجال ، ولا تراد ، وقد انقضت شهوتها منهم ، قلت:" فعند من يسعها وضع الجلباب عند الكلام؟{أم} ذلك خاص؟ قال: لا أعلم في ذلك فرقا ، إلا أنه لا يعجبني أن تضعه عند المتهمين.

وقوله:{ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} فقيل: عن وضع الجلباب". انتهى. وقوله: { غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي: من غير أن تريد بوضع الجلباب إظهار زينتهن والتبرج ، وهو أن تظهر المرأة من محاسنها ما يجب عليها أن تستره ، { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

{ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ ، وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ ، وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} إذا علم رضى صاحب البيت بإذن أو قرينة ، { وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ} من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم ، ويدخل فيها بيوت الأولاد ، لأن بيت الولد كبيته على قوله عليه الصلاة والسلام :" أنت ومالك لأبيك" ، { أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ}وهو ما يكون تحت أيديكم وتصرفكم من صنعة أو غيرها ، وكالة أو حفظا ، { أَوْ صَدِيقِكُمْ} فإنهم أرضى بالتبسط في أموالهم ، وأسر به ، ولذلك خصص هؤلاء ، فإنه يعتاد التبسط بينهم ، { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ، فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} وذلك يعم البيوت والمساجد عامة ، وذلك أدب من الله وتعليم ، فإذا دخل الرجل بيت نفسه ، فليقل:" السلام علينا من ربنا ، والحمدلله رب العالمين ". حتى قيل: إن تركه تهاونا واستخفافا بأدب الله هلك. { تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً} ، لأنها ترجى بها زيادة الخير والثواب ، { طَيِّبَةً} وقيل: ذكر البركة والطيب هاهنا لما فيه من الثواب والأجر ، { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} الخير في الأمور.

{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} كالجمعة والأعياد ، والحروب ، والمشاورة في الأمور ، ووصف الأمر بالجمع للمبالغة ، { لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} جعل الاستئذان علامة للإيمان . { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} كان المنافقون يتفرقون من غير إذن ، { فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} ما يعرض لهم من المهام ، { فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} تفويض للأمر إلى رأي الرسول ، وكأن المعنى: فأذن لمن علمت أن له عذرا ، { وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} لزلاتهم وصغائرهم ، { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

{ لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا} لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا في جوار الإعراض والمساهلة في الإجابة ، والرجوع بغير إذن ، فإن المبادرة إلى إجابته واجبة ، والرجعة بغير إذن محرمة ، وقيل: لا تجعلوا نداءه وتسمته كنداء بعضكم بعضا باسمه ، ورفع الصوت به ، والنداء وراء الحجرة ، ولكن بلقبه المعظم مثل: يا نبي الله ، ويا رسول الله ، مع التوقير والتواضع ، وخفض الصوت ، { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا} يتسللون قليلا قليلا ملاوذة ، بأن يستتر بعضهم ببعض ، حتى يخرج ، أو لواذا ببعض المعاذير الكاذبة ، كقوله: { إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا } ، { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} محنة في الدنيا ، { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة ، واستدل به على أن الأمر للوجوب.

{ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ملكا وعبيدا وخلقا ، { قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} أيها المكلفون من المخالفة والموافقة ، والنفاق والإخلاص { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا} بالجزاء ، { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فيه وعد ووعيد.