بسم الله الرحمن الرحيم

 {الَرَ ، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} " تلك" : إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات ، و"الكتاب": القرآن ، كأنه قيل: الكتاب الجامع للكمال والغرابة في البيان.

 

{رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} عند النزع وما بعده ، {ذَرْهُمْ} أمر إهانة ، إقطع طمعك من إرعوائهم ، ودعهم عن النهي عما هم عليه ، (لعله) بالتذكرة والنصيحة ، وخلهم {يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ} بدنياهم ، {وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ} من الإيمان وشروطه ، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} سوء صنيعهم ، وفيه تنبيه على أن إيثار التلذذ والتنعم ، وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين.

{وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} أي: أجل مضروب لا يتقدم ولا يتأخر. {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}. {وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} أي: القرآن ، {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} يعنون: محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان هذا النداء منهم على وجه الاستهزاء والأذى ، كما قال فرعون : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } ، وكيف يقرون بنزول الذكر عليه وينسبونه إلى الجنون ، والتعكيس في كلامهم للاستهزاء والتهكم شائع ، والمعنى : أنك تقول قول المجانين حيث تدعي أن الله نزل عليك الذكر ، {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ، والمعنى: هلا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ، أو هلا تأتينا بالملائكة للعقاب على تكذيبنا لك إن كنت صادقا.

{مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ} لا لحكمة ، {وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ} ، معناه: ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين ، وما أخر عذابهم وكتابهم عن أجله.

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} القرآن ، لأنه يذكر العاقبة ، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} من الشياطين أن يزيدوا أو ينقصوا أو يبدلوا بغيره ، قال الله : { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ } والباطل هو إبليس وجنوده . {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ} أي: في أمم الأولين ، والشيعة : القوم المتفقة كلمتهم ، {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ} ، كما فعلوا بك ، تسلية له عليه الصلاة والسلام.

{كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} ، قيل: الضمير للاستهزاء ، وفيه دليل على أنه تعالى يوجد الباطل في قلوبهم ، وقيل: للذكر ، فإن الضمير الأخير في قوله : {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} بالذكر ، أو بالله ، {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} مضت طريقتهم التي سنها الله في إهلاكهم حين كذبوا رسله.

{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء} ولو أظهرنا لهم أوضح آية يعني الذين يقولون:" لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ". { فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ} قيل: الضمير للملائكة ، وقيل: للكافر وهو الأظهر.

{ لَقَالُواْ : إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} سحرت ، وقيل: حبست ، والمعنى أنهم بلغ من غلولهم في العناد لو فتح لهم باب من أبواب السماء ، ويسر لهم معراج يصعدون فيه إليها ، ورأوا من العيان ما رأوا ، لقالوا: شيء نتخايله لا حقيقة له ولقالوا:{ بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} قد سحرنا محمد بذلك.

{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ، وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ، إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} لكن من استرق السمع ، وكان الشياطين لهم شهوة في استراق السمع.

{فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ} شعلة من النار ، ظاهر للمبصرين ، قيل: كانوا لا يحجبون عن السماوات كلها ، فلما ولد عيسى منعوا من ثلاث سماوات ، فلما ولد محمد منعوا من السماوات كلها.

{وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ، وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} وزن بميزان الحكمة ، وقدر بمقدار تقتضيه المصلحة ، لا تصلح فيه زيادة ولا نقصان ، إذ الحكيم لا يخلق شيئا لغير حكمة ، أو له وزن وقدر في أبواب المنفعة والنعمة ، أو مستحسن مناسب ، من قولهم:"كلام موزون".

{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} ما يعايش به ، {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} ، كأنه قيل: وجعلنا لكم من لستم لم برازقين ، أو جعلنا لكم معايش ولمن لستم له برازقين ، وأراد بهم: العيال والخدم الذين يظنون أنهم يرزقونهم ويخطئون ، فإن الله هو الرزاق ، يرزقهم وإياهم ، ويدخل فيه الأنعام والدواب ، {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } ، ذكر الخزائن تمثيل ، والمعنى: وما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به ، وما نعطيه إلا بمقدار معلوم ، فضرب"الخزائن" مثلا لاقتداره على كل مقدور.

{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} ، أي: حوامل بالسحاب ، لأنها تحمل السحاب في جوفها ، كأنه لاقحة بها ، من "لقحت الناقة": إذا حملت. وضدها: الريح العقيم. {فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} فجعلنا{ه} لكم سقيا ، {وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} ، بل سلكه هو ينابيع في الأرض .

{وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} الباقون بعد هلاك الخلق كله ، وقيل: للباقي وارث استعارة من وارث الميت لا يبقى بعد فنائه.

{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} من تقدم ولادة ومؤنة ومن تأخر ، أو من خرج من أصلاب الرجال ، ومن لم يخرج بعد ، وقيل: الأولين والآخرين ، وقيل :"المستقدمين ": من خلقه الله ، و"المستأخرين": من لم يخلق بعد ، أو من تقدم في الإسلام وفي الطاعات.

{وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} أي: هو وحده يقدر على حشرهم ، ويحيط بحصرهم ، {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} باهر الحكمة واسع العلم.

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ} ، (لعله) طين يابس غير مطبوخ ، الذي إذا ضربته سمعت له صلصلة، {مَّسْنُونٍ} مصور ، وفي الأول كان ترابا يعجن بالماء فصار طينا ، فمكث فصار حمأ ، {وَالْجَآنَّ} (لعله) أبا الجن ، كآدم للإنسان ، وهو إبليس ، وقيل: الجان أبو الجن ، وإبليس أبو الشياطين ، وفي الجن مسلمون وكافرون ، ويحيون ويموتون ، أما الشياطين فليس منهم مسلمون ، {خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ} من قبل آدم {مِن نَّارِ السَّمُومِ} من نار الحر الشديد النافذ في المسام.

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} أتممت خلقته وهيأتها لنفخ الروح فيها. {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} وجعلت فيه الروح وأحييته ، وليس ثمة نفخ وإنما هو تمثيل ، {فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} هو أمر من " وقع يقع" ، أي: اخضعوا له وانقادوا ، وفيه دليل على أنه يجوز تقديم الأمر عن وقت الفعل.

{فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} ، (لعله) وكأن في الآية دليلا على تفضيل آدم على الملائكة ، {إِلاَّ إِبْلِيسَ} ، قال في الكشاف:"كان بينهم مأمورا معهم بالسجود فغلب اسم الملائكة ثم استثني بعد التغليب ، {أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} امتنع أن يكون معهم.

{قَالَ : يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ؟قَالَ: لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ} أي: لا يصح مني أن أسجد. {لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} (لعله) لأني افضل منه.

{قَالَ : فَاخْرُجْ مِنْهَا} ، قيل: من السماء ، {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} مطرود من رحمة الله ، ومعناه:ملعون ، لأن اللعن هو الطرد من الرحمة ، والإبعاد منها. {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} ضرب"يوم الدين" حدا للعنة ، لأنه أبعد غاية في الدنيا ، وكأنه علم الله منه الإيياء ، فلا يتوب إلى يوم الدين ، وبعد يوم الدين فلا توبة ، لأن التعبد قد ارتفع وأقبل الجزاء.

{قَالَ :رَبِّ فَأَنظِرْنِي} فأخرني ، {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قَالَ : فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} قيل: إنما سأل الإنظار إلى اليوم الذي فيه يبعثون لئلا يموت ، لأنه لا يموت في يوم البعث أحد ، فلم يجب إلى ذلك ، وأنظر إلى آخر أيام التكليف زيادة في بلائه وشقائه ، وامتحانا للثقلين ، لا إكراما له.

{قَالَ: رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} أضللتني وأبعدتني من رحمتك ، {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ} المعاصي {فِي الأَرْضِ} ، في الدنيا التي هي دار الغرور ، {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} ، وهم الذين أخلصوا لك الطاعة والتوحيد وفتح من فتح اللام ، أي: من أخلصته لتوحيدك ، فاصطفيته وهديته ، استثناهم لأنه علم أن كيده لا يعمل فيهم ولا يقبلون منه.

{قَالَ : هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} قيل استقامته بالبيان ، والتوفيق والهداية لمن سلكه.

{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} ، معناه : على قلوبهم ، {إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} أي: هذا طريق حق علي أن أراعيه ، وهو أن لا يكون لك سلطان على عبادي ، إلا من اختار اتباعك منهم لغوايته ، {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ، لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } ، نصيب معلوم ، قيل: أبواب النار أطباقها وأدراكها.

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} المتقي على الإطلاق ، من يتقي ما يجب اتقاؤه ، {ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ} أي: سالمين ، أو مسلما عليكم ، {آمِنِينَ} المخوفات كلها ، لأنهم لم يكن عليهم ذنب فيستحقوا الخوف ، والخوف عذاب وألم يتألم به القلب.

{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} الغل الفطري ، لأنه لا يموت أحد على الإيمان وفي قلبه غل على أحد من أهل الإيمان يخرجه من الإيمان ، {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} ، لذلك قيل: تدور بهم الأسرة حيثما داروا ، (لعله) فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين بعضهم بعضا ، {لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ ، وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } لأن تمام النعمة بالخلود.

{نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} لمن تاب منهم ، {وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} لمن أصر ، {وَنَبِّئْهُمْ} وأخبر أمتك ليحذروا ، وما أحل من العذاب بقوم لوط عبرة تعتبرون بها سخط الله وانتقامه من المجرمين ، وإكرامه لإبراهيم (لعله) ومن تبعه ، من حيث استقامتهم على دعائم الدين، {عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ} هم الملائكة الكرام .

{إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ : سَلامًا} أي: تسلم عليك سلاما ، أو سلمت سلاما ، {قَالَ : إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ} خائفون لامتناعهم عن الأكل .

{قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ} لا تخف ، {إِنَّا نُبَشِّرُكَ} أي: إنك مبشرا آمن {بِغُلامٍ عَلِيمٍ. قَالَ: أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُواْ: بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} باليقين الذي لا لبس فيه ، {فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ} من الآيسين من ذلك.

{قَالَ: وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ } ، (لعله) المخطئون طريق الصواب ، أي: لم (لعله) يستنكر ذلك فنوطا من رحمته ، ولكن استبعادا له في العادة التي أجراها.

{قَالَ: فَمَا خَطْبُكُمْ} فما شأنكم {أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ، قَالُواْ: إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} لمن الباقين في العذاب.

{فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ ، قَالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} أي: لا أعرفكم ، {قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ} ، أي: ما جئناك بما تنكرنا من أجله بل جئناك بما فيه سرورك وتشفيك من عدوك ، وهو العذاب الذي كنت تتوعدهم بنزوله فيمترون فيه ، أي: يشكون ويكذبونك ، {وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ} باليقين من عذابهم ، {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} في الإخبار بنزولهم.

{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ} وسر خلفهم لتكون متطلعا عليهم وعلى أحوالهم ، {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب ، أو جعل النهي عن الالتفات كناية عن مواصلة السير ، وترك التواني والتوقف ، لأنه من يلتفت لا بد له في ذلك من أدنى وقفه ، {وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} حيث أمركم الله .

{وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ} وفي إبهامه وتفسيره تفخيم للأمر ، ودابرهم: آخرهم ، أي: يستأصلون عن آخره حتى لا يبقى منهم أحد ، {مُّصْبِحِينَ}.

{وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ} بالملائكة طمعا منهم في ركوب الفاحشة ، {قَالَ :إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ ، وَاتَّقُوا اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ } ولا تذلوني ، من الخزي : وهو الهوان.

{قَالُوا :أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} عن أن تجبر منهم أحد وتدفع عنهم ، فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد ، {قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي} أزوجهن إياكم ، {إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله. {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ} ، أي: في غوايتهم التي أذهبت عقولهم وتمييزهم بين الخطأ الذي هم عليه ، وبين الصواب الذي تشير به عليهم من ترك البنين إلى البنات ، {يَعْمَهُونَ} يتحيرون ، فكيف يقبلون قولك ، ويصغون إلى نصيحتك ، والعمه: التردد في الضلال.

{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} (لعله) قيل: صاح بهم جبريل صيحة ، {مُشْرِقِينَ} داخلين في الشروق ، وهو بزوغ الشمس.

{فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ، وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} للمتفرسين المتأملين ، كأنهم يعرفون باطن الشيء ، (لعله) أي: ملكوته بسمة ظاهرة ، {وَإِنَّهَا} وإن هذه القرى يعني آثارها {لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ} ، ثابت يسلكه الناس ، لم يندرس بعدهم ، يبصرون تلك الآثار ، كقوله: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ } ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ} لأنهم المنتفعون بذلك.

{وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ} ، قيل: هم قوم شعيب ، كانوا يسكنون الغيضة ، فبعثه الله إليهم ، فكذبوه فأهلكوا بالظلة. والأيكة: الشجرة المتكاثفة ، {لَظَالِمِينَ ، فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ} فأهلكناهم لما كذبوا شعيبا ، {وَإِنَّهُمَا} يعني مدينة قوم لوط وأصحاب الأيكة ، {لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} طريق واضح ، والإمام : اسم ما يؤتم به.

{وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ} هم ثمود ، والحجر، واديهم . {الْمُرْسَلِينَ وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا} بإقامة الحجج ، {فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} (لعله) بقلة التفاتهم إليها.

{وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} أي: ينقبون في الجبال ، أو يبنون بالحجارة ، {آمِنِينَ} لوثاقة البيوت واستحكامها من ان تنهدم ، ومن نقب اللصوص والأعداء ، {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ، فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من بناء البيوت الوثيقة ، واقتناء الأموال النفيسة.

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} إلا خلقا ملتبسا بالحق ، لا باطلا ولا عبثا ، {وَإِنَّ السَّاعَةَ} لتوقعها كل ساعة {لآتِيَةٌ} وإن الله ينتقم لك فيها من (لعله) أعدائك ، ومجازيك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم ، فإنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا لذلك ، {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} فإعرض عنهم إعراضا جميلا بحلم وإغضاء.

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ} الذي خلقك وخلقهم ، {الْعَلِيمُ} بحالك وحالهم فلا يخفى عليه ما يجري بينكم ، وهو يحكم بينكم.

{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا} أي: سبع آيات ، وهي: الفاتحة ، أو سبع سور ، وهي الطوال ، {مِّنَ الْمَثَانِي} هي من التثنية ، وهي : التكوير ، لأن الفاتحة مما تكرر في الصلاة ، أو من الثناء لاشتمالها على ما هو ثناء على الله ، وأما السور والأسباع فما وقع فيها من تكرير القصص والمواعظ ، والوعد والوعيد ، ولما فيها من الثناء ، كأنها تثني على الله . {وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} هذا ليس بعطف الشيء على نفسه ، لأنه إذا اريد بالسبع الفاتحة أو الطوال ، فما وراءهن ينطلق عليه اسم القرآن ، لأنه اسم يقع على البعض كما يقع على (لعله) الكل ، دليله: قوله: { بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ } . وإذا أريد به الإتباع فالمعنى: ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني ، والقرآن العظيم ، أي: الجامع لهذين النعتين.

{لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} ، أي: لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه ، {إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ} أصنافا من العصاة ، يعني: قد اوتيت النعمة العظمى التي كل نعمة – وإن عظمت – فهي إليها حقيرة ، وهي: القرآن العظيم ، فعليك أن تستغني به ولا تمد عينيك إلى متاع الدنيا . ومنه الحديث:" ليس منا من لم يتغن بالقرآن " ، وحديث أبي بكر :" من أوتي القرآن ، فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما وعظم صغيرا " ، {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} ، أي: لا تحزن على ما فاتك من مشاركتهم في الدنيا ، أو لا تحزن عليهم أنهم لم يؤمنوا فيتقوى بمكانهم الإسلام والمسلمون. {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، وتواضع لمن معك من المؤمنين ، أي: لين جنابك ، والجناحان من ابن آدم: جانباه.

{وَقُلْ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} أنذركم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بمن عصى ، {كَمَا أَنزَلْنَا} متعلق بقوله: { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ} أي: أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا ، { عَلَى المُقْتَسِمِينَ} وهم أهل الكتاب ، { الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} جزؤوه ، جعلوه أعضاء ، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه.

{ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أقسم بذاته وربوبيته ليسألن يوم القيامة واحدا واحدا عن عمله.

{ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} فاجهر به وأمضه ، يقال: صدع بالحجة : إذا تكلم بها جهارا ، من الصديع ، وهو: الفجر ، أو فاصدع: فافرق بين الحق والباطل ، من الصدع في الزجاجة ، وهو: الإبانة بما يؤمر به من الشرائع . { وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} وعن اهوائهم وباطلهم أو عن أذاهم.

{ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} ، أي: يقول له: فاصدع بأمر الله ، ولا تخف أحدا غيره ، فإنه كافيك من عاداك بالاستهزاء ، { الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } عاقبة أمرهم(لعله) ، مآل أمرهم في الدنيا والآخرة ، { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} يخوضون في آياتنا بقولهم وفعلهم.

{ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} فافزع فيما نابك إلى الله ، والفزع إلى الله هو: الذكر الدائم ، يكفيك ويكشف عنك الغم ، وقابل إشراكهم وخوضهم (لعله) بالتوحيد والتسبيح ، ويدل على ذلك قوله:{ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ} أي: دم على عبادته وإن خالفوك ، { حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} ، والمعنى: فاعبده ما دمت حيا لا تخل عن العبادة لحظة ، واليقين هو{أن} يرى ما وعده الله من الجزاء عيانا.