{ بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ } أي : هذه براءة من الله { وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } المعنى : أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذين عاهدتم به المشركين وأنه منبوذ إليهم .

 

{ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } فسيروا في الأرض كيف شئتم ، والسبح : السير على مهل . روي أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب فنكثوا ، إلا ناسا منهم ، فنبذ العهد إلى الناكثين ، وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاءوا ، مقبلين ومدبرين لا يتعرض لهم ، وهي الأشهر الحرم في قوله : ( فإذا تنسلخ الأشهر الحرم ) وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها { وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ } لا تفوتونه وإن أمهلكم ، قيل : هذا تأجيل من الله للمشركين ، فمن كان مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفعه إلى أربعة أشهر ، ومن كانت مدته أكثر من أربعة أشهر حطه إلى أربعة أشهر ؛ ثم هو حرب بعد ذلك لله ورسوله ، يقتل حيث أدرك ويؤسر إلا أن يتوب ، وابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر ، ومن (لعله) لم يكن له عهده ؛ فإنما أجله انسلاخ أشهر الحرم { وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ } مد لهم في الدنيا بالقتل وغيره ، وفي الآخرة بالعذاب .

 

{ وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ } الأذان : بمعنى الإيذان ، وهو الإعلام ، ومنه الأذان للصلاة ، يقال : أذنته فأذن ، أعلمته فعلم ؛ وأصله من الأذان ، أي : أوقعت في أذنه ، والفرق بين الجملة الأولى والثانية : إخبار بثبوت البراءة ، والثانية : إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت ؛ وإنما علّقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين ، وعلق الأذان بالناس ، لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم ، وأما الأذان فعام لجميع الناس ، من عاهد ومن لم يعاهد ، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث . { يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ } يوم عرفة ، لأن الوقوف بعرفة معظم أفعل الحج ، أو يوم النحر ، لأن فيه تمام الحج من الطواف والحلق والرمي ؛ ووصف الحج الأكبر ، لأن العمرة تسمى الحج الأصغر ، أو لعظم حرمته مع عظم الاجتماع ، قيل : ما يجتمع حلق في الدنيا كما يجتمع في يوم عشية عرفة .

 

{ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ } رجعتم من الكفر والغدر ، وأخلصتم التوحيد ،       {  فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } من الإصرار على الكفر ؛ { وَإِن تَوَلَّيْتُمْ } عن التوبة أو ثبتم على التولي والإعراض عن الإسلام ، {  فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ } لا تفوتونه طلبا ، ولا تعجزونه هربا ، { وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } مكان بشارة المؤمنين بنعيم مقيم .

 

{ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } استثناء من قوله : ( فسيحوا في الأرض ) والمعنى : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فقولوا لهم : سيحوا، إلا الذين عاهدتم منهم . { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } من شروط العهد ، أي : وفوا بالعهد ولم ينقضوه ، { وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً } ولم يعاونوا عليكم عدوا ؛ { فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ } فأدوا إليهم تماما كملا { إِلَى مُدَّتِهِمْ } والاستثناء : بمعنى الاستدراك ، كأنه قيل : بعد أن أمروا في الناكثين لكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ، ولا تجروهم مجراهم ، ولا تجعلوا الوافي كالغادر ، {  إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } أي : إن قضية التقوى أن لا تسوي بين من أوفى بما عاهد عليه وبين الناقض .

 

{ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ } التي أبيح فيها للناكثين أن يسيجوا ، سميت أشهر الحرم ، لأنه يحرم فيها على المؤمنين دماء المشركين ، { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ } الذين نقصوكم وظاهروا عليكم ، { حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ } وأسروهم { وَاحْصُرُوهُمْ } وقيدوهم ، وامنعوهم من التصرف في البلاد ،          { وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } كل ممر ومجتاز ترصدونهم به ، { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } فأطلقوا عنهم بعد الأسر والحصر، أو فكفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم ، فإنه ما يراد بقتلهم وأسرهم وحصرهم إلا التوبة وأداء الحقوق ، { إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ } لمن تاب ، { رَّحِيمٌ } لا يعاجل بالعقوبة .

 

{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ } المعنى : وإن جارك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر لا عهد بينك وبينه ، واستأمنك ليسمع ما تدعوا إليه من التوحيد والقرآن فأمنه ، {  حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ    اللّهِ } ويتدبره ويتطلع على حقيقته ومكنون سره ، ويسمع ما له و [ ما ] عليه من الثواب والعقاب ؛ { ثُمَّ أَبْلِغْهُ } بعد ذلك { مَأْمَنَهُ } داره التي يأمن فيها أن يسلم ، ثم قاتله إن لم ينجع فيه كلام الله ، وثبت على شركه ، وفيه دليل على أن المؤمن لا يؤذي ، وليس له الإقامة في دارنا ، ويمكن من العودة إلى مأمنه ؛ { ذَلِكَ } أي : الأمر بالإجارة ، { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } بسبب أنهم قوم جهلة ، لا يعلمون ما الإسلام ، وما حقيقة ما يدعوا إليه ، ولا دين الله ، ولا توحيده ، فلا بد من إعطائهم الأمان ، حتى يسمعوا ويفهموا الحق .

 

{ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ } ؟ (( كيف )) استفهام في معنى الاستنكار، أي : مستنكر أن يثبت لهؤلاء عهد ، فلا تطمعوا في ذلك ، ولا تتعجبوا من نقض العهد منهم ، لأنهم جهلة لا يعلمون ثمرة الإسلام ، ولا ما يثمر لهم شركهم ؛ ولكن تعجبوا من وفائهم وتمامهم للعهد ، ولأنهم قوم جبلوا على النقد من حيث أن ذلك من طباعهم ، وشهواتهم المركبة فيهم ، وليس شيء يزعجهم وينهضهم عن ذلك إلى الوفاء من خوف الله ولا عار من الناس ؛ { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ } أي : ولكن الذين عاهدتم منهم . { عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ولم يظهر منهم نكث ، فتربصوا أمرهم ولا تقاتلوهم . { فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ } فما أقاموا على وفاء العهد ؛ { فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ } على الوفاء ، {  إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } يعني : أن التربص بهم من أعمال المتقين .

 

{ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد ، وحذف الفعل لكونه معلوما ، أي : كيف يكون لهم عهد وحالهم أنهم أن يظهروا عليكم ، أي : يظفروا بكم بوجدان الفرصة بعد ما سبق لهم من تأكيد الإيمان والمواثيق . { لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ } لا يراعوا ، ولا يحفظوا حلفا أو قرابة ، { وَلاَ ذِمَّةً } عهدا ؛ {  يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ } بالوعد بالإيمان ، والوفاء بالعهد ، وهو كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن ، مقرر لاستبعاد الثبات منهم على العهد ، { وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ } الإيمان والوفاء بالعهد ، { وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } ناقضون العهد ، أو متمردون في الكفر ، لا مروءة تزعهم عن الأدب ، ولا شمائل تردعهم عن النكث .

 

{ اشْتَرَوْاْ } استبدلوا {  بِآيَاتِ اللّهِ } بالقرآن أو بما قام عليهم به من الحجج ، { ثَمَناً قَلِيلاً } عرضا يسيرا ، وهو اتباع الأهواء والشهوات ، { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ } فعدلوا عنه ، وصرفوا غيرهم ؛ { إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : بئس الصنيع صنيعهم .

 

{ لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ } المجاوزون الغاية في الظلم والشرارة .

 

{ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } لا في النسب ؛ { وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ } ونبينها { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } يفهمون ، فيتفكرون في أسرارها ، وهذا اعتراض ، كأنه قيل : وإن من تأمل تفصيلها فهو العالم ، تحريضا على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين ، وعلى المحافظة عليها .

 

{ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ } أي : نقضوا العهود المؤكدة بأيمان ، { وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ } أي : (لعله) قدحوا فيه [و] عابوه ؛ { فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ } على الحقيقة ، ويحتمل أن لا أيمان لهم بعد نقضهم ، أي : فلم تبق لهم على المسلمين يمين بعد حلهم إياها ، ولم تقع بينهم وبين المسلمين معاهدة ، { لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } أي : ليكن غرضكم في مقاتلتهم انتهاؤهم عما هم عليه ، بعدما وجد منهم من العظائم ، وهذا من غاية كرمه على المسيء ، وأنه لا يعاجل بعقوبة الاستئصال قبل بلوغ الكتاب أجله .

ثم حرض على القتال ، فقال : { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ } التي خلفوها في المعاهدة ، { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ } من مكة ، { وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } بالقتال ، والبادئ أظلم ؛ فما يمنعكم من قتالهم ؟ وبخهم بترك مقاتلتهم ، وحضهم عليها ؛ ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها من نكث العهد ، وإخراج الرسول ، والبدء بالقتال من غير موجب . { أَتَخْشَوْنَهُمْ } تخافونهم ، فتتركون قتالهم ؟ توبيخ على الخشية منهم ؛ { فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } بأن تخشوه فتقاتلوا أعداءه ، وتمتثلوا أمره ، { إِن كُنتُم   مُّؤُمِنِينَ } أي : إن قضية الإيمان الكامل : أن لا يخشى المؤمن إلا ربه ، ولا يبالي بمن سواه .

 

ولما وبخهم الله على ترك القتال حرد لهم المر به بقوله : { قَاتِلُوهُمْ } ووعدهم النصر لتثبيت قلوبهم ، وتصحيح نياتهم بقوله : { يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ } قتلا ، { وَيُخْزِهِمْ } أسرا ، { وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ } يُغلّبكم عليهم ، { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } بإذهاب ما وقع عليها من الغيظ ، (لعله) بسبب مخالفتهم وأذاهم لهم بدليل قوله :

 

{ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } وقد حصّل هذه المواعيد كلها ، وكان دليلا على صحة نبوته ، { وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ } منهم ، { وَاللّهُ عَلِيمٌ } ما كان وما سيكون ، { حَكِيمٌ } في تدبير أموره وقبول التوبة .

 

{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ } أي : لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين الخُلصّ { مِنكُمْ } وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لإعزاز الحق وأهله ، وانمحاق الكفر وأهله ، { وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ } من دون القيام بأمر دينه ، { وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً } أي : مخبأ وبطانة من الذين يضادون رسول الله والمؤمنين ، كأنه قيل : ولما يعلم الله المجاهدين منكم والمخلصين غير المتخذين وليجة من دون الله ؛ والمعنى : أحسبتم أن تتركوا بلا مجاهدة ولا براءة من المشركين ؟ { وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } من إخلاص ونفاق .

{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ } ما صح لهم ولا استقام { أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } على الحقيقة ، لأن من كان كافرا ، فليس من شأنه أن يعمرها ؛ لأن حقيقة عمارة المساجد أن تعمر بعبادة الله وحده ، لا لغرض سواها ؛ ومن كان بمعزل عن العبادة لله ، فكيف يستقيم منه عمارتها ، بل ذلك من المحال ، ومن تنافي المعاني ، ومن دخلها لغرض دنياوي فقد تعدّى أمر الله من حيث أنه استعملها لغير ما جعلت له ، كما قال : ( ومن يرد فيه يإلحاد بظلم ..... ) ، الآية ، وقال : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ) أي : تمنع وتطهر عن الأمور الدنياوية ( ويذكر فيها اسمه ) فقد جعلت للذكر كما قال : ( طهر بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ) ؛ { شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } باعترافهم بعبادة غير الله بلسان مقالهم أو لسان حالهم ، والمعنى : ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متضادين : عمارة متعبدات الله مع الكفر بالله وبعبادته ، { أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } وإذا وحدت المساجد بين ظهراني من يقدر على عمارتها خربة من العمارة بالذكر ، ومخروبة بأعمال الدنيا ، فذلك دليل على أن قلوبهم خالية من الذكر ، خربة مشحونة بالوساوس اللغوية والأوهام الباطلة ، كما قال :

 

{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ } عمارتها بالعبادة لله ، لأنها بنيت لذلك وللذكر ، ومن الذكر درس العلم ، ويمنعها عن الذكر جميع الأمور الدنياوية الشاغلة ، إلا من دخلها للذكر ، ثم عرض له أمر دنياوي مما لا يوعثها ولا يضر بها ولا يكر بها ، ولا يؤذي القائمين بها للذاكرين فيها ، من قول أو عمل ، أو نوم ففيه خلاف بين المسلمين بالرأي ، فقيل : فيه المنع ، وقيل : بالترخيص ، وأما ما يقع منه الأذى للمسجد أو عماره ، فذلك ممنوع بالإجماع ، ولو كان قصده عند الدخول للعمارة ، ولحقه اسم الظلم والتعدي بذلك ، كما قال : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ..... ) الآية . وكذلك من قصدها بالدخول لذلك الفعل لا للذكر ، ولو كان مما لا يضر بها ولا يضر بالقائمين بها ، فذلك لاينساغ جوازه . { مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } وفي قوله : { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ } تنبيه على الإخلاص ، والمراد : الخشية في أبواب الدين ، بأن لا يختار على رضى الله رضى غيره لتوقع مخوف ؛ إذ المؤمن يخشى المحاذير ولا يتمالك لا يخشاها [كذا] ؛ { فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء ، وحسم لأطماعهم في الانتفاع بأعمالهم ؛ والمعنى : إنما تستقيم عمارة هؤلاء ويكون معتدا بها عند الله دون من سواهم .

 

{ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجّ } من العاصين ، { وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ممن لم يؤمن إيمانا مقرونا بالعمل ، { كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } إنكارا أن يشبه المشركون المؤمنين ، وأعمالهم المحبطة ، بأعمالهم المثبتة ، وأن تسوى بينهم ؛ وجعل تسويتهم ظلما بالكفر لأنهم وضعوا المدح والفخر في غير موضعهما قيل : نزلت جوابا لقول العباس حين أسر ، وجعل يوبخ بقتال رسول الله ÷ وقطعية الرحم ، فقال : (( تذكر مساوئنا وتدع محاسننا )) فقيل : أولكم محاسن ؟ فقال : (( نعمر المسجد ونسقي الحاج ونفك العاني )) ؛ وقيل : افتخر العباس بالسقاية وشيبة بالعمارة .

 

{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً } أعلى رتبة ، وأكثر كرامة ممن لم يستجمع هذه الصفات { عِندَ اللّهِ } من أهل السقاية والعمارة { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } لا من سقى الحاج ، وعمر المسجد الحرام بغير إيمان حقيقي .

 

{ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ } بتوفيق وتيسير في الدنيا { وَرِضْوَانٍ } ورضى عنهم { وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ 0 خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } يستحقر دون ما استوجبوه لأجله ، أو نعيم الدنيا

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } بوضعهم الموالاة في غير موضعها .

 

{ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } أي : الحب الاختياري دون الطبيعي ، فإنه لا يدخل تحت التكليف ؛ { فَتَرَبَّصُواْ } فانتظروا { حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ } وهو الموت ، أو عذاب عاجل أو آجل ، أو فتح مكة ، { وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } والآية تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين ، واضطراب حبل اليقين ، إذ لا تجد أورع الناس يؤثر دينه على الآباء والأبناء والأهواء وحظوظ الدنيا .

 

{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ } مع قلتكم وضعفكم وكثرة عدوكم وقوتهم ، يذكرهم الله بين تلك الوقائع وبين وقعة حنين { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } أي : واذكر يوم حنين : وهو والدليل – قليل – بين مكة والطائف ، كانت فيه الواقعة بين المسلمين – وهم اثنا عشر ألفا – وحربهم أربعة آلاف فيما قيل ؛ { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } فأدرك المسلمين كلمة الإعجاب بأكثره وزال عنهم أن الله هو الناصر لا لكثرة الجنود ، فانهزموا ؛ والعجب من هذا الإعجاب كيف عمهم جميعا ، وزين لهم الشيطان (لعله) ذلك . { فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } المعنى : لم تجدوا موضعا لفراركم عن أعدائكم { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } .

 

{ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ } رحمته التي سكنوا بها ، بعد أن تابوا من إعجابهم وآمنوا . { عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ } سماهم مؤمنين على الحقيقة ، بعدما انزل سكينته عليهم ، { وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } بالقتل والأسر ، { وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ } أي : ما فعل بهم إلا جزاء لكفرهم في الدنيا .

 

{ ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ } منهم ، من تاب منهم ، وأهل مشيئته هم التائبون { وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } لخبث بواطنهم وظاهر معاملتهم ، كالنجاسة بعينها ، ظاهرها خبيث وباطنها خبيث ؛ مبالغة في وصفهم . { فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا } قيل : نهى المشركين أن يقربوه راجع [إلى] نهي المسلمين عن تمكينهم ، وذلك لأنه لا يصلح لهم أحوالهم ، ولا يصلحون لعمارته ؛ { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } أي : فقرا ، بسبب منع المشركين من الحج ، وما كان لكم في قدومهم عليكم من الأرفاق والمكاسب ؛ { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ } كل شيء يتركه المرء لله وكان سبب غناه في الدنيا ، فسوف يغنيه الله من فضله بسواه { إِن شَاء } هو تعليم لتعليق الأمور بمشيئة الله لتنقطع الآمال إليه . { إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ } بأحوالكم ، { حَكِيمٌ } في تحقيق آمالكم .           

 

ونزل في أهل الكتاب : { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ } فإن قيل : أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر ، قيل : لا يؤمنون كإيمان المؤمنين فإنهم إذا قالوا : العزير ابن الله والمسيح ابن الله ، لا يكون ذلك إيمانا لله . { وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ } ولا يعتقدون دين الإسلام الذي هو الحق ، لأن التدين : هو الاعتقاد ، يقال : فلان يدين بكذا ، إذا اتخذه دينه معتقده ؛ وقيل معناه : ولا يطيعون الله طاعة أهل الحق . { مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ } أي : عن يد مواتية غير ممتنعة { وَهُمْ صَاغِرُونَ } لأن كل من لم يستكمل طاعة الله فهو للصغار أهل .

 

{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } أي : قول لا يعضده برهان ن ولا يستند إلى بيان ؛ فما هو إلا لفظ يفوهون به ، فارغ معناه ؛ لأنه صادر عن ظن لا عن حقيقة . قال أهل المعاني : لم يذكر الله عز وجل قولا مقرونا بالأفواه واللسنة إلا كان ذلك زورا .     {  يُضَاهِؤُونَ } يشابهون { قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } بكذبهم على الله بالقول أو العمل { مِن قَبْلُ } [ من قبل ] هؤلاء ؛ {  قَاتَلَهُمُ اللّهُ } أي : هم أحقاء بأن يقال هذا ، لأنهم حزب الله وحزب للشيطان ؛ ومن قاتله مولاه لا يرجى له فلاح ولا نجاح ، وهو هالك معذب في الدنيا والآخرة ، وهذا وعيد وتهدد على كل من كفر بالله بارتكاب كبيرة ، أو إصرار على صغيرة أصر عليها ولم يتب منها لمحة عين ، مقيما على ذلك { أَنَّى يُؤْفَكُونَ } كيف يصرفون عن الحق بعد قيام البرهان .

 

{ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ } علماءهم { وَرُهْبَانَهُمْ } نساكهم { أَرْبَاباً } آلهة { مِّن دُونِ اللّهِ } قال ابن روح : (( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله )) فجاء في التأويل أنهم لم يتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ولا آلهة مع الله ، ولكن قلدوهم دينهم فاتبعوا قولهم فيما لا يحل أن يتبعوهم فيه ؛ فخالفوا – في اتباعهم لقول أحبارهم ورهبانهم – الحق في ذلك ن واستحقوا عند الله أن سماهم الله بأنهم قد اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا )) انتهى . { وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } عطف على "أحبارهم" . { وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } تنزيه إله عن الإشراك .

 

{ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ } وهو قيام الدليل { بِأَفْوَاهِهِمْ } بشركهم وقولهم غير الحق على الله ؛     { وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } بإعلام التوحيد ، وإعزاز الإسلام ، { وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } مثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا وحدانية الله باتخاذ الآلهة من دونه ، بحال من يريد أن ينفح في نور عظيم ساطع على جميع الموجودات الشاهدة له بالوحدانية ، يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى من الإشراق ( ولو كره الكافرون ) .

 

{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ } محمدا ÷ { بِالْهُدَى } بالقرآن { وَدِينِ الْحَقِّ } الإسلام ، {  لِيُظْهِرَهُ } ليغلبه { عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } على كل دين خالفه { وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ } المتسمون بهذا الاسم الشريف بزعمهم { لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ } استعار الأكل للأخذ { بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ } سفلتهم { عَن سَبِيلِ اللّهِ } دينه

 

{ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ } خصا بالذكر من بين سائر الموال ، لأنهما قانون التمول ، وأثمان الأشياء . قال ابن عمر فيما يروى عنه : (( كل ما يؤدي زكاته فليس بكنز ، وإن كان مدفونا ، وكل ما لا يؤدي زكاته فهو كنز وإن كان غير مدفونا )) . { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } بمحق ما يكنزون في الدنيا وفي الآخرة ، كما قال :

 

{ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ } إن نار جهنم يُحمى عليها أي : تُوقد { فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } لأن جمعهم وإمساكهم كان لطلب الوجاهة بالغنى ، والتنعم بالمطاعم الشهية والملابس البهية { هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ } يقال لهم : هذا ما كنزتموه لتنتفع به نفوسكم ، وهو توبيخ . { فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } أي : وبال المال الذي تكنزونه .

 

{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً } من غير زيادة ، والمراد : بيان أحكام الشرع تبنى على الشهور القمرية المحسوبة بالأهلة ، دون الشمسية ، { فِي كِتَابِ اللّهِ } فيما أثبته وأوجبه من حكمه أو اللوح  ، { يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } ثلاثة سرد : ذو القعدة للقعود على القتال ، وذو الحجة للحج ، والمحرم لتحريم القتال فيه ، وواحد فرد وهو رجب لترحيب العرب إياه ، أي : تعظيمة ؛ { ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي : الدين المستقيم ، لا ما يفعله أهل الجاهلية ، يعني : أن تحريم أربعة الأشهر هو الدين المستقيم ، دين إبراهيم وإسماعيل ، وكانت العرب تمسكت به ، وكانوا يعظمونها ، ويحرمون القتال فيها ؛ ثم أحدثت النسيء فغيروا . { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ } في أشهر الحرم ، أو في ألاثني عشر { أَنفُسَكُمْ } بارتكاب المعاصي ، { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } أمرٌ وتحذيرٌ لجميع المؤمنين أن يتشمروا لمعاداة جميع الكافرين ، جعل الله جميع المتعبدين من الجن والإنس حزبين لا ثالث لهما ، حزبا لله تعالى ، وحزبا للشيطان الرجيم ؛ { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } بالنصر .

{ إِنَّمَا النَّسِيءُ } بالهمز مصدر نسأه : إذا أخره ، وهو تأخير حرمه الشهر إلى شهر آخر ؛ وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات ، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة ، فيحلونه ويحرمون مكانه شهرا آخر ، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم ؛ فكانوا يحرمون من شق [كذا] شهور العام أربعة أشهر ، { زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } أي : هذا الفعل منهم زيادة في كفرهم ؛ لأن لهم أعمالاً سيئة غير هذا الفعل ، {  يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ } بالنسيء ، والضمير في {  يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً } للنسيء ، أي : إذا احلوا شهرا من الأشهر الحرم عاما ، رجعوا فحرموه في العام القابل ، {  لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ } ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوها ، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين ؛ { فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ } أي : فيحلوا مواطأة العدة وحدها ، من غير تخصيص ما حرم الله من القتال ن أو من ترك الاختصاص للشهر بعينها . { زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ } زين الشيطان لهم ذلك ، فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة . { وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } حال اختيارهم الثابت على الباطل .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ } أي : تباطأتم { إِلَى الأَرْضِ } أي : ملتم إلى الدنيا وشهواتها ، وكرهتم مشاق السفر ومتاعبة ؛ { أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ } ؟ بدل الآخرة ؟ { فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ } في جنب الآخرة { إِلاَّ قَلِيلٌ } تحقير لها .

 

{ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } في الدنيا والآخرة ، لأنه حكم بالعذاب على من لم يمتثل أمره ،          { وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } لأن من سنته ذلك { وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً } سُخطٌ عظيم على المتثاقلين ، حيث أوعدهم بعذاب أليم ، مطلق يتناول عذاب الدارين ، وبه وليستبدل بهم قوما آخرين ، خيرا منهم وأطوع ، وإن كانوا هم في الوجود ؛ وأنه غنيٌ عنهم في نصرة دينه ، لا يقدح تثاقلهم فيها شيئا ؛ وقيل : الضمير في (( ولا تضروه )) للرسول ، لأن الله وعده أن يعصمه من الناس وأن ينصره ، ووعده كائن لا محالة ، { وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } جل عن أن يعجزه شيء .

 

{ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ } إن لا تنصروه فسينصروه من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد ؛ فدل بقوله : ( فقد نصره الله ) على أنه ينصره في المستقبل ، كما نصره في ذلك الوقت ؛ {  إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } أسند الإخراج إلى الكفار ، لأنه حين هموا بإخراجه أذن الله [له] في الخروج ، وكأنهم أخرجوه . { ثَانِيَ اثْنَيْنِ } أحد اثنين وهما : رسول الله وأبو بكر فيما قيل { إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ } وهو ثقب جبل ، في يمنى مكة ، على مسير ساعة فيما قيل . { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا } بالنصرة والحفظ ، فالمعية المذكورة لا يجتمع معها حزن ، وهو وجود العيان ، والعيان درجة فوق درجة اليقين . قيل : طلع المشركون فوق الغار ، فأشفق أبو بكر على الرسول ÷ فقال له : إن أصبت اليوم ذهب دين الله ؛ فقال عليه السلام : (( ما ظنك باثنين ثالثهما الله )) ؛ وقيل : لما دخل الغار ، بعث الله حمامتين فباضتا في أسلفه ، والعنكبوت نسجت عليه ؛ فأعمى الله أبصارهم . { فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ } ما ألقي في قلبه من الأمنة التي سكن عندها ، وعلم أنهم لا يصلون إليه . { عَلَيْهِ } على النبي ÷ أو على صاحبه ، لأنه كان يخاف وكان عليه السلام ساكن القلب . { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } هم الملائكة ، يحتمل تأييد الله له بالملائكة ، لتثبيت قلبه وتثبيط من عاداه ، ويحتمل لقتالهم ، لأن الله لا يعجزه شيء . { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : دعوتهم إلى الكفر { السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ } دعوته إلى الإسلام { هِيَ الْعُلْيَا } أي : هي لم تزل كانت علية { وَاللّهُ عَزِيزٌ } يُعز بنصره أهل كلمته ، { حَكِيمٌ } يدل أهل الشرك بحكمته .

 

{ انْفِرُواْ خِفَافاً } في النفور لنشاطكم له ، { وَثِقَالاً } عنه المشقة عليكم أو خفافا لقلة عيالكم ، وثقالا لكثرتها ؛ أو خفافا من السلاح ، وثقالا منه ؛ أو رجالا وركبانا ، أو شبابا وشيوخا ؛ وقيل : مشاغيل وغير مشاغيل . { وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } إيجاب للجهاد بهما إن أمكن ، أو بأحدهما على حسب الحال ، لأنهما لم يجعلا للعبد إلا (لعله) ليجاهد بهما لا غير ، { فِي سَبِيلِ اللّهِ } في طاعته . { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي : الجهاد خير من تركه ، { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } كون ذلك خيرا ، فبادروا إليه . قيل : خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو ، وقد ذهبت إحدى عينيه ؛ فقيل له : (( إنك ضعيف ومضرٌ )) فقال " (( أستنفر الخفيف والثقيل ، إن لم يمكني الحرب كثرت السواد )) .

 

{ لَوْ كَانَ عَرَضاً } ما عرض لك من منافع الدنيا ؛ يقال : (( الدنيا عرض حاضر يأكل منه البرُّ   والفاجر )) . { قَرِيباً } سهل المأخذ { وَسَفَراً قَاصِداً } وسطا مقاربا ، والقصد : المعتدل ؛ { لاَّتَّبَعُوكَ } لخرجوا معك ؛ { وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ } بعد المسافة ، والشقة : السفر البعيد ، لأنه يشق على الإنسان . { وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } ذلك من دلائل النبوة ، لأنه أخير بما سيكون قبل كونه ؛ فقالوا كما أخبر . { يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ } والمعنى : أنهم يهلكوها بالحلف الكاذب ؛ لأنهما تهلك بالمعنى الواحد ، كما تهلك بالمعاني ، { وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } بما يعتذرون ويحلفون .

 

{ عَفَا اللّهُ عَنكَ } كناية عن الزلة ، لأن العفو لا يكون إلا من تقصير ، وهو من لطيف التعاب بتصدير العفو في الخطإ ؛ وفيه دلالة فضله على الأنبياء ، حيث لم يذكر مثله لسائر الأنبياء . { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ } في عذرهم ، { وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ } أي : تعلم من لا عذر له ؛ قيل : لأنه لم يكن يعرف المنافقين من المؤمنين بعد الوحي ، كأنه أذن لهم على غير علم له سبق من الله ؛ وفيه زجر لمن ترتكب الأمور على جهالة ، لا يعرف حجرها من إباحتها ؛ لأن من دخل فيما لا يعلم ، فليس بعاقل ؛ ثم أعلمه بحال الفريقين بقوله :

 

{ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ } ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا في أن يجاهدوا { بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } عدة لهم بأجزل الثواب .

 

{ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } يعني : المنافقين ، { وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ } شكوا في دينهم ، واضطربوا في عقيدتهم ؛ { فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } يتحيرون ، لأن التردد ديدن المتحير ، كما أن الثبات ديدن المستبصر .

 

{ وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ } للخروج ، أو للجهاد { عُدَّةً } أهبة ، لأنهم كانوا قادرين عليها ، وترك العدة علامة للتخلف ؛ { وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ } نهوضهم للخروج ، كأنه قيل : ما خرجوا ، ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم ، { فَثَبَّطَهُمْ } فحبسهم بالجبن والكسل ، وضعف رغبتهم في الانبعاث ، والتثبيط : الوقيف عن الأمر بالتزهيد فيه . { وَقِيلَ اقْعُدُواْ } أي : قال بعضهم لبعض ؛ أو قاله الرسول ÷ غضبا عليهم ؛ أو قاله الشيطان ؛ وقيل : أوعي إلى قلوبهم ، وألهموا أسباب الخذلان ؛ { مَعَ الْقَاعِدِينَ } هو ذم لهم ؛ حيث أنزلوا بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم القعود في الحضوض الدنياوية ويدعى بذلك على من قعد عن فعل جميل.

 

  { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً }  فسادا ، ومعنى الفساد : إيقاع الجبن والفشل بين المؤمنين بتهويل الأمر ، {  ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ }  ولسعوا بينكم نالتضريب والنمائم ، وإفساد ذات البين ، و

( لأوضعوا ) خط في المصحف بزيادة الألف ، لأن الفتحة كانت تكتب ألفا قبل الخط العربي ، والخط العربي اخترع قريبا من نزول القرآن ، وقد نفى من تلك الألف أثر في الطباع  [ كذا ] ، فكتبوا صورة الهمزة ألفا وفتحها ألفا أخرى ، ونحوه < أو لا أذبحنه> . { يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ } أي : يطلبون أن يفتنوكم ، بأن يوقعوا بينكم ويفسدوا نياتكم في مغزاكم ؛ { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } ضعفة يسمعون قولهم ويطيعوهم ؛ وقيل : يسمعون حديثكم ، فينقلونه إليهم ؛ { وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } بالمنافقين .

 

{  لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ } تشتت أمرك ، وتفريق أصحابك ، { مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ } ودبروا لك الحيل والمكايد ، ودوروا لك الآراء في إبطال أمرك أو لبسوا عليك الحق بالباطل ، بمعنى : إضلالك ،{ حَتَّى جَاء الْحَقُّ } ببيان الله لك ،{ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ } أي : دينه على كل دين { وَهُمْ كَارِهُونَ } على رغم منهم .

{ وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي } ولا توقعني على الفتنة ، وهي الإثم ، بأن لا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت . { أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ } في الفتنة التخلف ، أو في فتنة النفاق من حيث استأصلتهم وملكتهم ، { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } لأن أسباب الإحاطة أحاطت بهم ، أو هي تحيط بهم يوم القيامة .

 

{ إِن تُصِبْكَ } في بعض الغزوات { حَسَنَةٌ } ظفرٌ وغنيمة { تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } نكبة وشدة     { يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا } الذي نحن متسمون به من الحذر والتيقظ ، والعمل بالحزم { مِن قَبْلُ } من قبل ما وقع ، وهو يشبه معنى قوله : ( قال : إنما أوتيته على علم عندي ) . { وَيَتَوَلَّواْ } من مقام التحدث بذلك إلى أهاليهم { وَّهُمْ فَرِحُونَ } مسرورون .

 

{ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا }  أي : قضى من خير وشر ، { هُوَ مَوْلاَنَا } أي : يتولى أمورنا ويعلم مصالحنا ، و(لعل) مصالحنا [كذا] فيما يصيبنا ، { وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير الله .

 

{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا } تنتظرون بنا { إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ } إلا إحدى العاقبتين اللتين كل منهما حسنى العواقب ، وهما النصرة أو الشهادة ، { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ } إحدى السوأتين ، إما { أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ } وهو نزول الموت عليكم ، { أَوْ بِأَيْدِينَا } وهو القتل على الكفر ؛ فانظر كيف سمى الله الشهادة للمؤمنين إحدى الحسنيين ، وقتل الكفار عذابا ، وهما فعل واحد في الاسم والصفة ؛ والمعنى : وذلك لأن إحدى الحسنيين يفضي بهم إلى الحسنة ، وهي الجنة ، وقتل الكافرين يفضي بهم إلى العذاب المؤبد وهو نار جهنم ، أعاذنا الله منها ، وجميع ما يصيب المؤمن في الدنيا من المكروه والمحبوب فهو حسنة له ، وكذا ما يصيب الكافر في الدنيا مما يكره أو يحب فهو عذاب له ن لأنه يكون سببا لزيادة عذابه في الآخرة ؛ { فَتَرَبَّصُواْ } ما هو عاقبتنا { إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ } ما هو عاقبتكم .

 

{ قُلْ أَنفِقُواْ } في وجوه البر { طَوْعاً } على اختيار منكم ، { أَوْ كَرْهاً } على غير اختيار { لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } ليس بمقبول ذا ولا ذا ؛ { إِنَّكُمْ } تعليل لرد إنفاقهم ، { كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ }متمردين خارجين عن الطاعة ، ولا تقوم طاعة من فاسق .

 

{ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ ْ} أي : ما منعم قبول نفقاتهم إلا كفرهم { بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى } متثاقلين { وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } لأنهم يعدونها مغرما ، ومنعها مغنما ؛ لأنهم لا يرجون بها ثوابا ، ولا يخافون على تركها عقابا ، لأنهم لا يريدون بها وجه الله ؛ وصفهم بالطوع في قوله : ( طوعا ) وسلبه عنهم هاهنا ، لأن المراد بطوعهم أنهم يبدلونه من غير إلزام من رسول الله ÷ أو من رؤسائهم ، وما طوعهم ذلك إلا عن كراهة واضطرار ، لا عن رغبة واختيار .

 

{ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ } فإن ذلك استدارج ووبال لهم ، كما قال : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } بسبب ما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب ، وما يرون فيها من الشدائد ؛ والإعجاب بالشيء : أن يسر به سرورا راض به ، ومعجب من حسنه ؛ والمعنى : فلا تستحسن بما أتوا من زينة ؛ فإن الله إنما أعطاهم ما أعطاهم ، ليعذبهم بالمصائب فيها ، وبالإنفاق منها ، وبنهبها وبجمعها وحبها والبخل بها والخوف عليها ، وكل هذا عذاب من حيث أنهم لا يؤجرون عليه ؛ وكل من كان أكثر مالا وأولادا من الموصوفين ، كان أكثر عذابا في الدنيا ، وعدمهما [كذا] عذاب في حق الأكثر من الكافرين ؛ وأما المؤمنون وإن كابدوا أمرها فلا يسمى عذابا ، ويسمى حسنا ، لأن فعلهم فيها حق يثابون عليه ، ويفضي بهم إلى جنات النعيم . { وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } وتخرج أرواحهم على الكفر ، من عدم توبتهم ، والثبات على غيهم ، وأصل الزهوق : الخروج بصعوبة ، فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتع العاجل عن النظر في العاقبة ، فيكون ذلك استدرجا لهم .

{ وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ } أي : على دينكم ، [ وإنهم ] لمن جملة المسلمين { وَمَا هُم مِّنكُمْ } لكفر قلوبهم ، [و] اختلاف أعمالهم ، { وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } يخافون القتل ، وما يفعل بالمشركين ؛ فيظاهرون بالإسلام تقية .

 

{ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً } مكانا يلجأون إليه متحصنين من رأس جبل ، أو قلعة أو جزيرة ، أو فرصة لمخالفتكم ، { أَوْ مَغَارَاتٍ } أو غيرنا ، { أَوْ مُدَّخَلاً } أو نفقا يندسون فيه ، { لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ } لأقبلوا نحوه ،  { وَهُمْ يَجْمَحُونَ } يسرعون إسراعا لا يردهم شيء ، مستعمل من "الفرس الجموح" ؛ ومعنى الآية : أنهم لو يجدون مخلصا منكم ومهربا (لعله) يخالفوكم .  

 

{ وَمِنْهُم } ومن المنافقين { مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ } يعيبك في قسمتها ، ويطعن عليك ؛ { فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ } عنك ، وفي الآية دليل على جواز إعطاء الزكاة المنافقين ؛ لأن الصدقات في هذا يراد بها الزكاة في التأويل . { وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } عليك ، وصفهم بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم لا للذين وما فيه صلاح أهله .

 

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ } كفانا فضله ، { سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } لأن من توكل عليه لا شك أنه يغنيه ؛ ودليله قوله : { إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ } في أن يغنينا الله من فضله ؛ والمعنى : لو أنهم ما أصابهم به الرسول من الغنيمة ، فطابت به نفوسهم – وإن قل – قالوا : كفانا فضل الله وصنيعه ، وحسبنا ما قسم لنا ، سيرزقنا غنيمة أخرى فيؤتينا رسوله ÷ منها .

 

{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ } أي : الزكوات لهؤلاء المعدودين دون غيرهم ، { وَالْعَامِلِينَ  عَلَيْهَا } الساعين في تحصيلها وجمعها ، { وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ } للعطاء ، { وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ } المديونين في غير معصية ، { وَفِي سَبِيلِ اللّهِ } في الجهاد ، { وَابْنِ السَّبِيلِ } المسافر المنقطع عنه ما يكفيه في سفره ؛ { فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ } أي : واجب منه { وَاللّهُ عَلِيمٌ } بالمصلحة ، { حَكِيمٌ } فيما قسم ، يضع الأشياء مواضعها .

 

{ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ } يسمع كل ما يقال له ، ويصدقه . سمي بالجارحة للمبالغة ، كأنه من فرط استماعه صار آلة للسماع ؛ كما سمي الجاسوس عينا ؛ وإيذاهم له وهو قولهم . (( هو أذن )) قصدوا به المذمة ، وأنه من أهل سلامة القلوب والغرة ، ففسره الله تعالى بما هو مدح له وشاء عليه فقال : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } كقوله : رجل صدق ، يريد الجودة والصلاح ؛ كأنه قيل : نعم هو أذن ، ولكن نعم الأذن ؛ ويجوز أن يريد هو أذن في الخير والحق ، وفيما يجب سماعه وقبوله ، وليس بأذن في غير ذلك ؛ ثم فسر كونه أذن خير بأنه { يُؤْمِنُ بِاللّهِ } أي : يصدق بالله لما قام عنده من الأدلة ، { وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } ويقبل من المؤمنين الخلص وعدي فعل " الإيمان " بالباء إلى الله ، لأنه قصد به التصديق بالله الذي هو ضد الكفر به ، وإلى المؤمنين باللام ، لأنه قصد السماع من المؤمنين ، وأن يسلّم لهم ما يقولونه ويصدقه لكونهم صادقين عنده ، ألا ترى إلى قوله : ( وما أنت بمؤمن لنا ) كيف ينبو عن ينبؤ عن الباء . { وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ } أي : هو رحمة للمؤمنين حيث استنقذهم من الكفر إلى الإيمان . { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الدارين ، كأن الرسول ÷ لما كان رحمة للمؤمنين ، كان عذابا للمنافقين ، من حيث استحقوا العذاب بإيذائهم له ومخالفتهم إياه ؛ ويحتمل أن نفس الإيذاء يكون عذابا لهم من قبل اشتغالهم بشيء يضرهم ولا ينفعهم ؛ وبذلك صاروا عبيدا مسخرين للشيطان لعنه الله .

 

{ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } الخطاب للمسلمين ، وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن ، أو يتخلفون عن الجهاد ، ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ، ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذروهم ويرضوا عنهم ، لأنهم يكرهون الافتراق في الظاهر ، وإن كانوا فارقين في السرائر ؛ فقيل لهم : { وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } أي : إن كنتم مؤمنين كما تزعمون فأحق من رضيتم الله ورسوله بالطاعة والوفاق .

 

{ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ } تجاوز الحد بمشاققته لهما ، والمعنى : أن يكون في جانب مباين عن أمر الله ورسوله ؛ { فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ } الهلاك الدائم ، والفضيحة العظيمة .

 

{ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم } من الكفر والنفاق ، وتهتك عليهم أستارهم { قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } مظهر ما كنتم تحذرونه ، أي : تحذرون إظهاره من نفاقكم ، وكانوا يحذرون أن يفضحهم الله بالوحي فيهم ، وفي استهزائهم بالإسلام وأهله ؛ حتى قال بعضهم : (( وددت أني قدمت فجلدت مائة ، وأنه لا ينزل فينا شيء يفضحنا )) .

 

{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } قيل : بينما رسول الله ÷ يسير في غزوة تبوك ، وركبٌ من المنافقين يسيرون بين يديه ، فقالوا : (( انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه ، هيهات هيهات !! )) فأطلع الله نبيه على ذلك ، فقال : (( احبسوا على الركب )) ، فأتاهم ؛ فقال : (( قلتم كذا وكذا )) فقالوا : (( يا نبي الله ، لا والله ما كنا في شيء من أمرك ولا أمر أصحابك ؛ ولكن كنا في شيء مما نخوض فيه ليقصر بعضنا على بعض السفر )) ، أي : ( ولئن سألتهم ) قلت لهم : (( قلتم ذلك )) لقالوا : ( إنما كنا نخوض ونلعب ) ، وكان اعتذارهم عن اللعب باللعب [كذا] ، لأن الله لا يهدي القوم الظالمين للحجة ، { قُلْ } يا محمد ، { أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } لم يعبؤوا باعتذارهم ، لأنهم كانوا كاذبين فيه ح فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم ، وبأنه موجود فيهم الخوض واللعب ظاهرا ، فلم يقدروا أن ينفوه عن أنفسهم .

{ لاَ تَعْتَذِرُواْ } لا تشتغلوا باعتذاركم الكاذبة ، فإنها لا تنفعكم بعد إظهار شركم ونفاقكم ، {  قَدْ كَفَرْتُم } قد ظهر كفركم بالاستهزاء { بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } الظاهر ؛ { إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ } بعد توبتهم وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق ، { نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } مصرين على النفاق غير تائبين .

 

{ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ } أي : متشابهون في النفاق ، والبعد عن الإيمان ، كأبعاض الشيء الواحد ، كأنهم نفس واحدة ، أي : على دين واحد بالاجتماع على النفاق ؛ وفيه نفيٌ أن يكونوا من المؤمنين ، وتكذيبهم في قولهم ( ويحلفون بالله إنهم لمنكم ) وتقرير لقوله : ( وما هم منكم ) ثم وصفهم على مضادة حالهم لحال المؤمنين ، فقال : { يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ } بالكفر والعصيان ، { وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ } عن الطاعة والإيمان ، {  وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } شحا بالمبار والصدقات ، والإنفاق في سبيل الله ؛ { نَسُواْ اللّهَ } تركوا أمره ، وغفلوا عن ذكره ، { فَنَسِيَهُمْ } فتركهم من رحمته وفضله وتوفيقه ،   { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } هم الكاملون في الفسق الذي هو : التمرد في الكفر ، والانسلاخ عن كل خير ؛ وكفى المسلم زاجرا أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش ، الذي وصف به المنافقون ، حين بالغ في ذمهم .

 

{ وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ } كافيهم جزاء على كفرهم ؛ وفيه دلالة على عظم عذابها ، وأنه بحيث لا يزاد عليه ، { وَلَعَنَهُمُ اللّهُ } وأهانهم وأبعدهم مع التعذيب المقيم ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } دائم أي : فعلتم كفعل الذين من قبلكم ، بالعدول عن أمر الله ، فلعنتم كما لعنوا .

 

{ كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } فمن حين لازموا النفاق ، لازمهم العذاب { كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ } نصيبهم من ملاذ الدنيا ، { فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ } بما خولتم إياه ، { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ } ذمَّ الأولين باستمتاعهم بحظوظهم من الشهوات الفانية ، واشتغالهم بها عن النظر في العاقبة ، والسعي في تحصيل اللذائذ الحقيقة ، { وَخُضْتُمْ } دخلتم في الباطل ، والكذب على الله ، وتكذيب رسله ، والاستهزاء بالمؤمنين ، { كَالَّذِي خَاضُواْ } كالخوض الذي خاضوا ، والخوض : الدخول في الباطل واللهو ، { أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ } في مقابلة قوله :  ( وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ) ، { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } أي : كما حبطت أعمالهم ، وخسروا ، كذلك حبطت أعمالكم وخسرتم .

 

{ أَلَمْ يَأْتِهِمْ } يعني المنافقين { نَبَأُ } خبر { الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } حين عصوا رسلنا ، وخالفوا أمرنا ، كيف عذبناهم وأهلكناهم ، ثم ذكرهم فقال : {  قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ } مدائن قوم لوط ، وائتفاكهن : انقلاب أحوالهن عن الخير إلى الشر { أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ } فكذبوهم ، فعصوهم كما فعلتم ، فاحذروا تعجيل العذاب ؛ { فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } فما صح منه أن يظلمهم بإهلاكهم ، لأنه حكيم فلا يعاقبهم بغير جرم ، { وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بالكفر ، وتكذيب الرسل .

 

{ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } في التناصر والتراحم والدين ، واتفاق الكلمة ، والعون والنصرة ، { يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ } بالإيمان والطاعة ، { وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ } عن الشرك والمعصية ، وما لا يعرف في الشرع ، { وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ } في سائر الأمور ، { أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ } لا محالة ، { إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .  

{ وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً } تستطيبها النفس ، أو يطيب فيها العيش . وفي الحديث : (( إنها قصور اللؤلؤ والزبرجد والياقوت الأحمر )) ، { فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } إقامة وخلود ؛ ويروى عنه عليه السلام أنه قال : (( عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر )) ، { وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ } وشيء من رضو الله { أَكْبَرُ } من ذلك كله ، لأن رضاه سبب كل فوز ، وسعادة وسلامة من كل شر ، كما كانت الدراهم والدنانير سببا لشهوات الدنيا ، وقيل : يقول الله لأهل الجنة : (( أحل لكم رضواني ، فلا اسخط عليكم أبدا )) ، { ذَلِكَ } إشارة إلى ما وعد أو إلى الرضوان ، { هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } وحده دون ما بعده الناس فوزا .

 

{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } ولا تحابهم ، وكل من وقف منه على فساد في العقيدة ،أو مخالفة في العمل ، فهذا الحكم ثابت فيه ، ويجاهد بالحجة ، وتستعمل معه الغلظة ما أمكن منها ، { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } مصيرهم .

 

{ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ } بشيء من الكذب ، فأكذبهم الله بقوله : { وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ } يعني : قولهم : (( إن كان ما يقول محمد حقا ، فنحن شرٌ من الحمير )) أو هي استهزاؤهم ، { وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } من قتل محمد ÷ ؛ أو من إيثارهم بالدنيا [ كذا ] على الآخرة . {  وَمَا نَقَمُواْ } وما أنكروا وما عابوا ، {  إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ } وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله المدينة في ضنك من العيش ، لا يركبون الخيل ور يحوزون الغنيمة ، فأثروا بالغنائم . وقتل للجلاَّس مولى ، فأمر سول الله ÷ بدية اثني عشر ألفا فاستغنى ، { فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ } في الدارين ،      { وَإِن يَتَوَلَّوْا } بالإصرار على النفاق {  يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } فكل متولمتول عن أمر الله معذبٌ في الدنيا والآخرة ، بدليل هذه الآية ، { وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } ينصرهم من العذاب .

 

{ وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ 0 فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ } قيل : نزلت في ثعلبة بن حاطب ، { بَخِلُواْ بِهِ } منعوا حق الله ، ولم يفوا بالعهد ، { وَتَوَلَّواْ } عن أداء الواجب منه {  وَّهُم مُّعْرِضُونَ } .

 

{ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ } فأورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم ، لأنه كان سببا فيه . وقيل : جعل الله عاقبة فعلهم في ذلك نفاقا وسوء اعتقاد في قلوبهم ، {  إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } بالموت ، أو يلقون جزاء أعمالهم ، يريد : حرمهم التوبة { بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } .

 

{ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ } ما أسروه من النفاق ، بالعزم على خلاف ما وعدوه ، { وَنَجْوَاهُمْ } وما يتناجون به فيما بينهم ، من المطاعن في الدين ، وتسمية الصدقة جزية ، وتدبير منعها ، { وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } .

 

{ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ } بالعيب ؛ والمتطوعين : هم المتبرعون { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ } وهم فقراء المسلمين ، لا يجدون فضلا عن سد خللهم ، فيتصدقون به ، وهم أعدم من الأولين ، لأن الأولين يتصدقون بالقليل ، وهؤلاء لا تفضل مكاسبهم عن لوازمهم ، وهم أهل لها ، { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ } فيهزؤون ؛ { سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ } جازاهم على سخريتهم { وَلَهُمْ عَذَابٌ  أَلِيمٌ } في الدنيا والآخرة .

{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } يريد به التساوي بين الأمرين في عدم الإفادة لهم ، وذكر عدد السبعين للمبالغة في اليأس ، على طمع المغفرة ؛ والضمير للمنافقين الذين وصفهم الله فيما مضى ، { إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً } وما كان النبي ÷ ليستغفر لهم بعد أن علم أن الله لا يغفر لهم ؛ { فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ } إشارة إلى اليأس من المغفرة { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } الخارجين عن الإيمان ، ما داموا مختارين الكفر والطغيان .

 

{ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ } المنافقون الذين استأذنوا رسول الله ÷ ، فأذن لهم ؛ خلفهم كسلهم ونفاقهم أو الشيطان . { بِمَقْعَدِهِمْ } بقعودهم عن الغزو ، { خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ } ÷ مخالفة له ، وذلك بأنهم يفرحون بالعاجل ، { وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي : لم يفعلوا ما فعله المؤمنون من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله ، وكيف لا يكرهونه وليس فيهم كما في المؤمنين من باعث الإيمان ، وداعي الإنفاق ، { وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ } قال بعضهم لبعض ، أو قالوا للمؤمنين . { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } استجهال لهم ، لأن من تصوََّن من مشقة ساعة ، فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد ، كان أجهل من كل جاهل . ولأنهم ( لو كانوا يفقهون ) أن مآلهم إليها ، أو أنهما كيف هي ما اختاروها بإيثار الدعة على الطاعة .

 

{ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً } أي : فليضحكون قليلا على فرحهم يتخلفهم في الدنيا ، ويبكون كثيرا { جَزَاء } في العقبى ، إلا أنه على لفظ الأمر للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيره . يروي أن أهل النار يبكون في النار عمر الدنيا لا يرقى لهم دمع ، ولا يكتحلون بنوم ، { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } .

 

{ فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ ْ} أي : ردك { إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ } بأن ردك إلى المدينة وفيها طائفة من المخلفين ، يعني : منافقيهم ؛ { فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أول ما دعيتم { فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ } مع النساء والصبيان ؛ وقيل : مع المرضى والزمنى ، وقيل : مع الذين يحلفون بغير عدل .

 

{ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم } من المنافقين { مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } .

 

{ وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ } يريد أموال المنافقين وأولادهم قلت أو كثرت ؛ {  إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } تكرير للتأكيد والمبالغة ، والأمر حقيق به ، فإن الأبصار طامحة إلى الأموال والأولاد ، والنفوس مغتبطة بها ، وإذا كان الله تعالى ليعذبهم بالأموال والأولاد في الحياة الدنيا ، فكيف بما عداها من المكاره لا يعذبون بها ، بل معذبون بكل ما تكرهه أنفسهم ؛ وأما المؤمن وإن ناله ، مكروه في الدنيا فلا يسمى عذابا له ،بل يسمى بلاء حسنا ، لقوله : ( وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ) لأنه يرجو ثوابه في الآخرة عند ربه ويستبشر بوعد الله له . { وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ } يجوز أن تراد بتمامها ، وأن يراد بعضها ، كما يقع اسم القرآن والكتاب على كله ، وعلى بعضه . { أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ } ذوو السعة ، لأنهم يتطاولون بها الأمور العلية ، { وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ } مع الذين لهم عذر في التخلف كالمرضى والزمنى والفقراء .

 

{ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ } أي : النساء جمع خالفة ؛ وقد يقال الخالفة : الذي لا خير فيه ؛        { وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ } حتم عليها لاختيارهم الكفر والنفاق ؛ { فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } ما في الجهاد من الفور والسعادة ، وما في التخلف من الهلاك والشقاوة .

 

{ لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ } أي : إن تخلف هؤلاء فقد نهض للغزو من هو خير منهم . { وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ } تتناول منافع الدارين لإطلاق اللفظ ؛ فهؤلاء لهم خيرات الدنيا والآخرة ؛ والكافرون لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ؛ { وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } الفائزون بكل مطلوب .

 

{ أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } لما لهم من الخيرات الأخروية .

 

{ وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ } هو من عذر في الأمر : إذا قصر فيه وتوانى ؛ وحقيقته أن توهم أن له عذرا فيما فعل ، ولا عذر له ؛ أو المتعذرون بالباطل ، قالوا : إن لنا عيالا ، وبنا جهدا ، وبيوتنا عورة ، فأذن لنا في التخلف . { وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ } هم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا ، وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله بادعائهم الإيمان . { سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الدنيا والآخرة ، ثم ذكر أهل العذر فقال :

 

{ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء } الهرمى والزمنى ، { وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى } كل من به علة تمنعه عن الجهاد ،     { وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } هم الفقراء ، { حَرَجٌ } إثم وضيق في التأخر ، {  إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ } هم التخلص . { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ } الذين اعتدوا فعل الإحسان { مِن سَبِيلٍ } أي : لا جناح عليهم (لعله) ولا طريق للعائب عليهم ، والطريق على العائب عليهم [كذا] { وَاللّهُ غَفُورٌ } يغفر لهم تخلفهم { رَّحِيمٌ } بهم .

 

{ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ } لتعطيهم الحمولة { قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ } أي : تسيل ، وهو أبلغ من (( تفيض دمعها )) لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض { حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ } .

 

{ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ } بيان لما هو السبب لاستئذانهم من غير عذر { وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } مآل الفريقين .     

 

{ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ } لتمكن النفاق في قلوبهم ؛ { قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ } لن نصدقكم  ، { قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } علّة لانتفاء تصديقهم ؛ لأنه تعالى إذا أوحى إلى رسوله لإعلام بأخبارهم وما في ضمائرهم ، لم يستقم (لعله) رسوله مع تصديقهم في معاذيرهم . { وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } أتتوبون أم تصرون . { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فيجازيكم على حسب ذلك .

 

{ سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ } لتتركوهم ولا تعاتبوهم ، ودعوهم وما اختاروه لأنفسهم من النفاق ؛ { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ } فأعطوهم طلبتهم ، { إِنَّهُمْ رِجْسٌ } تعليل لترك معاتبتهم ، أي : إن المعاتبة لا تنفع فيهم ولا تصلحهم ، إنهم أرجاس لا سبيل إلى تطهيرهم ، { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } يعني : وكفتهم النار عتابا وتوبيخا ؛ فلا تتكلفوا عتابهم ؛ { جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } .

 

{ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ } أي : غرضهم بالحلف بالله طلب رضاكم ، لينفعهم ذلك في دنياهم ؛       { فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ  } أي : فإن رضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كان الله ساخطا عليهم ، وكانوا عرضة لعاجل عقوبته وآجلها ، وإنما قيل : ذلك لئلا يتوّهم أن رضى المؤمنين يقتضي رضى الله عنهم .

 

{ الأَعْرَابُ } أهل البدو ، { أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقا } من أهل الحضر ، لجفائهم وقسوتهم ، وبعدهم عن العلم وأهله { وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ } وأحق بأن لا يعلموا { حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ } حدود الدين ، وما أنزل الله من الشرائع والأحكام ؛ ومنه قوله : عليه السلام (( إن الجفاء والقسوة في الفدَّادين )) ، يعني : أهل الحروث ، لأنهم يُصبحون في حروثهم [كذا] ؛ وكذلك كل من تقاعد عن التعليم وأهمل نفسه عنه ، ورضي بالدعة والبطالة ، والعطالة عن التشمر والاجتهاد فيه ، واستغنى بعلمه عن الطلب والسؤال ، بتاثربه الكفر والنفاق ، لأن ذلك ثمرة الجهل ، { وَاللّهُ عَلِيمٌ } بأحوالهم { حَكِيمٌ } في إمهالهم .

 

{ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ } أي : يتصدَّق { مَغْرَماً } غرامة وخسرانا ، لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء ، لا لوجه الله وابتغاء المثوبة عنده . { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ } دوائر الزمان ، وتبدل الأحوال ، تدور الأيام لتذهب قوتكم عنه فيتخلص من إعطاء الصدقة ؛ { عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ } أي : عليهم تدور المصائب التي يتوقعون وقوعها في المسلمين { وَاللّهُ سَمِيعٌ } لما تقولون إذا توجهت عليهم الصدقة ، { عَلِيمٌ } بما يُضمرون .

 

{ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ } في المبار ، { قُرُبَاتٍ } أسبابا للقربة     { عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ } أي : دعاءه له واستغفار ؛ { أَلا إِنَّهَا } إن النفقة أو صلوات الرسول      { قُرْبَةٌ لَّهُمْ } وهذه الشهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد ، من كون نفقته قربات وصلوات ،         { سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ } التوفيق في الدنيا ، والجنة في العقبى ، وما دل هذا الكلام على رضاء الله عن المتصدقين ، وأن الصدقة منه بمكان إذا خلصت من صاحبها ، { إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .

 

{ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ } قيل : هم الذين صلوا إلى القبلتين ، أو الذين شهدوا بدرا ، أو الذين أسلموا قبل الهجرة ، { وَالأَنصَارِ } وقيل : هم أهل بيعة العقبة الأولى : كانوا سبعة ؛ أو أهل العقبة الثانية : كانوا سبعين على ما قيل ؛ { وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ } الذين اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة ، { رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ } بأعمالهم الحسنة { وَرَضُواْ عَنْهُ } لما أفاض عليهم من نعمته الدينية والدنيوية ، { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .

 

{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم } يعني : حول بلدتكم وهي المدينة ، { مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ } وتمهروا فيه ، { لاَ تَعْلَمُهُمْ } أي : يخفون عليك مع فطنتك ، وصدق فراستك ، لفرط بثوقهم [كذا] في تحامي ما يشكل من أمرهم ، { نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } أي : لا يعلهم إلا الله ، ولا يطلَّع على سرهم غيره ، لأنهم يبطنون الكفر من سويدات قلوبهم ، ويبرزون ظاهرا كظاهر المخلصين من المؤمنين ، ولذا قال النبي عليه السلام : (( المنافق بالمؤمن أشبه من الغراب [كذا] ، والماء من الماء )) { سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } .

{ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ } أي : لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم ، ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئس ما فعلوا نادمين ؛ { خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً } أي : توبتهم واعترافهم ، { وَآخَرَ   سَيِّئاً } الإثم ؛ وفي الكلام تقديم وتأخير ، معناه : وآخرون عملوا سيئا واعترفوا به وتابوا منه ؛ { عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فيتجاوز عن التائب ، ويتفضل عليه .

 

{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } كفَّارة لذنوبهم ، وهي الزكاة { تُطَهِّرُهُمْ } من رذيلة البخل ، { وَتُزَكِّيهِم بِهَا } تُنمي بها حسناتهم ، وترفعهم إلى منازل المخلصين ، { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } واعطف عليهم بالدعاء لهم ؛     { إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ } يسكنون إليه وتطمئن قلوبهم بأن الله قد تاب عليهم ؛ { وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .

 

{ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } إذا صحت ، { وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } ويقبلها إذا صدرت عن خُلوص النية { وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } .

 

{ وَقُلِ } لهؤلاء التائبين ، { اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } فإن عملكم لا يخفى خيرا كان أو شرا على الله وعلى رسوله وعلى المؤمنين ، { وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فيجازيكم على حسب أعمالكم .

 

{ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ } أي : وآخرون من المتخلفين موقوفون إلى أن يظهر أمر الله فيهم ، لا يحكم لهم ولا عليهم بإيمان ولا كفر ، حتى ينكشف سرهم يوم القيامة ؛ فحين ذلك يحكم الله فيهم بحكم الله من سعادة أو شقاء ؛ { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ } إن أصروا ولم يتوبوا ؛ { وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } إن تابوا { وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .

{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً } أي : مضَّارة لإخوانهم ، أصحاب مسجد قباء ؛ {  وَكُفْراً } وتقوية للنفاق ، { وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ } لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء ؛ فأرادوا أن يتفرقوا عنه ، وتختلف كلمتهم ؛ وهذا يعم كل مسجد يُعمل فيه شيء من أعمال الدنيا يمنع عمل الطاعة لله ويشغلهم عنها ؛ { وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى } أي : العبادة فيه لله ؛ { وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي : ما مرادهم إلا الباطل .

 

{ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } ومعناه : أن هذا النهي عام لكل مؤمن عن القيام بمسجد يخاف على دينه أو نفسه ، من قبل من كان فيه من عباد الشيطان ؛ لأن عبادة الله وعبادة الشيطان متنافيان ، لا يتأتيان بمقام واحد في حال واحد ، ولأن النهي وارد عن القعود مع الحائضين في الحق ، حتى يخوضوا في حديث غيره إذ القدر عليه نهيهم فيه . { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } هو مسجد قباء فيما قيل ؛ { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } من أيام وجوده وتأسيسه ، { أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } للصلاة والذكر ، { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } فقد انكشف لأهل التحقيق أن المراد بالمسجد الضرار من كان فيه من المضارين للمسلمين الذي يريدون عمارتها ، والمسجد المؤسس على التقوى ، عمارة الذين يحبون أن يتطهروا من المعاصي والنجاسات ، وإلا فلا يضر عمَّارها المطيعين إذا أسست على غير التقوى إذا اتخذت مساجد ، وإن أسست على التقوى فلا تنفع الداخلين فيها لعبادة الشيطان . { وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } مغنى محبتهم للتطهر أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه ، حرص المحب للشيء ، ومعنى محبة الله إياهم : أنه يرضى عنهم ، ويحسن إليهم ويوفقهم لمرضاته .

 

{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ } وضع أساس ما بينه من أمر دينه { عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } المعنى : أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمة ، وهو تقوى الله ورضوانه خير ، أمن أسس على قاعدة هي أضعف القواعد ، وهو الباطل والنفاق ، والذي مثله مثل     (( حرف هار )) في قلة الثبات ةالاستمساك ، وضع (( شفا الجرف )) في مقابلة (( التقوى )) لأنه جعل مجازا عما ينافي التقوى ؛ والشفا : الجرف ، والشفير وجرف الوادي : جانبه ، يتحفَّر أصله بالماء ، وتحفره السيول ، فيبقى واهيا ؛ والهار الهائر : وهو المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط .{  فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } فطاح به الباطل في نار جهنم ؛ ولمَّا جعل الجرف الهائر مجازا عن الباطل رشح المجاز فجيء بلفظ الاهتيار الذي هو للجرف ، وليصور أن المبطل كأنه أسس بنيانا على شفا جرف من أدوية ، جهنم فانهار به ذلك الجرف ، فهو في قعرها ؛{ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } إلى ما فيه صلاح ونجاة .

 

{ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } وذلك كل ما كان من البناء الذي يبنيه على معصية الله ، كان من أمر الدنيا أو الآخرة ؛ والتقطيع : أن تقطع في نار جهنم النجاة بالله من النار ؛ { وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .

 

{ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ } عن بذل أنفسهم وأموالهم في طاعته ، وطلب رضاه . { يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً } وعد ثابت قد أثبته الله {  فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ } وهو دليل على أن أهل الشرائع الماضين قبلنا أمروا بالقتال ، ووعدوا عليه ؛ ثم قال : { وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ } لأن إخلاف الميعاد قبيح ، لا يقدم عليه الكريم من خلقه ، فكيف بأكرم الأكرمين ؛ ولا يرى ترغيبا في الجهاد أحسن منه وأبلغ .

 

{ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ } فافرحوا به ، فإنكم تبيعون فانيا خسيسا بباق حسن ، { وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } قال الصادق : ليس لأبدانكم ودنياكم ثمن إلا الجنة ؛ فلا تبيعوها إلا بها .

 

{ التَّائِبُونَ } صفة صفقة بيعهم ، {  الْعَابِدُونَ } أي : الذين عبدوا الله وحده وأخلصوا له العبادة ، أي : التائبون من الكفر على الحقيقة ، الجامعون لهذه الخصال ؛ وعن الحسن : (( هم الذين تابوا من الشرك ، وتبرؤوا من النفاق )) . { الْحَامِدُونَ } على نعمة الله ولما نالهم من السوء والضراء ؛ { السَّائِحُونَ } لرياضة أنفسهم ، يتوصَّلون إلى الاطلاع على خفايا الملك والملكوت ، ومن ذلك ، قيل : (( السائحون طلبة العلم )) وقيل : الصائمون ، لتركهـ[ــم] اللذات كلها ؛ {  الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ } المحافظون على الصلوات ؛ { الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ } بالإيمان والطاعة ، على ما يحكم به العلم ، { وَالنَّاهُونَ عَنِ   الْمُنكَرِ } عن الشرك والنفاق ، { وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ } أوامره ونواهيه إذا توجهت إليهم أو معالم الشرع ؛ { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } المتصفين بهذه الصفات .

 

{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى } أي : ما صح له ولا لهم الاستغفار في حكم الله وحكمته { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } من بعد ما صحت معاصيهم واستتابوهم وأصروا .

 

{ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ } قيل : وعده أبوه أن يسلم ؛ { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ } أي : صح معه إصراره ، وإيباؤه عن التوبة { تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } هو المتأوه ، واختلفوا في صفته ، قيل : هو الخاشع المتضرع ؛ وقيل : الدعاة إلى الحق ؛ وقيل : المؤمن التواب ؛ وقيل : الرحيم بالمؤمنين ؛ وقيل : هو الذي يكثر التأوه ، يقول : آه من النار . والحليم : هو الصبور على البلاء ، الصفوح عن الأذى ، لأنه كان يستغفر لأبيه وهو يقول : لأرجمنك .

 

{ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ } أي : ما أمر الله باتقائه واجتنابه ، وبين أنه محظور ، لا يؤخذ به عباده الذين هداهم للإسلام ، ولا يخذلهم إلا إذا أقدموا عليه بعد بيان حظره ، وعلمهم بأنه واجب الاجتناب ؛ وأما قبل العلم والبيان فلا ؛ وأما ما يعلم بالعقل فغير موقوف على التوقيف للسؤال [كذا] ؛ { إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .

 

{ إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } .

 

{ لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيّ } قيل : تاب عليه بإذنه للمنافقين في التخلف عنه كقوله : ( عفا الله عنك ) ؛ { وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ } فيه بعث للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار ، حتى النبي والمهاجرين والأنصار ، { الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ } قيل : في غزوة تبوك ؛ والعسرة : الشدَّة ، وكانت عليهم عُسرة في الظَّهرِ والزاد والماء ، {  مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ } أي : يميل { قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } عن الثبات على الإيمان ؛ أو عن اتباع الرسول في الغزوة والخروج معه ؛  {  ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } تكرير للتأكيد ؛ { إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } .

 

{ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ } أي : وتاب على الثلاثة { الَّذِينَ خُلِّفُواْ } عن الغزو { حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } برحبها ، أي : مع سعتها ، وهو مثل للحيرة في أمرهم ، كأنهم لا يجدون فيه مكانا يقرون فيه قلقا وجزعا ؛ { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } أي : قلوبهم لا يسعها أُنسٌ ولا سُرورٌ ، لأنها خرجت [ كذا ] من فرط الوحشة والغم ، { وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ } وعلموا أن لا ملجأ من سخط الله إلا إلى استغفار ؛ { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ } ليكونوا في جملة التائبين ؛ { إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } عن أبي بكر الورَّاق أنه قال : (( التوبة النصوح : أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت عليه ، وتضيق عليه نفسه كتوبة هذه الثلاثة )).

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } في إيمانهم دون المنافقين ، أو مع الذين صدقوا في دين الله قولا وعملا ونية ، والآية تدلُّ على أن الإجماع حجة ، لأنه أمر بالكون مع الصادقين ن فلزم قبول قولهم ؛ وتدل على أن الأرض لا تخلو منهم في زمن من الأزمنة إلى أن تقوم القيامة .

 

{ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ ْ} المراد بهذا النفي : النهي ، ويحتمل بمعنى النفي ، أي : لا يصح ؛ كقوله تعالى : ( وما كان لنبي أن يغلَّ ) ؛ وخص هؤلاء بالذكر وإن استوى كل الناس في ذلك لقربهم منه ، ولا يخفى عليهم خروجه ، { وَلاَ يَرْغَبُواْ } ولا أن يضنوا     {  بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } عن صحبته في الأعمال ؛ { ذَلِكَ } إشارة لتفسير ما سيق ذكره ؛ والمعنى : أنهم لا يرغبون بأنفسهم عن نفسه ، من أجل أنهم يعلمون ؛ وذلك إذا كان النفي بمعنى النهى . { بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ } عطش ، { وَلاَ نَصَبٌ } تعب ، { وَلاَ مَخْمَصَةٌ } مجاعة { فِي سَبِيلِ اللّهِ } في الجهاد ، أو في جميع الاجتهاد . { وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً } ولا يدوسون مكانا من أمكنة الكفار بحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم وأرجلهم ، {  يَغِيظُ الْكُفَّارَ } يغيظهم ويضيق صدورهم ، { وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً } ولا يصيبون منهم إصابة بقتل أو أسر ، أو جرح أو كسر أو هزيمة أو أذى في أجسامهم ، ولا في قلوبهم ؛  { إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } دليل على أن من قصد خيرا كان سعيه فيه مشكورا ، من قيام وقعود ومشي ، وكلام وغير ذلك . {  إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } أي : أنهم محسنون ، والله لا يبطل ثوابهم .

 

{ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً } في سبيل الله { صَغِيرَةً } وإن قلت ، { وَلاَ كَبِيرَةً } أو جلَّت { وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً } أي : أرضا في ذهابهم ومجيئهم ؛ { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ } ذلك من الإنفاق وقطع الوادي ؛ { لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ } متعلق بـ (( كُتب )) ، أي : أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء ، { أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : يجزيهم على كل واحد جزاء أحسن عمل كان لهم ؛ فيحلق ما دونه توفيرا لأجرهم .

 

{ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } وما استقام لهم أن ينفروا جميعا لنحو غزوٍ ، أو طلب علم ، كما لا يستقيم لهم أن يتركوا جميعا ، فإنه يخلُّ بأمر المعاش ؛ { فَلَوْلاَ نَفَرَ } فحين لم يُمكن نفير الكَّافة فهلا نفر { مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ } أي : من كل جماعة كبيرة ، جماعة قليلة منهم يكفونهم النفير ؛ { لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ } ليتكلفوا الفقاهة فيه ، ويتجشموا المشاق في تحصيلها ، { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ } وليجعلوا مري همتهم إلى التفقه إنذار قومهم وإرشادهم { إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ } دون الأغراض الخسيسية [ كذا] من التصدُّر والترؤُّس والتشبُّه بالظلمة في المراكب والملابس ؛ { لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } ما يجب اجتنابه ؛ وقيل : إن رسول الله ÷ كان إذا بعث بعثا بعد غزوة تبوك ، بعدما أُنزل في المتخلفين من الآيات الشداد استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير ، وانقطعوا جميعا عن التفقه في الدين ؛ فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ، ويبقى سائرهم يتفقهون ، حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر ، إذ الجهاد بالحجاج أعظم أثرا من الجهاد والنضال ، والضمير في (( ليتفقهوا )) للفِرق الباقية بعد الطوائف النافرة من بينهم ، ( ولينذروا قومهم ) ولتنذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم ، بما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم ؛ وعلى الأول الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم } يقربون منكم ، أمروا بالقتال ، الأقرب فالأقرب إليهم في الدار والنسب { مِّنَ الْكُفَّارِ } القتال واجب مع جميع الكفرة قريبهم ثم غيرهم من عرب الحجاز ، ثم الشام ؛ والشام : أقرب إلى المدينة من العراق وغيره ؛ وبعيدهم ، ولكن الأقرب فالأقرب أوجب ، وقد حارب النبي ÷ قومه ، وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من (لعله) يليهم ؛ { وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ  غِلْظَةً } وليعلموا فيكم شدة عليهم ، وغضبا لله في المقال قبل القتال ، لعلهم يرجعون عن كفرهم بالجفاء والغلظة دون القتال ؛ أو ليعلموا أن حظهم ساقط مع الإسلام وأهله ؛ وقيل : صبرا على جهادهم . { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } بالنصرة والغلبة .

 

{ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم } فمن المنافقين { مَّن يَقُولُ } بعضهم لبعض : { أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً } إنكارا واستهزاء بالمؤمنين ؛ وقيل : هو قول المؤمنين للحث والتنبيه . {  فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ  إِيمَاناً } يقينا وثباتا ؛ أو خشية ؛ أو إيمانا للسورة ، لأنهم لم يكونوا آمنوا بها تفصيلا ؛ وقيل : بزيادة العلم الحاصل من تدبر السورة وانضمام الإيمان بها وبما فيها إلى إيمانهم ؛ { وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } يعدون زيادة التكليف بشارة التشريف ؛ وقيل : يستبشرون بنزولها ، لأنها سبب لزيادة كمالهم ، وارتفاع درجاتهم .

 

{ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } شك ونفاق ، وهوى متبع ؛ وهو فسادٌ يحتاج إلى علاج ، كالفساد في البدن ؛ { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ } كفرا مضموما إلى كفرهم ؛ { وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } واستحكم ذلك فيهم ، حتى ماتوا عليه مصرين .

{ أَوَلاَ يَرَوْنَ } يعني : المنافقين ؛ ليس هذا تعطيل [ كذا ] ؛ { أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ } يبتلون بالقحط والمرض وغيرهما { فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ } عن نفاقهم ، {  وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ } ولا يعتبرون ؛ أو بالجهاد مع رسول الله ÷ ، ثم لا يتوبون بما يرون من دولة الإسلام ، ولا هم يذَّكرون بما يقع بهم من أهل الإسلام .

 

{ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ } تغامزوا بالعيون ، إنكارا للوحي وسخرية به ؛ قائلين   { هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ } من المسلمين لننصرف ؛ فإنا لا نصبر على استماعه ويغلبنا الضحك ، فنخاف الافتضاح بينهم ، أو إذا ما أنزلت سورة في عيب المنافقين أشار بعضهم إلى بعض ، هل يراكم من أحد إن قمتم من حضرته عليه السلام ؛ { ثُمَّ انصَرَفُواْ } عن حضرة النبي صلى الله عليه وسلم مخافة الفضيحة ؛ أو عن الإيمان بالمنزَّل . { صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم } عن فهم القرآن ، وعن مجالسة الكرام ، { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم  { قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون } لا يتدبرون حتى يفقهوا .

 

{ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ } محمد عليه السلام ، { مِّنْ أَنفُسِكُمْ } من حسبكم ونسبكم ، عربيٌّ مثلكم ، { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } شديد عليه شاقٌّ ، لكونه بعضا منكم عنتُكم ولقاءكم المكروه ؛ فهو يخاف عليكم الوقوع في العذاب . { حَرِيصٌ عَلَيْكُم } على إيمانكم وخلاصكم ؛ { بِالْمُؤْمِنِينَ } منكم ومن غيركم { رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } قيل : لم يجمع الله اسمين من أسمائه لأحد غير رسول الله ÷ .

 

{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } فإن أعرضوا عن الإيمان بك وناصبوك ، { فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ } واستعن بالله ، وفوَّض إليه ؛ فهو كافيك معرتهم ، وناصرك عليهم { لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } لا كافي ولا مغني سواه ؛ فوَّضت أمري إليه ؛ { وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ } هو أعظم خلقِ الله خُلِقَ مطافا لملائكة الله فيما قيل ؛ كما جُعلت الكعبة مطافا { الْعَظِيمِ } قيل : آخر آية نزلت ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) .