بسم الله الرحمن الرحيم       

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ } النفل : الغنيمة ، لأنها من فضل الله وعطائه ، والأنفال : الغنائم ، سئل عن قسمها ، فقال : إن حكمها مختص بالله ورسوله ، يأمر الله بقسمتها رسوله على ما تقضيه حكمته ، { فَاتَّقُواْ اللّهَ } في الاختلاف والتخاصم ، وكونوا متآخين في الله ، { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } أحوال بينكم ، يعني : ما بينكم من الأحوال ، حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق . وقال الزجاج : معنى (( ذات بينكم )) حقيقة وصلكم ، والبين الوصل ، أي : فاتقوا الله ، وكونوا مجتمعين على أمر الله ورسوله به ، { وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } فإن الإيمان يقتضي ذلك ، لأن من اختل منه الإيمان الحقيقي لا تتأتى منه النيات الخالصة ، ولا الأعمال الصالحة ، ولا الأقوال الصادقة . يقول : ليس المؤمن الذي (لعله) كذب الله ورسوله ، إنما المؤمن الصادق ، وعلامة صدقه كما قال :

 

{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } صفة كاملي الإيمان ، { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } فزعت لذكره استعظاما له ، وإذا خوف بالله انقاد خوفا من عقابه ، ورجاءً لثوابه ، { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ } القرآن وتأويله ،      { زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } ازدادوا بها يقينا واطمئنا نية ، لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه ، وأثبت لقدمه ، أو زادتهم إيمانا بتلك الآيات ، لأنهم لم يقفوا عليها بعد ، ولمعرفتهم لأحكامها زيادة إيمان مع إيمانهم . ويروى عن عمر بن حبيب أنه قال فكانت له صحة [كذا] : (( إن للإيمان زيادة ونقصان )) ، وقيل : فما زيادته ؟ قال : (( إذا كرنا الله وحمدناه ، فذلك زيادته ، وإذا سهونا وغفلنا فذلك نقصانه )) . وقيل : كتب عمر بن عبدا لعزيز إلى عدي بن عدي : (( إن الإيمان فرائض وشرائع ، وحدود وسنن ، فمن استكملها استكمل الإيمان )) ، { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } يعتمدون ؛ ولا يفوضون أمورهم إلى غير ربهم ، لا يخشون ولا يرجون إلا ربهم .

 

{ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } جمع بين أعمال القلوب من الوجل والإخلاص والتوكل ، وبين أعمال الجوارح من الصدقة والصلاة ، لأن أعمال الجوارح لا تتأتى ولا تستقيم إلا باستقامة أعمال القلوب ، لأن القلب هم السلطان . { أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } لأنهم حققوا إيمانهم ، وشهد لهم الدليل أنهم على الحق والصدق ؛ { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ } مراتب بعضها فوق بعض ، على قدر الأعمال ، { عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ } وتجاوز لسيئاتهم ، { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } صاف عن كد الاكتساب ، وخوف الحساب .

 

{ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ } يريد بيته بالمدينة ، أو المدينة نفسها ، لأنها مهجره ومسكنه ، { بِالْحَقِّ } إخراجا ملتبسا بالحكمة والصواب . { وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } قيل : إنهم منافقون كرهوا ذلك اعتقادا ، ويحتمل أن يكونوا مخلصين ، ويكون كراهة طبع ، لأنهم غير متأهبين له . { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقّ } الحق الذي جادلوا فيه رسول الله ، تلقي العير على تلقي النفير لإيثارهم عليه . { بَعْدَ مَا   تَبَيَّنَ } بعد إعلام رسول الله بأنهم ينصرون ، وجدالهم قولهم : ما كان خروجنا إلا للعير ، وهلا قلت لنا لنستعد ، وذلك لكراهتهم القتال على ما قيل . { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ } شبه حالهم فر فرط فزعهم ، وهم يسار بهم إلى الظفر والغنيمة بحال من يقاد إلى القتل ، ويساق إلى الصغار إلى الموت ، وهو مشاهد لأسبابه ، ناظر إليها لا يشك فيها .

 

{ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ } وهما العير والنفير ، { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } أي : العير ، وذات الشوكة ذات السلاح ، والشوكة كانت في النفير لعددهم وعدتهم ، أي : تتمنون أن تكون لكم العير لأنها الطائفة التي لا سلاح لها ، ولا تريدون الطائفة الأخرى . {  وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ } أي : يثبته ويلقيه { بِكَلِمَاتِهِ } بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة ، وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة ، وبما قضي في قتلهم ، وليبلو بعضكم ببعض ، لتعظيم الأجر ، { وَيَقْطَعَ دَابِرَ   الْكَافِرِينَ } آخرهم ، والدبر : الآخر ، وقطع الدبر عبارة عن الاستئصال . يعني : أنكم تريدون الفائدة العاجلة ، وسفساف الأمور ، والله تعالى يريد معالي الأمور ونصرة الحق ، وعلو الكلمة ، وشتان ما بين المرادين ، ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة ، وكسر قوتهم بضعفكم ، وأعزكم وأذلهم .

 

{ لِيُحِقَّ الْحَقّ } ليثبت الإسلام ، { وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ } ويذهب الباطل ، أي : ما أمركم بقتال الطائفة ذات الشوكة إلا لإظهار الحق وإثباته ، وإبطال الكفر ومحقه . { وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } المشركون .

 

{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } لما علموا أنه لا بد من القتال طفقوا يدعون الله ، يقولون : (( رب انصرنا على عدوك )) ، { فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } فأجاب : {  أَنِّي مُمِدُّكُم } أي : ممدكم [كذا] {  بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ   مُرْدِفِينَ } بكسر الدال وبفتحها على أنه أردف كل ملك ملكا آخر .  

 

{ وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ } أي : الإمداد الذي دل عليه (( ممدكم )) ، { إِلاَّ بُشْرَى } إلا بشارة لكم بالنصر ، كما جعل المال في اليد سببا للرزق ، { وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ } لأن طبع النفوس تطمئن وتسكن إلى ما تراه عين اليقين ، وكقول إبراهيم : ( ولكن ليطمئن قلبي ) . { وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ } أي : ولا تحسبوا النصر من الملائكة فإن الناصر هو الله لكم وللملائكة ، أو النصر بالملائكة وغيرهم من الأسباب إلا من عند الله واختلف في قتال الملائكة ، فقيل : إنهم كانوا يقاتلون بأيديهم ، نزلوا في صور الرجال ، عليهم ثياب بيض وعمائم بيض ، قد أرخوا أذيلها بين أكتافهم ؛ وقيل : أنهم لم يقاتلوا ، وإنما كانوا يكثروا السواد ، ويثبتون المؤمنين ، كقوله : ( فثبتوا الذين آمنوا ) إلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا .    { إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ } ينصر أولياءه ، { حَكِيمٌ } يقهر أعداءه .

 

{ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ } النوم ، والفاعل هو الله على القراءتين . { أَمَنَةً } بمعنى أمناء ، فالنوم يزيح الرعب ، ويريح النفس ؛ قيل النعاس في القتال أمنة ، { مِّنْهُ } من الله ، وفي الصلاة من الشيطان ،       { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ } طاعته وعبادته ، { وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ } بالربط ، لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر يثبت الأقدام في مواطن القتال .

 

{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ } بالنصر ، { فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ} بالإلهام بالبشرى بالنصر ، أو الجنة ، وقيل : بالمعونة . { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ } هو امتلاء القلب من الخوف ، وعدم الثبات [كذا] من الملائكة لهم ، لأن يثبتهم وهو الشيطان ( إذا تراءت الفئتان نكص على عقبيه ، فقا ل: وقال : إني أرى مالا ترون ... ) الآية . { فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ } أي : أعالي الأعناق التي هي المذابح ، تطير للرؤوس ، أو إرادة الرؤوس ، لأنها فوق الأعمال ، يعني : ضرب الهام ، { وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } هي الأصابع يريد الأطراف ، والمعنى : فاضربوا المقاتل .

 

{ ذَلِكَ } إشارة إلى ما أصابهم من الضرب والقتل والعقاب العاجل ؛ { بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ } أي : ذلك العقاب وقع بسبب مشاقتهم ، أي : مخالفتهم ، وهي مشتقة من الشق ، كل المتعادين في شق خلاف شق صاحبه ، وكذا المعادة والمخاصمة ، لأن هذا في عدوة وخصم ، أي : جانب ، وذا في عداوة وخصم . { وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : يعاقب المشاقق في الدنيا والآخرة .

 

{ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ } أي : ذوقوا العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً } الزحف : الجيش الدهم الذي يرى لكثرته كأنه يزحف ، أي : يدب دبيبا ، من زحف الصبي إذا دب على أسته قليلا قليلا . { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ } فلا تنصرفوا عنهم منهزمين إذا لقيتموهم للقتال .

 

{ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً } مائلا { لِّقِتَالٍ } وهو الكر بعد الفر ، يخيل عدوه أنه منهزم ، ثم يعطف عليه ، وهو من خدع الحرب ، { أَوْ مُتَحَيِّزاً } منضما { إِلَى فِئَةٍ } إلى جماعة أخرى من  المسلمين ، { فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .

 

{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ } إن افتخرتم بقتلهم ، فأنتم لم تقتلوهم ، ولكن الله قتلهم ؛ لأن في الحقيقة لا فاعل إلا الله ، وما سواه أفعال وهمية ، وهذه الآية ناعية للمعجبين بأعمالهم ، { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى } يحتمل إذ رميت مجازا ولكن الله رمى في الحقيقة ، وفي الآية بيان أن فعل العبد مضاف إليه كسبا ، وإلى الله تعالى خلقا ، ومعناه قد عفر في وجوه المشركين بكف رمل حين أخذ أصحابه القتال ، فكان ذلك سبب هزيمة أعداء الله . { وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً } لأن مآل جزائهم بالإحسان ، ضد ما يبلى غيرهم وهو العذاب الأدنى ، { إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ } لدعائهم ، { عَلِيمٌ } بأحوالهم .

 

{ ذَلِكُمْ } إشارة إلى البلاء الحسن . { وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ } إذا لا أساس له ولا مددا ، لأنه مبني على غرور الشيطان . { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ } إن تستنصروا فقد جاءكم النصر عليكم ؛ قيل : هو خطاب لهل مكة ، لأنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة ، وقالوا : (( اللهم إن كان محمد على حق فانصره ؛ وإن كنا على حق فانصرنا )) ، وقيل : (( إن تستفتحوا )) خطاب للمؤمنين .    { وَإِن تَنتَهُواْ } أيها الكافرون عن عداوة رسول الله ÷ ، { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ } لمحاربته         { نَعُدْ } لنصرته عليكم ، { وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ } جمعكم { شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ } عددا ، { وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } بالنصر .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ } عن رسول الله { وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ } آيات الله .

 

{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا } أي : ادعوا السماع ، { وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } لأنهم ليسوا بمصدقين ، وكأنهم غير سامعين ، والمعنى: أنكم تصدقون بالقرآن والنبوة ، فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور أشبه سماعكم سماع من لا يؤمن ، ثم قال :

 

{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابّ } أي : شر من دب على وجه الأرض من خلق الله ، { عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ } عن الحق ، فلا يسمعونه ولا يقولونه ، { الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } أمر الله ، أن شر من يدب على وجه الأرض ، أو أن شر البهائم الذين هم صم عن الحق لا يعقلونه ، جعلهم من جنس البهائم ، ثم جعلهم أشر منها ، لأنهم عاندوا الحق وكابروا العقل .

 

{ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ } في هؤلاء الصم البكم { خَيْراً } صدقا ورغبة ، { لَّأسْمَعَهُمْ } لجعلهم سامعين حتى يسمعوا سماع المصدقين ، { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ } بعد أن علم أن لا خير فيهم ، ما انتفعوا به ، { َتَوَلَّواْ } عنه ، ولو أسمعهم وصدقوا لارتدوا بعد ذلك ولم يستقيموا ، أو ولو فهمهم معاني آياته لتولوا عن العمل بها ، { وَّهُم مُّعْرِضُونَ } عن الإيمان والعمل بمقتضاه .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ } للطاعة { إِذَا دَعَاكُم } والمراد بالاستجابة : الطاعة والامتثال ، وبالدعوة : البعث والتحريض . { لِمَا يُحْيِيكُمْ } الحياة الأبدية ، من علوم الديانات والشرائع ، لأن العلم حياة ، كما أن الجهل موت ، { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } أوجب على المبادرة إلى إخلاص القلوب ، وتصفيتها قبل أن بحول الله بينه وبين قلبه بالموت وغيره ، فيميته ، فتفوته الفرصة التي هو واجدها ، وهي التمكن من إخلاص القلب ، فاغتنموا هذه الفرصة وأخلصوا قلوبكم لطاعته ، لأن القلوب تحيا وتموت ، { وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .

 

{ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } واتقوا فتنة ، أي : كعصية ظهرت بين أظهركم من فاعلها ، اتقوها بالنهي لفاعلها ، وأمروه بضدها وهو المعروف ، فإنكم إن لم تفعلوا أصابتكم عاقبة الفتنة الذين أتوها أنتم وإياهم ، فهم استحقوا العقوبة بفعلهم لها ، وأنتم بترككم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } لمن ارتكب المعاصي ولمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

 

{ وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ } قيل : أرض مكة قبل الهجرة ، { تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ } لأن الناس كانوا لهم أعداء مضادين ، { فَآوَاكُمْ } إلى المدينة { وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ } بمظاهرة الأنصار ،وبإمداد الملائكة ، { وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ } من الغنائم ، أو رزقكم أطيب مما هاجرتم عنه ،  { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } نعم الله التي أوجدها لكم .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ } بأن تعطلوا فرائضه ، { وَالرَّسُولَ } بأن لا تستنوا بسنته ،         { وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ } فيما بينكم بأن لا تحفظوها ، { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنها أمانة ، أو تبعه ذلك ووباله ، أو ( وانتم تعلمون ) أنكم تخونون ، ومعنى الخوف : النقص ، كما أن معنى الوفاء : التمام .

 

{ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } أي سبب الوقوع في الفتنة ، وهي الإثم والعذاب ، أو محنة من الله ليبلوكم كيف تحافظون فيهم على حدوده ، { وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } إذا امتثلتم في فتنة أموالكم وأولادكم أمر الله فيما ابتلاكم به .

{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل ، ومخرجا من الشبهات ، وشرحا في الصدور ، وذلك إذا طهرتم قلوبكم من الهوى والمرض مخافة عقوبته ، أبصرتم بعين البصيرة الميز بين الحق والباطل ، لقوله تعالى : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ) أي : إن اتقيتم الله يجعل لكم مخرجا من الشبهات . { وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ  سَيِّئَاتِكُمْ } أي : الصغائر ، { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ذنوبكم أي : الكبائر ، { وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } لمن اتقاه ، فجعل الله تعالى فرقانه وتكفيره للسيئات وغفرانه للذنوب بملازمة تقواه لا غير ، فلا مطمع في الارتقاء في تلك المنازل السنية ، إلا بملازمة تقواه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه .

 

{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } قيل : لما فتح الله عليه ذكره مكر قريش به حين كان بمكة ، ليشكر نعمة الله في نجاته من مكرهم ، واستيلائه عليهم ، { لِيُثْبِتُوكَ } ليحبسوك ويوثقوك ، { أَوْ يَقْتُلُوكَ } بسيوفهم ، { أَوْ يُخْرِجُوكَ } من مكة ، { وَيَمْكُرُونَ } ويخفون المكائد له ، { وَيَمْكُرُ اللّهُ } ويخفي الله ما أعد لهم حتى يأتيهم بغتة من حيث لا يشعرون ، { وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } أي : مكره أبعد من مكرهم وأبلغ تأثيرا ؛ لأن مكره على قدر عظمته ، وعظمته ليست متناهية إى حد ، ومكر الله : التدبير بالحق .

 

{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا } أي : القرآن ، { قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } وذلك من تعاظم وقاحتهم ، لأنهم دعوا إلى أن يأتوا بسورة من مثل القرآن ، فلم يأتوا بها .

 

{ وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ } روي أن النظر بن الحارث لما قال : ( إن هذا إلا أساطير الأولين ) قال له النبي ÷ : (( ويلك إن هذا كلام الله )) فرفع النضر رأسه إلى السماء وقال : ( إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ) أي : إن كان القرآن هو الحق ، فعاقبنا على إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل ، { أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } بنوع آخر ، فقيل : إنه قتل يوم بدر صبرا .

 

{ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ }الدلالة على أن تعذيبهم وأنت بين أظهرهم غير مستقيم ، لأنك بعثت رحمة للعالمين ؛ وسنته أن لا يعذب قوما عذاب استئصال ، ما دام بينهم بين أظهرهم وفيه إشعار بأنهم مرصدون بالعذاب إذا هاجر عنهم ، { وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } معناه نفي الاستغفار عنهم ، أي : ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم ، أو معناه : وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفر ، وهم المسلمون بين أظهرهم ممن تخلف عن رسول الله من المستضعفين لعذر .

 

{ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ } أي : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، وهو معذبهم إذا فارقتهم { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدون عن المسجد الحرام ، أي : يمنعون المؤمنين الطواف بالبيت ، وكانوا يقولون : نحن ولاة البيت الحرام ، فنصد من نشاء وندخل من نشاء ، فقيل : { وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ } وما استحقوا مع إشراكهم وعداوتهم للدين أن يكونوا ولاة أمر الحرم ، ولعلهم يظنون أنهم أولياؤه بمخالفتهم لأوليائه وهم المتقون ، كما قال : { إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك من قلة تدبرهم ، فولاة أمور الإسلام كلها من اتقى الله إلا ما خص به غيرهم مما جعلوا فيه أولياء .

 

{ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء } صفير كصوت البكاء ، وهو طائر مليح الصوت أبيض ، يكون بالحجاز له صفير فيما قيل ؛ { وَتَصْدِيَةً } وتصفيقا ، كانوا يفعلون ذلك إذا قرأ رسول الله ÷ في صلاته يخلطون عليه فيما قيل ، { فَذُوقُواْ الْعَذَابَ } عذاب القتل والأسر ، أو عام العذاب الأدنى . { بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } بسبب كفرهم .

 

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ } أي : كان غرضهم في الإنفاق الصد عن اتباع محمد عليه السلام ، وهو سبيل الله ، { فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } ثم تكون عاقبة إنفاقهم ندما وحسرة على فعله . { ثُمَّ يُغْلَبُونَ } آخر الأمور ، وإن كان الحرب سجالا قبل ذلك ، وهو من دلائل النبوة ، لأنه أخبر عنه قبل وقوعه ، فكان كما أخبر . { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } .

 

{ لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } ليميز الكافرين من المؤمنين ، { وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ } فيجمعه ، ومنه السحاب المركوم : وهو المجتمع الكثيف ، { جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ } .       { أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } الكاملون في الحسرات ، لأنهم خسروا الدنيا والآخرة بذهاب رأس المال والربح ، لأن تجارتهم قد بارت ، فلا يرجى لها نفاق .

 

{ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ } عما هم عليه {  يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } منهم من العداوة ، وما عملوه ، وهو وعد لكل تائب بالتوبة ، والقبول إذا صحت ؛ وقيل : مخصوصة للمتدينين أن لا غرم عليهم ؛       { وَإِنْ يَعُودُواْ } لما كانوا عليه من الكفر ، { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ } بالإهلاك في الدنيا والعذاب في العقبى .

 

{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } حتى لا يبقى منهم إلا مسلم أو مستسلم ، ولم توجد فيهم معصية ظاهرة يجب إنكارها ، بدليل قوله : { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } ويضمحل عنهم كل دين باطل ، ويبقى فيهم دين الإسلام وحده ، { فَإِنِ انتَهَوْاْ } عن الكفر واسلموا ، { فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يثبتهم على إسلامهم

 

{ وَإِن تَوَلَّوْاْ } أعرضوا عن الإيمان ، ولم ينتهوا ، { فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ } ناصركم ومعينكم ، فيثقوا بولايته ونصرته ؛ { نِعْمَ الْمَوْلَى } لا يضيع من تولاه ، { وَنِعْمَ النَّصِيرُ } لا يغلب من نصره .

{ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ } فاعلموا به ، وارضوا بهذه القسمة ، فالإيمان يوجب الرضى بالحكم ، والعمل بالعلم ، { وَمَا أَنزَلْنَا } أي : إن كنتم آمنتم بالله وبالنزل { عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ } يوم بدر ، لأنه فرق بين الحق والباطل ، { يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } الفريقان من المسلمين والكافرين ، والمراد : ما أنزل عليه من الآيات والملائكة والفتح ، لأن على المؤمن أن يؤمن بجميع ما يرى من الآيات ، { وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } يقدر على أن ينصر القيل على الكثير .

 

{ إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ } شط الوادي وشفير الوادي { الدُّنْيَا } القربى إلى جهة المدينة ، تأنيث الأدنى ، { وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى } البعد عن المدينة تأنيث الأقصى ، { وَالرَّكْبُ } أي : العير ، أبا سفيان وأصحابه ، وهو جمع راكب في المعنى ، { أَسْفَلَ مِنكُمْ } وفائدتها الدلالة على قوة العدو ، واستظهارهم بالركب ، وحرصهم على المقاتلة عنها ، وتوطين نفوسهم على أن لا تخلوا مراكزهم ، ويبذلوا منتهى جهدهم ، وضعف شأن المسلمين ؛ وكذا ذكر مراكز الفريقين ، فإن العدوة الدنيا – قيل – كانت رخوة تسوخ فيها الأرجل ، بخلاف العجوة القصوى . { وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ } أنتم وأهل مكة ، وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه للقتال ؛ { لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ } لخالف بعضكم بعضا ، فثبطكم قلتكم وكثرتهم من الوفاء بالموعد ، وثيطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله والمسلمين ، فلم يتفق لكم من التلاقي ، { وَلَـكِن } جمع بينكم بلا ميعاد ، { لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } من إعزاز دينه ، وإعلاء كلمته ، ونصر أوليائه ، وإهلاك أعدائه ، وما أراد كونه فهو مفعولا لا محالة . { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ } عن حجة ،         { وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } استعير الهلاك للكفر والحياة للإسلام ، أي : ليصدر كفر من كفر عن رضوخ بينه لا عن مخالجة شبة ، حتى لا يبقى على الله حجة ، ويصدر إسلام من أسلم عن يقين وعلم بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به ، وذلك أن وقعة بدر من الآيات الواضحة التي من كفر بعدها كان مكابرا لنفسه مغالطا لها ، ولهذا ذكر فيها مراكز الفريقين ، وان العير كانت أسفل منهم ، مع أنهم قد علموا ذلك كله مشاهدة ، ليعلم المحق أن النصر والغلبة لا تكون بالكثرة والأسباب ، بل بالله تعالى ؛ وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء ، وكانت أرضا لا ناس فيها ولا ماء ، بالعدوة الدنيا ، وهي خيار تسوخ فيها الأرجل ، ولا تمشي فيها إلا بتعب ، وكان العير وراء ظهور العدو ، مع كثرة عددهم وعدتهم ، وقلة المسلمين وضعفهم ، ثم كان ما كان . { وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ } لأقوالهم ، { عَلِيمٌ } بكفر من كفر ، وإيمان من آمن .

 

{ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ } أي : يعلم المصالح إذ يقللهم في عينك ، { فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً } أي : رؤياك ، وذلك أن الله عزوجل أراهم إياه في رؤياه قليلا ، فأخبر بذلك أصحابه ، فكان ذلك تشجيعا لهم على عدوهم ، وقيل : في منامك أي : في عينك ، لأن العين موضع النوم ، {  وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ } لجبنتم وهبتم الإقدام ، { وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ } (لعله) أمر القتال ، وترددتم بين الثبات والفرار ؛ {  وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ } عصم ، وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع والاختلاف . { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } يعلم ما سيكون منها من الجرأة والجبن والصبر والجزع ، وقيل : ما في صدروكم من الحب لله .

 

{ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ } وقت اللقاء ، { فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً } وإنما قللهم في أعيتهم تصديقا لرؤيا رسول الله ÷ ، وليعاينوا ما أخبرهم به فيزداد يقينهم ويجدوا ويثبتوا ، { وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ } عينهم ، قيل : حتى قال قائل منهم . إنما هم أكلة جزور ، ويجوز في حكمة الله أن يبصروا الكثير قليلا ، والكثير من الأمور صغيرا ، والعظيم حقيرا (لعله) من أمر الدين والدنيا ، وكذلك بالعكس حتى ينفذ علمه في خلقه ، فيثبت الحق ، وتضمحل الوهميات ، وإلا فمتى هان عذاب الله للكافرين معهم ، (لعله منهم ) ، في جهنم إلا كما قال : ( وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ) وكذل ثواب الله في قلب من كفر ، (لعله) تحقير مع تعظيم الله له ، فلا رادّ لقضائه ، يحكم في خلقه بما يشاء قسطا وعدلا ، وانظر في تعظيم الناس للدنيا مع حقارتها عند الله ، وهذا حال يتسع فيه النظر والفكر لأولي الألباب . { لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } وهذا مما يعظم الخوف في قلوب أولياء الله ، خوفا منهم من تقلب الأحوال بهم ، لأن السعيد في علم الله سعيد لا محال ، والشقي في علم الله شقي لا محال ، { وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } فيحكم فيها ما يريد .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً } إذا حاربتم جماعة من الكفار ، وترك وصفها ، لأن المؤمنين ما كانوا ما يقلون إلا الكفار ، واللقاء اسم غالب للقتال ، { فَاثْبُتُواْ } لقتالهم ولا تنفروا ، { وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً } أي : وأكثروا ذكر الله بالتكبير والتهليل عند النزول والقتال ، أي : اذكروا ثوابه لمن ثبت وصبر ، وعقابه لمن تولى ودبر ، واثقين بوعده أن النصر مع الصبر ، { لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة ، وفيه إشعار بأن على العبد أن لا يفتر عن ذكر ربه أشغل ما يكون قلبا ، وأكثر ما يكون هما ، وأن تكون نفسه في الحقيقة مجتمعة لذلك ، وإن كان في الظاهر متوزعة عن غيره .

 

{ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ } في الأمر بالجهاد ، والثبات مع العدو وغيرهما ، { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ } فتجنبوا ، { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } أي : دولتكم ، يقال : هبت رياح فلان ، إذا دالت له الدولة ، وأنفذ أمره ،    { وَاصْبِرُواْ } على جميع ما أمر الله به ونهى عنه ، { إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } بالحفظ والمعونة .

 

{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ } البطر : أن يشغله (لعله) ذكر كفر النعمة عن شكرها ، وهو الفخر والأشرار ؛ وقيل البطر : الطغيان في النعمة ؛ والرياء : إظهار الجميل ليرى ، وستر القبيح . {  وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ } عن دينه ، { وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } علم وهو وعيد .

 

{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ } تلك مقالة نفسية ، والمعنى أنه : ألقى في روعهم الظن الكاذب ، وخيل إليهم أنهم لا يغلبون ، ولا يطاقون لكثرة عددهم وعُددهم ، وأوهمهم أن إتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات مجير لهم ، بدليل قوله : { وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ } مع ظهور الحق وزهوق الباطل ، { نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ } أي : بطل كيده ،وعاد ما خيل لهم أنه مجيرهم بسبب هلاكهم ، { وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ } أي : تبرأ منهم ، وخاف عليهم ، وأيس من حالهم [ لما ] رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة ، ورؤيته للإمداد بالملائكة (لعله) إما بالبصر وإما بالبصيرة ، أو بهما جميعا ، وهم (لعله) معدمون من رؤية الحالين بإتباعهم إياه ، { وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } لمن كفر في الدنيا ولآخرة .

 

{ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } هو من صفة المنافقين ، أو أريد الذين هم على حرف ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام : { غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ } يعنون أن المسلمين اغتروا بدينهم ، فخرجوا وهم فيما قيل : ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف ، ثم قال جوابا لهم : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ } يكل إليه أمره ، { فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ } غالب يسلط القليل الضعيف على الكبير القوي ، { حَكِيمٌ } لا يسوي بين وليه وعدوه .

 

{ وَلَوْ تَرَى } ولو عاينت وشاهدت ، { إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ } يقبض أرواحهم ، ولو كانوا في الظاهر مقتولين بالسيف ، (لعله ) فإن أول ما يلاقيهم ضرب المؤمنين بالسيف أو ما يشبهه ، ثم تضربهم         { الْمَلآئِكَةُ } يتوفونهم الملائكة { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ } إذا أقبلوا ، { وَأَدْبَارَهُمْ } إذا انهزموا ؛ لرأيت أمرا عظيما وعذابا شديدا ، { وَذُوقُواْ } ويقولون لهم ك ذوقوا { عَذَابَ الْحَرِيقِ } أي : مقدمة عذاب النار أو عذاب الآخرة ، بشارة لهم به .

 

{ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } أي : كسبت ، أي : ذلك العذاب بكفركم ومعاصيكم ، { وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } لأن تعذيب الكفار من العدل وقيل : (( ليس لظلام )) لنفي أنواع الظلم . 

 

{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } أي : دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون ، ودأبهم : عادتهم وعملهم الذي دأبوا فيه ، أي : داموا عليه ، { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } من قبل قريش أو قبل آل فرعون { كَفَرُواْ } تفسير لدأب آل فرعون { بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ } والمعنى جروا على عادتهم في التكذيب ، فأجرى عليهم مثل ما فعل بهم في التعذيب .

 

{ ذَلِكَ } العذاب والانتقام ، { بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ } بسبب أن الله لم يصح في حكمته أن يغير نعمته عند قوم ، حتى يغيروا ما بهم من الحال ؛ لأن الله تعالى أوجدهم من العدم إلى الوجود ، وجعل لهم السمع والإبصار والأفئدة والقوى ، والسماء والأرض ، وما فيهما نعمة من الله ليشكروها ، ويستعينوا بها في طاعته ؛ ولم يكن ثم من سننه أن يغيرها عليهم ، إلا أن يغيروا ما بأنفسهم ، وتغييرهم لها : إهمالهم لها ، وعدم استعمالهم لها ، وكفرانهم إياها ، { وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ } وعد لمن لم يغير ولم يبدل ، ووعيد لمن غير وبدا ، { عَلِيمٌ } بما يفعلون .

 

{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } تكرير للتأكيد ، أو لأن الأولى الأخذ بالذنوب بلا .... ذلك ، وهنا بين ذلك هو الإهلاك والاستئصال [كذا] . { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ } في قوله : ( بآيات ربهم ) زيادة دلالة على كفران النعم ، وجحود الحق ؛ { فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ } من غرقى آل فرعون وقتلى قريش { كَانُواْ ظَالِمِينَ } أنفسهم ، من حيث أنهم غيروا ما بها من النعم فاستبدلوا بها النقم

 

{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } و (لعله) إخبار عن قوم مطبوعين على الكفر ، أنهم لا يؤمنون .

 

{ الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ } بدل من الذين كفروا ، أي : الذين عاهدتم من الذين كفروا جعلهم شر الدواب ،  { ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ } في كل معاهدة ، { وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } لا يخافون عاقبة الغدر ، ولا يبالون ما فيه العار والنار .

 

{ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ } فإما تصادفنهم وتظفرن بهم ، { فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } ، ففرق عند عن محاربتك ومناصبتك بقتلهم شر قتلة ، والنكاية فيهم من وراءهم من الكفرة ، حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد اعتبارا بهم واتعاظا بحالهم { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } لعل المشردين من ورائهم يتعظون .

 

{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ } معاهدين { خِيَانَةً } نكثا بإمارات تلوح لك ؛ { فَانبِذْ إِلَيْهِمْ } فاطرح إليهم العهد { عَلَى سَوَاء } أي : أعلهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد الذي بينك وبينهم ؛ في العلم أنت وهم بنقض العهد سواء ، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب ، { إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ } الناقضين للعهود .

 

{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ } فأتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم ، قيل : نزلت في المنهزمين ، {  إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } أي : غنهم لا يعجزونني ولا يفوتونني .

 

{ وَأَعِدُّواْ لَهُم } للكافرين { مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ } من كل ما يتقوى به في الحرب ، من عددها ، والإعداد : اتخاذ الشيء في مهل لوقت الحاجة ، { وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ } ربطها واقتيادها للعدو ، خص الخيل من بين ما يتقوى به كقوله : ( جبريل وميكال ) . { تُرْهِبُونَ بِهِ } بما استطعتم ، { عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ } كل من كان لله والمسلمين حربا وعدوا ، { وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ } قيل : المنافقون ،{ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ } لأنهم معكم يقولون : لا إله إلا الله ، وقيل : هم كفار الجن . روي أن صهيل الخيل ترهب الجن ، وإذا كان ذلك كذلك (لعله) فكتب الله وأنبياءه ورسله وسننهم وملائكة الله والعلماء وآثارهم أرهب لهم من ذلك وأغيظ ، لأن ذلك أقوى عدة للإسلام وأهله ، ولذلك قيل : (( إن العالم الواحد [ أشد ] على الشيطان ، من ألف عابد )) . ( لا تعلمونهم ) لا تعرفون بأعيانهم ، { اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ } في طاعته ، {  يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } ليوفر عليكم جزاءه { وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } في الجزاء .

 

{ وَإِن جَنَحُواْ } مالوا {  لِلسَّلْمِ } للصلح ، { فَاجْنَحْ لَهَا } فمل إليها { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ } ولا تخف من إبطانهم المكر في جنوحهم إلى السلم ، فإن الله كافيك ، وعاصمك من مكرهم ، { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } لتبييتهم المكر بك ، { الْعَلِيمُ } بما يضمرونه من المخادعة .

 

{ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ } يمكرون ويغدرون ؛ { فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ } أي : كافيك ، { هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ } قواك ، { بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ } جميعا ، أو بالأنصار .

 

{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } مع ما فيها من العصبية والحمية والضغينة في أدنى شيء ، والتهالك على الانتقام ، بحيث لا يكاد يأتلف فيه قلبان ، حتى صارت قلوبهم كقلب واحد لتشابهها ، وهذا من معجزاته ÷ وبيانه . { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } أي : بلغت عداوتهم وتفرق قلوبهم ما لو أنفق منفق – في إصلاح ذات بينهم – ما في الأرض من أموال لم يقدر عليه ؛ { وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } بفضله ورحمته ورأفته ، وجمع بين كلمتهم بقدرته ، وأحدث بينهم التحاب والتواد ، وأماط عنهم التباغض والتماقت ، { إِنَّهُ عَزِيزٌ } لا يعجزه شيء { حَكِيمٌ } حيث جمع بعد التفرقة والتباعد .

 

{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : كفاك تباعك من المؤمنين الله ناصرا .

 

{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ } التحريض : المبالغة في الحث على الأمر ، { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } هذه عدة من الله وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين ، إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بعون الله وتأييده ،         { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } بسبب أن الكفار قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب ، ولا طلب ثواب كالبهائم ، فيقل ثباتهم لجهلهم بالله [و] نصرته ، خلاف ما يقاتل ذو بصيرة ، وهو يرجوا النصر من الله . قيل : كان عليهم أن لا يفروا ، وثبت الواحد للعشرة مم ثقل عليهم ذلك ، فنسخ وخفف بمقاومة الواحد ، بقوله :

 

{ الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } قيل : ض        ضعف البدن ، وقيل : ضعف القلب ، وه الأصح معنا ، لأنهم وأعداؤهم متشابهون في خلق الأجسام ، وليس قلوبهم متشابهة بدليل قوله : ( بأنهم قوم لا يفقهون ) ، وكقوله : ( إذ يوحي ربك إلى الملائكة ... ) الآية إلى قوله : ( سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ) والجسم لا جدوى له مع عدم الإيمان وضعفه ، { فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } .

 

{ مَا كَانَ لِنَبِيّ } ما صح له ولا استقام { أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ } الإثخان : كثرة القتل والمبالغة فيه ، من الثخانة : وهي الغلظ والكثافة ، يعني : حتى يذل الكفر بإشاعة القتل في أهله ، ويعز الإسلام بالاستيلاء والقهر ، ثم الأسر بعد ذلك . روي أن رسول الله ÷ أوتي بسبعين أسيرا ، فاستشار أبا بكر فيهم ، فقال : (( قومك وأهلك ، استبقهم لعل الله يتوب عليهم ، وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك )) . وقال عمر : (( كذبوك وأخرجوك فقدمهم واضرب أعناعنقاقهم ( لعله أعناقهم ) ، فإن هؤلاء أئمة الكفر ، وإن الله أغناك عن الفداء )) ؛ ثم قال لهم رسول الله ÷ : (( إن شئتم قتلتموهم ، وإن شئتم فاديتموهم )) ، واستشهد منكم بعدبهم [كذا] ، فقالوا : (( بل نأخذ الفداء )) ؛ فاستشهدوا بأحد ، فلما أخذوا الفداء نزلت الآية : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا } متاعها ، يعني : الفداء سماه عرضا لقلة بقائه وسرعة فنائه ، لأنه يزول كما عرض ؛ { وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ } أي : ما هو سبب الجنة من إعزاز الإسلام بالإثخان في القتل ، { وَاللّهُ عَزِيزٌ } يقهر الأعداء ، { حَكِيمٌ } يعلم ما يليق لكل حال ، ويخصه بها كما أمر بالإثخان ، ومنع غل الفداء حين كانت الشوكة للمشركين ، وخير بينه وبين المن ، لما تحولت الحال وصار الغلبة للمؤمنين .

 

{ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ } لولا { سَبَقَ } أن لا يعذب أحدا على العمل بالاجتهاد ، وكان هذا اجتهاد منهم ، لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سببا في إسلامهم ، وإن فدائهم يتقوى به على الجهاد ، وخفي عليهم أن قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم ، أو ما كتب الله في اللوح أن لا يعذب أهل بدر ، وأن لا يواخذ قبل الإنذار ، ويحتمل : لولا كتاب الله من سبق بتأخير آجالكم لاستأصلكم بالعذاب ، كما قال :       ( ويستعجلونك بالعذاب ، ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب ) ، { لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ } من فداء الأسارى { عَذَابٌ عَظِيمٌ } .

 

روي أنهم امسكوا عن الغنائم ولم يمدوا أيديهم إليها ، فنزلت : { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ } وقيل : هو إباحة للفداء ، لأنه من جملة الغنائم { حَلاَلاً } مطلقا عن العتاب والعقاب ، مأخوذ من "حل العقاب" . { طَيِّباً } حلالا بالشرع ، طيبا بالطبع ، { وَاتَّقُواْ اللّهَ } فلا تقدموا على شيء لم يعهد إليكم فيه ، { إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ } لمن تاب ، { رَّحِيمٌ } لا يعاجل بالعقوبة لمن عصاه .  

 

{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً } خلوص إيمان وصحة نية {  يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ } من الفداء ، إما أن يخلفكم في الدنيا أضعافه ، أو يثيبكم في الآخرة ،       { وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .

 

{ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ } يعني : الأسارى ، نكث ما بايعوك عليه من الإسلام بالردة ، أو منع ما ضمنوا من الفداء ؛ { فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ } في كفرهم به ، ونقض ما اخذ على عاقل من ميثاقه. { فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } فأمنك منهم ، أي : أظفرك بهم كما رأيتم يوم بدر ، فستمكن منهم إن عادوا الخيانة ، { وَاللّهُ عَلِيمٌ } بالمآل ، { حَكِيمٌ } فيما حكم به الحال .

 

{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ } أوطانهم وشهوات أنفسهم ، حبا لله ولرسوله ، { وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ } باعوها { فِي سَبِيلِ اللّهِ } في طاعة الله ، من جهاد أو أمر بمعروف ونهي عن منكر ، أو طلب علم أو ترك شهوة الله تعالى ، وهم المهاجرون . { وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ } أي : آووهم إلى ديارهم ، ونصروهم على أعدائهم وهم الأنصار . { أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } أي : يتولى بعضهم بعضا بالمؤازرة على الطاعة ، وبالمواصلة على القطيعة . { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ } لأن الهجرة كانت فريضة ، فصاروا بتركها مرتكبين كبيرة ؛ فمن ذلك لم تجز ولايتهم لهم ؛ { وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ } (لعله) بعدما يهاجروا ، { فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } إن طلبوا معونتكم ؛ فواجب عليكم نصرتهم على الكافرين ، { إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ } فإنه لا يجوز لكم نصركم عليهم ، لأنه لا يبتدئون بالقتال ، إذ الميثاق مانع من ذلك ،{ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } تحذيرا عن تعدي حد الشرع .

 

{ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } معناه نهى المسلمين عن موالاة الكفار ، وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم ، وإن كانوا أقارب ، { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ } أي : إن لا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين ، وتولي بعضهم بعضا ، تفضيلا لنسبة الإسلام على نسبة القرابة ،{ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } تحصيل فتنة في الأرض ، ومفسدة عظيمة ، لأن المسلمين ما لم يصيروا يدا واحدة على الشرك كان الشرك ظاهرا ، والفساد زائدا .

 

{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } أي : لا مرية ولا ريب في إيمانهم ، لأنهم صدقوا إيمانهم وحققوه بتحصيل مقتضياته ، من هجرة الوطن ومفارقة الأهل والسكن ، وبالانسلاخ من المال والدنيا ، لأجل الدين والعقبى ، { لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ   كَرِيمٌ } لا منة فيه ، ولا تنغيص ولا تكرار ؛ لأن خذه الآية واردة للثناء عليهم مع الموعد الكريم ، والأولى للأمر بالتواصل .

 

{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ } يريد اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة ، { وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ } جعلهم منهم تفضلا وترغيبا ، { وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } وأولو القرابات أولى بالتوارث ، وهو نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة ، { فِي كِتَابِ اللّهِ } في حكمة وقسمته ، أو في اللوح أو في القرآن ، وهو آية المواريث ، { إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } يقضي بين عباده بما شاء من أحكامه .