بسم الله الرحمن الرحيم     

     { المص كِتَابٌ } أي : (لعله) هذا كتاب { أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } شك منه ، وسمي الشكُّ حرجا لأن الشاك ضيِّق الصدر حرجه ، كما أن المتقِّين منشرح الصدر منفسحه ، أي : تشك في أنه منزل من الله ، أو تقصِّر في القيام بحقه ، أو معناه الإقبال إليه والإدبار عما سواه ، لقوله : ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ) ؛ أو حرج من تبليغه ، لأنه (لعله) كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم ، فكان يضيق صدره من الأذى ، فأمنه الله (لعله) منه ، ونهاه عن المبالاة بهم . {  لِتُنذِرَ بِهِ } أي : أنزل إليك لإنذارك به أو بالنهي ، لأنهم إذا لم يخفهم أنذرهم ، وكذا إذا أيقن أنه من عند الله شجعَّه اليقين على الإنذار ، لأن صاحب اليقين جسور ومتوكِّل على ربه . { وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } لا لغيرهم ، لأنه لهم شفاء ، ولغيرهم مرض فوق مرضهم .

 

{ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ } من القرآن والسنة وحجة العقل . { وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ } من دون الله . { أَوْلِيَاء } أي : لا تتولوا من دونه من شياطين الإنس والجنِّ ، فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع ، ومعناه : لا تطيعوا أحدا في معصية الخالق . { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } حيث تتركون دينه وتتبعون غيره ، ومعناه تتذكرون تذكرا قليلا ، حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره .

 

{ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } أردنا إهلاك أهلها ، وأهلكناها بالخذلان . { فَجَاءهَا بَأْسُنَا } أي : عذاب الموت . { بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } كأنهم على حال غفلة البيات أو القيلولة ، لا يقودهم قائد ، ولا يسوقهم سائق ، ولا يردعهم رادع عن ذلك ، والمعنى أنه جاءهم الموت وهم في فيحال الأمن بعد من محيه في ذلك الحين غير متوقعين لذلك ، وظاهر الآية يعمُّ الجماعة ، وهو خاص في كل نفس جاءها أمر الله وهي على حال الغفلة .

 

{ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ } (لعله) معناه : لم يقدروا على رد الموت ، وكان حاصل أمرهم ، { إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا } لما جاء أول العذاب ، (لعله) عذاب الموت ، { إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } (لعله) ما كانوا يدَّعون من دينهم إلاَّ اعترافهم ببطلانه ، وقوله : ( إنا كنا ظالمين ) فيما كانوا عليه الاعتراف بالظلم على أنفسهم حين لا ينفع الاعتراف .

 

{ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } وهم الأمم عما أجابوا به رسلهم ، أو هو من التوبيخ لا سؤال استعلام ن يعني : يسألهم عما عملوا . { وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } عمَّا أجيبوا به .

 

{ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم } على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم { بِعِلْمٍ } عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة . { وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } عنهم وعمَّا وُجد منهم ، وهو وعد وبشارة للرُّسل ومتبعيهم ، ووعيد وتهدُّد على من خالفهم .

 

{ وَالْوَزْنُ } أي : وزن الأعمال بالتميز بين الثقيل والخفيف ، { يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ } والقضاء يومئذ العدل ، وهو عبارة عن القضاء السويِّ والحكم العدل . { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } أي : غُفرت سيئاته وتُقُلبِّت حسناته . { فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } الناجون .

 

{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } بإحباط حسناته وإثبات سيئاته { فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } حيث قصَّروا عن تكميلها وتزكيتها ؛ {  بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ } يجحدون ، والظلم بها : وضعها غير وضعها إلى جحودها وترك الانقياد منها لربِّها .

 

{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ } أقدرناكم على التصُّرف فيها ، { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } ما يعاش به من المطاعم والمشارب . { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } أي : قليل منكم الشاكر ، أو تشكرون شكرا قليلا غير خالص ولا نافع .

 

{ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } لعبادتنا ، { ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ } قدِّموا أمره ، وعظِّموا شأنه ، واعرفوا قدره ، وانقادوا له ، وأعينوا له وأئتموا به . { فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ } انظروا ما جرى منه وجرى عليه بعدما عبد غير الله ! .

 

{ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } أي : شيء منعك من السجود { إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ } كأنه قال : إني خير منه ولا يحسن للفاضل أن يسجد للمفضول ، وأما الملائكة تواضعت لآدم عن الاستكبار انقيادا لأمر الله ، ولم تقل كما قال إبليس اللعين { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْه خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ُ} تعليل لفضله عليه ، وقد غلط في ذلك بأن رأى الفضل كلَّه باعتبار العنصر ، وغفل عما يكون باعتبار الفاعل ، وكان في الاعتبار فضل آدم على إبليس قبل استكباره ، حيث أنه أمر أن يسجد له تفضيلا عليه بأحوال يعلمها الله فيه ، فحسده لذلك ، فلما أن قطع اللعين بالخيرة لنفسه ، فكأنه في المعنى جهل الله ، وجعل نفسه علما لقوله : (( أنا خير منه )) .

 

{ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا } من السماء فيما قيل ، لأنها لم تخلق مستقرًّا للعصاة ، بدليل قوله : {  فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا } وتعصي ، { فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ } من أهل الصغار والهوان على الله وعلى أوليائه .

 

{ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أمهلني إلى يوم البعث وهو وقت النفخة الأخيرة . { قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ } إلى النفخة الأولى ، وإنما أجيب إلى ذلك لما فيه من الابتلاء عليه وعلى غيره ما دام وقت التعبُّد باقيا ، فإذا انقضى وقت التعبُّد حلَّ وقت الجزاء .

 

{ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي } أضللتني ، تقديره : فبسبب إغوائك أقسم { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ  الْمُسْتَقِيمَ } لأتعرَّضن لهم على طريق الإسلام ، مترصدا للردَّ ، متعرضا للصد ، كما يعترض العدو على الطريق ، ليقطعه على السابلة في خفية من المقطوع له .

 

{ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } أشككهم في الآخرة ، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ } من قبل الحسنات أنها مقبولة مع التخليط ، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا . { وَعَن شَمَآئِلِهِمْ } من قبل السيئات أنها مغفورة لهم وإن أصرُّوا ، ويحتمل أن يقال : (( من بين أيديهم )) من حيث يعلمون على معنى التجاهل ، و (( من خلفهم )) : من حيث لا يعلمون ، فيقع بهم من قبل الجهل وقلة العلم . { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } مؤمنين قاله ظنًّا فأجاب ، لقوله : ( ولقد صدَّق عليهم إبليس ظنه ) .

 

{ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً } معيبا مخذولا ، {  مَّدْحُوراً } مطرودا مبعدا من رحمة الله . { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } فيما آتاهم فيه من معصية أو معاصي ، لقوله : ( لآتينهم من بين أيديهم..... ) إلى تمامها . { لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ } لأني ما خلقتها عبثا . { مِنكُمْ } منك ومنهم ، { أَجْمَعِينَ } .

 

{ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } اتخذها مسكنا ، { فَكُلاَ } منها {  مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ } الشهوانية ، { فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } فتصيرا من الذين ظلموا أنفسهم فتجرّمهلما اعدلها على الطاعة .

 

{ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ } وسوس إذا تكلم كلاما خفيفا يكرره ، وقيل : الوسوسة حديث النفس يلقيه الشيطان في قلب ابن آدم ، {  لِيُبْدِيَ لَهُمَا } أي : ليظهر لهما ما غُطِّي وسُتر عنهما ، { مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا } من عوراتهما ، وفيه دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور ، وأنه كان مستقبحا في الطباع والعقول ، وليس شيء أشد من عورة الكفر ، ثم بيَّن الوسوسة فقال : { وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } على صورة ملك من جنس من الملائكة ، وهو حجَّة لمن قال : أن الملائكة أفضل من المؤمنين من بين آدم . { أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ } من الذين لا يموتون ، ويبقون في الجنة ساكنين لا يفارقونها أمنا من الفناء .

 

{ وَقَاسَمَهُمَا } أقسم لهما ، { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } والناصح ضدُّ الغرور .

 

{ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ } (لعله) من تدلية الدلو ، وهو إرسالهما في البئر ، أي : يزلُّهما إلى الأكل من الشجرة ، بما غرَّهما به من القسم بالله ، وإنما يُخدع المؤمن بالله ، وعن ابن عمر : (( من خدعنا بالله انخدعنا له )) . { فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ } وجدا طعمها ، آخذين في الأكل منها ، { بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا } بانحلال الكسوة عنهما ، فانظر لمَّا ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما لم تتأخر بدوُّها ولم تتقدم ، لأنه لا يكون طائعا عاصيا في حال أبدا ، ولأن الله سريع العقاب ؛ واحذر من مقارفة الطغيان عن أن ينسلخ منك لباس التقوى ، لتبدو منك عورات الكفر لمن يعلم منك ذلك ، فتكون في الظاهر عند العميان عن الدين كأنك مستتر ، وعند الله وعند الملائكة وكتبه ورسله وجميع خلقه (لعله) المحقين مكشوف العورة منسلخ اللباس وهو لباس التقوى .          { وَطَفِقَا } وجعلا ، { يَخْصِفَانِ } يغلّفان ، { عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ } هذا عتاب من الله وتنبيه على الخطأ . وروي أنه قال لآدم : (( الم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة ؟ )) فقال : (( بلى )) . { وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ظاهر العداوة .

 

{ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } حقها . { وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } الدنيا ولآخرة . { قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } أي : متعادين ، يعاديهما ويعاديانه إن استقاما .  { وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ } موضع استقرار ، { وَمَتَاعٌ } وانتفاع بعيش ، { إِلَى حِينٍ } إلى انقضاء آجالكم . { قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } للجزاء .

{ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً } أي : خلقناه لكم بتدبيرات متفاوتة وأسباب نازلة ، ونظيره : ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ) . { يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ } يستر عوراتكم التي قصد الشيطان إبداءها ، { وَرِيشاً } لباس الزينة ، استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته ، وقيل : هو المال ، { وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ } لباس الورع الذي يستر عورة الكفر ، ويقي جميع المكروهات في الدنيا والآخرة ، وقيل : لباس التقوى هو السمت الحسن . { ذَلِكَ خَيْرٌ } المعنى : لباس التقوى خير لصاحبه إذا استعمله مما خلق له من اللباس والتجمُّل الطاهر . { ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ } الدالة على فضله ورحمته على عباده ، يعني إنزال اللباس . { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } فيعرفوا عظم المنعمة فبه . وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقب ذكر بدوِّ السوآت ، وخصف الورق عليها ، إظهار للمنة فيما خلق من اللباس ، ولما في العري من الفضيحة ، وإشعاراً بأن التستر من التقوى خير لصاحبه ، لأنه إذا تستر بالتقوى تستَّر باللباس ، وإن لم يتستَّر به لم يستره لباسه ، وبدت سوآته .

 

{ يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ } لا يخدعنكم ولا يضلَّنَّكم عن دخول الجنة كما فتن أبويكم بأن أخرجهما منها ، وحرمهما ما أبيح لهما بسبب مخالفتهما ، وفيه إيجاب الاعتبار بهما وبمن مضى . { يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا } أي : لا تتبعوه فيفينكم ،            {  لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ } أي : يرى أحوال قلوبكم على ما هي عليه من إيمان أو كفر ، و (( قبيله )) مثله ، بمعنى المقابلة في المعنى والخفية والوسوسة والمعصية والعداوة والطبع للتزين ، والله المستعان . { مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } حسًّا ولا صورة ، ولكنهم يُرون بالمعنى الباطن إذا دعوا إلى شيء من الباطل ، ولا تظنن أنهم يفارقون قلبك ما دامت روحك في جسدك ، وأنهم يوسوسون الليل والنهار لا يفترون ولا يسأمون ولا ييأسون ، إلاَّ إذا كنت نائما ، فاستعذ بالله منهم . { إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } بما أوجدنا بينهم من التناسب ، أو بإرسالهم عليهم ، وتمكينهم من خذلانهم ، وحملهم على ما سولوا لهم .

 

{ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً } ما يتبالغ في قبحه من الذنوب ، { قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا } أي : إذا فعلوها كان اعتذارهم بأن آباءهم كانوا يفعلونها ، فاقتدوا بهم ، وأن الله أمرهم بأن يفعلوها حيث قالوا : ( لو شاء الله ما أشركنا نحن ولا آباءنا ولا حرمنا من شيء ) ، وكلُّ ذلك من أمر الشيطان من حيث لا يعلمون . { قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء } لأن الله تعالى لا يأمر إلاَّ بالحسن ، وإن كان هو على مراتب ما عُرف في أصول الفقه ، والمراد بالفاحشة ما يأباه العقل والشرع ، وينفر عنه الطبع ، ويستنقصه العقل . والقسط : العدل ، وهو الوسط من كلِّ أمر ، المتجافي عن طرفي الإفراط والتفريط . { أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ؟! استفهام إنكار وتوبيخ .

 

{ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } وهو ضُّد الفحشاء ، { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } وقل : أقيموا وجوهكم ، أي : قوِّموا أنفسكم في عبادته ، مستقيمين إليها غير مائلين عنها إلى شيء من الأديان ، في كُلِّ وقت سجود ، أو في كُلِّ مكان سجود ، { وَادْعُوهُ } واعبدوه ، { مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أي : الطاعة مبتغين بها وجهه خالصا . { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } كما أنشأكم ابتداء للعبادة يعيدكم فيجازيكم على أعمالكم ، فأخلصوا له العبادة .

 

{ فَرِيقاً هَدَى } أي : هداهم الله ، { وَفَرِيقاً حَقَّ } وجب ، { عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ } عن طريق السلامة بإرادته السابقة . {  إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ } بسبب اتخاذهم الشياطين أولياء من دونه ، {  وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } بما خيَّل لهم الشيطان ، ولم يتبعوا في دينهم الكتاب والسنة والإجماع ، بل بنوا دينهم على أصل الهوى .

 

{ يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ } لباس زينتكم ، { عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } كما صليتم ، { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ } على معنى الإباحة ، { وَلاَ تُسْرِفُواْ } بالشروع في الحرام ، أو في مجاوزة الشبع . { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } . عن ابن عباس : (( كُل والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان : سرف ومخيلة )) . وكان للرشيد طبيب حاذق ... فقال لعلي : (( ليس في كتابكم من علم الطبَّ شيء ، والعلم علمان : علم الأبدان وعلم الأديان )) فقال له علي : (( قد جمع الله الطب كلُّه في نصف آية من كتابه ، وهو قوله : ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ) )) ، فقال النصرانيُّ : (( ولم يرد من رسولكم شيء من الطبَّ )) ، فقال : (( قد جمع رسولنا الطبَّ في ألفاظ يسيرة ، وهو قوله : "المعدة بيت الداء والحمية رأس كُلِّ دواء ، واعط كلَّ بدن ما عودته " )) فقال النصرانيُّ : (( ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبَّا )) .

 

{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ } من النبات وكلَّ ما يتجمل به ، { الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } التي أحلها الله ، { قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } غير خالصة لهم ، لأن المشركين شركاؤهم فيها ، وهم لا يؤجرون بها في الآخرة ، لأنهم لم يريدوا بها وجهه ،        { خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } للمؤمنين في الدنيا بالتمتع بها ، وفي الآخرة بالثواب عليها ، لأنهم أرادوا بها وجه الله . { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ } بتمييز المنتفع والمتمتع ، { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } بتلُّهم ذلك .

 

{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ } ما تفاحش قبحه ، أي : تزايد ، وهو جميع ما أمر به الشيطان . { مَا ظَهَرَ مِنْهَا } ما عمتله الجوارح ، { وَمَا بَطَنَ } ما أسرته القلوب ، { وَالإِثْمَ } كلَّ ذنب ،  { وَالْبَغْيَ } والظلم والكبر ، { بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ } من أي : الشرك كان ، { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } حجَّة ، { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وأن تتقوَّلوا عليه وتفتروا الكذب .

 

{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } قيل : بساعة لأنها أقل ما يستعمل في الإمهال .

 

{ يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } يقرأون عليكم كتبي ، { فَمَنِ اتَّقَى } الشرك { وَأَصْلَحَ } العمل { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .

 

{ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا } تعظّموا عن الإيمان بها ، { أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ 0 فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَـئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ } ما كتب لهم من الأرزاق والآجال والنعمة وضدِّها . { حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا }      (( حتى )) غاية لنيلهم نصيبهم ، واشتهائهم إياه ، أي : إلى وقت وفاتهم ، { يَتَوَفَّوْنَهُمْ } ملك الموت وأعوانه . { قَالُواْ } أي : قالت الملائكة لهم ، { أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ } أي : أين الآلهة التي تعبدونها ، { مِن دُونِ اللّهِ } ليذبوا عنكم ؟ { قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا } غابوا عنَّا فلا ينفعونا .    { وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } اعترفوا عند معاينة العذاب ، { أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } اعترفوا بكفرهم .

 

{ قَالَ } أي : قال الله للكفّار يوم القيامة ، { ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ } أي : كائنين في جملة أمم وفي غمارهم مصاحبين لهم ، والمعنى : ادخلوا في النار مع أمم ، ( قد خلت من قبلكم ) وتقدَّم زمانُهم زمانكم { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } شكلها في الدين ، أي : التي ضلَّت بالاقتداء بها لأنها لا تتابعها إلاَّ إذا كانت مثلها ، كما قال :   ( تشابهت قلوبهم ) . { حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا } أصله : " تداركوا" أي : تلاحقوا ، لحق آخرهم أوَّلهم ، واجتمعوا في النار ، { جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ } منزلة ، وهم الأتباع والسفلة ، {لأُولاَهُمْ } منزلة ، وهم القادة والرؤوس ، { رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً } مضاعفا ، نسبوا لنا الضلال فاقتدينا بهم فآتهم عذابا ضعفا ، لأنهم ضلوا وأضلوا ، وفيه إشعار بشدَّة عذاب المتبعين حتى ظنوا أنه ليس أحد بأشدَّ عذابا منهم ، فلذلك دعوا الله أن يزيد الذين أضلوهم ضعف عذابهم بإضلالهم لهم سخطا عليهم . { مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ } للقادة بالغواية والإغواء وللأتباع بالكفر { وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ } أي : لا تعلمون [ أيها ] الأتباع ما للمتبوعين من تضعيف العذاب عن أن تكون لهم راحة ، لأنهم إذا رأوا أحدا أشدّ عذابا منهم كأنهم استروحوا ، وكان ذلك نعمة في حقهم ، والنعمة محرمة عليهم ، والله أعلم بتأويل كتابه .

 

{ وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } أي : قد ثبت أن لا فضل لكم علينا ، وإنا متساوون في استحقاق الضعَّف ، { فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } بكسبكم وكفركم .

{ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا } عن الإيمان بها ، { لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء } لقبول دعائهم وأعمالهم كما تفتح لأعمال المؤمنين ، أو لا يفتح لهم فتوح رحمة لأنهم عن الرحمة مبعدون ، وفي العذاب (لعله) هم خالدون . { وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة ، { وَكَذَلِكَ } : ومثل ذلك الجزاء الفظيع الذي وصفنا ، { نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ } أي : الكافرين المباشرين للجرائم .

 

{ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ } فراش ، { وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } أغطية ، يعني ما غشاهم وغطّاهم ، يعني إحاطة النار بهم من كل جانب ، جمع غاشية . { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } أنفسهم بالكفر

 

{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } طاقتها ، والتكليف إلزام ما فيه كلفة ، أي : مشقَّة . { أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .  

 

{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } حقد كان في الدنيا ، وهو الطبيعيُّ ، فلم يبق بينهم إلاَّ التوادد والتعاطف . { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا } لما هو وسيلة إلى هذا الفوز العظيم ، وهو الإيمان . {  لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ } أي : وما كان يصحُّ أن نكون مهتدين لولا هداية الله . { لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } وكان لنا لطفا وتنبيها على الاهتداء ؛ يقولون ذلك سرورا بما نالوا ، وإظهار لما اعتقدوا . { وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ } إذا رأوها من مكان بعيد ، أو بعد دخولها ، { أُورِثْتُمُوهَا } أعطيتموها بسبب أعمالكم . { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .

 

{ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً } تقديره : وعدكم ربكم ، وإنما قالوا لهم ذلك شماتة بأصحاب النار ، واعترافا بنعم الله . { قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ o الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } يطلبون لها الاعوجاج والتناقض . { وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ } .

 

{ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } قيل : هو السور المذكور في قوله : ( فضُرب بينهم بسور ) . { وَعَلَى الأَعْرَافِ } وعلى ذلك السور ، { رِجَالٌ } قيل : هم أصحاب اليمين من أهل الجنة ، وبعض من المسلمين وقف عن القطع فيهم لإبهام أمرهم ، وقيل : من آخرهم دخولا في الجنة وهم الضعفاء من المؤمنين . { يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ } بعلامتهم . { وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } في دخلوها .

 

{ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ } وفيه دليل أن صارفا يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا .         { تِلْقَاء } أي : ناحية ، { أَصْحَابِ النَّارِ } ورأوا ما هم فيه من العذاب ، { قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } فاستعاذوا بالله وفزعوا إلى رحمته أن لا يجعلهم معهم ، وكذلك ينبغي للمؤمن إذا رأى أحدا في الدنيا يعمل بغير رضى الله أن يستعيذ بالله من عمله ، ويسأله النجاة من عمله كما قالت امرأة فرعون : ( رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ، ونجنِّي من فرعون وعمله ونجنِّي من القوم الظالمين ) .

{ وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ } من رؤساء الكفرة ، { قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } وهو كذلك لا يغني عن أهل النار مال ولا جمع .

 

{ أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ } حلفتم في الدنيا ، والمشار إليهم فقراء المؤمنين الذين سخروا منهم في الدنيا واستهزأوا بهم . { لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ } في الدارين لتنكير الرحمة ، لأن العاصي بمعزل من الرحمة في الدارين ، وذلك لأنهم يحتقرونهم لفقرهم وخمولهم وعزلتهم ، قال الله : ( وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون ) ، أي : كان أهل الضلال في الدنيا يستهزئون بهم بالمسلمين ، ويحلفون : لا ينالهم الله برحمة ، و .... الضلال في دينهم وفعالهم . {ادْخُلُواْ   الْجَنَّةَ } وذلك بعد أن نظروا إلى الفريقين وعرفوهم بسيماهم وقالوا ما قالوا . { لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } .

 

{ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ o الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } الذين اغتروا بما خولوا . { فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ } نتركهم في العذاب ترك المنسي كما تركناهم في الدنيا ، { كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا } (لعله) ولم يذكروه . { وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } أي : كنسيانهم وجحودهم ، والجاحد ضدُّ المقِّر .

 

{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ } ميَّزنا حلاله من حرامه ومواعظه ومن قصصه ، { عَلَى عِلْمٍ } عالمين بكيفية تفصيل أحكامه . {  هُدًى وَرَحْمَةً } أي : جعلنا القرآن هاديا وذا رحمة ، { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } لأنهم هم المنتفعون به دون من سواهم .

 

{ هَلْ يَنظُرُونَ } ينتظرون ، { إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } إلاَّ عاقبة أمره ، وما يؤول إليه من تبيين صحة صدقة ، وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد ، ومعناه : هل ينظرون إلاَّ ما يؤول إليه أمرهم من العذاب ، وقيل : هل ينظرون إلاَّ بيانه ومعانيه وتفسيره ، {  يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ } تركوه وأعرضوا عنه ، { قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } إقرار منهم بصحة ما جاءت به رسل ربهم ، وأنه على الحق ، فأقرُّوا حين لا ينفعهم الإقرار ، { فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ } أهلكوها بالعذاب ، { وَضَلَّ عَنْهُم } بطل { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } ما كانوا يعبدونه من الأصنام .

 

{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى } (لعله) استولى ،       { عَلَى الْعَرْشِ } قيل عن بعض العلماء أنه قال في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهة : (( أقرُّوها كما جاءت بلا كيف )) . {  يُغْشِي } يغطَّي ، { اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ   حَثِيثاً } سريعا ، { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ } أي : وخلق الشمس والقمر والنجوم              { مُسَخَّرَاتٍ } أي : خلق هذه الأشياء مذللات ، منافع للمتعبدين { بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ } لأنه خلق الخلق ، وله الأمر يأمر في خلقه ما يشاء . { تَبَارَكَ اللّهُ } كثر خبره ، أو دام برُّه ، من البركة : وهي النماء ، أو من البروك : الثبات ، ومنه البركة : الحوض ، أو تعالى الله : أي : نعظَّم {  رَبُّ الْعَالَمِينَ } .  

 

{ ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } التضرع : " تفعُّلٌ" من الضراعة ، وهي الذلُّ ، أي : تذلُّلا وتملُّقا . قال أبو عثمان : (( التضُّرع في الدعاء : أن تقدِّم إليه افتقارك وعجزك وضروراتك ، وقلة حيلتك )) . قال الواسطيُّ : (( التضُّرع : بذلِّ العُبُودية ، وخلع الاستطالة )) . { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } المجاوزين ما أمروا به في كلِّ شيء من الدعاء وغيره .

 

{ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } أي : خلقت صالحة للصالحين غير ناقصة فتحتاج إلى الزيادة ، ولا فاسدة فتحتاج إلى الإصلاح ، بل آلة للمطيعين ، فلا تُفسدوا فيها بمعصية بعد الطاعة ، أو بشرك بعد توحيد ، أو بكفر بعد إيمان . { وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً } أي : خائفين من الرد ، طامعين في الإجابة . { إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } لمن تقرَّب منها بالإحسان ، لأنها لا تنال إلاَّ به .

 

{ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أمام نعمته ، وهو الغيث الذي هو من أجلِّ النعم ، { حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ } حملت ورفعت { سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ } لأجل بلد قلَّ ماؤه أو ذهب ؛ { فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ } أي : مثل ذلك الإخراج ، وهو إخراج الثمرات بعد موتها ( لعلكم تذَّكّرون ) ، فيؤدِّيكم التذكُّر إلى أنه لا فرق بين الإخراجين ، إذ لكلِّ واحد منهما إعادة (لعله) للشيء بعد إنشائه ؛ { نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } فيؤدِّيكم التذكُّر إلى الإيمان بالبعث ؛ إذ لا فرق بين الإخراجين ، لأن كل واحد منهما إعادة الشيء بعد إنشائه .

 

{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ } الأرض الطيبة التُّرب ، { يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } بتيسيره ، { وَالَّذِي خَبُثَ } أي : والبلد الخبيث ، { لاَ يَخْرُجُ } أي : نباته ، { إِلاَّ نَكِداً } [ النكد : ] الذي لا خير فيه ؛ وهذا مثلٌ لقلب المؤمن لمن ينجع فيه الوعظ ، ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك ، وهو الكافر .        { كَذَلِكَ } مثل ذلك التصريف ، {  نُصَرِّفُ الآيَاتِ } نردِّدها ونكرِّرها ، وقيل : نُبيِّنها ، { لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } نعمة الله ، وهو المؤمنون ، ليفكروا فيها ، ويعتبروا بها .

 

{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ } أي : ما لكم من إله غيره فتعبدوه . { إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } .

 

{ قَالَ الْمَلأُ } أي : الأشراف والسادة ، لأنهم يملأون العيون رواء والقلوب مهابة . {  مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } في ذهاب عن طريق الصواب الذين سلكوه واعتقدوه ، ومعناه خطأ وزوال عن الحقِّ ، (( مبين )) : بيَّن .

 

{ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ } في ديني ، ولم يقل : ضلال ، كما قالوا لأن الضلالة أخصُّ من الضلال ، فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه ، كأنه قال : ليس بي شيء من الضلال ، ثم استدرك لتأكيد نفي الضلال فقال : { وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } لأن كونه رسولا من الله مبلَّغا لرسالاته في معنى كونه على الصراط المستقيم ، وكان في الغاية القصوى من الهدى .

 

{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي } ما أوحي إليَّ في الأوقات المتطاولة ، أو في المعاني المختلفة من الأوامر والنواهي والمواعظ والبشائر والنواذر . { وَأَنصَحُ لَكُمْ } وأقصد صلاحكم بإخلاص ، حقيقة النصح إرادة الخير لغيرك مما تريده لنفسك ، أو النهاية في صدق العناية . { وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي : من صفاته ، يعني : قدرته الباهرة ، وشدة بطشه على أعدائه .

 

{ أَوَعَجِبْتُمْ } الهمزة للإنكار ، والواو للعطف ، والمعطوف عليه محذوف ، كأنه قيل : أكذبتم وعجبتم ، { أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ } موعظة { مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ } على لسان رجل منكم ، وذلك أنهم كانوا يتعجبون من نبوة نوح ، ويقولون : ( ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ) يعنون إرسال البشر ، ( ولو شاء ربُّنا لأنزل ملائكة ) . { لِيُنذِرَكُمْ } ليحذَّركم عاقبة الكفر إن لم تؤمنوا { وَلِتَتَّقُواْ } ولتسلكوا سبيل التقوى ، وهي الخشية بسبب الإنذار ، { وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ولترحموا بالتقوى ، إن وجدت منكم .

{ فَكَذَّبُوهُ } فنسبوه إلى الكذب ، { فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ } عن الحقِّ ، يقال : "أعمى" في البصر ، "وعَمٍ" في البصيرة ، عميت قلوبهم عن معرفة الحقائق .

{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ } واحدا منهم ، لأنهم إذا كان عن رجل منهم أفهم ، فكانت الحجة عليهم ألزم  { هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } أفلا تخافون فتتقون نقمته .

 

{ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ } في خفِّة حلم وسخافة عقل وحمق وجهالة ، حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر لا تعرفه . { وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } في ادعائك الرسالة .

 

{ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ } في دين { وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } والسفاهة في الدين تنافي الرسالة بالدين .

 

{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } ناصح أدعوكم إلى التوبة ، أمين على الرسالة ففي إجابة الأنبياء عليهم السلام من نسَبهم إلى الضلال والسفاهة – بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة بما قالوا لهم مع علمهم بأن خصومهم أضلُّ الناس وأسفههم – أدبٌ حسنٌ ، وخلقٌ عظيم ، وإخبار الله تعالى ذلك تعليمٌ لعباده كيف يخاطبون السفهاء ، كيف يغضُّون ويُسبِلون أذيالهم على ما يكون منهم هضم النفس ، وحسن المجادلة بالتي هي أحسن ، وهكذا ينبغي لكلِّ ناصح ، وفي قوله : ( وأنا لكم ناصح أمين ) تنبيه على أنهم عرفوا بالأمرين .

 

{ أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } أي : خلفتموهم في الأرض أو في مساكنهم ، تحذير وتذكير لهم عن أن يُستخلف من بعدهم قوم آخرون إن عصوا ، كما استُخفلوا هم من بعد قوم عصاة ماضين . { وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً } طولا ، قيل : كان أقصرهم ستين ذرعا ، وأطولهم مائة ذراع . { فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ } في استخلافكم وبسطه أجرامكم ، ما سواهما من عطاياه (لعله) واحدٌ ؛ وآلاء الله : نعمه ، وواحدهما : ألاءُ وإلى ، مثل : معا وأمعاء ، ونظيرهما : آناء الليل واحدها أناء وإني .        { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .

 

{ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } أنكروا واستبعدوا اختصاص الله وحده بالعبادة وترك دين الآباء في اتخاذ الأصنام شركاء معه حبا لما نشأوا عليه وما ألفته نفوسهم . { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } أن العذاب يحل بنا إن خالفنا .    

 

{ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم } قد أوجب أو نزل عليكم ، فجعل المتوقع بمنزلة الواقع . (( رجس )) : أي عذاب ، من الارتجاس ، (لعله) وهو الاضطراب ، { مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ } عذاب ، من الارتجاس ، كأنهم قد ارتجسوا بالإثم . { وَغَضَبٌ } سخط . { أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء  سَمَّيْتُمُوهَا } في أشياء ما هي إلاَّ أسماء وصور ليس تحتها مسميات ، لأنكم تسمون الأصنام آلهة وهي خالية عن معنى الألوهية ، (لعله) كقول إبراهيم u : ( ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ) ، وكقول (لعله) موسى u : ( إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون ) . { أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } حجة متبعة ، { فَانتَظِرُواْ } لما وضح الحقُّ وأنتم مصرُّون على العناد نزول العذاب ، { إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } لنزوله بكم ذلك .

 

{ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ } أي : من آمن به ؛ { بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } بفضل منا ، { وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } الدابر الأصل ، والكائن خلف الشيء ، وقطع دابرهم : استئصالُهم وتدميرهم عن آخرهم . { وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } .

 

{ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَـذِهِ } آية ظاهرة شاهدة على صحة نبوِّتي ، وهي : { نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً } أضافها إلى الله على التفضيل والتخصيص ، كما يقال : بيت الله . { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ } أي : الأرض أرض الله ، والناقة ناقة الله ، فذروها تأكل في أرض ربها ، من نبات ربها ، فليس عليكم مؤنتها ، { وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ } بضرب ولا عقر ولا طرد ولا إضمار [ كذا ] بسوء إكراما لآية الله . { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .

 

{ وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ } يذَّكرهم نعمة الله ليشكروها ، { وَبَوَّأَكُمْ } أسكنكم ونزَّلكم ، { فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً } غرفا للصيف ، { وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً } للشتاء ، {  فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ } أي : نعمة الله في ذلك وغيره ، { وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } .

 

{ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ } أي : تظموا وأنفوا في اتباع الرسول ، { مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ } للذين استضعفوهم واستذلُوهم ، {  لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ } .

 

{ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ  (76 ) فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ } والعتوُّ العلو في الباطل ، {  وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } .

 

{ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } الصيحة التي زلزلت لها الأرض واضطربوا لها ، { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } ميِّتين قعودا ، يقال : الناس جثم ، أي : قعود لا حراك بهم ولا يتكلمون ، { فَتَوَلَّى عَنْهُمْ } لما عقروا الناقة ، { وَقَالَ يَا قَوْمِ } عند فراقه لهم ، { لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ } الآمرين بالهدى لاستجلاء الهوى ، والنصحية منيحة ، بدراء الفضيحة ، ولكنها وخيمة تورث السخيمة ، فإن قيل : كيف خاطبهم بقوله : ( لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ) بعدما أهلكوا بالرجفة ؟ قيل : خاطبهم ليكون عبرة لمن خلفهم .

 

{ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ } أتفعلون السيئة المتمادية في القبح ؟! { مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ } ما عملها قبلكم { مِّن الْعَالَمِينَ (80 ) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء } فسَّر تلك الفاحشة ، يعني أدبار الرجال أشهى عليكم من فروج النساء !، { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } الإسراف : تجاوز الحدود .

 

{ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } يدَّعون الطهارة ويدعوا فعلنا الخبيث ، عابوهم بما يُمتدح به .

 

{ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } من الباقين في العذاب الذين عليهم الغبرة .    { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً } وأرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيبا ، قيل : أمطر الله الكبريت والنار ، { فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } .

 

{ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } يقال له : خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه ، { قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ } ولا تنقصوهم حقوقهم ولا تظلموهم (لعله) إياها ، { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } أي : لا تفسدوا فيها بعدما أصلح فيها الصالحون [174] من الأنبياء والأولياء ، وكلُّ نبي أو عالم يرسل إلى قوم فهو صلاحهم . { ذَلِكُمْ } الذي ذكرت لكم وأمرتكم به ذلكم    { خَيْرٌ لَّكُمْ } في الإنسانية ، وحسن الأحدوثة { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }  مصدقين لي في قولي .  

 

{ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ } أي : عن كُل صراط ، { تُوعِدُونَ } (لعله) تهدون من آمن بشعيب بالعذاب ، { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ } عن دينه ، { مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا } تطلبون لسبيل الله ، { عِوَجاً } أي : تصونها للناس بأنها سبيل معوجة غير مستقيمة لتمنعوهم عن سلوكها ، معناه : تطلبون الاعوجاج في الدين ، والعدل عن المقصد (لعله القصد) . {  وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً } على جهة الشكر وقت كونكم قليلا عددكم ، { فَكَثَّرَكُمْ } الله ، ووفر عددكم ، ويجوز : إذ كنتم فقراء مقلين فجعلكم أغنياء مكثرين ، { وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } أمرنا بالنظر والتأمل في عاقبة من أفسد في دينه ودنياه ممن تقدمهم ، فإنه عبرة لمن استبصر ولم يتعام .

 

{ وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا } بأن ينصر المحقِّين على المبلطين ، ويظهرهم عليهم ، وهذا وعيد للكافرين بانتقام الله تعالى منهم ، أو حثٌّ للمؤمنين على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من المشركين إلى أن يحكم الله بينهم وينتقم لهم ؛ أو هو حطاب للفريقين . { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } لأن حكمه حقٌّ وعدل ، ولا يخاف منه الجور .

 

{ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ } يعني الرؤساء الذين تعظَّموا عن الإيمان بالله ،          { لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا } إخراجهم من قريتهم إجلاؤهم منها في الظاهر ، ومن حيث المعنى : إخراجهم من الرأي والتدبير فيما أمروا به ، ودليله : ( لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذن لخاسرون ) . { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } يعني لو كنا كارهين فتجبروننا عليه .

 

{ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ رَبُّنَا } إلاَّ أن يكون سيق في مشيئته أنا نعود فيها ، فمضي قضاء الله فينا ، وينفذ حكمه علينا . {  وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } تمييز ، أي : أحاط علمه بكلِّ شيء ؛ { عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ } أي : أظهر حال عاقبة المحققِّ من المبطل منا ومنهم ، { وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } والفاتح : المظهر لعاقبة الأمور المنغلقة المبهمة .

 

{ وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } ما تهواه أنفسكم من غير عوض ولا جزاء لأنهم لم يصدِّقوا به ، { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } ميتين .

 

{ الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } كأن لم يقيموا فيها ، وكأنهم لم يُخلقوا عليها ، لأنهم صاروا إلى ما كانوا عليه من حال العدم ؛ غني بالمكان : أقام . { الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ } .

 

{ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ } بعد أن نزل بهم العذاب ، { وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى } أحزن { عَلَى قَوْمٍ َ} ليسوا بأهل للحزن عليهم ، لكفرهم واستحقاقهم للعذاب ، { كَافِرِين } .

 

{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء } قيل : البأساء في المال ، والضراء في النفس ؛ وقيل : البأساء البؤس والفقر ، والضراء : الضرُّ والمرض . { لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } لأنهم إذا لم يتضرعوا عند البأساء لم يتضرعوا عند النعماء ، وذلك بيان لفائدة الضراء وأنها نعمة في حقِّ من تضرَّع .

 

{ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ } ابتلاء لهم بالأمرين ، { حَتَّى عَفَواْ } كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم ، من قولهم : عفا النبات إذا كثر ؛ { وَّقَالُواْ } من غرَّتهم وغفلتهم بعد ما صاروا إلى (لعله) الرخاء ، {  قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء } أي : قالوا : هذه عادة الدهر : تعاقب في الناس بين الضراء والسراء ، وقد [ مس ] آباءنا نحو ذلك وما هو بعقوبة الذنب ، فكونوا على ما أنتم عليه ، { فَأَخَذْنَاهُم } بالهلاك، { بَغْتَةً } فجاءة عبرة لمن بعدهم ، { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } بنزول العذاب ، لأنه ولو تقدمت نذره ورسله فلم يطابطنوا أنها رسل الموت ، لفرط طول الأمل وحب الدنيا ونسيان الآخرة .

 

{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى } إشارة إلى القرى التي دلَّ عليها : ( وما أرسلنا في قرية من نبي ) ، كأنه قال : ولو أن أهل تلك القرى الذين كذبوا وأهلكوا { آمَنُواْ } بدل كفرهم { وَاتَّقَواْ } الشرك مكان ارتكابه، { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ } لآتيناهم بالخير الديني والدنياوي من كُلِّ مكان ، { وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } .

 

{ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ }  أي : ساهون لاهون عن العواقب ، فهم بين حالين : بين النوم واللعب ، لأن جميع كدحهم يؤول على معنى اللعب أن لو اعتبروا ، لا حاصل له إلاَّ التعب والتحسر ، وهم مع ذلك لا يتفكرون في عواقب الأمور ، ولا يتخوفون (لعله) عن أن يبدلوا مكان (لعله) الحسنات سيئات ، وأن تقطع عنهم (لعله) الأمداد السماوية .

 

{ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ } أخذه العبد من حيث لا يشعر، { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } فلا يحذرون المعاصي ، ويرتكبون ما يثمر لهم المكر الخفيِّ ، لأنه إذا أمن أنه لا يعصي فيما يستقبل فقد حكم بالغيب ، ومن حكم بالغيب فقد أحاط به الخسران من حيث لا يشعر .

 

{ أَوَلَمْ يَهْدِ } أي : يُبَيِّن ، {  لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ } هلاك { أَهْلِهَا } الذين كانوا مختلفين {  أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ } كما أصبنا من قبلهم ، فأهلكنا الوارثين كما أهلكنا الموروثين ؛ { وَنَطْبَعُ } أي : نختم { عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } سماع تفهم واعتبار ، وبذلك ذلك على أن إصابة العبد بدينه الطبعُ على قلبه ، ويصير كأنه أصمُّ وأعمى ولا عقل له ، فينغمس في المعاصي من حيث لا يشعر ، وذلك إذا آثر هواه على ما اتضح له من الحق ولو في حرف واحد .

 

{ تِلْكَ الْقُرَى } أي : هذه القرى الذي ذكرت لك أمر أهلها ، { نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا } بعض أنبائها ، لأن لها أنباء غيرها لم نقص ، عبرة للمعتبرين ؛ { وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } عند مجيء الرسل بالبينات ، {  بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ } بما كذبوا من آيات الله الأرضية والسماوية قبل مجيء الرسل ، أو فما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أوَّلا حين جاءتهم الرسل ، أي : استمروا على التكذيب ، من لدن مجيء الرسل إليهم إلى أن ماتوا مصِّرين مع تتابع الآيات . {  كَذَلِكَ } مثل ذلك الطبع الشديد {  يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ } بما علم منهم أنهم يختارون الكفر .

 

{ وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ } يعني أن أكثر الناس ينقضون عهد الله وميثاقه في الطاعة ، لأنهم كانوا إذا عاهدوا الله في ضر ومخافة قالوا : لئن أنجيتنا لنؤمنن ، ثم لما نجاهم نكثوا .    { وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } خارجين عن الطاعة ؛ والوجود بمعنى العلم .

{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا } فكفروا بآياتنا والظلم: وضع الشيء في غير موضعه ، وظلمهم وضعهم الكفر موضع الإيمان ، جرى الظلم مجرى الكفر لأنهما من واد واحد ، لأن الشرك لظلم عظيم ، أو فظلموا الناس بسببها حين آذوا من آمن بها ، لأنه إذ أوجب الإيمان بها فكفروا بدل الإيمان كان كفرهم بها ظلما حيث وضعوا الكفر غير موضعه وهو موضع الإيمان . { فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ }

 

{ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ } يقال الملوك مصر : الفراعنة ، كما يقال الملوك فارس : الأكاسرة ، فكأنه قال : يا ملك مصر ، واسمه قابوس ، أو الوليد بن مصعب فيما قيل . { إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } .

 

{ حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ } أي : أنا حقيق على قول الحق ، أي : واجب على قول الحق أن أكون قابله ، والقائم به ، وقيل : حريص على أن لا أقول على الله إلا الحق ؛ { قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } فخلَّهم يذهبوا معي راجعين إلى وطنهم ، أو فاتركم (لعله) فاتركهم [كذا] في أرض الله ، ولا تمسهم بسوء ، وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفي غلب فرعون نسل الأسباط واستعبدهم ، فأنقذهم الله موسى .

 

{ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } في دعواك ، { فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } أي : ثعبان حقيقية لا وهمية ولا سحرية ، كما تنقلب المعادن وتستحيل عن حالتها وصورتها عما كانت ؛ { وَنَزَعَ يَدَهُ } من حينه { فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ } .

 

{ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } يعنون أنه ليأخذ أعين الناس حتى يحيل إليهم العصا حية ، والأدم أبيض . قيل : قاله هو وأشراف قومه على سبيل المشاورة في أمره . { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ } فتصيروا مملوكين بعد أن كنتم مالكين ، كما قال : ( وتكون لكما الكبرياء في الأرض ) { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } ؟ .

 

{ قَالُواْ أَرْجِهْ } أي : أخِّر أمره ولا تعجل ، أو كأنه همَّ بقتله . { وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ } جامعين { يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ o وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } لما وعدهم بالتقريب أغناهم عن الأجر المعين .

 

{ قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ o قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ } أروها بالحيل والشعوذة ، وخيَّلوا إليها ما الحقيقة بخلافه . روي أنهم ألقوا حبالا غلاظا ، وخشبا طوالا ، فإذا هي أمثال الحيات قد ملأت الأرض . { وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } .

 

{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ } تبتلع { مَا يَأْفِكُونَ } ما يأفكونه ، أي : يقلبونه عن الحق إلى الباطل ، لأن الحقيقة خلاف ما رأوا ويزورونه . روي أنها تلقفت ملء الوادي من الخشب والحبال ، ورفعها موسى فرجعت عصى كما كانت ، وأعدم الله بقدرته تلك الأجرام العظيمة ، أو فرَّقها أجزاء لطيفة على حالها .

 

{ فَوَقَعَ الْحَقّ } فحصل وثنيـ ، وقيل : ثبت . { وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : ذهب عملهم ، كأنه لم يكن . { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ } صاروا أذلاء مبهوتين ، فقال السحرة : لو كان ما يصنع موسى سحرا لبقت حبالنا وعصينُّا ، فلما فقدت علموا أن ذلك من أمر الله تعالى . { وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } ذليلين مبهوتين مستسلمين لله ولموسى ، تائبين آيبين راجعين من دينهم وضلالهم إلى دين الله ، خروا سجدا لله ، كأنهم ألقاهم ملقٍ لشدة خروجهم ، ولم يتمالكوا مما رأوا ، فكأنهم ألقوا ، فكانوا أول النهار كفارا سحرة وفي آخره شهداء بررة ، نسأل الله أن يرزقنا ما رزقهم .

 

{ قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ o رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ o قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا } أي : فيصير أهلها مملوكين أذلاء بعد أن كانوا مالكين أعزاء . { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ o لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ o قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } فلا نبالي بما توعدتنا به لانقلابنا إلى لقاء ربنا ورحمته

 

{ وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا } وما تعيب منا إلاَّ الإيمان بآيات الله . { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً } اصبب صبًّا ذريعا ، والمعنى : هب لنا صبرا واسعا ثابتا إلى الممات ، لا تميل عنه أنفسنا ، { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } ثابتين على الإسلام .

 

{ وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ } وأراد بالإفساد في الأرض دعاءهم الناس إلى مخالفة فرعون في عبادته . { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } أي : عبادتك وطاعتك ، لأن فرعون يُعبد ولا يعبد . {  قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ } بتركهن أحياء للاستعباد والاستخدام ؛ { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } .

 

{ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ } قال لهم ذلك حين جزعوا من قول فرعون تسلية لهم ووعدا بالنصر عليهم . { إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } وهو مالكها يملك منها من شاء بما شاء ؛ { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } كانوا مالكين أو مملوكين ، أغنياء أو فقراء بشارة بأن الخاتمة المحمودة للمتقين .

 

{ قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ } من بعده { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } فحقق الله ذلك فأغرق فرعون واستخلف بني إسرائيل في ديارهم وأموالهم ، فعبدوا العجل .

 

{ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ } سني القحط ؛ تقول العرب : مستهم السنة ، أي : قحط السنة . { وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } يبتلي الله عباده بما يشاء ، ابتلى هؤلاء بما ذكر ، وقال في غيرهم : ( فلما نسوا ما ذُكِّروا به فتحنا عليهم أبواب كلِّ شيء ) ؛ وكذلك يبتلي أهل الطاعة بهذا وهذا ، والعاصين بمثل ذلك ، لأنه العالم بأحوال خلقه ، الحكيم في جميع أفعاله أفعاله .

 

{ فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ } أي أعطيناها باستحقاقنا على العادة الجارية علينا في سعة أرزاقنا تفضلا من الله ليشكروا عليها . { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ } تشاءموا بهم ، وقالوا : هذه بشؤمهم لما أصابتنا ، وهذه إغراق في وصفهم بالغباوة والقساوة ، وقيل : إن الشدة ترقوا القلوب وترغبها فيما عند الله ، فإن الشدائد ترقوا [ كذا ] القلوب وتذلل العرايك ، وتزيل التماسك ، سيما بعد مشاهدة الآيات ، وهي لم تؤثر فيهم ، بل ازدادوا عندها عتوا . { أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ } سبب خيرهم وشرهم { عِندَ اللّهُ } في حكمه ومشيئته ، أو سبب شؤمهم عند الله هو أعمالهم المكتوبة عنده ، فإنها التي ساقت إليهم ما يسوءهم . { وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أن الذي أصابهم من عند الله .

 

{ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } أي : كلًّ آية أتيتنا بها في الماضي أو تأتينا بها في المستقبل فهي كذب ، فما نصدقك فيها ، وكانوا قد صمموا على تكذيبه .

 

{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ } ما طاف بهم وغلبهم من مطر أو سيل ؛ قيل : طفا الماء جروبهم ، وذلك قيل : إنهم مًطروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة لا يرون شمسا ولا قمرا ، ولا يقدر أحد    أن يخرج من داره ؛ وقيل : دخل الماء في بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ، فمن جلس غرق ، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة ، وكانت بيوت بني إسرائيل مشتبكة ببيوتهم ؛ وقيل : هو الجدريًّ أو الطاعون أو الموت . {  وَالْجَرَادَ } فأكلت زروعهم وثمارهم وسقوف بيوتهم ولم يدخل بينوت بني إسرائيل منه شيء . ( وابتلى الله الجراد بالجوع فكانت لا تشبع ؛ وقيل : مكتوب على كل جراده : "جند الله الأعظم" ) . { وَالْقُمَّلَ } وهي الدبا وهو أولاد الجراد ؛ قيل : بنات [ كذا] أجنحتها ، أو البرغيث ، أو كبار القردان ، وقيل : السوس الذي يخرج من الحنطة ، فلم يصابوا ببلاء كان أشدَّ عليهم من القمل ، وأخذت أشعارهم وأبشارهم واشفار عيونهم وحواجبهم ، ولزم جلودهم كالجذريِّ عليهم ، ومنعهم النوم . { وَالضَّفَادِعَ } وكانت تقع في طعامهم وشرابهم ، حتى إذا تكلَّم الرجل وقع في فيه ، فلقوا منها أذى شديدا . { وَالدَّمَ } أي : الرعاف ، وقيل : مياههم انقلبت دما ، حتى أن القبطي والإسرائيلي إذا اجتمعا على أناء فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء ، وما يلي القبطي دما ؛ وقيل : سال عليهم السيل دما . { آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ } مبينات ظاهرات لا تشكل على عاقل أنها من آيات الله ن أو مفرقات بين كل اثنين شهر .   { فَاسْتَكْبَرُواْ } فلم يعتبروا بالآيات ، { وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } .

 

{ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ } العذاب المذكور واحدا بعد واحد ، والطاعون ، { قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } أي : بعهده عندك من إجابة دعوتك ، { َئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } .

 

{ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ } إلى حدٍّ من الزمان هم بالغوه لا محالة فمعذبون فيه ، لا ينفعهم  ما تقدم لهم من الإهمال وكشف العذاب إلى حلوله ؛ { إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } بنقض العهد .

 

{ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ } هو ضد الإنعام ، كما أن العقاب ضد  الثواب . { فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ } البحر الذي لا يدرك قعره { بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } أي : كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها ، وقلة فكرهم فيها .  

 

{ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ } هم بنو إسرائيل ، كان يستضعفهم فرعون وقومه بالاستخدام والقتل ؛ { مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا } لباس أورثهم إياها ، { الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } بالخصب وسعة الأرزاق ، وكثرة الأنهار والأشجار . { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى } وهي نعمته ، { عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } هو قوله : ( عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض ) . { بِمَا صَبَرُواْ } بسبب صبرهم ، وحسبك به حثا على الصبر ، ودالا على أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه ، ومن قابله بالصبر ضمن الله له بالفرج . { وَدَمَّرْنَا } أهلكنا {  مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } من العمارات وبناء القصور ، { وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } من الجنات ، أو ما كانوا يرفعون من الأبنية المشيَّدة . وهذا آخر قصة فرعون والقبط وتكذيبهم بآيات الله ، ثم أتبعه قصة بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من فرعون ، ومعاينتهم الآيات العظام ، ومجاوزتهم البحر وغير ذلك ، تسلية لرسول الله مما رأى من بني إسرائيل بالمدينة .                                                                                                                                                                  

 

{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ } يواضبون على عبادتها كما يعبدون ابناء زمانك أهوية أنفسهم بلا حجة ، كلُّ منهم نصب هواه صنما له يعبده من دون الله ، لا يردعهم عن ذلك كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا حجة عقل ، ويقول : إن رُددت إلى ربي لأجدنَّ خيرا من هذا منقلبا ، فزين لهم الشيطان سوء أعمالهم . { قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً } صنما نعكف عليه ، وفي المعنى كأنهم طلبوا شيئا (لعله) مما تهواه أنفسهم بغير حقِّ . { كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } أصنام يعكفون عليها . قال يهودي لعلي : اختلفتم بعد نبييكم قبل أن يجف ماؤه ، فقتال : قلتم : اجعل لنا إلها ولم تجف أقدامكم . وقد صدق اليهودي في هذا ، لأنه إذا وسوس الشيطان لأحد في شيء من الباطل فاتبعه في وسوسته فكأنما نصب ذلك الشيء صنما يعبده من دون الله ، وقد قال الله : ( ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدوٌّ مبين ، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ) ، وقال : ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) ، وليس من نصب صنما من الخشب والحجارة يعبده من دون الله بأشد عجبا ممن نصب هوى نفسه يعبده من دون الله . { قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } تعجّب من قولهم على أثر ما رأوه من الآية العظمى ، فوصفهم بالجهل المطلق وأكده .  

 

{ إِنَّ هَـؤُلاء } يعني عبدة تلك التماثيل والصور التي صورها بأهويتهم ، {  مُتَبَّرٌ } مهلك ، من التبار ،  { مَّا هُمْ فِيهِ } أي : يتبِّر الله ويهدم دينهم الذي هم عليه . { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : ما عملوا من عبادة الأصنام باطل مضمحلٌّ .

 

 

{ قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـهاً } أغير المستحق للعبادة أطلب لكم معبودا ؟! { وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } على سائر الموجودات ، أو على عالمي زمانكم .

{ وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ } يبغونكم شدة العذاب ، من السلعة إذا طلبها ، وهو يذكرهم نعمته . { يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم ْ} أي : في الإنجاء ، أو العذاب ،  { بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } .

 

{ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً } لإنزال التوراة ، { وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي } كن خليفتي فيهم ؛ { وَأَصْلِحْ } ما يجب أن يصلح من أمر البلاد والعباد ، { وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } الصلاح ضِدُّ الفساد ، لأن الصلاح من الطاعة والفساد من المعصية .

 

{ وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا } الذي وقتناه له ، { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } أوحى إليه بما شاء ، { قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ } بقي على حاله ، {  فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } قيل : ما تجلى من عظمة الله للجبل إلا مثل سمِّ الخياط حتى صار دكا ، أي : مستويا بالأرض ، { جَعَلَهُ دَكّاً } مدكوكا مفتتا ، { وَخَرَّ موسَى صَعِقاً } مغشيا عليه . قيل : إن موسى كان عالما بأن الله لا يرى ولكن طلب قومه أن يريهم ربهم ، كما قال مخبرا عنهم بقوله : ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) فطلب الرؤية ليبين الله تعالى أنه ليس بمرئي . { فَلَمَّا أَفَاقَ } موسى من صعقته ، وثاب ورجع إلى عقله ، وعرف أنه سأل أمرا لا ينبغي له ، { قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ } من السؤال ، { وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } بعظمتك وجلالك ، وأنك لا ترى في الدنيا ولا في الآخرة .   

 

{ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ } اخترتك على أهل زمانك ، وهو يذكّره نعمته التي اختصه بها دون الناس ، { بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ } أعطيتك من شرف النبوة والحكمة فاعلمه واعمل به ، { وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ } للنعمة بأن تطيع الله بها ولا تكفرها .

 

{ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ } ألواح التوراة ن فالله أعلم بصفتها وعددها ، { مِن كُلِّ شَيْءٍ } يحتاجون له من أمر دينهم ودنياهم ، لأنه لا يجوز على الله أن يخلق خلقا خلقا ، ويتعبدهم بالطاعة ، ويتركهم بغير هدى . { مَّوْعِظَةً } بما تردعهم عن المعاصي ، وترغبهم في الطاعة ، { وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } لما يحتاجون إليه . { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } بجدِّ واجتهاد وعزيمة ؛ وقيل : بقوة القلب وصحة العزيمة ، لأنه إذا أخذه بضعف النية أدَّاه في الفتور ، وإذا كان من أمثال موسى ويحيي لا ينال فهمها وحفظها إلا بقوة مع زهدهم للدنيا ، ورغبتهم لآخرة ، وتوفيق الله لهم ، أيطمع من هو أقل منهما فهما وغريزة [كذا] وحفظا ، وأقلهم رغبة في الآخرة إلى فهم الحكمة وأخذها بغير اجتهاد ؟ كلاّ ! بل البلوغ على قدر الاجتهاد . { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } أي : بأعدلها وأقربها من الحق ، وأبعدها من الباطل . { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } فرعون وقومه ، أو منازل عاد وثمود والقرون المهلكة كيف خلت منهم ، ليعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم ، فتعاقبون مثل ما عوقبوا ، أو جهنم .

 

{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ } عن التدبُّر فيها ، أو عن فهمها . قال ذو النون قدّس الله سرَّه : أبى الله أن يكرم قلوب البطالين بمكنون حكمة القرآن . { الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ } بالطبع على قلوبهم ، فلا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها ، وقيل : سأصرفهم من إبطالها وإن اجتهدوا ؛ وقيل : سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا بها ، وقيل : سأرفع فهم القرآن عن قلوبهم ؛ وقيل سأحجب قلوبهم . { فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي : يتكبَّرون بما ليس بحق ، وهو دينهم الباطل . { وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ } من الآيات المنزلة عليهم ، وما كان من تأويلها والتي ألهموها ، { لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا } لعنادهم واختلالا عقلهم بسبب انهماكهم في الهوى والتقليد . {  وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ } صلاح الأمر وطريق الهدى ، { لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } لا يسلكوه ، لاستيلاء الشيطنة عليهم ، { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ } الضلال ، { يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } يقيموا عليه ، { ذَلِكَ } الصرف ، { بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } بسبب تكذيبهم ، {  وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } غفلة عناد وإعراض ، لا غفلة سهو وجهل .

 

{ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }

 

{ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ } من بعد ذهابه إلى الطور ، { مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } وهو صوت البقر ، وقيل : صاغه بنوع من الحيل ، فيدخل الريح جوفه فتصوت ، ثم عجب من عقولهم السخيفة فقال : { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ } دليل على أن خواره ليس تكليما لهم . { وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً } لا يقدر على كلام ولا على هداية سبيل حتى يختاروه على من لو كان البحر مدادا لكلماته لنفذ البحر قبل أن تنفذ بعض كلماته ، وهو الذي هدى الخلق إلى سبيل الحق بما ركزَّ في العقول من الأدلة ، وبما أنزل في الكتب ، ثم ابتدأ فقال : { اتَّخَذُوهُ } إلها ، فأقدموا على هذا المنكر ، { وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } باتخاذهم الربوبية ( لعله ) لمربوب .  

 

{ وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ } ولما اشتد ندمهم على عبادة العجل ، { وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ } تبنوا ضلالهم ، كأنهم أبصروه بعيونهم ، وبأن لهم الحق بعدما أزاحوا عن قلوبهم الهوى الذي هو كالحجاب على نور العقل ، { قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } المغبونين في الدنيا والآخرة .

 

{ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى } من الطور { إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } أي : حزينا ، { قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي } قمتم مقامي ، وكنتم خلفائي ، { مِن بَعْدِيَ } والخطاب لعبدة العجل من ألسامري وأشياعه ، أو لهارون ومن معهمن المؤمنين ، ويدل عليه قوله : ( اخلفني في قومي ) ، والمعنى : بئسما خلفتموني حيث عبد العجل مكان عبادة الله ، أو حيث لم يكفُّوا عن عبادة غير الله ؛ { أَعَجِلْتُمْ } أسبقتم بعبادة العجل {  أَمْرَ رَبِّكُمْ } وهو إتياني لكم بالتوراة . { وَأَلْقَى الألْوَاحَ } عندما سمع خوار العجل ، أو رآهم عاكفين عليه ، أو عند مخاطبته لقومه غضبا لله ، وكان في نفسه شديد الغضب ؛ { وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ } غضبا عليه حيث (لعله) ظن به أنه لم يمنعهم عن عبادة العجل ، مع القدرة ، {  يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } عتابا عليه . { قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي } أي : أني لم آل جهدا في كفهم بالوعظ والإنذار ، ولكنهم استضعفوني وهموا بقتلي ، { فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء } السامريُّ وأشياعه الذين عبدوا العجل ، أي : لا تفعل بي ما هو أمنيتهم من الاستهانة بي ، والإساءة إلي ، { وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي : لا نجعل منزلتي منزلتهم ؛ فلما اتضح له عذر أخيه .

 

{ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي } ما فرط مني في حق أخي ، { وَلأَخِي } أن فرط في حسن الخلافة ، { وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ } في عصمتك في الدنيا ، وجنتك في الآخرة ، { وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } فأنت أرحم بنا من أنفسنا .

 

{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ } إلها { سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ } قيل : هو ما أمروا به من قتل أنفسهم توبة , { وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا } خروجهم من ديارهم ، فالغربة تذل الأعناق ، أو ضرب الجزية عليهم ،     { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } أي : نجزي كل مفتر على الله بالغضب والذلة في الحياة الدنيا ، وبالعذاب في الآخرة  .

 

{ وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ } من الكفر والمعاصي ، { ثُمَّ تَابُواْ } رجعوا إلى الله ، { مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ } أخلصوا الإيمان ، { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } أي : السيئات ، أو التوبة ، { لَغَفُورٌ } لستور عليهم ، { رَّحِيمٌ } منعم عليهم بالجنة بعد ما وقع منهم من العبادة لغيره حين تابوا .

 

{ وَلَمَّا سَكَتَ } أي : سكن ، وقرئ به . { عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ } التي ألقاها ،  { وَفِي نُسْخَتِهَا } اختلفوا فيه ، قيل : المراد به الألواح ، لأنها نسخت من اللوح المحفوظ ، وقيل : إن موسى ألقى الألواح فتكسرت ، فنسخ نسخة أخرى . {  هُدًى } من الضلالة ، { وَرَحْمَةٌ } ورحمة من العذاب ، {  لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } أي : الخائفين من ربهم ؛ وقيل : أراد من ربهم يرهبون .

 

{ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ } أي : من قومه ، { سَبْعِينَ رَجُلاً } من أفضلهم ، { لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ   الرَّجْفَةُ } لأنهم قالوا : ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) . {  قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا } سؤال استغفار ، أي : لا تهلكنا ، { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } ابتلاؤك من الخير والشر قلّ أو كثر ، صغر أو كبر ، { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء } من اختار منهم الضلال تزيده إضلالا وإبعادا ، { وَتَهْدِي مَن تَشَاء } من علمت منه اختيار الهدى تزيده هدى وقربة ، { أَنتَ وَلِيُّنَا } متولِّي أمورنا ، { فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } فالمغفرة هي ستر الذنوب ، كما يقال : مغفرٌ على رأسه إنما هو ستر رأسه ، [و] تغطى بغطائه ، والمغفر[ة] ستر ، وغفران الذنوب سترها . 

 

{ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً } حياة طيبة توصلنا بها إلى دار الكرامة ، { وَفِي الآخِرَةِ } أي : اكتب لنا في هذه الدنيا وفي الآخرة حسنة ، { إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ } أي : تبنا . { قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء } من اختار الكفر ، { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } أي : من صفة رحمتي أنها واسعة تبلغ كل شيء ؛ ما من مسلم  ولا كافر إلا وعليه أثر رحمتي في الدنيا . { فَسَأَكْتُبُهَا } أي : هذه الرحمة أكتب ثوابها في الآخرة ، {  لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } .

 

{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً } نعمته { عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ } بخلع الأنداد ، ولإنصاف العباد [كذا] . { وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ } وهو ترك عبادة سوى الله . { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ } قيل : التكاليف الصعبة ، كقتل النفس في توبتهم ، وقيل : ذنبهم الذي عملوه فيضعه عنهم بغفرانه لهم ، { وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } هي الأحكام الشاقة التي كانت عليهم في دينهم ، { فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ } بالنبي الأمي ، { وَعَزَّرُوهُ } وعظموه ، أو منعوه من العدو ، حتى لا يقوى عليه ، { وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ } هو القرآن ، { أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } الفائزون بكل خير في الدنيا والآخرة ، والناجون من كل شر في الدنيا والآخرة .

 

{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ } قيل : بعث كل رسول إلى قومه خاصة ، وبعث محمد ÷ إلى كافة الأنس والجن ، { جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ } المعنى : من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقة ، وفي (( يحيي ويميت )) بيان لاختصاصه بالإلهية ، إذ لا يقدر على الإحياء والإماتة غيره ، ولا يستحق العبادة سواه ، { فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ } أي : الكتب المنزلة ، { وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ } أي : لكي ، { تَهْتَدُونَ } .

{ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ } أي : يأمرون بالحق ، { وَبِهِ يَعْدِلُونَ } وبالحق يعدلون ، أي : ينهون عن ضده وهو المنكر .

 

{ وَقَطَّعْنَاهُمُ } وصيرناهم فرقا ، { اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً } قيل : الأسباط القبائل ، واحدها سبط ، {أُمَماً } لأن كل سبط أمة عظيمة ، وكل واحدة كانت تؤم خلاف ما تؤمه الأخرى . { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ } أي : سألوه أن يستقيهم ، وكان ليس معه ماء ، { أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً } على قدر الأسباط لكل سبط عين ، وذلك ليريهم الله قدرته الباهرة ، إذا نبع لهم من حجر صمِّ ماء عذبا سائغا للشاربين بضربه عصا . { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ  الْغَمَامَ } جعلناه ظلسلا عليهم في التيه عن حر الشمس فيما قيل . { وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى } يذهب به عنهم كلب الجوع . { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } فما شكروا هذه النعم ، بدليل قوله : { وَمَا ظَلَمُونَا } وما رجع إلينا ضرر ظلمهم بكفرانهم النعم ، { وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ولكن كانوا يضرون أنفسهم ، ويرجع وبال ظلمهم عليهم .

 

{ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ } بيت المقدس ليعبدوا الله فيه وحده . { وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ } وعدا من الله لكل محسن ليزاد على قدر إحسانه .

 

{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً } خارجا عن الطاعة ، { غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } وهو قوله : حطة .         { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ } .

 

{ واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ } بتجاوزهم حد الله فيه ، وهو اصطيادهم ، وقد مضت قصتهم ، { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } بسبب فسقهم يسر الله عليهم العسرى ، وأغلق عليهم باب اليسرى .

 

{ وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ } جماعة من صلحاء القرية الذين أيسوا من وعظهم عظهم بعدما ركبوا الصعب والذلول في موعظتهم الآخرين ، لا يقلعون عن وعظهم ، {  لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ } باستئصالهم ، { أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } ما دون الهلاك ، { قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ } أي : موعظتنا إبلاء عذر الله ، لئلا ينسب في النهي عن المنكر إلى التفريط ، أي : وعظناهم للمعذرة . { وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } فيتركون ما هم عليه .

 

{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } (لعله) أي : أهل القرية لما تركوا ما ذكرهم به الصالحون . { أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ } وهم الموعظون عن العذاب الشديد ، { وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ } الذين تركوا ما وعظوا به ، { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } شديد ، { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } .

 

{ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } مبعدين . والعذاب البئيس قيل : هو المسخ ، قيل : صار الشباب قردة ، والشيوخ خنازير ، وكانوا يعرفون أقاربهم ويبكون ولا يتكلمون ؛ والجمهور على أنها ماتت بعد ثلاث ؛ وقيل : مسخت قلوبهم لا أبدانهم ، وجميع من عصى الله فهم مثل الأنعام والقردة بل أضل وأعقل .

 

{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ } أي ك علم ، { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ } أي : كتب على نفسه ليسلطن عليهم ، { إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ } من يوليهم ، { سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ } للكفار بالخذلان ، {  وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } للمؤمنين .

 

{ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ } ومنهم ناس دون ذلك الوصف ، منحطون عنه ، وهم الفسقة . { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ } بالنعم والنقم { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } يذكرون فيحملهم التذكر إلى الرجوع إلى الحق .

 

{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } الخلف بدل السوء ، بخلاف الخَلف وهو الصالح ، { وَرِثُواْ الْكِتَابَ } وقفوا على ما فيها ولم يعملوا بها ، { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأدْنَى } حطام الدنيا وما يتمتع به منها ، { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } لا يؤاخذنا الله بما أخذنا ، ويتمنون على الله الأباطيل . { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } كأنهم لا يتورعون عن عرض دنياوي تناله أيديهم ، وهذا إخبار على حرصهم على الدنيا وإصرارهم على الذنوب ، نقول : إذا أشرف لهم شيء من الدنيا أخذوه حلال كان أو حراما ، ويتمنون على الله المغفرة . { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ } أي : بأن لا يقولوا ، والمراد توبيخهم على القطع بالمغفرة مع عدم التوبة ، والدلالة على أنه افتراء على الله ، وخروج عن ميثاق الكتاب ، وليس في التوراة ميعاد المغفرة على الإصرار . { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ } من ذلك العرض الخسيس ، { لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أنه كذلك .

 

{ وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ } التمسك : الاعتصام والتعلق بالشيء ، { وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ } خص الصلاة مع أن التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة لأنها عماد الدين . { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ } .

 

{ وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ } أي : قلعناه ورفعناه ، كقوله : ( ورفعنا فوقكم الطور ) ، { كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ } هي كلُّ ما أظلك من سقيفة أو سحاب ، { وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } قيل : وذلك لأنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لغلطها وثقلها ، فرفع الله الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم ، وقيل لهم : إن قبلتموها على ما فيها وإلا ليقعنَّ عليكم ، فلما نظروا إلى الجبل خر كل رجل منهم ساجدا على حاجبيه . { خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ } بجد وعزيمة ، ولا تنسوه { وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ } من النواهي والأوامر ، { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق المؤدية إلى النار .

 

{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا } هذا من باب التمثيل ، ومعنى ذلك أنه نصب لهم من الأدلة على ربوبيته ووحدانيته ، وشهدت بها عقولهم التي ركبها فيهم ،وجعلها مميزة بين معرفة الرب والمربوب ، وكأنه في المعنى على هذا القول : اشهدهم على أنفسهم وقررهم ، وقال لهم : (( ألست بربكم )) ، فكأنهم قالوا : (( بلي ، أنت ربنا شهدنا على أنفسنا ، وأقررنا بوحدانيتك )) . { أَن تَقُولُواْ } أي : فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها العقول كراهة أن تقولوا {  يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } لم ننبه عليه . فإن قيل : كيف يلزم الحجة واحد لا يذكر الميثاق ؟ قيل : قد أوضح الله الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبر ، فإن أنكر كان اذى ناقضا للعهد ، ولزمته الحجة ، ونسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق صاحب المعجزة .  

 

{ أَوْ تَقُولُواْ } أو كراهة أن تقولوا ، { إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ } فاقتدينا بهم ، لأن نصب الأدلة على التوحيد وما نبهوا عليه قائم معهم ، فلا عذر لهم في الإعراض عنه والاقتداء بالآباء ، كما لا عذر لآبائهم في الشرك وأدلة التوحيد منصوبة لهم ، لأن التقليد عند قيام الدليل ، والتمكن من العلم به لا يصلح عذرا . { أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } أي : كانوا السبب في شركاء ، لتأسيسهم الشرك ، وتركهم سنة لنا ، وهو شبيه قوله : ( أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير ) .  

 

{ وَكَذَلِكَ } ومثل ذلك التفصيل البليغ ، { نُفَصِّلُ الآيَاتِ } تنبيها لهم ، { وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عن شركهم ، بفضلها ، إلى هذا ذهب المحققون من أهل التفسير ، وذهب جمهور المفسرين إلى أن الله تعالى أحرج ذرية آدم مثل الذر ، وأخذ عليهم الميثاق أنه ربهم بقوله : (( ألست بربكم ))؟ فأجابوه بـ (( بلى )) ، قالوا : وهي الفطرة التي فطر الله الناس عليها . وقال ابن عباس : أخرج الله من ظهر آدم ذرية ، وأراهم أباهم كهيئة الذر ، وأعطاهم من العقل ، وقال : هؤلاء ولدك ولدك ، آخذ عليهم الميثاق ؛ (لعله) أو خلقهم محتملين للتكليف .

 

{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا } أوتي علم بعض كتب الله ، { فَانسَلَخَ مِنْهَا } فخرج من الآيات بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره ، { فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ } فلحقه الشيطان ، وأدركه وأحاط به ، وصار قرينا له عند انسلاخه من الآيات ، وكذلك يتبع كل من تصامم عن حجة قامت عليه من حجج الله تبارك وتعالى . { فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } فصار من الضالين الكافرين .

 

{ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ } إلى منازل الأبرار من العلماء ، { بِهَا } أي : رفعنا منزلته ودرجته بتلك الآيات ، { وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ } سكن إلى الدنيا ورغب فيها ، { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } انقاد لما دعا إليه الهوى ، من إيثار الدنيا ولذاتها على الآخرة ونعيمها . { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ } أي : تزجره وتطرده ،   { يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ } غير مطرود ، { يَلْهَث } قيل : معناه هو ضال وعظ أو ترك ، ويخرج معناه أنه معذب بلهثه ، حمل عليه أو طرد وقيل : إن زجرته لم ينزجر ، وإن تركته لم يهتد ، قال الغزالي : سواء عليه أتيته بالحكمة أو لم تؤته فلا يدع شهوته ، قال القتيبي : كل شيء يلهث من إعياء إلا الكلب ، فإنه يلهث في حال الكلال أو حال الراحة . { ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } وذلك مثل لكل من كذي بشيء من آيات الله قامت عليه من كتاب أو سنة أو حجة عقل . { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ } أي : قصص القرآن لأمتك ، {  لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فيحذرون مثل عاقبته إذا ساروا نحو سيرته .

 

{ سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ } أي : بئس مثل القوم { الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } فكان هذا مثلا لكل من كذب بشيء من آيات الله ، وظلم نفسه يذلك .

 

{ مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ } تصريح بأن هداية الله تختص ببعض دون بعض ، وأنها مستلزمة للاهتداء ، والمعنى تنبيه على أن المهتدي واحد لاتحاد طريقهم ، بخلاف الظالمين ، وعلى أنه في نفسه كمال جسيم ، ونفع عظيم ، لو لم يحصل له غيره لكفاه ، وأنه المستلزم للفوز بالنعم الآجلة والعاجلة . { فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } .

 

{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا } أي : خلقنا {  لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ } هم الكفار من الفريقين ، والمعرضون عن تدبر آيات الله ، والله علم منهم اختيار الكفر ، فكان منهم ما كان ، وكان مسيرهم وسعيهم وعملهم إليها ، كلما مضى عليهم وقت من أعمارهم قربوا منها ، ولا ينافي بين هذا وبين قوله : ( وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون ) ثم وصف علاماتهم فقال :

 

{ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } الحق من الباطل ، إذ لا يلقونها إلى معرفة الحق والنظر في الأدلة ،         { وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا } طريق الجنة من طريق النار ، ولا ينظرون إلى ما خلق الله نظر اعتبار ، { وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا } الآيات والمواعظ ، سماع تأمل وتذكر ، ثم ضرب لهم مثلا في الجهل والاقتصار على الأكل والشرب والباءة فقال : { أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ } في عدم الفقه والإبصار للاعتبار ، وفي أن مساعدهم وقواهم متوجه إلى أسباب التعيش والتشهي ، مقصورة على ذلك ، { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } ما يمكن لها أن تدرك من المنافع وتجتهد في جذبها ودفعها غاية جهدها ، وهو ليسوا كذالك ، بل أكثرهم يعلم أنه معاند ليقدم على النار ، { أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } الكاملون في الغفلة . فالآدمي روحاني شهواني ، سماوي أرضي ، (لعله) فإن غلب روحه هواه فارق ملائكة السماوات ، وإن غلب هواه روحه فاقته بهائم الأرض .

{ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى } لأنها دالة على معاني هي أحسن المعاني ، والمراد بها الألفاظ ، وقيل : الصفات ، فمنها ما يستحقه بحقائقه كالقديم قبل كل شيء ، والباقي بعد كل شيء ، والقادر على كل شيء ، والعالم بكل شيء ، والواحد الذي ليس كمثله شيء ، ومنها ما تستحسنه الأنفس لآثارها ، كالغفور الرحيم ، والشكور والحليم ، ومنها ما يوجب النحلوبه ، كالفضل والعفو ، ومنها ما يوجب مراقبة الأحوال ، كالسميع والبصير والمقتدر ، ومنه ما يوجب الإحلال كالتعظيم والتكبير ؛ ومنها ما يوجب الهيبة كالقهار ونحوه . { فَادْعُوهُ بِهَا } فسموه بتلك الأسماء ، ونزهوه عما لا يليق به ، والمعنى : فكل اسم من أسماء الله تبارك وتعالى يوجب إحلالا فيعظم به ، وكل اسم منها يوجب تنزيها فينزه به ، وكل اسم منها يوجب هيبة فيهاب منه ، وكل اسم منها يوجب رحمة فيرحى به ، وكل اسم منه يوجب معنى من المعاني فيعبد (لعله) بدلالة ذلك الاسم (لعله) الدال على ذلك المعنى . {  وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ } واتركوا تسمية الذين يميلون عن الحق والصواب فيها فيسمونه بغير الأسماء الحسنى ، بما لا يجوز عليه ، والإلحاد ، والعدول عن القصد . { سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .

 

{ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا } للجنة ، لأنه في مقابلة : ( ولقد ذرأنا لجنهم ) . { أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } ذكر ذلك بعدما بين أنه خلق للنار طائفة ضالين ملحدين عن الحق للدلالة على أنه خلق أيضا للجنة أمة هادين بالحق ، عادلين في الأمر ، واستدل به على صحة الإجماع ، لأن المراد منه أن في كل قرن طائفة بهذه الصفات : (( لا تزال أمتي قائمة بأمر الله ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ، حتى يأتي أمر الله ، وهم على ذلك )) .

 

{ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم } سنستدرجهم قليلا قليلا من الطاعة إلى المعاصي على غير علم منهم بذلك ، بقوله : { مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } ما يراد بهم ، وذلك أن يزين له سوء عمله فيراه حسنا ؛ واستدرجه : خدعه وأدناه ، كدرجة وأقلقه حتى تركه يدرج على الأرض . قال أهل المعاني : الاستدراج أن يتدرج إلى الشيء في خفية قليلا قليلا ، فلا يباغت ولا يجاهر ومنه .....

 

{ وَأُمْلِي لَهُمْ } أردف لهم النعم وأمهلهم ، { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } أخذي شديد ، سماه كيدا لأنه شبيه بالكيد من حيث إنه في الظاهر إحسان ، وفي الحقيقة خذلان . ولما نسبوا النبي ÷ إلى الجنون فنزل :

 

{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم } بمحمد ÷ { مِّن جِنَّةٍ } من جنون ، { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } منذر من الله ، موضح إنذاره ، ثم حثهم على النظر المؤدي إلى العلم فقال :

 

{ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } نظر استدلال { فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } الملكوت : الملك العظيم ؛ وقيل : الملكوت هو كل ما غاب عن العوام وما لم يدرك إلا بنور البصيرة فهو من الملكوت ؛ ومعاني جملة القرآن من الملكوت ، { وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ } وفيما خلق الله مما يقع عليه اسم السيء من أجناس لا يحصرها العدد (لعله) لما خلق له ليدلهم على كمال قدرة صانعها ، وتوحيد مبدعها ، وعظم شأن مالكها ومتولي أمرها ، ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه . { وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ } ولعلهم يموتون عما قريب فيسارعون إلى النظر وطلب الحق وما ينجيهم قبل مفاجأة الأجل وحلول العقاب . { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ } أي : بعد القرآن ، { يُؤْمِنُونَ } بأي كتاب غير ما جاء به محمد ÷ يؤمنون إذا لم يؤمنون به ، كأنه قيل : لعل أجلهم قد اقترب ، فما لهم لا يبادرون [إلى] الإيمان بالقرآن قبل الفوت ، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق ، وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنون ، ولكن الحاصل من معناهم :

 

{ مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ } لعدم هداية الله إياهم ، { وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } يتحيرون .

 

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ ْ} وهي من الأسماء الغالية ، كالنجم للثريا ، وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة ، أو لسرعة حسابها ، أو ، أو لأنها عند الله طولها كساعة من الساعات عند الخلق ، أو لأنها تأتي في ساعة من الساعات . { أَيَّانَ } بمعنى : متى ، { مُرْسَاهَا } إرسائها ، أي : إثابتها ، والمعنى : متى يرسيها الله ؟ {  قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } أي : علم وقت إرسائها عنده قد استأثر به ، لم يخبر به أحدا ، من ملك مقرب ولا نبي مرسل ن ليكون ذلك أدعى للطاعة ، وأزجر عن المعصية ، كما أخفي الأجل الخاص للمخلوق ، وهو وقت الموت . { لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } لا يظهر أمرها ، ولا يكشف خفاء علمها إلا هو وحده ، { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : كل من أهلها من الملائكة والثقلين أهمه شأن الساعة خوفا من عذاب الله ، ويتمنى أن يتجلى له عملها ، وشق عليه خفاؤها ، وثقل عليه ، أو ثقلت هي ، لأن أهلها يخافون شدائدها وأهوالها . { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } فجأة على غفلة ، كما قال ÷ : (( إن الساعة تهيج بالناس ، والرجل يصلح حوضه ، والرجل يسقي ماشيته ، والرجل يقوم سلعته في سوقه ، والرجل يرفع ميزانه ويخفضه . { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } كأنك عالم بها ، وحقيقته كأنك بليغ في السؤال عنها ، لأن من بالغ في المسألة عن الشيء والتنقير عنه استحكم علمه منها . { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } إنه المختص بالعلم  بها .

 

{ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ } إظهار للعبودية ، وبراءة عما يختص بالربوبية من علم الغيب ، أي : أنا عبد ضعيف ، لا املك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضر كما كان للمماليك ، إلا ما شاء مالكي من النفع لي والدفع عني ؛ { َلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } أي : لكانت حالي على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير واجتناب السوء ، حتى لا يمسي منها شيء ؛ وقيل : الغيب : الأجل ، والخير : العمل ، والسوء : الوجل ؛ ويحتمل الغيب في الأمور الاختيارية [كذا] المبهمة عليه ، فيما يخص من أمر دينه ودنياه ، { إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } إن أنا إلا عبد أرسلت بشيرا ونذيرا ، وما أنا من شأني أن أعلم الغيب ، {  لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (لعله) بالغيب .

 

{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } ليطمئن إليها ويميل ، { فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً } وهي النطفة ، { فَمَرَّتْ بِهِ } فاستمرت به ، وقامت وقعدت ، { فَلَمَّا أَثْقَلَت } حان وقت ثقل حملها ، { دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً } لئن وهبت لنا ولدا سويا قد صلح بدنه ، أو ولدا ذكرا ، لأن الذكورة من الصلاح ، أو ولدا (لعله) نبيا . { لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } أي لنطيعك به .

 

{ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً } ما طلبا ، وهو ولد مطيع ، { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا } (لعله) لم يجعله الله تبارك وتعالى خالصا ، والمعنى : لم يطع الله سبحانه به ، { فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ 0 أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } يعنى الأصنام والرؤساء والسلاطين والقدماء [كذا] . { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } فيدفعون عنها ما يعتريها .

 

{ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ 0 إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ } لجلب نفع ، أو دفع ضر ، { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أنهم مستحقوا العبادة من دون الله .

 

{ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا } الحق ، { أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ } واستعينوا بهم في عداوتي ، { ثُمَّ كِيدُونِ } جميعا ، فبالغوا فيما تقدرون عليه أنتم وشركاؤكم ، { فَلاَ تُنظِرُونِ } فلا تمهلوني فإني لا أبالي بكم .

 

{ إِنَّ وَلِيِّـيَ } وناصر عليكم { اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ْ} لا غير ، لأن من سنته أن ينصر الصالحين من عباده ولا يخذلهم .

 

{ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ } لا يدفعون عنكم شيئا ، { وَلا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } ولا يدفعون عنها شيئا يضرها ، { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ  يُبْصِرُونَ } وجوه الصلاح .

 

{ خُذِ الْعَفْوَ } اهو [كذا] ما عفا لك من أخلاق الناس وأفعالهم ، والدنيا وما فيها ، ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى لا ينفروا ، كقوله عليه السلام : (( يسروا ولا تعسروا )) . { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } هو كل خصلة يرتضيها العقل ، ويقبلها الشرع ، { وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } ولا تكافئ الاسفهاء بمثل سفههم ، ولا تمارهم ، واحلم عنهم ، أو لا تعمل كعملهم ، وفسرها جبريل عليه السلام بقوله : (( صل من قطعك ، وأعظ من حرمك ، واعف عمن ظلمك ، ولا تخن من خانك )) . وعن الصادق : (( أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق )) ، وليس في القرآن آبة مفسرة أجمع لمكارم الأخلاق منها ، وما سواه ينافي الحكمة ، لأن من أراد الإنصاف من الناس في معاملتهم طلب ما لا يدرك وتعب ، ويوجد عن أبي سعيد فيما أرجوا في تأويل هذه الآية قال : فتأول ذلك المسلمون بالرواية عن النبي ÷ أنه قال : (( صل من قطعك ، وأعط من منعك ، ، وأنصف من ظلمك ، واعف عمن شمتك )) ، وهذا كله من الحق ، وبالحق وللحق . وقد قال من قال من المسلمين : من عصى الله فينا ، أطنا الله فيه ، فلا يكون إلا هذا ، والله الموفق للصواب .

 

{ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ } وما ينخسنك منه نخس ، بأن يحملك بوسوسته على خلاف ما أمرت به ، وهو أن تغضب لغير الله ، ولا يخرجك غضبك من الحق ، { فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ } ولا تطعه ، والنزع : النخس ، كأنه ينخس الناس حتى يغريهم على المعاصي ، { إِنَّهُ سَمِيعٌ } لنزعه ، { عَلِيمٌ } بدفعــه .

 

{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ } هي الوسوسة ، وهذا تأكيد لما تقدم من وجوب الاستعاذة بالله عند نزغ الشيطان ، وإن عادة المتقين إذا أصابهم أدنى نزغ من الشيطان ، وإلمام بوسوسته ، { تَذَكَّرُواْ } أي : رجعوا إلى نور العلم ، فامتثلوا أمر الله به ، وانتهوا عما نهى الله عنه فيما دعاهم إليه . { فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } أي : انكشف لهم الإشكال فأبصروا الحق فاتبعوه ، ودفعوا وسوسته ، وحقيقة ذلك أن يفروا منه إلى الله ، فيزدادوا بصيرة من الله وبالله .

 

{ وَإِخْوَانُهُمْ } وأما إخوان الشياطين من شياطين الإنس فإن الشياطين من الجن { يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ } يكونون مددا لهم فيه ، ويعضدونهم ، يمدونهم : من الإمداد مدبي [كذا] ، وقيل : لكل كافر أخ شيطاني . { ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } ثم لا يمسكون من إغوائهم ، حتى يصروا ولا يرجعوا . وجاز أن يراد : بالإحوان : الشياطين ، ويرجع الضمير المتعلق به إلى (( الجاهلين )) ، والأول أوجه ، لأن (( إخوانهم )) في مقابلة : (( الذين اتقوا )) ، وإنما جمع الضمير في (( إخوانهم )) والشيطان ، لأن المراد به الجنس .

 

{ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ } مقترحة ، { قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا } هلا اخترتها ، أي : اختلقتها كما اختلقت ما قبلها . { قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي } ولست بمقترح لها . { هَـذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ } هذا القرآن بصائر القلوب ، بها تبصر الحق ، وتدرك الصواب ، { وَهُدًى } يهدي إلى الحق ، { وَرَحْمَةٌ } ينال الرحمة من اتبعه ، { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } به .

 

{ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ظاهره وجوب الاستماع والإنصات وقت قراءة القرآن في الصلاة وغيرها وقيل : معناه إذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له ، والجمهور على أن في استماع  المؤتم. وإذا كان الاستماع واجبا على المؤتم فما ظنك في الإمام أو المصلي وحده إذا قرأ وهو ساهي القلب !.    

 

{ وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ } قيل : عام في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك ، { تَضَرُّعاً وَخِيفَةً } متضرعا وخائفا . { وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ } ومتكلما كلاما دون الجهر ، لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص ، وأقرب إلى حسن التفكر ، { بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } لفضل هذين الوقتين ، وقيل : المراد : إدامة الذكر باستقامة الفكر ، ومعنى (( بالغدو )) بأوقات الغدو ، وهي الغداة ، والآصال جمع أصيل ، وهو العشي ، ويمكن أن يريد بذلك الصلاة ، لأن الذكر صلاة . { وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ } من الذين يغفلون عن ذكر الله ، ويلهون عنه ، فتصير مصيدا للشيطان ، لأن الشيطان يخنس عند الذكر .

 

{ إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ } مكانة ومنزلة لا مكانا منزلا ، يعني الملائكة ، ومن اقتدى بهم من الأنس ، { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } لا يتعظمون ، ولا يستنكفون ، { وَيُسَبِّحُونَهُ } وينزهونه عما لا يليق به ،       { وَلَهُ يَسْجُدُونَ } يخصونه بالعبادة ولا يشركون به غيره ، وهو تعريض للاقتداء بهم حسب الطاقة ، لا في وقت دون وقت ، ولا في حال دون حال . وذلك من مباهاة الله بالملائكة عباده المؤمنين .