بسم الله الرحمن الرحيم     

 { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } فرعكم من أصل واحد ، { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ } ونشر { مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء } وذلك مما يدل على القدرة العظيمة ، ومن قدر على نحوه كان قادرا على كلِّ شيء ؛ ومن المقدورات عقاب الكفَّار ، فالنظر فيه يؤدي إلى أن نتقي عليه ، ونخشى عقابه ، ولأنه يدل على النعمة السابغة عليهم ، فحقُّهم أن يتقوه في كفرانها . { وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ } واتقوا الأرحام أن تقطعوها ؛ والمعنى : أنهم كانوا يقُّرون أن لهم خالقا ، وكانوا يتساءلون بذكر الله والرحم ، فقيل : لهم اتقوا ربكم الذي خلقكم ، واتقوا الذي تتناشدون به ، واتقوا الأرحام فلا تقطعوها ، واتقوا الله الذي تتعاطفون باذكاره وادِّكار الرحم ؛ وفي هذا أن صلة الرحم من الله بمكان . {  إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } .

 

{ وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ } بعد بلوغهم واستئناس رشدهم ، {  وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ } ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم ، {  وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } أي : مضافة إلى أموالكم . والمعنى : ولا تضُّموها إليها في الإنفاق حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم ، قلة مبالاة [و] تسوية بينه وبين الحلال . قال أبو سعيد : ( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) ، يعني مع أموالكم ، { إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } ذنبا عظيما .

 

{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ } أي : لا تعدلوا ، أقسط : أي اعدِلْ ، {  فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء } انكحوا مقدار يمكنكم الوفاء بحقه ، لأنه لا يطيب ما لا يقام بحقه ، { مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ } بين هذه الأعداد ، {  فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } إن خفتم ألاَّ تقوموا بحقِّ الواحدة ، {  ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ } أي : أقرب من لا تميلوا ولا تجوروا ، وقيل : أن لا تكثر عيالكم ، لأن من كثر عياله لزمه عولهم ؛ وفي ذلك ما تصعب عليه المحافظة على حدود الورع ، وكسب الحلال ، وقيل : لعلَّ المراد بالعيال الأزواج ، وإن أريد الأولاد فلأنَّ التسريِّ مظنة قلة الولد ، بالإضافة إلى التزوج لجواز العزل فيه ، كتزوج واحدة بالإضافة إلى تزوج الأربع !! هذا عن البيضاوي .

 

{ وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } أي : أعطوهن مهورهن عن طيبة أنفسكم ، {  فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً } فإن وهبن لكم شيئا من الصداق ، طيبِّات نفوسهنَّ به ، غير مضطرات إلى الهبة من سوء أخلاقكم ومعاشرتكم ، أو لا مخدوعات ، وفي ذلك دليل على ضيق المسلك في ذلك ، ووجوب الاحتياط حيث بُني الشرط على طيب نفس ، فقيل : ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا ) ولم يقل : << فإن وهبن >> . إعلاما بأن المراعى هو تجافي نفسها . { فَكُلُوهُ هَنِيئاً } لا إثم فيه ، { مَّرِيئاً } لإذاقته ؛ أو هنيئا في الدنيا بلا مطالبة ، مريئا في العقبى بلا تبعة ، وهما صفتان ، من هنؤ الطعام ومرئه : إذا كان سائغا لا تنغيص فيه ، وهذه عبارة عن المبالغة في الإباحة وإزالة التبعة .

{ وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ } فقد قيل ذلك في النساء والصبيان ، لا يملكون ما يكون به العون على الطاعة من الأموال ، فيبذرونها ويتلفونها ؛ فيكون ذلك ضياعا في المال . وسماهم سفهاء استخفافا لعقلهم ، واستهجانا لجهلهم . {  الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً } أي : قواما لأبدانكم ومعاشا لأهلكم وأولادكم وأنموذجا لدينكم ، وقيل : المال سلاح المؤمن . وفي المعنى : يخرج ذلك في الوارث إذا لم يؤدِّ لوازمه من ماله وخلف لوارثه ، لأنه إذا منع إتيانه في حياته فأولى بالمنع بعد موته ؛ { وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا } أي : أطعموهم واكسوهم لمن يجب عليكم رزقه ومؤنته ، أو المعنى : الصدقة لمن لا تجب له . { وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } عذرا عن تسليم ما يطلبون ، وكلُّ ما سكنت إليه النفس لحسنه عقلا أو شرعا من قول أو عمل فهو معروف ؛ وما أنكرته لقبحه فهو منكر .

 

{ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى } اختبروا عقولهم ، وذوقوا [كذا] أحوالهم ومعرفتهم بالتصرُّف ، {  حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ } أي : الحلم لأنه يصلح للنكاح عنده ولطلب ما هو مقصود به وهو التوالد . { فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ } تبينَّتم ، { رُشْداً } هداية في التصرفات ، وصلاحا في المعاملات ؛ { فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } من غير تأخير وتبكير ، الرشد يُبيِّنُ أن المراد رشد مخصو[ص] ، وهو الرشد في (العلة) التصرفات والتجارة ، وقيل : الرشد في الدين . أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ واستئناس الرشد { وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } ولا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم ، { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } بأنهم قبضوها فإنه أنفى للتهمة ، وأبعد من الخصومة ووجوب الضمان ، { وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً } محاسبا ومجازيا وشاهدا .

 

{ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } هم المتوارثون من ذوي القربات دون غيرهم . {  مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ } كان قليلا ما تركوا أو كثيرا ، { نَصِيباً مَّفْرُوضاً } مقطوعا .

 

{ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ } أي : قسمة التركة ، { أُوْلُواْ الْقُرْبَى } ممن لا يرث ، { وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ } من الأجانب ، { فَارْزُقُوهُم } فأعطوهم { مِّنْهُ } مما ترك الوالدان والأقربون ، قيل : هو ندب لم ينسخ ، وقيل : كان واجبا ثم نسخ بآية الميراث . وفي الجامع في تأويل قوله تعالى :     ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ ) يقول للورثة أعطوهم منه ، ثم يقسم وليس شيء مؤقت نسختها آية الميراث ، { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } عذرا جميلا وعدة حسنة .

 

{ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } قيل : المراد بهم الأوصياء أمروا بأن يخشوا الله ، فيخافوا على من في حجورهم من اليتامى ، فيشفقوا عليهم خوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافا ، وأن يقدروا ذلك في أنفسهم ويصوِّروه حتى لا يجسروا على خلاف الشفقة والرحمة ، لأنه << كما تدين تدان >> ، والقول السديد قول : لا إله إلاَّ الله وأن محمدا رسول الله وما جاء به فهو الحقُّ وهو صفة تقوى الله .

 

{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } أي : يأكلون ما يجُّر إلى النار فكأنه نار ، روي أنه : << يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة والدخان يخرج من قبره ومن فيه وأذنيه ، فيعرف الناس أنه كان يأكل مال اليتيم في الدنيا >> . { وَسَيَصْلَوْنَ ً } أي : سيدخلون . يقولون : صلى النار : قاسي حرَّها ، وصليته : شويته فصليته : ألقيته فيها ، { سَعِيرا } نار من النيران .

 

{ يُوصِيكُمُ اللّهُ } يعهد إليكم ويأمركم ويفرض عليكم لأن الوصية ... أمرٌ وفرضٌ ، { فِي أَوْلاَدِكُمْ } في شأن ميراثهم ، وقيل : في ميراثهم وعطيتكم لهم في الدنيا . { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } المعنى : فرض الله الفرائض على ما هو عنده حكمة ، ولو وكلَّ ذلك إليكم لم تعلموا أيهم لكم أنفع ؛ فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة ؛ والتفاوت في السهام بتفاوت المنافع ، وأنتم لا تدرون تفاوتها فتولى الله ذلك فضلا منه ، ولم يكلها إلى اجتهاد لعجزكم عن معرفة المقادير ، { فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما } بالأشياء قبل خلقها ، { حَكِيماً } في كلِّ ما فرض وقسم من المواريث وغيرها .

 

{ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ } يعني : الميت وهو اسم " كان " ، أي : كان رجل موروث منه كلالة ، أو { يُورَثُ } خبر كان ، و { كَلاَلَةً } حال من الضمير في    " يورث " ، والكلالة : تنطلق على من لم يخلّف ولدا ولا والدا ، وعلى من ليس بولد ولا ولد من المخلّفين ، وهو في الأصل مصدر بمعنى الكلالة : وهو ذهاب القوة ؛ { أَو امْرَأَةٌ } على رجل ، { وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ } لورثته بوصيته ، { وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ } لعباده { وَاللّهُ عَلِيمٌ } بمن جار أو عدل في وصيته ، { حَلِيمٌ } لا يعاجل بالعقوبة .

 

{ تِلْكَ } إشارة إلى الأحكام التي ذكرت في باب اليتامى والوصايا والمواريث . { حُدُودُ اللّهِ } سمّاها حدوداً لأنَّ الشرائع الحدود المضروبة للمكلّفين ، لا يجوز لهم أن يتجاوزوها ، { وَمَن يُطِعِ اللّهَ } في ما حدَّ وفرض ؛ { وَرَسُولَهُ } فيما سنَّ ، { يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 0 وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } لهوانه عند الله .

 

{ وَاللاَّتِي } جمع التي ، { يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ } بالزنا لزيادتها في القبح على كثير من القبائح { مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ } فاحسبوهن ، { حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } قيل : السبيل الحدُّ في حقِّ البكر بالجلد والتغرُّب ، وفي الثِّيب بالرَّجـم .

 

{ وَاللَّذَانَ } يريد الزاني والزانية ، { يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ } أي : الفاحشة ، { فَآذُوهُمَا } بالتوبيخ والتعيير ، وقولوا لهما : أما استحييتما من الله ؟! أما خفتما من الله ؟! ، وهو تخوُّفهما الله وعقوبتهما ، عسى أن يتوبا فيكون داعيا إلى الله وإلى دينه . { فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا } ما فسدا وهدما من منار الإسلام ،    { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا } فاقطعوا التوبيخ والمذَّمة ، لأنهما صارا في حال ما يستحقا به المدح . { إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً } يقبل توبة التائب ويرحمه ؛ فاقبلوا توبته وترحموا عليه .

 

{ إِنَّمَا التَّوْبَةُ } هي من " تاب الله عليه " إذا قيل توبته ، أي : إنما قبولها { عَلَى اللّهِ } وليس المراد به للوجوب ، إذ لا يجب على الله شيء ، ولكنه تأكيد للوعد ، يعني أن لا محالة كالواجب الذي لا يترك . { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ }  الذنب ، لأنه تسوء عاقبة فاعله ومرتكبه ، { بِجَهَالَةٍ }  أي : يعملون السوء جاهلين سفهاء ، لأن ارتكاب القبيح يدعوا إلى السفه ، وقيل : من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته ، وقيل : جهالته اختياره اللذة الفانية على اللذة الباقية ، وقيل : لم يجهل أنه ذنب ولكن جهل كنه عقوبته . { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } وهو قبل معاينة أحوال الموت ؛   { فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ } وعد وإعلامهم بأن الغفران كائن لا محالة ، مهما كانت التوبة في ذلك الوقت لأنها تكون باختيار العبد لا اضطرار ، حتى يعاين أحوال الهلاك ، فإذا تاب في ذلك الحين فإنها تكون اضطراراً . { وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً } بعزمهم على التوبة ، { حَكِيماً } حَكَمَ بأن يكون الندم تـوبــة .   

 

 ِ{ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ } أي : ولا توبة للذين يذنبون ويسوِّفون توبتهم إلى أن يزول حال التكليف ، بحضور أسباب الموت لأنها توبة اضطرار ، ولا تصح التوبة إلاَّ لمختار لأنها عمل ، { وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } قيل : هم المشركون والمنافقون . { أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } هيأنا ، من العتيد وهو الحاضر .

 

{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } وهو أن يعاضلها بسوء العشرة لتفتدي منه . قيل كان الرجل إذا تزوِّج امرأة ولم تكن من حاجته ، حبسها مع سوء العشرة ليرثها ن أو لتفتدي منه بمالها وتختلع ، كما يفعله بعض الجهلة في بعض أزواجهم ليرثها . وقيل : كان وراث الرجل يرث زوجته أيضاً وإن كرهت ، فأنزل الله : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً ) . { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ } إلاَّ أن تكون سوء العشرة من جهتهن فقد عُذر في قبول الفدية . { مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وهو الإنصاف في المبيت والنفقة والإجمال في القول ورفع الأذى ، { فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ } من قبل اختلاف القلوب والأحوال ؛ { فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ } ذلك الشيء أو في الكره ، { خَيْراً كَثِيراً } قيل المعنى : فإن كرهتموهن فلا تفارقهن لكراهة الأنفس وحدها ، وليكن نظركم إلى ما هو أصلح للدِّين وأدنى إلى الخير ، والمعنى : فإن كرهتموهن فاصبروا عليهنَّ وإن كان أسلم للدِّين وعسى فيه الخير لقوله : ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ) وليكن السعي للنظر في أسباب الصلاح .

 

{ وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ } إن أوجب النظر ذلك وكان أصلح لأسباب الدين ، { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً } مالا ؛ { فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } بيِّنا .

 

{ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ } أي : خلا بلا حائل ، { وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } وهو الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان ، والله أخذ هذا الميثاق على عباده لأجله فهو كأخذِهنَّ ، أو قول النبي u : << استوصوا بالنساء خيرا ؛ فإنهن عوان في أيديكم ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله >> .

 

{ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً } قيل : بغضا ، { وَسَاء سَبِيلاً } وبئس الطريق طريقا .  

 

{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } قيل : إنَّ أهل الجاهلية كانوا يعرفون هذه المحرمات إلاَّ نكاح امرأة الأب ، والجمع بين الأختين ، ولذا قال فيهما : ( إلاَّ ما قد سلف ) .

 

{ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء } قيل : المتزوجات ، لأنهن حصنَّ فروجهنَّ بالتزوج ، كأنهن جعلن عليها حصنا لئلا يستباح سلطان الشهوة . {  إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } أي : كتب الله ذلك كتابا عليكم وفرضه فرضه . { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } سوى ما حرَّم { أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ } متعفيفين { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } لشلا تضيعوا أموالكم ، وتفقروا أنفسكم في ما لا يحلُّ لكم ؛ فتخسروا دنياكم ودينكم ، والإفساد أعظم من الجمع بين الخسرانين ، والإحصان : العفة وتحصين النفس من الحرام ؛ والمسافح : الزاني ، من السفح وهو صب المنيِّ . { فَمَا اسْتَمْتَعْتُم } ما أنفقتم وتلذَّذتم بالجماع من النساء بالنكاح الصحيح ، { بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } أي : فرض ذلك فريضة ، { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } فيما تحط عنه من المهر ، أو تهب له . {  إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً } بالأشياء قبل خلقها ، { حَكِيماً } فيما فرض من عقد النكاح الذي به حفظت الأنساب .

{ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } فضلا ، يقال لفلان : عليَّ طول أي : عليَّ فضل ، { أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } الحرائر المسلمات ، { فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } أي : فينكح مملوكة من الإماء المسلمات ، { وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ } فيه تنبيه على قبول ظاهر إيمانهنَّ . { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } أي : لا تستنكفوا من نكاح الإيماء ، فكلكم بنوا آدم ، وهو تحذير عن التعبير بالأنساب والتفاخر بالأحساب .

 

{ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } مواليهنَّ ، { وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وأدوا إليهنَّ مهورهن بغير مطل وضرار ، { مُحْصَنَاتٍ } عفائف ، { غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } زوانٍ علانية ، { وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } زوان سرَّا ، والأخدان : الأخلاء في السرِّ . { فَإِذَا أُحْصِنَّ } بالتزويج ، { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ } زنا ،     { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ } أي : الحرائر ، { مِنَ الْعَذَابِ } من الحدَّ ، { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ } لمن خاف الإثم الذي يؤدي إليه غلبة الشهوة ؛ وأصل العنت : انكسار العظم بعد الجبر ، واستعير لكُلِّ مشقة وضرر ، ولا ضرر أعظم من مواقعة الإثم ؛ وعن ابن عباس : << هو الزنا لأنه سبب الهلاك >> . { وَأَن تَصْبِرُواْ } أي : وصبركم على نكاح الإماء ، {  خَيْرٌ لَّكُمْ } لأن فيه إرفاق الولد ، وفي الحديث : << الحرائر صلاح البيت ، والإماء هلاك البيت >> ، { وَاللّهُ غَفُورٌ } يستر المحفوظ ، { رَّحِيمٌ } يكشف المحذور .

 

{ يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } ما هو خفيَّ عليكم من مصالحكم ، وأفاضل أعمالكم ، وما يقرِّكم إليه ،           { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } وأن يهديكم مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين ، والطرق التي سلوكها في دينهم ، ليقتدوا بهم ، { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } ويوفقكم للتوبة عما كنتم عليه من الخلاف ،     { وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } فيما شرع لهم .

 

{ وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } إدارة علم وأمر ، لأن الله فرض على جميع المذنبين أن يتوبوا إليه ، خلاف المتتبعين للشهوات ، كما قال : { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ } يعمُّ جميع أهل الباطل ؛ { أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } يعني : الفجرة ، فإن اتباع الشهوات الائتمار لها ، وأما المتعاطي لما سوغه الشرع منها دون غيره فهو متبع له في الحقيقة لا لها ، والميل : هو الميل عن القصد للحقِّ ، ولا ميل أعظم منه ، بمساعدتهم وموافقتهم على اتباع الشهوات .

 

{ يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ } أي : يسهَّل عليكم في أحكام الشرع مؤنة سهلة بإحلال نكاح الأمة وغيره والرخص . { وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً } لا يصبر عن الجماع ، يُحتمل هذا الوصف لجنس الكافر كما قال : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ) لأن من أيده الله ببصرة لا يكون ضعيفا ، لأن من خفف الله عليه لا يجوز إلاَّ أن يكون قوياًّ ، لما يسرَّه الله له وخففه عليه ، ولكن جميع الشهوات مؤتيها حقيقة في حقِّ المطيع وجميع العصاة ضعفاءُ عن المخالفة للشهوات ، لقوله : ( ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيما ) . لا يصبر عن الجماع .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } بما لم تُتحه الشريعة ، { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ } إلاَّ ما صحَّ به [عن] طيبة النفس ؛ والتراضي : رضى المتبايعين . { وَلاَ تَقْتُلُواْ     أَنفُسَكُمْ } من كان من جنسكم من المؤمنين ، لأن المؤمنين كنفس واحدة ، أو لا يقتل الرجل نفسه كما يفعله بعض الجهلة ؛ أو لا تتبعوا هواها فتقتلوها ؛ أو لا ترتكبوا ما يوجب القتل ، وكل ذلك يخرج بالحق وللحق وفي الحق . { إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } ولرحمته بكم نبَّهكم على ما فيه صيانة أموالكم وبقاء أبدانكم لعبادتــه .

 

{ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً } قال أبو سعيد : << فموافقة الظلم والعدوان لما يخرج على غير وجه الرضى وتعارف المتعارفين في ذلك من أفعالهم في أموال بعضهم البعض ، هو من وجه العدوان والظلم ؛ وما كان من العدوان والظلم فقد ثبت فيه مجملاً الوعيد واللعن من الله >>  ، فذلك ذهب – حسب من ذهب – إلى أنه كثير ، ولم ينزله منزلة الصغير ، لأنه فقد ثبت فيه الوعيد واللعن ، وصار لا يُحمل (لعله) على غيره .

 

{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً } حسن التوفيق ، ومثله : ( وقل رب أدخلني مدُخل صدقٍ ) .

 

{ وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } بما خص به بعضكم دون بعض ، لأنَّ ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير ، وعلم بأحوال العباد ، وما ينبغي لكلِّ من بُسط في الرزق أو قبض أن يرضى بما قسم له ، ويسعى لما خلق له ، ولا يحسد غيره على ما خصَّ به ، فالحسد : أن يتمنىَّ أن يكون ذلك الشيء له ويزول عن صاحبه ؛ والغبطة : أن يتمنى مثل ما لغيره ، وهو مرخصَّ فيه في حال ما يمكن ، وأما فيما لا يمكن مثل أن يتمنىَّ الرجال ما للنساء ، أو النساء ما للرجال ، فذلك ما لا يجوز ؛ ولعلَّ النهيَّ متوجِّه في ذلك ، وذلك مما يروي أن أم سلمة وغيرها قالت : << يا ليتنا كنا رجالا ، فجاهدنا وغزونا وكان لنا مثل أجر الرجال >> .

 

{ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } معناه : أن الرجال والنساء في الأجر في الآخرة سواء ، وذلك أن الحسنة تكون على النساء أمثالها ، يستوي فيها الرجال والنساء ، وإن فضل الرجال في الدنيا على النساء في حال ؛ وقيل : معنى ( للرجال نصيب مما اكتسبوا ) من أمر الجهاد ، ( وللنساء نصيب مما اكتسبن ) من طاعة الأزواج ، وحفظ الزينة ، وعلى مشقة الولادة ورضاع الولد وتربيته . { وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ } قيل : من رزقه ، وقيل : من عبادته ، وهو سؤال التوفيق للعبادة ، ولا تتمنوا ما للناس من الفضل . { إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } فالتفضيل عن علم بمواضع الاستحقاق .

 

{ وَلِكُلٍّ } أحدٍ ، أو لكلِّ مال ، { جَعَلْنَا مَوَالِيَ } وارثا يلونه ، { مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } أي : من مال تركه الوالدان والأقربون . { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } عاقدتهم ، والمعاقدة : المخالفة ، وذلك قيل : إن الرجل كان في الجاهلية يعاقد الرجل ، فيقول : دمي دمك ، وحزبي حزبك وسلمى سلمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك ، وتعقل عني وأعقل عنك لقوله تعالى : { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أي : أعطوهم حظهم من الميراث ؛ ثم نسخ ذلك ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) . { إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدا }  أي : هو علم الغيب والشهادة ، وهو أبلغ وعدٍ ووعيد .

 

{ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء } يقومون عليهنَّ بالأمر والنهي والإصلاح ، كما يقوم الولاة على الرعايا . { بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } بالعقل والعزم والحزم والنبوَّة والخلافة والإمامة وغير ذلك ، مما خصُّوا به دونهنَّ ، { وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ } مطيعات قائمات بما عليهن للأزواج ، { حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ } بحواجب الغيب ، وهو خلاف الشهادة ؛ أي : كان الأزواج غير شاهدين لهنَّ ، حفظن ما يجب عليهنَّ حفظه في حال الغيبة ، من الفروج والبيوت والأموال ، وقيل : للغيب : للأسرار . { بِمَا حَفِظَ اللّهُ } بما حفظهنَّ الله ، خبر ؛ أو أوصى بهن الأزواج ؛ أو بما حفظهن الله وعصمهن ووفقهنَّ بحفظ الغيب ؛ أو بحفظ الله إياهنَّ حيث صيَّرهنَّ كذلك .

 

{ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } عصيانهنَّ ، وترفعهنَّ عن طاعة الأزواج ، {  فَعِظُوهُنَّ } خوفوهنَّ عقوبة الله ، والعظة : كلام يلين القلوب القاسية ، ويرغَّب الطبائع النافرة ، { وَاهْجُرُوهُنَّ } إن لم يؤثر فيهنَّ الوعظ ، وذلك بمعنى الأدب يراد به لا غير . { فِي الْمَضَاجِعِ } في المراقد ، أي : لا تدخلوهنَّ تحت اللُّحف ، أو هو كناية عن الجماع ، أو هو أن يولِّيها ظهره في المضجع ، لأنه لم يقل : << عن المضاجع >> ، { وَاضْرِبُوهُنَّ } ضربا غير مبِّرح ، أمر بوعظهنَّ أولاً ، ثم بهجرانهنَّ في المضاجع ثانيا ، ثم بالضرب ثالثا ، إن لم يؤثِّر فيهنَّ الوعظ والهجران ، فالأول أرفق من الثاني ، والثاني أرفق من الثالث ، والثالث أرفق من الطلاق ، والطلاق أولى من العصيان فيهنَّ { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ } بترك النشوز ، { فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً } فأزيلوا عنهَّ التعرُّض بالأذى ، { إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } أي ك إن علت أيديكم عليهنَّ فاعلموا أن قدرته عليكم أعظم من قدرتكم عليهنَّ ؛ فاجتنبوا ظلمهنَّ ؛ أو ( إن الله كان علياً كبيرا ) وإنكم تعصونه على علِّو شأنه وكبرياء سلطانه ، ثم تتوبون فيتوب عليكم ؛ فأنتم أحق بالعفو عمنَّ يجني عليكم ، إذا رجع فا .

 

{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } عداوة وخلافا ، { فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ } رجلاً يُصلح للحكومة والإصلاح بينهما ، { وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا } وإنما كان بعث الحكمين من أهلهما ، لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال ، وأطلب للصلاح ، ونفوس الزوجين أسكن إليهم ، فيبرزان ما في ضمائرهما من الحب والبغض ، وإدارة الصحبة والفرقة ، والضمير في { إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً } للحكمين وفي :  ( يوفق الله بينهما ) للزوجين ، أي : إن قصدا إصلاح ذات البين ، وكانت نيتهما صحيحة بورك في وساطتهما ، وأوقع الله بحسن سعيهما بين الزوجين الألفة والوفاق ، وألقي في نفوسهما المودة والاتفاق . أو الضميران للحكمين ، أي : إن قصدا إصلاح ذات البين والنصيحة للزوجين ،   {  يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا } فيتفقان على الكلمة الواحدة ، حتى يتم المراد . أو الضميران للزوجين إن يريدا إصلاح ما بينهما وطلب الخير ، وأن يزول عنهما الشقاق يلقي الله بينهما الألفة ، وأبدلهما بالشقاق الوفاق ، وبالبغضاء المودة ، وقد وعد الله التوفيق لمن أراد الإصلاح منهما ، { إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } بإدارة الحكمين والخصمين .

 

{ وَاعْبُدُواْ اللّهَ } العبودية ، أن يوحدوه ويطيعوه في الأحوال كلِّها ، مخلصين له الدين حنفاء ،     { وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } صنما ، أو شيئا من الشرك جليا أو خفيا ، أو شيئا من كبائر الذنوب .       {  وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } أحسنوا بهما إحسانا ، بالقول والفعل والإنفاق عليهما ، مع القدرة عند الاحتياج ، { وَبِذِي الْقُرْبَى } وبكلِّ من بينكم وبينه قربى ، من أخ أو عم أو غيرهما ، { وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى } قيل ك الجار النسب ، وقيل : القريب الجوار ، { وَالْجَارِ الْجُنُبِ } الذي جواره أبعد ، أو الأجنبي ، { وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ } قيل : الصاحب في السفر ، أو الذي صحبك أن حصل بجنبك إما رفيقا في السفر ، أو شريكا في تعلُّم علم ، أو غيره ، أو قاعدا إلى جنبك في مجلس أو مسجد ، فعليه أن يراعى حقه . { وَابْنِ السَّبِيلِ } المسافر به ، أو الضيف ، { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } العبيد والإماء وبقية الحيوانات . { إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً } متكبِّرا ، يأنف عن القيام بأمر الله ، { فَخُوراً } يعدِّد مناقبه كِبرا ، وهو التياه الجهول الذي يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه ؛ والفخور : الذي يفخر بكثرة ماله .

 

{ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } أي : يبخلون بذات أيديهم ، وبما في أيدي [ي] غيرهم ، فيأمرونهم بأن يبخلوا به مقتا للسخاء ، قيل البخل : أن يأكل بنفسه ، ولا يُؤكِل غيره ، والشحُّ : أن يأكل ولا يُؤكل ، والسخاء : أن يأكل ويؤكل ، ويجوز أن يؤكل ولا يأكل ، إلاَّ إذا كان الأكل أفضل من الإمساك . { وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ } ويخفون ما أنعم الله عليهم به من مال أو علم ، { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } أي : يهانون به .

 

{ وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـاء النَّاسِ } رئاء الناس أي : المُراآه والفخار ، وليقال : إنهم أسخياء ، لا لوجه الله ، أي : للفخر وليقال : ما أجودهم ! لا ابتغاء وجه الله ، { وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ } إيمانا بالقلوب ، { وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً } كلُّ من استجاب له في دعوة وأطاعه كان قرينه ، لأن الشيطان لا يفارق أحدا من الإنس – المؤمنين والكافرين منهم – طرفة عين ، ولكن إذا لم يطعمه ولم يتابعه في وساوسه كان وجوده كعدمه ، لأنه لا يضره مقارنته بل تنفعه ، لأنه إذا دعاه ووسوس له فلم يتابعه كان ذلك من أكبر الجهاد ، وكان له الدرجات ، وللشيطان بدعوته له دركات .  

 

{ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ } معناه : وأيُّ تبعة ووبال عليهم في الإيمان والإنفاق في سبيل الله ، وهو ذمٌّ وتوبيخ ، { وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيماً } فيجازيهم على إيمانهم ، وإنفاقهم في الآخرة .

 

{ إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } لا ينقص من الأجر ولا يزيد في العقاب أصغر شيء كالذرة ، وهي النملة الصغيرة ، وقيل : كلُّ جزء م أجزاء الهباء في الكوَّة ذرة ؛ وفي هذا دلالة على أنه لو نقص من الأجر أدنى شيء ، أو يزيد على المستحق من العقاب لكان ظلما ؛ والمثقال : " مفعال " من الثقل . { وَإِن تَكُ حَسَنَةً } وإن يك مثقال الذرة حسنة {  يُضَاعِفْهَا } يضاعف ثوابها ، { وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } ويعطي صاحبها من عنده على سبيل التفضُّل ثوابا عظيما ، وما وصفه الله بالعظم فمن يعرف مقداره مع أنه سمىَّ متاع الدنيا قليلا .

 

{ فَكَيْفَ } يصنع هؤلاء الكفرة ، {  إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } يشهد عليهم بما فعلوا ، وهو نبيهم أو عالم زمانهم ، { وَجِئْنَا بِكَ } يا محمد { عَلَى هَـؤُلاء } أي : أمتك { شَهِيداً } أي : شاهدا على من آمن ، وعلى من كفر . وعن ابن مسعود أنه قرأ سورة النساء على النبي r حتى بلغ قوله :      ( وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) فبكى رسول الله ، وقال : << حسبنا >> ، فانظر في هذه الحالة إذا كان الشاهد يبكي لهول هذه المقالة ، فماذا ينبغي أن يصنع المشهود عليه ، والانتهاء عن كلِّ ما يستحى منه على رؤوس الأشهاد .

 

{ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ } لو يُدفنوا فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى ، { وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً } أي : لا يقدرون على كتمانه ، لأن جوارحهم تشهد عليهم .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى } أي : لا تقربوها في هذه الحالة { حَتَّىَ تَعْلَمُواْ } بالقلوب { مَا تَقُولُونَ } أي : تقرؤون ، ومن ذلك أن يأتي الصلاة وهو مشغول البال ، إلاَّ ما لا يقدر على دفعه بقوة البشر ، من الوساوس الشيطانية . { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ } وفي الآية تنبيه على أن المصلي ينبغي أن يتحرر عما يلهيه ، ويشغل قلبه ويزكي نفسه مما يجب تطهيرها منه . {  وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء } تقدرون على استعماله لعدمه أو بعده ، أو فقد آلة الوصول إليه ، أو لمانع ، أو خوف من حية أو سبع أو عدوٍّ ، { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً } بالترخيص والتيسير ، { غَفُوراً } عن الخطأ والتقصير لمن تاب منه .

 

{ أَلَمْ تَرَ } من رؤية القلب ، { إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ } حظاً من علم التوراة ،           { يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ } يستبدلونه بالهدى ، { وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ } أنتم أيها المؤمنون { السَّبِيلَ } أي : سبيل الحقَّ .

 

{ وَاللّهُ أَعْلَمُ } منكم {  بِأَعْدَائِكُمْ } وقد أخبركم بعداوة هؤلاء ؛ فاحذروهم ، ولا تنتصحوهم في أموركم ، { وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيّاً } في النفع ، { وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيراً } في الدفــع .

 

{ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ } بيان للذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، {  يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } يُميلونه ويزيلونه عن مواضعه ، لأنهم إذا بدَّلوه ووضعوا مكانه كلما غيره ، فقد أمالوه عن مواضعه التي وضعها الله فيها وأزالوه عنها . { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا } قولك ، { وَعَصَيْنَا } أمرك ، قيل : أسُّروا به ، { وَاسْمَعْ } قولنا ، { غَيْرَ مُسْمَعٍ } أي : اسمع منا ولا نسمعُ منك ، ( غير مسمع ) أي : غير مقبول منك ، وقيل : كانوا يقولون للنبي u : اسمع ، ثم يقولون في أنفسهم : لا سمعت .            {  وَرَاعِنَا } يحتمل راعنا نكلِّمك ، أي : ارقبنا وانتظرنا ، وقيل : غير ذلك ، { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } فتلاً بها وتحريفا ، أي : يفتلون بألسنتهم الحقَّ إلى الباطل ، أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقا { وَطَعْناً فِي الدِّينِ } أي : قدحا فيه هو قولهم : << لو كان نبيا حقا لاختبرنا بما نعتقد فيه >> . { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ولم يقولوا : وعصينا ،            {  وَاسْمَعْ } ولم يحلقوا به ، { وَانظُرْنَا } مكان راعنا ، { لَكَانَ } قولهم ذلك ، { خَيْراً لَّهُمْ } عند الله {  وَأَقْوَمَ } وأعدل ؛ { وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ } طردهم وأبعدهم عن مراشد أمورهم ، بسبب اختيارهم الكفر ، {  فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } لأن منهم [من] قد آمن أولاً إيمانا قليلا ضعيفا لا ينفع ، أو إيمانا بشيء دون شيء .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا } يعني : القرآن ، { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُم } يعني : التوراة ، { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } قال ابن عباس : << يجعلها كخف البعير >> ، وقال قتادة :    << يعمها >> ، والمراد بالوجه : العين ؛ {  فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } فنجعلها على هيئة أدبارها ، وهي الأفقاء مطموسة ، وفي الحقيقة هي عين القلب التي يبصر بها حقائق الأشياء ، والردُّ على أدبارها هو الضلال عن الحق ، كما قال : ( أفمن يمشي مكباً على وجهه ..) الآية . { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ } فنجعلهم قردة وخنازير ، { وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ } أي : المأمور به ، { مَفْعُولاً } كائنا لا محالة ما أوعد إن لم يؤمنوا .

 

{ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } إن مات عليه ، بأي شرك كان ، { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } إن تاب منه بلسان مقاله ، أو لسانه حاله ، أو يخرج في هذا الصغائر لمن اجتنب الكبائر ، والأول يعُّم الكبائر . {  لِمَن يَشَاءُ } وأهل مشيئته التائبون ، {  وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ } أي شرك كان ، { فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً } كذب كذبا عظيما ، وهو مفتر في زعمه أن العبادة يستحقها غير الله سبحانه ، وقد استحق به عذابا عظيما .

 

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ } ويدخل فيها كلُّ من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل ، وزيادة الطاعة والتقوى ، {  بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ } إعلام بأن تزكية الله هي التي يعتدُّ بها ، لا تزكية الإنسان نفسه ، لأنه هو العالم بمن هو أهل للتزكية ، ونحوه : ( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن  اتقى ) ونحوه : ( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ) . { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } قدر فتيل ، وهو ما يحدث بفتل الأصابع من الوسخ .

 

{ انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ } في زعمهم أنهم عند الله أزكياء مع ارتكابهم لشيء من مناهيه ، { وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً } ظاهرا غير خفيٍّ .

 

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ } أي : الأصنام ، وكل ما عُبد من دون الله ، ومن كُتُب أصحابنا : << وسألته عن الجبت والطاغوت فقال : أما الجبت فحُييُّ بن      أخطب >> ، { وَالطَّاغُوتِ } الشيطان ، { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً } .

 

{ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ } أبعدهم من رحمته ، { وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً } يعتدُّ بنصره . ثم وصف اليهود بالبخل والحسد ، وهما من شرِّ الخصال : يمنعون مالهم ، ويتمنون مال غيرهم ، فقال : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً } أي ك لو كان لهم نصيب من الملك أي : مُلك أهل الدنيا أو ملك الله ، فإذاً لا يؤتون أحدا مقدار نقير ، لفرط بخلهم ؛ والنقير : النقرة في ظهر النواة ، وهو مثل في القلَّة كالفتيل .

 

{ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ } بل يحسدون رسول الله والمؤمنين على إنكار الحسد واستقباحه ؟ وكانوا يحسدونهم على ما أتاهم الله من الهداية والنصرة ، والغلبة وازدياد العزِّ ، والتقدُّم كلَّ يوم . { فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً 0 فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ } أعرض عنه ، مع علمه بصحته ، { وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً } للمعرضين .

 

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } احترقت ، { بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } غير الجلود المحترقة ، قيل تبدَّل في ساعة مائة مرة ، { لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ } ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع ؛ والعذاب في الحقيقة للنفس العاصية المدركة الآلة . { إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً } غالبا بالانتقام ، لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين ، { حَكِيماً } فيما يفعل .

 

{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } من كل ما تكرهه النفوس وتعافه ، لأنها وما فيها بالعكس ، { وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً } .

 

{ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } قيل : قد دخل في هذا الأمر أداء الفرائض التي هي أمانة الله تعالى التي حملها الإنسان ، وحفظ الحواس التي هي ودائع الله . { وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ } قيل : نعم شيء يعظكم به . وقيل : نعمَّا يعظكم به ذاك ، وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل في الحكم ، { إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } أي : الولاة والعلماء ، لأن أمرهم ينفذ على الأمراء ، { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ } أي : إلى كتابه ،                 { وَالرَّسُولِ } إلى سنته ، { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : إن الإيمان يوجب الطاعة دون العصيان ، ودلت على أن طاعة الأمراء واجبة إذا وافقوا الحقَّ ؛ فإذا خالفوه فلا طاعة لهم ، لقوله u << لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق >> ، { ذَلِكَ } إشارة إلى الردِّ ، أي : الردِّ إلى الكتاب والسنة ، { خَيْرٌ } لكم عاجلا ، { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } عاقبة .

 

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } يعني : المنافقين ، { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ } إلى من يحكم بغير الحقِّ ، وقيل : هو كعب بن الأشرف سماه الله طاغوتا لإفراطه في الطغيان ، والطواغيت : الشياطين ، أو جعل اختيار التحاكم إلى غير رسول الله ، على التحاكم إليه تحاكما إلى الشياطين ، بدليل قوله : { وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ } عن الحقِّ ، { ضَلاَلاً بَعِيداً } مستمرًّ إلى الموت ، أو يعسر التخلُّص منه .

 

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ } للتحاكم . { رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } يعرضون عنك إلى غيرك .

 

{ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ } الموت { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً } بين الخصمين .

 

{ أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } من المرض والنفاق والهوى بغير الحقِّ ، وضد ما قالوا . { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ } بالموعظة الحسنة ، { وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } بليغ فيهم بإقامة الحجة عليهم ، ويجافيهم عن الإقامة على إعراضهم ، وينصح لهم ويبالغ فيهم بالترغيب والترهيب .

 

{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ } أي : رسولاً قط ، { إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ } بتوفيقه في طاعته وتيسيره ، أو بسبب إذن الله في طاعته ، وبأنه أُمِر ، وبأنه المبعوث إليهم أن يطيعوه . { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بالمخالفة ، { جَآؤُوكَ } تائبين من النفاق ، معتذرين عما ارتكبوا من الشقاق .               {  فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً } أي : التائب عليهم ، { رَّحِيماً } حيث يقبل التوبة ممن عصاه .

 

{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } فيما اختلف بينهم ، واختلط والتبس عليهم حكمه ، ومنه الشجر لتدخل أغصــانه ، { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً } ضــيقا ، { مِّمَّا قَضَيْتَ }

 أي : لا تضيق صدورهم من حكمك ، أو شكا ، لأن الشاك في ضيق من أمره ، حتى يلوح له اليقين ، وقيل : سخطا ، أي : لم ترض أنفسهم بذلك . { وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } وينقادوا لقضائك انقيادا وحقيقة ، سلم نفسه له وأسلمها ، أي : جعلها سالمة له خالصة ، و << تسليما >> مصدر مؤكد للفعل بمنزلة تكريره ، كأنه قيل : وينقادون لحكمك انقيادا لا شبهة فيه ، بظاهرهم  وباطنهم ، والمعنى : لا يكونون مؤمنين حتى يرضوا بحكمك وقضائك ، وهو علامة لانشراح صدورهم ؛ فما كانوا مؤمنين أبدا حتى يستكملوا جميع ما قسم الله (لعله) به عليه ، فكيف يؤمن بالله ولم يُحكم الله ورسوله ، ووجد في نفسه حرجا مما قضى به ، ولم يسلم تسليما ! .

 

{ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ } على المنافقين ، { أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } أي : تعرضوا بالقتل بالجهاد ، أو لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم . { أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا   فَعَلُوهُ } لنفاقهم ، { إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ } من اتباع رسول الله ، والانقياد لحكمه ، { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } في الدارين ، { وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } لإيمانهم ، وأبعد من الاضطراب . { وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً } في الدارين ، { وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } أي : لثبتناهم على الدين الحقَّ .

 

{ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ } كأفضل صحابة الأنبياء ، والصديقُ : المبالغ في الصدق بظاهره بالمعاملة ، وباطنه بالمراقبة ، أو الذي يصدق قوله بفعله . يروى عن رسول الله r : <<لا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا >> . { وَالشُّهَدَاء } والذين استشهدوا في سبيل الله ، أو شهداء على الناس ، { وَالصَّالِحِينَ } ومن صلحت أحوالهم ، وحسنت أعمالهم ، { وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً } أي : وما أحسن أُولئك رفيقا . { ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً } .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ } يقال : أخذ حِذره إذا تيقَّظ واحترز من المخوف ، كأنه جعل الحذر آلته التي يقي نفسه ، ويعصم روحه ، والمعنى : احذروا واحترزوا من العدو . {  فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ } فاخرجوا إلى العدو جماعات متفرقة ، سَرَّية بعد سرية ، فالثـُّبات : الجماعات ، واحدها ثُبته { أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً } أي : مجتمعين ، أو انفروا ثُبات إذا لم يعمَّ النفير ، وانفروا جميعا إذا عمَّ النفير

 

{ وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } نزلت في المنافقين ، وإنما قال : << منكم >> لاجتماعهم مع المؤمنين في إظهار الإيمان لا في حقيقته ، << ليبطئن >> ليتأخرن وليتثاقلنَّ عن الخروج إلى الجهاد ، ويجوز أن يكون منقولا من بطُؤ ؛ فيكون المعنى : ليبطئن غيره ، والتبطئة عن الغزو . { فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ } دنيوية لأن الآية في الذين آمنوا . {  قَالَ } المبطئ : {  قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً } حاضرا ، فيصيبني مثل ما أصابهم .

 

{ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله } فتح أو غنيمة ، {  لَيَقُولَنَّ } هذا المبطِّئ متلهفا على ما فاته من الغنيمة ، لا طلبا للمثوبة : {  كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } أي : معرفة سابقة ، { لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ } والمعنى : كأن لم تتقدم له معكم مودة ، لأن المنافقين كانوا يوادُّون المؤمنين في الظاهر ، وإن كان يبغون لهم الغوائل في الباطل . {  فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } فآخذ من الغنيمة حظا وافرا .

 

{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ } يبيــعون { الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ } والمراد المؤمنون ، الذين يستحبون الآجلة على العاجلة ، ويستبدلونها بها ، أي : إن صدَّ الذين مرضت قلوبهم وضعفت نياتهم عن القتال ، فليقاتل الثابتون المخلصون ، أو يشترون ؛ والمراد : المنافقون الذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة ، وُعظوا بأن يغيروا ما بهم من النفاق ، ويخلصوا الإيمان بالله والرسول ، ويجاهدوا في سبيل الله حق جهاده . { وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ } إذا أتى بالأمر على وجهه {أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } وعد المقاتل في سبيل – ظافرا أو مظفورا به – إيتاء الأجر العظيم على اجتهاده في إعزاز دين الله .

 

{ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي : وأي شيء لكم تاركين القتال ، وقد ظهرت دواعيه ،    { وَالْمُسْتَضْعَفِينَ } أي : في سبيل الله ، في خلاص المستضعفين من المسلمين من أيدي الكفار     و << سبيل الله >> عامٌ في كل خير ، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدي الكفار ، ومن كل نائبة عضَّتهم ، من أعظم الخير وأخصه ، والمستضعفون : هم الذين أسلموا بمكة ، وصدهم المشركون عن الهجرة ، وعن القيام بأمر دينهم ظاهرا ، فبقوا بين أظهرهم مستذلين مستضعفين ، يلقون منهم الأذى الشديد ، { مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ } ذكر الولدان ، تنحيلا [كذا] بإفراط ظلمهم ، حيث بلغ أذاهم الولدان غير المكلفين ، إرغاما لآبائهم وأمهاتهم ، أو لرجاء بقائهم على الإيمان بعد بلوغهم .

 

{ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً } يتولى أمرنا ويستنقذنا من أعدائنا ، { وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً } ينصرنا عليهم ؛ كانوا يدعون الله بالخلاص ويستنصرونه ؛ فيسَّر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة ، وبقي بعضهم إلى الفتح ، حتى جعل الله لهم من لدنه خير وليٍّ وناصر ، وهو محمد r فتولاهم أحسن التولي ونصرهم أقوى النصر .

 

{ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ } في طاعته ، { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ } أي : الشيطان ، وفي الحقيقة يقاتلون في هواء أنفسهم ، { فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ } أي : الكفار الظاهرين والباطنين ، {  إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ } أي : وساوسه ، وقيل : الكيد : السعي في فساد الحال خفية على جهة الاحتيال . { كَانَ ضَعِيفاً } لأنه غرور لا يؤول إلى محصول كالجفاء السجري [كذا] ، أو كيده في مقابلة نصر الله ضعيف ، ولأن كيده للمؤمنين بالإضافة إلى كيد الله للكافرين ضعيف ، لا يؤبه به ، ؛ فلا تخالفوا أولياءه ، ف ؛ فلا تخالفوا أولياءه ، فن اعتمادهم على أضعف شيء وأوهنه ، وكيده ضعيف لمن خالفه وقابله بالذكر ، لأنه لا سبيل له عليه ، ( إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ) .

 

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ } أي : عن القتال ، { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ } يخافون أن يقاتلهم الكفار ، كما يخافون أن ينزل الله عليهم بأسه ، لا شكا في الدين ولا رغبة فيه ، ولكن نفورا عن الأخطار بالأرواح ، أو خوفا من الموت ، أي : يخشون الناس مثل خشية الله ، أي : مشبهين لأهل خشية الله { أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } أو أشد خشية من أهل خشية الله ، << أو >> للتخيير ، أي : إن قلت : خشيتهم الناس كخشيتهم الله فأنت مصيب ، وإن قلت : إنها أشدُّ فأنت مصيب ، لأنهم حصل لهم مثلها وزيادة .

 

{ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } هلاَّ أمهلتنا إلى الموت ، فنموت على الفرش ، وهو سؤال عن وجه الحكمة في فرض القتال عليهم ، أو لتأخير القتال عنهم ، من حال إلى حال ، كما قالوا : ( لا تنفروا في الحر ) . { قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى } متاع الدنيا قليل زائل ، ومتاع الآخرة كثير دائم ، والكثير إذا كان على شرف الزوال فهو قليل ، فكيف القليل الزائل . { وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } ولا تنقصون أدنى شيء من أجوركم على مشاق القتل ؛ فلا ترغبوا عنـــه .

 

ثم أخبر أن الحذر لا ينجي من القدر بقوله : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ } حصون أو قصور ، { مُّشَيَّدَةٍ } مرفعة والبروج في الأصل : بيوت على أطراف القصر ، من      " تبرجت المرأة " إذا أظهرت زينتها . { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } نعمة من خصب أو رخاء ،          { يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ } ينسونها إلى الله ، { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } بلية من شدة أو قحط ،        { يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ } أضافوها إليك ، وقالوا : هي من عندك ، وما كانت إلاَّ بشؤمك ، وذلك أن المنافقين واليهود كانوا إذا أصابهم خير حمدوا الله ، وإذا أصابهم مكروه نسبوه إلى محمد ، فكذبهم الله بقوله : { قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ } أي : كل ذلك ، فهو يبسط الأرزاق ويقبضها ؛ { فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ } يفهمون { حَدِيثاً } فيعلمون أن الله هو الباسط القابض . وكلُّ ذلك صادر عن حكمة ؛ فنفى عنهم فقه كل حديث وهو كقوله : ( لا يعقلون شيئا ....) .

 

ثم قال : { مَّا أَصَابَكَ } يا إنسان ، خطابا عاما ، وقيل : خاصا للنبي u ، والمراد غيره ، { مِنْ حَسَنَةٍ } من نعمة وإحسان ، { فَمِنَ اللّهِ } تفضُّلا منُهُ وامتنانا ، { وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ } من بلية ومصيبة ، { فَمِن نَّفْسِكَ } فمن عندك ، أي : مما كسبت يداك ، ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) . ويحتمل هذا الخطاب لكُلِ متعبد ، فـ ( ما أصابك من حسنة ) أي : طاعة ، (فمن الله ) أي : من فضله ، ( وما أصابك من سيئة ) أي : معصية فمن نفسك ، لأن المعاصي لا تحال على الله ، وإن كانت وقعت بقضائه ، لأنه زجر وحذَّر غاية التحذير . { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} لا مُقدرا حتى ينسبوا إليك الشدة ، أو أرسلناك للناس رسولا فإليك تبيلغ الرسالة ، وليس لك الحسنة والسيئة . {  وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً } بأنك رسوله .

 

{ مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } لأنه لا يأمر ولا ينهى إلاَّ بما أمر الله به ونهى عنه ، فكانت طاعته في أوامره ونواهيه طاعة الله ، {  وَمَن تَوَلَّى } عن الطاعات ، فأعرض عنها { فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } تحفظ عليهم أعمالهم ، وتحاسبهم عليها وتعاقبهم ، أو تحفظهم عن العصيان .

 

{ وَيَقُولُونَ } ويقول المنافقون إذا أمرتم بشيء : {  طَاعَةٌ } أي : .. { فَإِذَا بَرَزُوا } خرجوا {  مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ } زور وسوَّى ، فهو من البيتوتة ، لأنه قضاء الأمر وتدبيره بالليل ، { غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } خلاف ما قلت أو أمرت به ، { وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } يثبته في صحائف أعمالهم ويجازيهم عليه ؛ { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ } في شأنهم ، فإن الله يكفيك معرتهم ، والمعرة : المشقة والمساءة ، وينتقم لك منهم إذا قوي أمر الإسلام . { وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً } مكافئا لمن توكل عليــــه .

 

{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } أفلا يتأملون في معانيه ومبانيه ، والتدبر : التأمل والنظر في أدبار الأمر وما يؤول إليه في عاقبته ؛ ثم استعمل في كل تأمل ومعنى تدُّبر القرآن : تأمَّل معانيه ، والتفكر بصرف القلب بالنظر في الدلائل ؛ وهذا يردُّ قول من زعم من الروافض أن القرآن لا يفهم معناه إلاَّ بتفسير الرسول . { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ } كما زعم الكفار ، {  لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } أي : تناقضا من حيث التوحيد والتشريك والتحليل ، وتفاوت من حيث البلاغة ، فكان بعضه بالغا حدَّ الإعجاز ، وبعضه قاصراً عنه يمكن معارضته ؛ ومن حيث المعاني فكان بعضه إخبارا لغيب قد وافق المخبر عنه ، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه ، وبعضه دالاًّ على معنى صحيح عند علماء المعاني ، وبعضه دالاًّ على معنى فاسد غير ملائم ؛ فلما تناسب كلُّه فصاحةً فاتت قُوى الفصحاء ، وصحَّة معان ، وصدق إخبار ، عُلم أنه من جهة الله .

 

{ وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ } هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم يكن فيهم خبرة بالأحوال ، أو المنافقون كانوا إذا غلبهم خبر من اسرابا رسول الله r من أمن وسلامة ، أو خوف وخلل ، { أَذَاعُواْ بِهِ } أفشوه وكانت إذاعتهم مفسدة ، يقال : أذاع السر . { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ } يعني : كبار الصحابة البصراء بأمور الدين ، {  لَعَلِمَهُ } لعلم تدبير ما أخبروا به ، { الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بالأمور ، وتفرُّسهم في عواقبها ، رد حكمة في الوقائع إلى استنباطهم ، فالحق رتبتهم برتبة الأنبياء (لعله) في كشف حكم الله . { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ } بإرسال الرسول ، { وَرَحْمَتُهُ } بإنزال الكتاب ،         {  لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ } فيما يلقي إليكم من الوساوس ، والموجبة لضعف اليقين والبصيرة . { إِلاَّ قَلِيلاً } منكم وهو أهل البصائر النافذة ، من ذوي الصدق (لعله) واليقين .( إلاَّ قليلا) لم يتبعوه ، وكانوا آمنوا بالعقل ، ومن ذلك دليل على أن ليس بأشد على الشيطان من العالم ، وأن مصيدة من الجهلة الذين لا يعلمون حدود ما أنزل الله على رسوله .

 

{ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } لما تقدم في الآي قبلها تثبيطهم عن القتال قال : ( فقاتل في سبيل الله ) وإن أفردوك وأوحدوك . { لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ } أي : لا تكلف إلاَّ تقويم نفسك ، كما قال : ( عليكم أنفسكم ) وهذه رحمة من الله منَّ بها على عباده . { وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ } وما عليك في شأنهم إلاَّ التحريض على القتال فحسب ، { عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : بطشهم وشدَّتهم ، بقتال المؤمنين الكافرين ، { وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً } من الذين كفروا ، { وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } تعذيبا .

 

{ مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً } هي الشفاعة في دفع شرٍّ أو جلب نفع ، مع جوازها شرعا ، { يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا } من ثواب الشفاعة ، { وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً } هي خلاف الشفاعة الحسنة . قال ابن عباس : << ما لها مفسر غيري ، معناهُ : من أمر بالتوحيد وضده >> ، { يَكُن لَّهُ كِفْلٌ } نصيب ، { مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً } مقتدرا ، من أقات على الشيء إذا اقتدرعليه ، أو حفيظا ، من القوت ، لأنه يمسك النفس ويحفظها .

 

{ وَإِذَا حُيِّيْتُم } أي : سُلِّم عليكم ؛ فإن التحية في ديننا بالسلام في الدارين ، {  بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً } أي : يحاسبكم على كل شيء من التحية وغيرها .

 

{ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ } معناه : الله ، والله ليجمعنَّكم ، { إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } أي : ليحشرنَّكم إليه ، { لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً } أي : لا أحد أصدق منه في إخباره ووعده ووعيده ، لاستحالة الكذب عليه لقبحه ، لكونه إخباراً عن الشيء بخلاف ما هو عليه .

 

{ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } أي : ما لكم اختلفتم في شأن قوم قد نافقوا نفاقا ظاهرا ، وتفرَّقتم فيهم فرقتين ؛ وما لكم لم تقطعوا القول بكفرهم ؛ قيل : إن فرقة سمَّتهم مشركين ، وفرقة سمَّّتهم مؤمنين ، فرد الله عليهم ، وأخبر أنهم ليسوا بمشركين ولا مؤمنين ، ولكنهم منافقون ، وأخبر أنه ( أركسهم بما كسبوا ) ، ثم قال عتابا لهم : ( أتريدون أن تهدوا من أضل الله ) ، لأنه يوقع العتاب هاهنا على من سمَّاهم مؤمنين ، ثم قال : ( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ) فسمَّاهم كفَّارا ، ثم قال : ( فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله ) فقد انقطعت الولاية بين المؤمنين والكفَّار حتى يهاجروا في سبيل الله . { وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ } أي نكسهم وردهم إلى الكفر بما كسبوا ، { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ } أن تجعلوهم مهتدين ، { مَنْ أَضَلَّ اللّهُ } من جعله الله ضالاً ، أو تريدون أن تسمَّوهم مهتدين ، وقد أظهر الله ضلالهم ، فيكون تعبيرا لمن سمَّاهم مهتدين  { وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } طريقا إلى الهداية .

 

{ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء } في الكفر ، { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ } عن الإيمان ، { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } وإن بدلوا لكم الولاية والنصر فلا تصدقوهم .

 

{ إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ } أي ينتهون إليهم ، ويتصلون بهم ، { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ } أي فاقتلوهم إلا من اتصل بقوم بينكم وبينهم ميثاق ، { أَوْ جَآؤُوكُمْ } عطف على صفة (( قوم )) ، أي : إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين ، أو قوم ممسكين عن القتال لا لكم ولا عليهم . {  حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } الحصر : الضيق والانقباض ، أي : ضاقت ، { أَن يُقَاتِلُوكُمْ } عن أن يقاتلوكم ، { أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ } معكم ، { وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ } بتقوية قلوبهم ، وإزالة الحصر عنها ،   { فَلَقَاتَلُوكُمْ } عطف على (( سلطهم )) . {  فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ } فإن لم يعترضوا لكم ، { فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ } أي : الانقياد والاستسلام ، { فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } إلى القتال .

 

{ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ } بالنفاق ، { وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ } بالوفاق ، { كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ } كلما دعاهم قوم إلى القتال المسلمين ، { أُرْكِسُواْ فِيِهَا } قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه ، وكانوا شرا فيها من كل عدوٍّ . {  فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ } فإن لم يعتزلوا قتالكم ، { وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ } عطف على (( لم يعتزلوكم )) ، أي : ولم ينقادوا لكم بطلب الصلح . { وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ } عطف عليه أيضا ، أي : ولم يمسكوا عن قتالكم . { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ } حيث تمكنتم منهم وظفرتم بهم ، { وَأُوْلَـئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } حجة واضحة لظهور عداوتهم ، وانكشاف حالهم في الكفر والغدر ، وإضرارهم بالمسلمين .

 

{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ } وما صح له ولا استقام ولا لاق بحاله ، كقوله : ( وما كان لنبيٍّ أن يغلَّ ) .     { أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً } ابتداءً غير قصاص ، {  إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } محكوم بإسلامها ، وإن كانت صغيرة فيما قيل ، قد جعل الله تكفير القتل التحرير ، لأن ذلك حياء إذا العبد مفقود لنفسه موجود لسيده ، فالإعتاق إيجاد لا يقدر الإنسان على أكثر منه ، فيقابل الإعدام بالإيجاد ، وذلك سلوك طريق المضادَّة . { وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ } مؤدَّاة إلى ورثته يقسمونها كما يقسمون الميراث ، لا فرق بينها وبين سائر التركة في كل شيء ، فيقضي منها الدين ، وتنفذ الوصية ، وإذا لم يبق وارث كانت في بيت المال ، والدية على العاقلة ، والكفارة على القاتل . { إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } إلاَّ أن يتصدقوا عليه بالدية ، أي : يعفوا عنه ، وفي الحديث : (( إن كلَّ معروف صدقة )) .

 

{  فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ } عن أبي سعيد : (( عن قول الله : ( فإن كان من قوم عدوٍّ لكم وهو مؤمن ؛ فتحرير رقبة مؤمنة ... ) الآية . ( فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ) ، فقد قيل في هذا : إنه في كفارة الخطأ ، وكفارة ذلك عتق رقبة مؤمنة موحدة ؛ فمن لم يجد عتق رقبة فصيام شهرين متتابعين )) . قال أبو عبد الله : ( في قول الله : ( وإن كان من قوم عدوٍّ لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ) قال : هو أن يكون رجل مؤمن يقتل رجلاً من المسلمين خطأ وورثه المقتول من أهل الحرب ، فلا يلزمه إلاَّ تحرير رقبة مؤمنة ، كما قال الله ، فإن المقتول خطأ وارثه من قوم أعداء لكم ، أي : كفرة )) . { وَهُوَ مْؤْمِنٌ } أي : المقتول مؤمن ، { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } يعني : إذا أسلم الحربيُّ من دار الحرب ولم يهاجر إلينا ، فقتله مسلم خطأ تجب الكفَّارة بقتله للعصمة الإسلامية ولا تجب الديَّة لأنَّ وارثه محاربون ، لم يثبت لهم عهد ولا ذمه ، { وَإِن كَانَ } أي : المقتول { مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ } بين المسلمين ، { وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } عهد ؛ { فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً } أي : وإن كان المقتول ذميِّا فحكمه حكم المسلم . { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } رقبة ، أي : لم يملكها ، ولا ما يتوصل به إليه ، {  فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ } قبولاً منه ورحمة ، من " تاب الله عليه " إذا قبل توبته . { وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } .

 

{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } أي : انتقم منهُ ، وطرده من رحمته ، { وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } لارتكابه أمراً عظيما . وفي الحديث : (( لزوال الدُّنيا أهون على الله من قتل أمرئ مسلم )) ، لأن الدنيا وما فيها جعلت آلة للمؤمن ، ولم يجعل المؤمن آله (لعله) لعوام الدنيا مع أهل التحقيق .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ } فتثبتوا ، بمعنى الاستفعال ، أي : اطلبوا بيان الأمر وثباته ولا تتهوكوا فيه . { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ } وهو الاستسلام ،         {  لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } تطلبون الغنيمة التي هي حطام سريع النفاد ، فهو الذي يدعوكم إلى ترك التثبت وقلة البحث عن حال من تقتلونه ، { فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } يُغنمكموها ، تغنيكم عن قتل رجل يُظهر الإسلام ، { كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ } أوَّل ما دخلتم في الإسلام ، سمعت من أفواهكم : كلمة الشهادة ؛ فحصَّنت دماءكم وأموالكم ، من غير انتظار الاطّلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم . { فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ } بالاستقامة والاشتهار بالإيمان ، فافعلوا بالداخلين في الإسلام كما فُعل بكم ، أو كذلك كُنتم من قبلُ لا تتبينون قيل أن يُبين الله لكم ، { فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } .

 

{ لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ } عن الجهاد ، { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ } من مرض أو عاهة من عمى أو عرج أو زمانة أو نحوهما ، تنبيها على أن القاعد من أولي الضرر ، شريك للمجاهد في الأجر ، إذا كانت نيته أن يجاهد إن لو لم يكن به ذلك . { وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ } لا مساواة بينهم وبين من قعد عن الجهاد من غير علة ، وفائدته تذكير ما بينهما من التفاوت ترغيبا للقاعد من غير علة في الجهاد ، رفعا لرتبته ، وأنفه عن انحطاط منزلته . { فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ } قال أبو سعيد : (( إنما عذر عن الجهاد عند القدرة على الجهاد من الكافة بجهاد البعض ، ولو اجتمعوا كلهم على ترك الجهاد وهم قادرون عليه كانوا بذلك هالكين مضيعين لما لزمهم من ترك الجهاد )) . { دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى } أي : المثوبة الحسنى وهي الجنة ، وإن كان المجاهدون مفضلَّين على القاعدين درجة بزيادة عملهم .     { وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ } بعذر أو بغير عذر ، { أَجْراً عَظِيماً ، دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }

 

{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } أي : في حال ظلمهم أنفسهم بالكفر وترك الهجرة ،  {  قَالُواْ } قال الملائكة للمتوفين : { فِيمَ كُنتُمْ } في أي شيء كُنتم من أمر دينكم ، ومعناه التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين ، وذلك كُّل كافر يوبخ على ما كفر به ، ويقرُّ في ذلك الحين بما أنكر ، ويسأل الرجوع إلى الدينا ليصلح ما أفسد . { قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ } عن الهجرة { فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ } أي : الملائكة موبخين لهم : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } أرادوا : إنكم كنتم قادرين على الخروج من أرض الشرك إلى أرض الإسلام ، وإلى الرسول u ، وهذا يدُّل على أن الإنسان إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر الدين لبعض العوائق ، وعلم أن غير بلده أقوم بحق الله ، وجبت عليه المهاجرة ؛ وفي الحديث : (( من فرَّ بدينه من أرض إلى أرض ، وإن كان شبرا من الأرض ، استوجب الجنة )) .{ فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً } { إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } في الخروج منها لفقرهم أو لعجزهم ؛ وفيه دليل على وجوب الاحتيال لإقامة الدين . { وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } ولا معرفة لهم بالمسالك .

 

{ فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً } وذكر الولدان وهم غير متعبدين ، كأنه أمر بإخراج أولاد المؤمنين مع القدرة ، من دار الشرك إلى دار الإسلام ، خوفا عن أن يدركهم التعبد وهم بين ظهرانيهم ، فيؤول عليهم الضرر الديني والدنيوي ، ومن قبل ما يخاف عليهم منهم ، في حال طفولتهم ، أو الولدان الذين بلغ سنهم وكمل عقلهم .

 

{ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً } أي : متحولاً يتحول إليه ؛ وقيل : متزحزحا عما يكره ، وقيل : مهاجرا طريقا ، يراغم بسلوكه قومه ، أي : يفارقهم على رغم أنوفهم ، والرغم : الذل والهوان ، وأصله لصوق الأنف بالرغام ، وهو التراب ، يقال : راغمت الرجل ، إذا فارقته ، وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذالك . {  كَثِيراً وَسَعَةً } في الرزق ، أو في إظهار الدين .        {  وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ } إلى حيث أمر الله ورسوله ، {  ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ } قبل بلوغه مهاجره ، {  فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ } أي : حصل له الأجر بوعد الله ،        { وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } قالوا : كل هجرة لطلب علم ، أو حج ، أو جهاد ، أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة وزهدا ؛ فهي هجرة إلى الله ورسوله ؛ وإن أدركه الموت في طريقه ، قد وقع أجره على الله .

 

{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ } سائرين ، { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ } من أعداد ركعاتها ، { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } إن خشيتم أن يفتنكم الذين كفروا ، بقتل أو جرح أو أخذ ، وقد رخص للمسافر ولزمه اليوم القصر ، مع الخوف وعدمه ، {  إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً } فتحرروا عنهم لئلاَّ يضروكم في دين أو دينا .

 

{ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ } فاجعلهم طائفتين ، فلتقم أحدهما معك ، فصل بهم ، وتقوم طائفة تجاه العدو ، { وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ } أي إذا صلت هذه الطائفة التي معك ركعة ، فليرجعوا ليقفوا بإزاء العدو ، { وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ } أي : تمنوا أن ينالوا منكم في صلاتكم ، فليميلوا عليكم ميلة واحدة ، وهكذا أعداء الباطن مترصدون للغفلة من الإنسان . { فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً } كما قال : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيٍّ إلاَّ إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) . { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } والجناح : الإثم ، وجنحت : إذا عدلت عن القصد ، { إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } قد أمر الله نبيه r والمؤمنين بالصلاة جماعة في وقت القتال ، تنبيها على عظم فضلها ، وأن لا يُترك إلاَّ مع عدمها ، ورخص لهم في وضع الأسلحة إن ثقُل عليهم حملها ، بسبب ما يؤذيهم من مطر ، أو يضعفهم من مرض ، وأمرهم مع ذلك أن يأخذوا الحذر لئلاَّ يغفلوا ، فيهجم عليهم العدو . { إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } أخبر أنه يهين عدوهم لتقوى قلوبهم . إن الأمر بالحذر ليس لتوقع غلبتهم عليهم ن وإنما هو تعبد من الله تعالى .

 

{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ } أي : دوموا على ذكر الله في جميع الأحوال ، أو فإذا أردتم الصلاة فصلوا قياما ، إن قدرتم عليه ، وقعودا إن عجزتم عن القيام ومضطجعين إن عجزتم عن القعود . { فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ } سكنتم بزوال الخوف ، {  فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } فأتموها بطائفة واحدة ، أو إذا اطمأننتم بالصحة فأتموا بالقيام والقعود والركوع والسجود. {  إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً } مكتوبا محدودا بأحوال موصوفة في أوقات محدودة .

 

{ وَلاَ تَهِنُواْ } ولا تضعفوا ولا تتوانوا { فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ } في طلب الكفار ، {  إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ } لأنهم شبهكم في الخلق ، ومثلكم في الطبع مباينوكم في الخاصة كما قال : { وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ } أي : ليس ما تجدون من الألم بالجرح والقتل مختصا بكم ، بل هو مشترك بينكم وبينهم ، ويصيبهم كما يصيبكم ، ثم إنهم يصبرون عليه فما لكم لا تصبرون مثل صبرهم ، مع أنكم أجدر منهم بالصبر لأنكم ترجون من الله مالا يرجون من إظهار دينكم على سائر الأديان ، ومن الثواب العظيم ؛ وذلك تنبيه من الله تعالى ، وحث للمؤمن على الصبر إن نالته شدة في قيام بشيء من واجباته ، ويراعى بصبره صبر من يحتمل المشاق على دينا فانية عقابها الخسران ، والذهاب والعتاب والعذاب ، بل يكون أشد صبرا وأثبت عزيمة ، لأنه لا يقاس ما يرجوه من مولاه ، من التوفيق في الدنيا والثواب العظيم في الآخرة . { وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً } بما يجد المؤمنون ، {  حَكِيماً } لأنه لا يأمركم ولا ينهاكم إلاَّ بما يعلم أن فيه صلاحكم .

 

{ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ } على قدر دعاويهم ، أو لُتنزلهم منازلهم ، من أمين أو خائن ، تحذيرا له عن أن يُخاصم الخائن لقوله : { وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ } أي : لأجل الخائنين ، { خَصِيماً } مخاصما ، { وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ } مما هممت به ، { إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } .

 

{ وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ } يخونونها بالمعصية ، جعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم ، لأن الضرر راجع عليهم . { إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً } خوَّانا مبالغا في الخيانة مصرا عليها ، (( أثيما )) منهمكا فيه ، وإذا عثرت من رجل على سيئة ، فاعلم أن لها أخوات في حقٍّ أكثر الخلق ، إلاَّ الذين آمنوا ، فإنهم إن بدت منهم زلة يسرعون إلى الانقلاع منها بالتوبة .

 

{ يَسْتَخْفُونَ } يستترون { مِنَ النَّاسِ } حياء منهم ، وخوفا من ضررهم ، وطمعا لما في أيديهم ،  { وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ } ولا يستحيون منه ، { وَهُوَ مَعَهُمْ } وهو علم بهم ، مطلعٌ عليهم ، لا يخفى عليه خاف من سرِّهم ، وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء والخشية من ربهم ، مع علمهم أنه معهم أين ما كانوا ، { إِذْ يُبَيِّتُونَ } يدبرون ، وأصله أن يكون خفية ، ولذلك أسند إلى البيات ، لأن الفعل فيه أخفى ، { مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ } وهو دليل على أن الكلام هو المعنى القائم بالنفس ، حيث سمى التدبير قولا ، أو كان قولا منهم لبعضهم بعض ، { وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً } علما علم إحاطة لا يخفى عليه منه شيء .

 

{ هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه ، { أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } حافظا من بأس الله وعذابه ، فكأن أحدا من المؤمنين جادل عن أحد من المنافقين في حقوق ثبتت عليهم في الإسلام ، فعاتبهم الله بذلك ، بدليل قوله : { وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً } ذنبا ، { أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } يترك ما تعبده الله به ، أو بارتكاب ، (لعله) شيء من محرماته . { ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ،، وَمَن يَكْسِبْ  إِثْماً } ولم يتب منه ، { فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } .

 

{ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً } أي : يبرئ منه نفسه من غير توبة منه ، إلاَّ ظنًّا منه أنه لا يعاقبه عليه ، ويستصغره أو يتهاون به ، أو لا يظنه أنه ذنب ، أو يرمي به على غيره ، ويقول : أنا ليس فعلته ، وإنما فعله فلان . { فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً } كذبا عظيما ، { وَإِثْماً مُّبِيناً } ذنبا ظاهرا .

 

{ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ } أي : عصمته ولطفه من الاطلاع على شرِّهم ، { لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ } عن القضاء بالحق ، وتوخي طريق العدل ، { وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } أي : لا يملكون من ضرك شيئا لم يرده الله فيك . { وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } من أمور الدين والشرائع ، أو خفيات الأمور ، وضمائر القلوب . { وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } فيما علمك وأنعم عليك .

 

{ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ } الإصلاح بالتأليف بينهم بالمودة ، ويروى عن على أنه قال : (( إن الله فرض عليكم زكاة جاهكم ، كما فرض عليكم زكاة ما ملكت أيمانكم )) . { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً    عَظِيماً } ابتغاء : طلب رضى الله ، وخرج عنه من فعل ذلك رياء أو تروسا ، ووصف الأجر بالعظم تنبيها على حقارة ما لحقه من المكروه ، وفاته من أعراض الدنيا في جنته .

 

{ وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى } ومن يخالف الرسول من بعد وضوح الدليل ، وظهور الرشد ، { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } أي : السبيل الذي هم عليه من الدين الحنيفيِّ الحقيقي . { نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى } نجعله وليا لما تولى من الضلال ، وندعه وما اختاره في الدنيا ،        { وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ } في العقبى ، { وَسَاءتْ مَصِيراً } .

 

{ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } قال أبو سعيد في تأويل هذه الآية : (( فمن قامت عليه الحجة وبلغته المعرفة ، فخالف بعد بلوغ الحجة والمعرفة ببيان الحق من الباطل ، والضلال من الهدى ، فيفعل ما قد نُهي عنه كان مشاققا لله ولرسوله والمسلمين ، متبعا لغير سبيل المؤمنين ، ولا عذر له ، ولا يعلم في ذلك اختلافا )) . { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } الصغائر ، { لِمَن يَشَاءُ } لمن اجتنب الكبائر ، وهو يقتضي جميع الكبائر التي لم يتب منها ، { وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ } بأي شرك كان ،      { فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } عن محجة الصواب .

 

{ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } ما يعبدون من دون الله ، { إِلاَّ إِنَاثاً } جمع أنثى ، وهي اللاَّت والعزَّى ومناة ؛ قيل : لم يكن حيٌّ من أحياء العرب ، إلاَّ ولهم صنم يعبدونه يسمونه أنثى بني فلان ، وقيل : كانوا يقولون في أصنامهم هنَّ بنات الله ، { وَإِن يَدْعُونَ } يعبدون { إِلاَّ شَيْطَاناً } لأنه هو الذي أغراهم على عبادة الأصنام ، فأطاعوه ، فجعلت طاعتهم له عبادة ، وقيل : المراد به الملائكة لقولهم : الملائكة بنات الله ، { مَّرِيدا } خارجا عن الطاعة ، عازبا عن الخير ومنه الأمر .

 

{ لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } مقطوعا واجبا لي ، { وَلأُضِلَّنَّهُمْ } بالدعاء إلى الضلالة ، والتزين والوسوسة ، ولو كان إنفاذ الضلالة إليه لأضل الكل ، { وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ } ولألقين في قلوبهم الأماني الباطلة ، من طول الأعمار وبلوغ الآمال ، { وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ } البتك : القطع ، والتبتيك للبكثير والتكرير ، أي : لأحلمنهم على أن يقطعوا آذان الأنعام ، { وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ } عن وجهة ، صفة أو صورة ؛ ويندرج فيه ما قيل : من فقء عين الحامي وخصى العبيد ، والوشم والوشر واللواط والسحق ، ونحو ذلك ويغير فطرة الله التي هي الجوارح والقوى فيما لا على النفس كمالا ، ولا يوجب إلى لها منه زُلفى . { وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ } وأجاب إلى ما دعاه إليه ، { فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } في الدارين .

 

{ يَعِدُهُمْ } يوسوس لكلِّ واحد منهم على ما يقتضيه طبعه ، ويميل إليه بهوادة ، ويقبل منه ،         { وَيُمَنِّيهِمْ } ما لا ينالون ، لقوله : { وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً } هو أن يرى شيئا يظهر خلافه .

 

{ أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً } معدلا ومقراًّ

 

{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } ولم يتبعوا الشيطان في الأمر بالكفر ، { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً } قولا ، وفائدة هذه التوكيدات ، مقابلة مواعيد الشيطان الكاذبة لقرنائه بوعد الله الصادق لأوليائه .

 

{ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ } ليس الأمر على شهواتكم أيها المشركون والمنافقون ، { وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ } وقيل : ليس ما وعد الله من الثواب يُنال بأمانيكم أيها المسلمون ، ولا بأماني أهل الكتاب ، وإنما يُنال بالإيمان والعمل الصالح ؛ وقيل : ليس الإيمان بالتمني ، ولكن ما وقر في القلب ، وصدقه العمل . {  مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } وهذا وعيد للمفسدين

 

{ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ } بما تعبده الله منها ، وما تقرب إليه من النوافل ؛ {  مِن ذَكَرٍ أَوْ    أُنثَى } إذ لا فرق بينهما في العمل ، { وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } لا يظلمون أعمال السوء فترادون عذابا فوق ما يستحقونه ، ولا أعمال الصالحات فينقصون .

 

{ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً } من أحسن منه دينا ، {  مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله } أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له ، لا يعرف لها ربا ومعبودا سواه ، { وَهُوَ مُحْسِنٌ } عامل للحسنات ، وقيل في الحديث : (( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك )) . { واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } مائلا عن الأديان الباطلة ، { وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } عبارة عن اصطفائه واختصاصه بكرامة شبه كرامة الخليل عند خليله ؛ والخليل هو في الأصل : المخال الذي يخالك ، أي : يوافقك في خلالك ، أو يداخلك خلال منزلك ، أو يسدُّ خللك ، كما تسدُّ خلله ؛ فالخلة : صفاء مودة توجب الاختصاص بتخلَّل الأسرار ؛ والمحبة أصفى ، لأنها من حبة القلب ؛ والمعنى : تأكيد وجوب إتباع طريقته ، لأن من بلغ من الزلفى عند الله أن اتخذه خليلا كان جديرا بأن تُتبع ملته وطريقته ، ليكون الله خليله . وهذه الصفات شريفة لا تُنال إلاَّ بتزكية النفوس من رذائل الأخلاق ؛ وفي مضمون هذه : المرادُ من الخلق أن يكونوا كُّلهم أخلاء الله ، لأنهم المخاطبون أن يأتموا بمن كان على هذه المنزلة الشريفة .

 

{ وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } دليل على أن اتخاذه خليلا باحتياج الخليل إليه ، لا لاحتياجه تعالى ، لأنه منزه عن ذلك . { وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً } إحاطة علم وقدرة .

 

{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء } الإفتاء : تبيين المبهم ، { قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } قيل : من صداقهنَّ ، { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } أي : في نكاحهنَّ لمالهن وجمالهن بأقل من صداقهنَّ ، وقيل : حقهنَّ من الميراث ؛ لأنهم كانوا لا يورثون النساء ، { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ } أي : اليتامى . وقيل : كانوا في الجاهلية إنما يوِّرثون الرجل القّّوام بالأمور ، دون الأطفال والنساء . والمعنى يفتيكم في يتامى النساء ، وفي المستضعفين من الصبيان أن تعطوهم حقوقهم ، وفي ( وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ ) أي : بالعدل في أنفسهم وفي مواريثهم ، تعطوا كلَّ ذي حقٍّ منهم حقه .    { وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ } في إصلاحهم ، وإصلاح أموالهم ، لأنهم لا يستقيمون بأنفسهم من دون قائم ؛ { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } من عدل وبِرٍّ ؛ { فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً } أي : يجازيكم عليه كان قليلا أو كثيرا .

 

{ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً } توقعت منه ذلك ، لما لاح لها من مخايله ، وما رأته تجافيا عنها ، وترفعا عن صحبتها كراهة لها ، ومنعا لحقوقها ، { أَوْ إِعْرَاضاً } بأن يُقل محادثتها ومؤانستها ، بسبب كبر سنٍّ أو دمامة ، أو شيء في خُلُقٍ أو خَلقٍ ، أو ملال أو طموح عين إلى أخرى ، أو غير ذلك ؛ {  فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً } ، أن يتصالحا على [أن] تطيب له نفسا عن القسمة ، أو عن بعضها ، أو تهب له بعض المهر أو كله ، أو النفقة ، {  وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } من الفرق، أو من النشوز ، أو من الخصومة في كل شيء ، أو الصلح خير من الخيور ، كما أن الخصومة شرٌّ من الشرور . ومن آثار أصحابنا قال في هذه الآية : (( فمعنى أنه قيل : إن هذا في الرجل يكون عنده الزوجة ، فيتزوج عليها غيرها ، ويميل عنها إليها المحبة ، فوسَّع الله للرجل ذلك إذا كان عن رأي زوجته ورضاها أن يتزوج عليها إذا اصطلحا على ذلك ، على ما اصطلحا عليه من إيثار الآخرة عليها في معاشرة ، أو مؤنة إذا رضيت بذلك . وأخبر أن الصلح على ذلك إن اتفقا خير من المشاق والفراق ، فإن لم يتفقا ولم يصطلحا ، فليس إلاَّ الحكم من إمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان بين الزوجين )) . هكذا وجدته في زيادة جامع أبن جعفر ، وأظنه أنه عن أبي سعيد .

 

{  وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ } أي : جعل الشحَّ حاضرا لها ، لا يغيب عنها أبدا ؛ ولا تنفك عنه ، يعني : مطبوعة عليه ، والمراد أن المرأة لا تكاد تسمح بقسمها ببيتها ، والرجل لا تكاد نفسه تسمح بأن يقسم لها إذا رغب عنها ، فكلُّ واحد منهما يطلب ما فيه راحته ، ثم حث على مخالفة الطبع ومتابعة الشرع ، بقوله : { وَإِن تُحْسِنُواْ } بالعفو والمسامحة ، وترك الشح ، أو الإقامة على المعاشرة لنسائكم ، وإن كرهتموهن إذا كان في الإمساك يرجى صلاح أكثر من الفرقة ، { وَتَتَّقُواْ } النشوز أو الأعراض ، وما يؤدي إلى الأذى والخصومة ، {  فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ } من الإحسان والصبر والتقوى ، { خَبِيراً } فيثيبكم عليه . قيل : كان عمران الخارجي من أدمٍّ بني آدم ، وامرأته من أجملهم ، فنظرت إليه ، وقالت : (( الحمد لله على أنني وإياك من أهل الجنة )) ، قال : (( كيف )) ؟ قالت : (( لأنك رُزقت مثلي فشكرت ، ورُزقتُ مثلك فصبرت ، والجنة موعده للشاكرين والصابرين )) .  

 

{ وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء } ولن تستطيعوا العدل بين النساء والتسوية ، حتى لا يقع ميل البتة ، فتمام العدل أن يسوَّى بينهن في المحبة والجماع ، وذلك لا يطاق في قوى الشرِّ ، بل واجب أن يسوَّى بينهن في المبيت وفي أداء الواجب لهنَّ ، وكان u يقسم بين نسائه ، فيعدل فيقول : (( هي قسمتي فيما أملك ، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك )) ، يعني : المحبة ، { وَلَوْ حَرَصْتُمْ } بالغتم في تحرِّي ذلك ، { فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ } بترك المستطاع ، " فإن ما لا يدرك كلُّه لا يترك كلُّه " . { فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ } أي : فتقدعوا الآخرى كالمنوطة ، وهي التي ليست بذات بعل ، ولا مطلقة ، { وَإِن تُصْلِحُواْ } بينهنَّ ، { وَتَتَّقُواْ } الجور ، {  فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً } لما لا يستطاع فعله ، { رَّحِيماً } .

 

{ وَإِن يَتَفَرَّقَا } أي : إن لم يصطلح الزوجان على شيء ، وتفرقا بالخلع ، أو بتطليقه إياها ، وإيفائه مهرها ونفقة عدَّتها ، { يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ } كلَّ واحد منهما ، { مِّن سَعَتِهِ } من غناه ، أي : يرزقه زوجا خيرا من زوجه ، وعيشا أهنأ من عيشه . { وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً }من حيث أحلَّ استبدال الأزواج ، {  حَكِيماً } بالإذن في السراح ، فالسعة : الغنى والقدرة ، والواسع : الغنيُّ المقتدر ، ثم بين غناه وقدرته بقوله :

 

{ وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } خلقاً ، والمتملكون عبيده رقاً .

 

{ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } هو أسم للجنس ، ويتناول الكتب السماوية ، { مِن قَبْلِكُمْ } من القرون الخالية ، { وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ } المعنى : أن هذه وصية قديمة من الله لعباده ، لستم بها مخصوصين ، لأنهم بالتقوى يوحدونه ، وبه يسعدون ويفوزون . { وَإِن تَكْفُرُواْ } المعنى : أمرناهم وأمرناكم بالتقوى ، وقلنا لهم : { وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً } عن خلقه وعن عبادته إن أطاعوه ، فلا يزيد في ملكه شيء ، وإن كفروا فلا ينقص من سلطانه شيء ، { حَمِيداً } مستحقاً لأن يحمد لكثرة نعمه ، وإن لم يحمده أحد . وتكرير قوله : ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ) تقرير لما هو موجب توحيده وتقواه ، لأن الخلق لمَّا كان كلُّه لهُ وهو خالقهم ومالكهم ، فحقه أن يكون مطاعا في خلقه غير معصيٍّّ ، وفيه دليل على أن التقوى أصل الخير كلُّه في الدنيا والآخرة ، وأن الكفر أصل الشرِّ كلِه في الدنيا والآخرة .

 

{ وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً } فاتخذوه وكيلا ولا تتكلوا على غيره ، وحقيقة التوكُّل : الانقطاع إلى الله بالكلية . ثم خوفهم وبين قدرته بقوله :

 

{ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } يعذبكم { أَيُّهَا النَّاسُ } إن عصيتموه ، { وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } ويجد إنسا آخرين مكانكم ، أو خلقا آخرين غير الإنس أطوع منكم . { وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً } بليغ القدرة .

 

{ مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا } كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة ، { فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } فما له يطلب أحدهما دون الآخر ، والذي يطلبه أخسُّمها ، لأن من جاهد لله خالصا لم تخطئه الغنيمة ، وله من ثواب الآخرة ، { وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً بَصِيراً } هو وعد ووعيد .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ } مجتهدين في إقامة العدل ، حتى لا يقع منكم ميل إلى الهوى ، { شُهَدَاء لِلّهِ } تشهدون للمحقين بالحق ، وعلى الكافرين بالكفر ، أو تقيمون شهادتكم لوجه الله ، { وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } ومن القيام فأولى بالمرء نفسه ، وعلى كلِّ أحد أن يقوم لها وعليها ، بما يرجوا لها به الفكاك ، وبما يرجوا أن يسلم به من الهلاك ، ثم عليه القيام بعد ذلك على أهله وأقاربه الأقرب فالأقرب ، على ما يبلغ إليه طوله من القيام لهم بالقسط وعليهم ، ثم بعد ذلك حيث بلغت قدرته ، ليس معه لذلك غاية ، ولا له معه نهاية ، حتى يموت على ذلك إن شاء الله .

ومن القيام بالقسط لله أن يشهد له بالواحدنية ، وأنه ربٌّ معبود ، وعلى نفسه أنه عبدٌ له ، ويندرج في هذه الشهادة الشهادة بالحقوق والتحقيق ، { أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ } أي : ولو كانت الشهادة على أقاربكم ، { إِن يَكُنْ } المشهود عليه  { غَنِيّاً } فلا تمنع الشهادة عليه لغناه طلبا لرضاه ، { أَوْ فَقَيراً } فلا يمنعها ترحما عليه ، { فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا } بالغني والفقير ، أي : بالنظر لهما بالرحمة . { فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى } إرادة أن تعدلوا عن الحق ، من العدول ، وكراهة { أَن تَعْدِلُواْ } بين الناس ، من العدل أن تلووا ( بواوين ) { وَإِن تَلْوُواْ } ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل ، { أَوْ تُعْرِضُواْ } وقيل : بواو واحدة وضم اللام من الولاية ، { فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } إن أطعتموه أو عصيتموه ؛ وبذلك يتناول الترغيب والتخويف .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } خطاب لمن آمن باللسان ، { آمِنُواْ } أي : صدقوا بالقلوب ، وذلك بمعنى اليقين والمعرفة ، { بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ } أي : القرآن ، { وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ } أي : جنس ما أنزل على الأنبياء قبله من الكتب . قال أبو سعيد : (( إنما وجدنا تأكيد الإيمان من كتاب الله ؛ إنما وجدناه إيمان التصديق واليقين أو المعرفة ، وإنما يخاطب بذلك المقرِّين بالجملة )) . { وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : ومن لم يصدق بشيء من ذلك بقلبه ، { فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } لأنَّ الكفر ببعضه كفر بكلِّه .

 

{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } أي : طريقا إلى الجنة .

 

{ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ } أي : أخبرهم ، والبشارة : كلُّ خبر تتغير بشرة الوجه ساراًّ كان أو غير سارٍّ ، { بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } في الدارين .

 

{ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ } كان المنافقون يوالون المكفرة يطلبون منهم المنعة والنصرة . { فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً } لأن الله مالك الأمور كلِّها ، ومالك قلوب الكافرين الذين يريدون منها العزة .

 

{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا } قيل : دخل في هذه   [ الآية ] كلُّ محدث في الدين ، وكلُّ مبتدع إلى يوم القيامة . { فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ } أي : لا تشركوهم في كفرهم واستهزائهم ، { حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } حتى يشرعوا في كلام غير الكفر ،    { إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } في الوزر ، إذا قعدتم معهم لأجل استماع الخوض والاستهزاء ، أو رضيتم بفعلهم . { إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً } لاجتماعهم في الكفر والخوض والاستهزاء .

 

{ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ } ينتظرون { بِكُمْ } ما يحدث بكم ، من ظفر أو عكسه ، { فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ } نصر وغنيمة ، { قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } مظاهرين فأشركونا في الغنيمة ، { وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ } سمىَّ ظفر المسلمين فتحا ، تعظيما لشأنهم ، لأنه أمر عظيم تفتح له أبواب السماء ؛ و [ سمىَّ ] ظفر الكافرين نصيبا تخسيسا لحظهم ، لأنه قطعة من العذاب تصيبهم ،        { قَالُواْ } الكفَّار : { أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } الاستحواذ من الاستيلاء والغلبة ، كما قال : ( استحوذ عليهم الشيطان ) أي : استولى وغلبهم ، يقول : ألم أخبركم بعودة محمد r وأصحابه وبإطلاعكم على سرِّهم ؛ وقيل : يقول المنافقون للكفار : ألم نغلبكم على رأيكم ، { وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } بأن ثبطناهم عنكم ، وخلينا لهم ما ضعفت قلوبهم به ، وقصروا في قتالكم ؛ فهاتوا نصيبا مما أصبتم ،   { فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } أيها المؤمنون والمنافقون ، { يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فيدخل المنافقون النار والمؤمنين الجنة ، { وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } بل لهم عليهم السبيل .

 

{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ } أي : يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر .   { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } وهو خادعهم بإلاستدارج والإملاء من حيث لا يعلمون ، وكان ذلك منه على سبيل الجزاء ، لمَّا أن أظهروا الإيمان بالظاهر وأخفوا المعاصي ، أظهر الله لهم النعم الظاهرة ، وألبس عليهم ما يلبسون على أنفسهم ، حيث تصامموا وتعاموا عن الحق ، فيرون أنهم مهتدون .   { وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى } متثاقلين كراهة ، لا يريدون بها وجه الله ، ولا يرجون عليها ثوابا ، ولا يخافون من تركها عقابا ؛ ثم فسَّر إقبالهم إليها كسالى بقوله : { يُرَآؤُونَ النَّاسَ } أي : يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة ، { وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } إذ المرائي لا يفعل إلاَّ بحضرة من يرائيه ، وهو أقل أحواله ، أو لأن ذكرهم باللسان قليل بالإضافة إلى ذكر بالقلب . وقيل : المراد بالذكر الصلاة ، وقيل : الذكر فيها ، فإنهم لا يذكرون فيها غير تكبيرة الإحرام والتسليم . وقيل : لا يذكرون الله بإخلاص . وقيل : لا يذكرون الله في جميع الأحوال كما يجب عليهم ، بل يذكرونه في شيء ، وذلك لا ينفع .

 

{ مُّذَبْذَبِينَ } أي : مترددين حيارى ، يعني : ذبذبهم الشيطان والهوى ، بين الإيمان والكفر ؛ فهم مترددون بينهما متحيِّرون يعملون الطاعات عقيب المعاصي ، والمعاصي عقيب الطاعات مثل التي نقضت غزلها من قوة أنكاثا . { بَيْنَ ذَلِكَ } بين عمل الكفر والإيمان ، { لاَ إِلَى هَـؤُلاء } لا منسوبين إلى أهل الشرك بإظهارهم الإيمان بالألسنة ، { وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء } ولا إلى أهل الإيمان لأنهم لم يعملوا عملهم ، أو لا صائرين إلى أحدهم بالكلية . { وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } طريقـــا إلى الهــدى .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } فإنه صنيع المنافقين وديدنهم فلا تشبهوا بهم ، { أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } حجة بيِّنة في تعذيبكم .

 

{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } أي : في الطبق الذي في قعر جهنم ، والنار : سبع دركات سُّميت بذلك لأنها متداركة ، متتابعة بعضها فوق بعض ؛ وقيل : في توابيت من حديد مقفلة عليهم ، تتوَّقد فيه النار ؛ وإنما كان المنافق أشد عذابا من الكافر ، لأنه مثله في الكفر ، وضمَّ إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله . { وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } يمنعهم من العذاب .

 

{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ } من نفاقهم ، { وَأَصْلَحُواْ } ما أفسدوا ، { وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ } ووثقوا به ، كما يثق المؤمنون الخلَّص ، وهم المنقطعون إليه بالكلية ، { وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ } لا يبتغون بطاعتهم إلاَّ رضاه عنهم ، { فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } رفاقهم في الدارين ، له مالهم ، { وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً } فيشاركونهم فيهم ، ثم استفهم مقرِّرا أنه لا يعذب المؤمن الشاكر فقال :

 

{ مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ } نعم الله { وَآمَنتُمْ } أيتشفى به غيظا ؟ أو يدفع ضرا ؟ أو يستجلب به نفعا ؟ وهو الغني المتعالي عن النفع والضر ، وإنما يعاقب المصر بكفره ، لأن إصراره كسوء مزاج ، يؤدي إلى مرض ؛ فإذا أزله بالإيمان والشكر ، ونفى عنه نفسه ، يخلص من اتبعته . { وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً } يجزيكم على شكركم ، أو يقبل اليسير من العمل ويعطي الجزيل من الثواب ، { عَلِيماً } عالما بما تصنعون .   

 

{ لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } أي : ومن ظُلم لا يُحب الله الجهر منه ،       { وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً } بظلم الظالم ؛ ثم حث على العفو ، وأن لا يجهر أحد بسوء ، وإن كان على وجه الانتصار ، فقال :

 

{ إِن تُبْدُواْ خَيْراً } أي : تظهروه ، { أَوْ تُخْفُوهُ } أو تسُّروه ، { أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ } أي : عن مظلمة ؛ أي : تمحوه عن قلوبكم اختبار للثواب . { فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً } أي : أنه لم يزل يعفو عن الآثام مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنته وتتصفوا بأوصافه .

 

{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ } بأن يؤمنوا بالله ويكفروا برسله ، { وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } كاليهود كفروا بعيسى ومحمد والإنجيل والقرآن ، وكالنصارى كفروا بمحمد والقرآن ، وكذلك من رد حجة عالم أقام عليه بشيء من دين الله ، أو رد حقا ألهمه الله إياه من عقله ، أو أعرض ‘ عن آية من آيات الله تعالى ، فهو داخل في معنى هذه الآية . { وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً } أي : ذنبا وسطا بين الإيمان والكفر .

 

{ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } هو الكاملون في الكفر ، لأنَّ الكفر بواحد كفر بالكل ، {  حَقّاً } تأكيد لمضمون الجملة ، كقولك : هذا عبد الله حقا ، أي : حق ذلك ، وهو كونهم كاملين في الكفر ، أو هو صفة لمصدر الكافرين هم الذين كفروا حقا ثابتا يقينا لا شك فيه ، {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } معجَّلا ومؤجلا .

 

{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ } كلهم ، ولم يردوا حجة الله [ لما ] قامت عليهم ، { وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } لمن وصفهم [ كذا ] ، { أُوْلَـئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ } في الدارين بإيمانهم بالله وكتبه ورسله { وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } (لعله) يعني : من الرسل ، والمؤمنون يقولون : ( لا نفرق بين أحد من رسله ) .

 

{ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ } قيل : كتابا محررا بخط سماوي على ألواح ، كما كانت التوراة ، أو كتابا نعاينه حين ينزل ، أو كتابا إلينا بإعياننا ... بأنك رسول الله وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت . قال الحسن : (( لو سألوه لكي يتبنوا الحق لأعطاهم ؛ وفيما آتاهم كفاية )) . { فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ } أي : أعظم من ذلك ؛ وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم ، لكونهم راضين بسؤالهم جهرة ، { فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً } عيانا ؛ { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ } قيل : نار جاءت من السماء فأهلكتهم {  بِظُلْمِهِمْ } على أنفسهم ، بسؤال شيء في غير موضعه ، أو بالتحكم على نبيهم ، { ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ } إلهاء ، { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ } تفضُّلا ، ولم نستأصلهم بالهلاك ، قيل : هذا استدعاء إلى التوبة ، معناه : أولئك الذين أجرموا تابوا فعفونا عنهم ، فتوبوا أنتم حتى نعفو عنكم مثلهم . {  وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً } حجة ظــــاهرة .

 

{ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ } بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوا ، { وَقُلْنَا لَهُمُ } والطور مضٌّل عليهم : { ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً } متواضعين منقادين ، غير متعالين على الله ورسوله وكتبه ،        { وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ } لا تجاوزا الحد ، { فِي السَّبْتِ } معناه : لا تعدوا لا تظلموا باصطياد الحيتان فيه { وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } قيل : قولهم سمعنا وأطعنا ، أو خلقهم على الفطرة .

 

{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ } بغير سبب يستحقون القتل ، { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } أي : محجوبة لا يتوصل إليها شيء من الذكر والوعظ ، وقيل : أوعية للعلوم ، أو ( في أكنة مما تدعونا إليه ) فقال مكذبا لهم : {  بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } فجعلها محجوبة عن العلم ، لما فيها من التجاهل ، أي : منعها الإلطاف ، وخذلها بسبب كفرهم ، فصارت كالمطبوع عليها ، {  فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } منهم ، أو إيمانا غير خالص ، ولا منتفع به إلاَّ في دار الدنيا ، أو الإيمان ببعض والكفر ببعض ، كما قال : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) وكأن هذا أصــح .

 

{ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } هو النسبة إلى الزنا .

 

{ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ } سُمِّي مسيحا قيل : لأن جبريل u مسحه بالبركة ، أو لأنه كان يمسح المريض والأكمه والأبرص فيبرأ ، فسُمي مسيحا بمعنى الماسح . { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ } إتباع الظن ليس من جنس العلم ، { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً o بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } .

 

{ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قيل : ليس أحد من أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن به قبل موته ، يعني : إذا عاين أسباب الموت ، حين لا ينفعه إيمانه ، لانقطاع وقت التكليف والاختبار .     { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } كما قال : ( فكيف إذا جئنا من كلِّ أمة بشهيد ) .

 

{ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } دينيه ودنيوية كما قال : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) والمعنى : ما حرمنا عليهم من الطيبات إلاَّ لظلم عظيم ارتكبوه ، وهو عُدِّد قبل هذا . { وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ } وبصرفهم أنفسهم وغيرهم عن الإيمان ، { كَثِيراً } خلقا كثيــرا .

 

 { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } في الداريــن .

 

{ لَّـكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } أي : الثابتون فيه المتقنون لدقائقه ، { مِنْهُمْ } من أهل الكتاب ،       { وَالْمُؤْمِنُونَ } من المهاجرين والأنصار ، {  يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } القرآن وما تقدمه ، { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَـئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } في الدارين .

 

{ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ } قيل : أولاده ، { وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } .

 

{ وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } الذين خصهم بالذكر مع اشتمال النبيين عليهم تعظيما لهم ، { وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } .

 

{ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } تنبيه على أن بعثة الأنبياء إلى الناس ، ضرورة ، لقصور الكل عن أدراك جزئيات المصالح ، والأكثر عن أدارك كلياتها ، وفيه دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق إلاَّ بعد بعثة الرسل لقوله : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) . { وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } في بعث الرسل للإنذار .

 

ولما نزل ( إنا أوحينا إليك .... ) قالوا : ما نشهد لك بهذا فنزل : { لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ } ومعنى شهادة الله بما أنزل إليه : إثباته لصحته بإظهار المعجزات ، كما تثبت الدعاوى بالبينات ، إذ الحكيم لا يؤيد الكاذب بالمعجزة ، { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } بعلمه الذي يحتاج إليه الناس ، في معاشهم ومعادهم ، { وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ } لك بالنبوة ، وفيه تنبيه على أنهم يؤدون أن يعلموا صحة دعوى النبوءة على وجه يستغني عن النظر والتأمل ، وهذا النوع من خواص الملك ، ولا سبيل للإنسان إلى العلم بأمثال ذلك سوى الذكر والنظر ؛ فلو أتى هؤلاء بالنظر الصحيح لعرفوا نبوتك وشهدوا بها { وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً } شاهدا وإن لم يشهدوا غيره .

 

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ } بتكذيب محمد r ، {  وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ } ومنعوا الناس عن سبيل الحق ، {  قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيداً } عن الحق ، لا يستطيعون الرجوع على الهدى ، ولا يرجى لهم ما داموا على الكفر .

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } ما داموا على الكفر ، { وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً 0 إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً } مقيمين على الإصرار لا تقع منهم (لعله) طاعة ، ولا تأتي منهم إلا ما يقربهم إلى جهنم ، ويبعدهم من الجنة والرحمة .

 

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بإيمانكم ، { وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً } بأحوالـــكم ، { حَكِيماً } في ما دبَّر لكم .

 

{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ } لا تجاوزا الحدَّ فغلت اليهود في حطِّ المسيح عن منزلته ، حتى قالوا : إنه ابن الزنى ، وغلت النصارى في رفعه عن مقداره حيث جعلوه ابن الله ، { وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ } وهو تنزيه عما لا يليق به . {  إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } لا ابن الله ،    { رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ } أي : آيته { أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ } أي : أعلمها ، { وَرُوحٌ مِّنْهُ } سمي روحا : لأنه كان يحيي الأموات أو القلوب ، { فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ } بيان لتنزيهه مما نسب إليه [ والـ ] نعنى أن كل ما فيهما خلقه وملكه ، فكيف يكون بعض ملكه جزءاً منه ؟ ، إذ النبوة والملك لا يجتمعان ، على أن الجزء إنما يصح في الأجسام ، وهو يتعالى عن أن يكون جسما . { وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً } حافظا ومدبرا لهما ولما فيهما .

 

{ لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ } أي : لن بأنف ولن يتعظَّم والاستنكاف : التكبر مع الأنفة ، { أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } أي : الكروبيُّون الذين حول العرش ، كجبريل ومكائيل وإسرافيل ومن في طبقتهم ، والمعنى : والملائكة المقرَّبون أن يكونوا عبادا لله . واختلف في الأفضل من الملائكة والمؤمنين من البشر ؛ فقيل : الملائكة ، لأنهم لا يعصون الله أبدا ، وقيل : المؤمنون من البشر أفضل ، لأنهم تعبدوا بقهر البواعث النفسانية ، والدواعي الجسدانية ، فكانت طاعتهم أشق لكونها مع الصوارف ، بخلاف طاعة الملائكة ، لأنهم جُبلوا عليها ، فكانت أزيد ثوابا ، ولقول الله تعالى : ( أولئك هم خير البرية ) والملائكة من البرية ؛ وقيل : إن خواص البشر وهم الأنبياء عليهم الصلاة [ والسلام ] والرسل أفضل من خواص الملائكة ، وهم الرسل ، كجبريل وميكائيل وعزرائيل ونحوهم ؛ وخواص الملائكة أفضل من عوام المؤمنين من البشر ؛ وعوام المؤمنين من البشر أفضل من عوام الملائكة { وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ } والاستكبار دون الاستنكاف { فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } فيجازيهم على استنكافهم واستكبارهم .

 

{ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ } في الدارين ، { وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً } في الدارين ، { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } ينصرهم من عذابه .

 

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ } أي : رسول يُبهر المنكر بالإعجاز ، { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } قرآنا يُستضاء به في ظلمات الحيرة .

 

{ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ } امتنعوا به من زيغ الشيطان ، { فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ  مِّنْهُ } ثواب قدره بإزاء إيمانه وعمله ، ورحمة منه لا قضاء الحقِّ واجب { وَفَضْلٍ } إحسان زائد عليه ، { وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } غير معوجٍّ ولا زائغٍ ولا متردِّدٍ .

 

{ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } أي : يُبيِّنُ الله لكم ضللاكم الذي من شأنكم إذا خليتم من طباعكم ، لتميلوا عنه وتهووا خلافه ، { وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } يعلم الأشياء بكنهها قبل كونها وبعده .