قيل مدنيه ، وهي مائتان وسبع وثمانون آية

بسم الله الرحمن الرحيم       

 { الم } ونظائرهـا قيل : إنها أسمـاء للسُّور ، وقيل : إنها اسم الله الأعظم ، وقيل : إنها من المتشابه الذي لا يعلمه إلاَّ الله ، وفائدة ذكرها طلـب الإيمان بها ، كما قال : { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } الله ، وقيل غير ذلك .

 

{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } أي ذلك الكتاب الكامل ، { لاَ رَيْبَ } لا شك فيه أنه من عند الله وأنه الحق الصدق ، وحقيقة الريبة قلق النفس واضطربها ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : (( دع ما يريبك إلى ما يريبك )) فأن الشك ريبة ، وإن الصدق اطمئنانية ، أي : فإن كون الأمر مسلوك فيه كما تقلق له النفس ولا تستقر ، وكونه صحيحا صادقا مما تطمئن له القلوب وتسكن ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) ، والمعنى : أنه من وضوح دلالته بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه ؛ إذ لا مجال فيه .

 

{ فِيهِ هُدًى } وإنما قيل : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } ، والمتقون : مهتدون به إلا الفاسقون ، ولم يقل : هدى للضالين ؛ لأنهم فريقان : فريق علم بقاءهم على الضلالة ، وفريق علم أن مسيرهم إلى الهدى ، وهو هدى لهؤلاء فحسب ، فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل : هدى للسائرين إلى الهدى ، فاختصر الكلام بإجرائه على الطريقة التي ذكرنا ، فقيل : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } والمتقي في الشريعة : هو الذي يقي نفسه تعاطي ما تستحق به العذاب ، ويقال : اتقى بترسه ، أي : جعله حاجزا بين نفسه بين ما يقصده ، فكان التقي يجعل امتثال أوامر الله والاجتناب عما نهاه عنه ، حاجزا بينه وبين العذاب ، ( لعله ) أي : هو بيان ورشد لأهل التقوى ، والتقوى : عبارة عن مقتضى الخوف ، مع أن فيه تصدير للسورة التي هي أولى الزهراوين ، وسنام القران . بذكر ألياء الله .

 

والمتقي في اللغة اسم فاعل من قولهم : وقاء فتقي ، ففائها واو ولامها ياء ، فإذا بنية من ذلك " افتعل ’’ قلبت الواو ياء وأدغمتها في التاء الأخرى ، فقلت : اتقي . والوقاية فرط   الصيانة ، وقيل : لا كمال أكمل ما للحق واليقين ، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبة : وقيل لعالم : فيم لذتك ؟ قال : << في حجة تتحرَّ اتضاحاً ، وفي شبهة تتضاءل افتضاحاً >> . ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين ، فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله ، وحقاً { َلا يأتيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ } ، والمتقي في الشريعة هو الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقاب من فعل أو ترك .

 

{ الَّذِينَ } هم الذين { يُؤْمِنُونَ } يصدقون { بِالْغَيْبِ } بما غاب عنهم مِماَّ أنبأهم به النبيr من أمر البعث والثواب والعقاب وغير ذلك ، فهو بمعنى الغائب . وحقيقة الإيمان في الشرع  هو المعرفة بالله وصفاته وبرسله ، وجميع ما جاءت به رسله ؛ وكل عارف بشيء فهو مصدَّق به ، لأن الإيمان هو التصديق ، والمؤمن هو المصدَّق ، والمصدَّق هو المقرَّ المعترف بالإسلام . والتصديق من الإيمان الطاعة والعمل لله بما أمر . { وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ } يتشمَّرون لأدائها من غير فتور ولا توان ؛ أو أريد بإقامتهاتعديل أركانها . وقيل : للداعي مصلٍّ تشبيهاً في تخشُّعه بالراكع الساجد ، ويقال : أقام بالأمر ، وأقام الأمرَ ، أتى به معطيا حقوقه . {  وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } المراد به الزكاة لاقترانه بالصلاة التي هي أختها ، أو غيرها من الانفاق في سبيل الخير لمجيئه مطلقا .

 

{ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } يعني : القرآن ، { وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } سائر الكتب المنزَّلة قبلة ، { وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } الإيقان العلم بانتقاء الشكِّ .

 

{ أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } أي منحوه وأعطوه من عنده ، وهو اللطف والتوفيق على أعمال البَّر . { وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي الظافرون بما طلبوا ، الناجون عمَّا هربوا ، فالفلاح دَركُ البُغية ، والمفلح والفائز من البغية كأنَّه الذي انفتحت له وجوه الظفر .

 

{  إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } والكفرُ سِبرُ الحق بالجحود وغيره ، والكفر هو التغطية للحق والستر عليه ، وإظهار خلافه ، كما يقال : (( كفر فلانٌ حقه )) ، إذا أنكره وجحده وغطَّاه ، فالكفر تغطية الحق ، فغطوه وجحدوه . وكفر نعمة الله : جحدها وسترها ، والمكفر : المجحود النعمة مع إحسانه ، وكافره حقه : جحده ، والتكفير في المعاصي كالإحباط في الثواب .

 

{ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } بهمزتين كوفي في [ كذا ] ، و(( سواء )) بمعنى الاستواء ، كأنه قيل : إن الذين كفروا مستوٍ عليهم إنذارك وعدمه ، والإنذار التخويف من عقاب الله ، { لاَ يُؤْمِنُونَ } .

 

{ خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ } قيل : الختم التغطية ، لأنَّ في الاستيثاق من الشيء يضرب الخاتم عليه تغطية له لئلا يطلَّع عليه . وقال ابن عباس : << طبع الله على قلوبهم ، فلا يعقلون الخير >> يعني أن الله طبع عليها فجعلها حيث لا يخرج منها ما فيها من الكفر ، ولا يدخلها ما ليس فيها من الإيمان ، وحاصل الختم والطبع والرَّين والحجابِ والعمى والغطاء خلق الظلمة والضيق في صدر العبد عندنا ، فلا يؤمن ما دامت تلك الظلمة في قلبه . وقال بعضهم : إن إسناد الختم إلى الله تعالى مجاز ، والخاتم في الحقيقة الكافر ، إلا أنه تعالى لمَّا كان هو قدَّره ومكَّنه أسند إليه الختـم .

 

{ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } البصر : نور العين ، وهو ما يبصر به الرائي ، كما أن البصيرة نور القلب ، وهو ما به يستبصر ويتأمَّل ؛ وكأنَّهما جوهران لطيفان خلقهما الله تعالى ، فيهما آلتين للإبصار والاستبصار . والغشاوة : الغطاء والأسماع داخلة في الختم ، لا في حكم التغشية . قال أبو المنصور : << الكافرُ لمـَّا لم يسمع قول الحقَّ ، ولم ينظر في نفسه وغيره من المخلوقات ، ليرى آثار الحدث ، فيعلم أن لا بدَّ له من صانع ، جُعل كأنَّ على بصره وسمعه غشاوة ، وإن لم يكن ذلـك حقيقة >> . والغشاوة فِعَالَة من ’’غشاه‘‘ ، إذا غطَّاه .

 

{ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } ومعنى التنكير أنَّ على أبصارهم نوعا من التغطية غير ما يتعارفه الناس ، وهو غطاء التعامي عن آيات الله ، ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم من العذاب ، لا يعـلم كنـهه إلا الله ، والفرق بين العظيم والكبير أنَّ العظيم يقابل الحقير ، والكبير يقابل الصغير . والعذاب قيل ما يمنع الإنسان عن مراده ، كأنَّهم مُنعوا عن مرادهم الحقيقي ، إلا أنهم لم يعلموا به ، ولذلك قال : (وَمَا يَشْعُرُونَ ) ، ( لعلَّهُ ) لأنَّهم تركوا التفكُّر عن حقيقة مـآلهم فصاروا معذَّبين في الدنيا والآخرة في المعنى ، لأنَّ مـا بـهم من دنياهم ليس بثابت ، فليس بشيء في الحقيقة ؛ والمؤمنون يضدِّ ذلك ، فهم منعَّمون في الدنيا والآخرة ما ينالهم من المكروهات في الدنيا ليس بباقٍ ، ولهم الثواب عليـه .

 

{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ } افتتح سبحانه بذكر الذين اخلصوا دينهم لله ، وواطـأت فيه قلوبهم ألسنتهـم ؛ ثَّم ثني بالكافر قلوباً وألسنة ؛ ثمَّ ثلَّث بالمنافقين الذي آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، وهـم أخبث الكفرة ، لأنهم خلطوا بالكفر استهزاء وخداعاً ، ولذا نزل فيهم : (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) . { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } إنكاراً لمِا ادَّعوه من الإيمان ونفيــه .

 

{ يُخَادِعُونَ اللّهَ } يظهرون غير ما في نفوسهم ، فالخداع إظهار غير ما في النفس . { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم } أي وما يعاملون تلك المعاملة المشَّبه بمعاملة المخادعين ، لأنَّ ضررها يلحقهم ، وحاصلُ خداعهم وهو العذاب في الآخرة يرجع إليهم ؛ فكأنَّهم خدعوا أنفسهم . والنفس ذات الشيء وحقيقته ، والخداع من الله في قوله { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } أي يظهر لهم ويجعل لهم من النعيم في الدنيا خلاف ما يغَّيب عنهم من عذاب الآخرة ؛ وقيل : أصل الخداع الفسادُ ، معناه يفسدون ( لَعَلَّهُ ) ما أظهروا من الإيمان بما أضمروا من الكفر ؛ { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } : ( لَعَلَّهُ ) أي يفسد عليهم ( لعلَّه ) يعني في الدنيا ، لما (لعلَّه) يصيروا إليه من عذاب الآخرة . ثم قيل : للقلب والروح << النفسُ>> ، لأنَّ النفس بهما ، وللدم نفس ، لأنَّ قوامها بالدم ، وللماء نفس لفرط حاجتها إليه ؛ والمراد بهما بالأنفس هاهنا ذواتُـهم ، والمعنى : لُمِخـادعتهم ذواتِهم ، لأن الخداع لاصقٌ بهم ، لا يعدوهم إلى غيرهم . {  وَمَا يَشْعُرُونَ } أن حاصل خداعهم يرجع إليهم ، والشعور على الشيء علم حسًّ من الشعار وهو ثواب يلي الجسد ، ومشاعر الإنسان حواسُّه لأنَّها آلات ، والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس ، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حسَّ لــه .

 

{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي شكٌّ أو نفاقٌ ، لأنَّ الشـكَّ تردُّد بين الأمرين ، والمنافق متردِّد ؛ في الحديث : << مثلُ المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين >> ، والمريض متردَّد بين الحياة والموت ، ولأنَّ المرضَ ضدُّ الصحَّة ، والفساد يقابل الصحَّة ، فصار المرض اسماً لكلِّ فساد ؛ والنفـاق فسـادٌ في القلب . { فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً } أي ضُعفاً عن الانتصار ، وعجزاً على الاقتدار ؛ وقيل : المراد به خَلقُ النفاق في حالة البقاء بِخَلقِ أمثاله ، كما عُرف في زيـادة الإيمان ؛ وقيل : لأنَّ الآيات كانت تنزل تترى آية بعد آية ، كلمـا كفروا بآية ازدادوا كفراً ونفاقاً ، وذلك معنى قوله : (  وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ) . {  وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي مـؤلم ، يخلص وجعه إلى قلوبهم {  بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } أي بَكَذبهم في قولهم : (آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ) .

 

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ } الفساد خروج الشيء عن حـال استقامته وكونه منتفعاً به ، وضدُّه الصلاح ، وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة ؛ والفساد في الأرض هيج الحروب والفتن ، لأنَّ في ذلك فسـاداً في الأرض وانتفاء الاستقامة على أحوال الناس ، والزروع والمنافع الدينيَّة والدنيويَّة . {  قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي إنَّ صفة المصلحين حصلت لنا ، وتمحَّضت من غير شائبة قادح فيها من وجه من وجوه الفساد ، وذلك ظنًّا منهم وحرصاً بلا قيام دليل ، ولو قابلوا أحوالهم بالدليل لاستبان لهم فسادها عياناً .

 

{ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ } أنفسهم بالكفر ، والناس بالتعويق عن الإيمان ، { وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } أي لا يعلمون أنـَّهـم مفسدون ، لأنَّهم يظُّنون أن الذي هم عليه من إبطال الحقَّ صلاح ، قد ردَّ الله ما ادَّعوه من جملة المصلحين أبلغ ردَّاً .

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء } نُصحوا من وجهين : أحدهما تقبيح ما كانوا عليه لبعده من الصواب ، وجرَّه إلى الفساد ، وثانيها تبصيرهم لطريق السداد ، وكان مِن جوابهم أن سفَّهوهم وجهَّلوهم لتمادي جهلهم ، وفيه تسلية للعـالِم مِمَّا يلقى من الجهلة . وذكرَ الناس أي كما آمن الكاملون في الإنسانية ، أو جُعل المؤمنون كـأنَّهم الناس على الحقيقة ، ومن عداهم كالبهائم ، وإنما سفَّهوهم وهم العقلاء المراجيح لأنهم جُمع لجهلهم اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق ، وأن ما عداه باطل ، ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً م والسفه سخافة العقل ، وخّفة الحِلم ؛ وقيل : السفيه خفيف العقل ، رقيق الحِلم ، وقولهم : ثوبٌ سفيه أي رقيق .

 

{ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } إنهـم هم السفهـاء .

 

{ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا } بياناً لمذهب المنـافقين ، { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } رؤوسهم الذين ماثلوا الشياطين في تمرُّدهم ، والشيطـان : المترِّد العاتي من الجنِّ والأنس ، وأصله البُعد ، يقال : بئر شيطان ، أي بعيدة قعر العمق ؛ وسمِّي الشيطان شيطاناً لامتداده في الشَّر وبعده من الخير ، { قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ } أي مصـاحبوكم وموافقوكم على دينكم ، { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } توكيد لقوله : { إِنَّا مَعَكْمْ } وقولـه : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } ردٌّ للإسلام ، لأن المستهزئ بالشيء المستخفَّ به منكرٌ له ، والاستهزاء السخرية والاستخفاف ، { اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } أي يجازيهم على استهزائهم ، فسمي جـزاء الاستهزاء باسمه ، كقوله : { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } ، { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ } فسمَّي جزاء السيئة سِّيئة ، وجزاء الاعتداء اعتداء ، وإن لم يكن الجزاء سيئِّة والاعتداء ؛ وهذا لأن الاستهزاء على الله تعالى لا يجوز من حيث الحقيقة ، لأنه من باب العبث وتعالى عنه ، ويجوز في المعنى استهزاؤه بهم خذلانُه لهم ، وترك نصرته إياهم ، كما تركوا دينه ، ولم يحتلفوا به ، على المعنى المقابلة والمجازاة ، لأنهم إذا تركوا دينه فقد اتخذوه هزُؤاً ، ولم يستهزئوا بألسنتهم ؛ وقيل : معناه إهانتهم لأن المستهزئ غرضه بالشيء غرضه إدخال الهوان والحقارة عليه . { وَيَمُدُّهُمْ } يمهلهم { فِي طُغْيَانِهِمْ } في غلَّوهم وكفرهم {يعْمَهُونَ } أي : يعمهون ويترَّددون ، والعَمة محرَّك تردُّدٌ في الضـلال ، والتحيُّر في منازعةٍ أو طريق لا يعرف الحجَّة .

 

{ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى } أي استبدلوها به ، واختاروها عليه ، وفيه دليل على جواز البيع تعاطياً ، لأنهم لم يتلفظوا بلفظ الشراء ، ولكن تركوا الهدى بالضلالة عن اختيار ، وسمَّي ذلك شراء ، فصار دليلاً على أن من أخذ شيئاً من غيره وترك عوضه برضاه فقد اشتراه وإن لم يتكلم به . وضلالةٌ : الجور عن القصد ، [و] فقدُ الاهتداء ، يقال : ضلَّ منزله ، واستعير للذهاب عن الصواب في الدين ، { فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ } الربح الفضل على رأس المال ، والتجارة صناعة التاجر ، وهو الذي يبيع ويشتري للربح ، { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } لطريق التجارة ، كما يكون التجَّار المتصَّرفون العالِمون بما يُرشَّح بربحٍ فيه ويخسروا ، والمعنى أن مطلوب التجَّار سلامة رأس المال والربح ، وهؤلاء قد أضاعوها ، فرأس مالهم الهدى ، ولم يبق لهم مع الضـلالة ، وإذا لم تبق لهم إلاَّ الضـلالة لم يوصفوا بإصابة الربح وإن ظفروا بالأعراض الدنيوية ، لأن الضَّال خاسرٌ ، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله : قد ربح .

 

{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً } لمـَّا جاء بحقيقة صفتهم عقَّبها بضرب المثل زيادة في الكشف ، وتتميماً للبيان ، ولضرب الأمثال في إبراز خفيَّات المعاني ، ورفع الأستار عن الحائق ، بائير ظاهر ، ولقد كثر في الكتب السماوية ومن سور الإنجيل سورة الأمثال ، والمثل في أصل كلامهم هو ، وهو [كذا] النظير ؛ يقال : مَثل ومِثل .

 

{ فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } فالمنافق خابط في ظلمات الكفر أبداً ، ولكن المراد ما استضاؤوا به قليلاً من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم ، ووراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق المخفية ، المفضية إلى ظلمة العقاب السرمدَّي ؛ وللآية تفسير آخر ، وهو أنهم لمـَّا وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى ، عقبَّ ذلك بهذا التمثيل ليمثِّل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد ، والضلالة التي اشتروها بذهاب الله بنورهم ، وتركِه إيَّاهم في الظلمـات .

 

{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } أي هم صمٌّ ، كانت حواسُّهم سليمة ولكن لمَّا سدُّوا عن الإصاخة إلى الحق مسامعَهم ، وأبوا أن يُنطقوا به ألسنتهم ، وأن ينظروا ويتبصروا بعيونهم ، جعلوا كأنَّما انتقبت حشاعرهم أو أنهم حينما لم يستعملوها فيما جعلت له ، كأنهم عدموها فصارت كَلاَ شيء ، وكأنهم خلقوا (لعلة) بغير آذان وبغير ألسن وبغير أعين ، وإن وجدت صُوَرها بهم ، لأنَّ تلك الآلات أريدت ( لعلَّة) لا لغيرها . وقدَّم ذكر الصِّم على البكم ، لأنَّ من لم يسمع الحقَّ لتصاممه عنه لم يفهم معانيه ، ومن لم يفهم معانيه لم يستطع أن ينطق به ، وقدَّم ذكر البكم على العمى ، لأنَّ من لم يستطع أن ينطق بالحقَّ لم يقدر أن يعمل به ، وهذه الأحوال متلازمة لا ينفك بعضها من بعض ، لأن من استمع علم ، ومن علم عمل . { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها ، أو أراد أنهم متحيرون ، بقوا خامدين في مكاناتهم لا يبرحون ، ولا يدرون أيتقدّمون أم يتأخَّرون .

 

{  أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } ثنّى الله سبحانه في شأنهم بتمثيل آخر ، لزيادة الكشف والإفصاح ، وشبَّه المنافق في التمثيل الأوَّل بالمستوقد ناراً ، وإظهاره الإيمان بالإضاءة ، وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار ، وهنا شبَّه دين الإسلام بالصيَّب ، لأن القلوب تحيى به حياة الأرض بالمطر . { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ } الصاعقة قصفة رعد تنفض معها شقَّة من نار ، قالوا : تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه ، وهي نار لطيفة حديدة لا تمرُّ بشيء إلاَّ أتت عليه ، إلاَّ أنها مع حدَّتها سريعة الخمود ؛ يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو نصفها ثمَّ طفئت . ويقال : صعقته الصاعقة ، إذا أهلكته ، فصعق أي مات ، إمـا بشدة الصوت أو بالإحراق . { حَذَرَ الْمَوْتِ } الموت فساد بنية الحيوان ، أو عرَض لا يصح معه إحساس ، معاقب للحياة . { واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ } يعني أنـَّهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاطُ به المحيطَ بـه .

 

{ يَكَادُ الْبَرْقُ } أي يقرب ، يقال : كاد يفعل إذا قرب ولم بفعل ، { يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } الخطف الأخذ بسرعة ، و<< كاد>> يستعمل لتقريب الفعل ، { كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ } هذا تمثيل لشدَّة الأمر على المنافقين بشدَّته على أصحاب الصَّيب ، وما هم فيها من غاية التحَّير والجهل ، لمِا يأتون وما يذرون ، إذا صادفوا من البرق خفقة مع خوف أن يخطف أبصارهم ، انتهضوا لتلك الخفقة فخطوا خطوات يسيرة ، فإذا خفي لمعانُه بقوا واقفين ، { وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } وقفوا وثبتوا في مكانهم متحَّيرين ، فالله شبَّههم في نفاقهم بقوم كانوا في مفازة في ليلية مظلمة أصابهم مطر ، فيه ظلمات ، لا يقدر على المشي فيها ، فالماء القرآن لأنه حياة الجَنان ، والظلمات صفة الكفر ، والبرق صفة الهدى . { وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي إن الله قادر على كلِّ شيءٍ .

 

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } أكثر النداء في القرآن من الله لعباده ، من أوامره ونواهيه ، ووعده ووعيده ، أمور عظام ، وخطوب جسام ، يجب عليهم أن يتيقظوا لها ، ويميلوا بقلوبهم إليها ، وهم عنها غافلون ، وعن معانيها ساهون ، فاقتضت الحال ـ أن ينادوا ياء كدالابلغ (؟) [كذا] ، فقال : { اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } قيل : كلُّ عبادة في القرآن فهو توحيد ، ومن وحدَّ الله تعالى فقد عبده ، ومن عبده فقد وحدَّه . { الَّذِي خَلَقَكُمْ } الخلق إيجاد المعدوم على تقدير واستواء ، { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } احتجَّ عليهم بأنَّه خالقهم وخالق من كان من قبلهم ، لأنَّهم كانوا مقرَّين بذلك ، وإذا تقرر ذلك معهم في عقائدهم ، اقتضى الحال أ، لا يستحق العبادة سواه ، فقيل لهم : إن كنتم مقرَّين بأنه خالقكم فاعبدوه ولا تعبدوا الأصنام ؛ ومما سواه ؛ ومما يدخل في اسم الأصنام والآلهة عبادة الأَهوِية بغير الحقِّ ، كما قال : ( أفرأيت من  اتخذ إلهه هواه ) ، { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي اعبدوه على رجاء أن تتقوا ، فتنجوا بسببه مِن العذاب ، وقيل : لعلَّ بمعنى كي .

 

{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً } بساطاً ، تقعدون عليها ، وتنامون وتتقلبون ، { وَالسَّمَاء بِنَاء } سقفاً ، { وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً } أمثالاً تعبدونهم كعبادة الله ، وهو متعلق بالأمر ، أي اعبدوا ربَّكم الذي جعل لكم هذا لتسعينوا به على العبادة فلا تجعلوا له أنداد ، لأن أصل العبادة وأساسها التوحيد ، وأن لا يجعل له ندَّ ولا شريك في شيء ، لأنه لم يشاركه أحد في ما جعله وخلقه وأنعم به عليكم ، { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنه لا يخلق ولا يرزق ولا يستحق العبادة غيره ، فكيف وأنتم من أهل العلم ، وجعلُ الأصنام لله أندادً غاية الجهل ، ولمَّا احتج عليهم بما يثبت الوحدانية ، ويبطل الإشراك ، [أحتج] بخلقهم أحياء قادرين ، وخلق الأرض الني هي مكانهم ومستقَّرهم ، وخلق السماء التي هي كالقبَّة المضروبة على هذا القرار وما سواه عزَّوجلَّ ، من شبه عقد النكاح التكافؤ بين المقلة والمظلة بإنزال الماء منها عليها ، والإخراج به من بطنها من الثمار رزقاً لهم ، فهذا كلُّه دليل موصل إلى التوحيد ، مبطل للإشراك ، لأن المخلوقات عاجزة لا تقدر على إيجاد شيء ، فكيف تستحقُّ أن تعبد ، ثم عطف على إثبات نبوَّة محمدr فقال :

 

{ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } العبد اسم لمملوك من جنس العقلاء ، أي إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله ، { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ } أي فهاتوا أنتم بسورة { مِّن مِّثْلِهِ } والسورة الطائفة من القرآن المترجمة التي أقلها ثلاث آيات ، وواوها إن كانت أصلاً فإما أن يسمَّى بسورة المدنية وهي حائطها ، لأنَّها طائفة من القرآن محدودة محجورة على حبالها كالبلد المسَّور ، أو لأنها محتوية على فنون من العلم ، وأجناس من الفوائد ، كاحتواء سورة المدنية على ما فيها ؛ وإمَّا أن تسمَّى بالسورة التي هي الرتبة ، لأن السُّور بمنزلة المنازل والمراتب ، يترقَّى منها المماري ؛ أو لرفعة شأنها ، وجلالة محلها في الدين ؛ وإن كانت منقلبة عن همزة فلأنها قطعة وطائفة من القرآن، كالسؤرة ، وكالتي هي البقية من الشيء من مثله على صقته في البيان الغريب وعلوَّ شأنه .

 

{ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ } أي غير الله ، أي ادعوا الذين اتخَّذتموهم آلهة من دون الله ، وزعتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحقَّ ، أو من يشهد لكم بأنه مثل القرآن ، { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أن ذلك مختلق .

 

{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } لمَّا أرشدهم إلى الجهة التي منها يتعرَّفون صدق النبي u قال لهم : فإذا لم تعارضوه وبان عجزكم ، ووجب تصديقه ، فآمنوا وخافوا العذاب المعدَّ لمن كذَّب ؛ ومعنى قوله { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } فإنها نار عن غيرها من النيران ، بأنها تتقَّد بالناس والحجارة ، وهي حجارة الكبريت فهي أشدُّ توقٌّدً ، وأبطأ خموداً ، وأنتن رائحة ، وألصق بالبدن ؛ { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } هيَّئت لهم .

{ وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } لأن الإيمان الحقيقي يقتضي العمل بالصالحات دون المفسدات ، والصالحاتُ كلُّ ما استقام من الأعمال بدليل العلم ، قال معاذ : << العمل الصالح الذي فيه أربعة أشياء : العالم ، والنية ، والصبر ، والإخلاص >> ؛ { أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ } تنكيرها أن الجنة اسم لدار الثواب كلّها ، وهي مشتملة على جنانٍ كثيرة ، مرتَّبة مراتب بحسب أعمال العاملين ، لكل طبقة منهم جنَّات من تلك الجنات ؛ والجنَّة البستان الذي فيه أشجار مثمرة ، سميت بها لاجتنانها وتستُّرها بالأشجار ، { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} : الماء الجاري من النعمة العظمى ، ولذا قرن قَرَنَ الجنات بذكر الأنهار الجارية ، وقدَّمه على سائر نعومتها ، { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } من قبل في الدنيا ؛ وقيل : الثمار في الجنَّة متشابهة في اللون مختلفة في الطعم ، فإذا رزقوا ثمرةً بعد أخرى ظنُّوا أنَّها الأولى ، فإذا طعموا منها وجدوها على غير صفة الأولى ، كما قال : { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } في اللون مختلف في الطعم ، وقيل : يشبه بعضها بعضاً في الجودة وكلُّها خيار لا رذالة فيها ؛ وقيل : تشبه ثمرة الدنيا غير أنها أطيب ؛ وقيل : متشابها في الاسم مختلفا في الطعم ؛ قال ابن عباس : << ليس في الدنيا ممَّا في الجنة إلاَّ الأسامي >> ، { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } من مساوئ الأخلاق وسائر الأقذار والأنجاس ، { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } الخلد : البقاء الدائم الذي لا ينقطع ، ولذا قيل : يرسل الله إلى عباده في الجنة كتاباً فيه بشارة البقاء من الحيَّ الذي لا يموت .

 

{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً } أي لا يترك ضرب المَثَل بالعوضة ترك من يستحي أن يتمثَّل بها لحقارتها ، وضرب المثل صنعه ، مِن ضربِ اللبن وضربِ الخاتم . { فَمَا فَوْقَهَا } فما تجاوزها ، { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ } المثل { الْحَقُّ } الحق : الثابت الذي لا يسوغ إنكاره ولا بطلانه ولا ذهابه ، وهو من الحقيقة التي هي ضد الظاهر الوهميِّ ، وضدُّه الباطل الذاهب الزاهق الممتحق ، يقال : حقَّ الأمرُ إذا ثبت ، { مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا } أي شيء ؟ { أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً } إنكار منه لذلك { يُضِلُّ بِهِ } بالمثل { كَثِيراً } من الضالين ، أو إضلالا كثيرا، { وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } بيان أن المؤمنين الذين عادتهم الإنصاف والنظر في الأمور بناظر العقل ، إذا سمعوا بهذا التمثيل علموا أنه الحقُّ ، وأن الكَّار الذين غلبهم الجهل ، والهوى على عقولهم ، كابروا وعاندوا وقضوا عليه بالبطلان ، وقابلوه بالإنكار ، وأن ذلك سبب هدى المؤمنين وضلال الكافرين الفاسقين ؛ والعجب منهم كيف أنكروا ذلك . وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وأجناس الأرض ، فقالوا : << أجمع من ذرة >> ، و<< وأجرء من الذباب >> ، و << أسمع من قراد >> و<< أضعف من فراشه >> ، و << آكل من السوس >> ، و << أضعف من بعوضة >> ، و << أعزُّ من مخّ البعوض >> ؛ ولكن ديدن المحجوج والمبهوت أن يرضى لفرط الحيرة بدفع الواضح ، وإنكار اللائح . { وَمَا يُضِلُّ بِهِ } (لعله) قيل : الإضلال هو الصرف عن الحق إلى الباطل ، وقيل : هو الإهلاك . { إِلاَّ الْفَاسِقِينَ } الفسق : الخروج عن القصد ، وفي الشريعة الخروج عن الأمر بارتكاب الكبيرة ، وهو النازل بين المنزلتين : منزلة المؤمن والمشرك .

 

{ الَّذِينَ } صفة لهم { يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ } النقض : الفسخ ، وفك التركيب والكسر ، والعهد الموثَّق ما ركز في عقولهم من الحجَّة على التوحيد ، كأنه أمرٌ وصاهم به ، { مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } أصله من الوثاقة ، هي إحكام الشيء ، { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } أي قطع الوصل الذي به نظام العالم وصلاحه ، وقيل : الإيمان بمحمَّد r وبجميع الرسل ، لأنهم قالوا : { نؤمن ببعض ونكفُر ببعض } وإذا قطع تولَّد منه الفساد . { وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ } بعد إصلاحها ، أي خلقها الله صالحة ، منتفعاً بها للتزوُّد للمعاد ، { أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } أي خسروا ما خلق الله لهم من النعم ، حيث كفروها فلم ينتفعوا بها ، بل حاق بهم ضررها ، لأنهم ازدادوا بها عذاباً ، وخسروا إهمال العقل عن النظر ، واقتناص ما يفيدهم الحياة الأبديَّة .

{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ } بعد نصب الدلائل ، ووضوح البراهين ، ثم ذكر الدليل فقال : { وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً } يقال لعادم الحياة أصلاً مَّيتٌ ، { فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } كما قال : ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) ، فانظر بين الموتتين والحياتين ولِما بينهما من التفاوت ، { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } إلى الجـزاء على قدر الأعمـال .

 

{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } أي لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم ، أمَّا الأوَّل فظاهر ، وأما الثاني فالنظر فيه ، وما فيه من العجائب الدالَّة على صانع قادر ، حكيم عليم ، وما فيه من التذكير بالآخرة ، لأن ملاَّذها يذكر ثوابها ، ومكارهها تذكر عقابها ، فقد خلق الله له السراء والضراء مطيتين ، ليتواصَّل بهما إلى دار الثواب ، وكلُّها في حق المطيع الشاكر نِعَمٌ ، وكلُّها في حق من كفرها نقمٌ ، { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } معنى تسويتهنَّ تعديلُ خلقهنَّ وتقويمه ، وإخلاؤه من العوج والفطور . { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فمن ثم خلقهنَّ خلقاً مستوياً محكماً ، من غير تفاوت مع خلق ما في الأرض ، على حسب حاجات أهلها ومنافعهم ، ولم يخلق شيئاً عبثاً لأنه حكيم عليم ، ولكن عقول الخلق تقصر عن إدارك بعض معلوماته بالأشياء وما فيها ، وما خلِقت لـه .

 

{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } وهو من يخلف غيره ، وقيل : سُمُّوا خليفة لأنهم خليفة الله في أرضه لإقامة أحكامه وتنفيذ قضاياه . { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء } بغير حقِّ ، كما بنو الجانَّ ، فقاسوا بالشاهد على الغائب ، وهو تعجُّب أو استكشاف لمِا خفي عليهم من الحكمة . { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ } (لعلهُ) نعيذُك عمـَّا لا يليق بك ، { بِحَمْدِكَ } ملتبسين به { وَنُقَدِّسُ لَكَ } نطهِّر نفوسنا عن المعاصي لك : لأجلك ، أو نقدَّسك ، كأنَّهم علموا أطباع الخليقة أنها تؤول إلى المنازعة في الرُّبُّوبية ، وهو من الفساد في الأرض ، ولعلَّه قد سبقهم خلقّ فيها قبلهم ، فعصوا وتعالوا عليه بارتكاب ما (لعلَّهُ) نهى وترك ما أمر ، ولذلك قيل واستدَّل بقوله : ( وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ ) أي من قبل آدم . {  قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي أعلم من الحِكم فيه ما هو خفي عليكم ، يعني يكون فيه الأنبياء والعلماء ، وما خلق الله لهم ، وفيهم من الحِكم مِمَّـا لم يخلق لكـم .

 

{ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا } يحتمل : علَّمه بأسمائها ، وقيل : علَّمه صنعه كلَّ شيء ، ويحتمل علَّمه بمعانيها وما خُلقت له ، لأن المعاني (لعلَّهُ) وما تُراد له أخصُّ من الأسماء ، (لعله) مما يحتاج له من أمر دينه ودنياه ؛ وقيل : اسم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ؛ وقيل : علَّمه أحوالها وما يتعلق يها من المنافع الدِّينية والدُّنيوية ، ويحتمل أن يكون علَّمه اسم ما ينفعه ويضُّره عاجلاً وآجلاً ، ليستعمل النافع ويجتنب الضاَّر ، وهو لم يخلق إلا لهذا لأن ما عداه باطل . { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ } أي سألهم وقد علِم عجزهم عن الأنباء على سبيل التبكيت ، { فَقَالَ أَنبِئُونِي } أخبروني { بِأَسْمَاء هَـؤُلاء } تبكيت لهم ، وتنبيه على قصورهم ، وليس لعلم الأسماء جدوى بغير معرفة المعاني ، بل لكلِّ معنى اسم { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } في زعمكم أنيِّ أستخلف في الأرض مفسدين سافكين ، وكنتم أعلم وأفضل منهم ، وفيه ردٌّ عليهم وبيان أن فيمن يستخلفه من الفوائد العِلِميَّة التي هي أصول الفوائد كلّها ما يستأهلون لأجله أن يستخلفوا ويفضَّلوا .

 

{  قَالُواْ سُبْحَانَكَ } تنزيهاً لك أن يخفى عليك شيء ، أو عن الاعتراض عليك في تدبيرك ، وأفادتنا الآية أن العلم بالمعلومات وحقائقها ، وما تراد له وخلقت لأجله ، والحق من الباطل ، وما يستقيم به الدين ويقتضيه ، فوق التحلي بالعبادة ، مع جهل هذا { لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } أي ليس لنا من العلم إلاَّ ما علمتنا إيّاه ، { إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ } غير معلَّم { الْحَكِيمُ } فيما قضيت وقدَّرت ، والحكيم المحكِم للأمر كيلا يطرق إليه الفساد والنقص فيبطل ، وقيل : الحكيم المحكِم لمبتَدَعاته الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة .

 

{ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ } أخبرهم ، فسَّمى آدمُ كلَّ شيءٍ باسمه ، وذكر الحكمة التي لأجلها يُخلق ، { فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ } (لعله) فلما ظهر فضل آدم سمَّى كل شيءٍ باسمه ، ويحتمل أنه علَّمهم كل شيءٍ بمعناه ، وما يراد به وله ؛ وقيل : أخبر الملائكة بأسمائهم أي باسم كل شيءٍ ، ومنافعه ومضَّاره ، وخواصَّه ، وفي هذا أنَّ تعليمه ... الأسماء كلَّها بما فيها من المعاني ، ونتق لسانه بذلك معجزه أقامـها الله (لعله) للملائكة دالَّة على نبوّة وجلالة قدره وتفضليه عليهم . { قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي ما غاب فيهما عنكم ، ممِّـا كان وممِّا يكون ، وهو قوله لهم ( إني أعلم ما تعلمون ) ، حين عارضوا في خلق الخليقة ، وعلم الله من الخليفة ما يكون منها ، وما تصلح له من العلوم العقليَّة والاكتسابَّية ، ممِّا لم يجعل لهم . { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } ما تظهرون بألسنتكم ، وتسرون بقلوبكم .

 

{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ } أي اخضعوا له ، وأقروا له بالفضل والسجود الحقيقَّي طاعة الله ، ويحتمل ذلك بمعنى الاتئمام به في الطاعة لمَّا صار أعلهم ، وحقيق بالعالِم أن يؤتَّم به ؛ وقيل : على معنى الانحناء تعبُّداً من الله بذلك ؛ وقيل : إن المأمور به وضع الوجه على الأرض ؛ وفي الآية دلالة على فضل آدم على جميع الملائكة ، لأنه (لعله) قدَّمه عليهم إذ أمرهم بالسجود له ، ولا يجوز تقديم المفضول على الفاضل ، ولو لم يكن سجود الملائكة له على وجه التعظيم لشأنه وتقديمه عليهم ، لم يكن لامتناع إبليس عن السجود له ، وقوله : { فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى } امتنع ممِّا أمر به ، (لعله) وسمَّي إبليس لأنه إبليس من رحمة الله ، { وَاسْتَكْبَرَ} تكَّبر عنه ، { وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } في علم الله (لعله) أو صار كافراً بإيبائه واستكباره .

 

{ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ } اختلف في الشجرة ما هي ؟ قيل : السنبلة ، وقيل : شجرة العنب ، وقيل : شجرة التين ، وقيل : شجرة العلم [كذا] ، وفيها من كلِّ شيءٍ ؛ { فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ } من الذين ظلموا أنفسهم ، بوضع أمر الله غير موضعه .

 

{ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا } عن الجنَّة ، بمعنى أذهبهما عنها ، وأبعدهما فأخرجهما ، { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } من النعيم والكرامة ، أو من نعمة الطاعة ، { وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } والضمير لآدم وزوجته ، وإبليس فيما قيل ، { وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} استقرا { وَمَتَاعٌ } وتمتُّع بما أوتوا { إِلَى حِينٍ } إلى الموت ، قال ابن أدهم (لعله ابن آدم) : << أورثنا تلك الأكـلة حزنا طويلاً >> قال غيره : << لا يُعبأ بالحزن الفاني إذا أعقبته السلامة >> .

 

{ فَتَلَقَّى } تلقَّن ، والتلقي هو قبول عن فطنة وفهم ؛ وقيل : هو التعُّلم ، ومعنى تلقَّى الكلمات استقبالها بالأخذ والقبول والعمل بها ، أي أخذها من ربِّه على سبيل الطاعة { آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } وهنَّ قوله : (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) وهو دخوله في الجملة قولا وعملاً ونية ، بعد أن خرج منها . { فَتَابَ عَلَيْهِ } فرجع عليه بالرحمة ، { إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ } لما تاب إليــهِ { الرَّحِيمُ } بعباده ، من حيث تفضَّل عليهم بالتوبة والإمهال ، ولم يؤاخذهم على ذنب تابوا منه .

 

{ قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } بيان وحجَّة { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } بالقبول { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } من العقاب ، { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } على فوات الثواب ، أو لا يحزنون على ما يفوتهم من أمر الدنيا .

{ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } بحججنا إذا بلغتهم ، { أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ } أي أهلها ومستحقَّوها ، لأنهم خُلقوا لها ، وخُلقت لهم ، كما قال : (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ .....) الآية ، { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } لأنه لا مطمع في الخروج منها بعد الدخول فيها .

 

{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } قيل : هو يعقوب ، وقيل : معنى إسرائيل : عبدا لله ، وقيل : هو صفوة الله ، { اذْكُرُواْ } أي أحفظوا الذكر ، {  نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ }  ذكَّرهم النعمة بأن يطيعوه بها ولا يكفروها ولا يبخلوا بها بشكرها ، لكن عظَّموها ولا تغفلوا عنها ، وهي جميع النعم التي لله على عباده ، { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي } أدُّوه وافيا ، بامتثال أمري { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } بما عاهدتكم عليه من التوفيق على الطاعة ، والجزاء عليها تخليداً أبديا ، { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } فلا تنقضوا عهدي ، ولا تتعرَّضوا لخذلاني لكم عن الطاعة في الدنيا واستحقاق التخليد في الآخرة ، ولا مرهوب سواه في الحقيقة عند أولى النهى ، والأمر بالرهبة منه نهى منه لهم عن الرهبة من غيره ، { وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ } يعني القرآن أو تأويله ، { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ  } موافقاً وشاهدا لما معكم من التوارة ، يعني في التوحيد والعبادة والنبوَّات والأخبار ، { وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } أو أول من كفر به ، أو لا يكن كلُ واحد منكم أوَّل كافر به ، ةهذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أوَّل من يؤمن به ، لمعرفتهم به على سبيل المسارعة والمسابقة إلى الخيرات ، { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي } ولا تستبدلوا ، بتغييرها وتحريفها وترك العمـل بها ، {ثَمَناً قَلِيلاً } هو عـرض الأدنـى { وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ }  فخافوني وارهبوني ، (لعله) لا قوَّة الرئاسة .

 

{ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } لبس الحقَّ بالباطل خلطُه ، كأنَّ المعنى : ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها ، فيختلط الحقُّ المنزَّل بالباطل الذي كتبتم حتى لا يميَّز بين حقَّها وباطلكم ، أو لا تجعلوا الحقَّ ملتبساً مشتبهاً بباطلكم الذي تهوونه ، أو لا تغطَّوا الحقَّ بالباطل وتسترونه ، { وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ } أي ولا تجمعوا لبس الحقَّ بالباطل وكتمان الحقَّ ، { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } في حال علمكم أنكم لا تسبُّون الحقَّ بالباطل ، كاتمون الحقَّ ، وهو أقبح لهم ، لأن ارتكاب النهي على العلم أقبح .

 

{ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ } المفروضتين ، وهي مأخوذة من النماء ، وقيل : من التطهير ، وكلاهما موجودان فيهما التطهير والنماء للمال . { وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ } جاز أن يراد بالركوع الصلاة ، كما يعبَّر عنها بالسجود ، وأن يكون أمر بالصلاة مع المصلين في الجماعة .

 

{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ } توبيخاً لهم وتعُّجباً من حالهم ، { بِالْبِرِّ } أي سعة الخير ، ومنه البرُّ لسعته ويتناول كلَّ خير ، { وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } وتتركونها من البِّر { وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ } وعيد لمخالفة القول والعمل ، { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } قُبحَ ما قدِمتهم عليه ، حتى يصدَّكم استقباحه عن ارتكابه ، وهو توبيخٌ عظيم ؛ والعقل مأخوذ من عقال الدَّابة ، وهو ما يشدَّ به ركبة البعير فيمنعه عن الشرود ، وكذلك العَقل يمنع صاحبه من الكفر والجحود .

 

{ وَاسْتَعِينُوا } على حوائجكم إلى الله ، {  بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ } أي الجمع بينهما ، وأن تصلوا صابرين على تكاليف الصلاة ، متحملين لمشاقَّها ، وما يجب فيها من إخلاص القلب ودفع الوسواس الشيطانيَّة النفسانيَّة ، ومراعاة الأدب والخشوع ، واستحضار العلم بأنه انتصاب بين يدي جبَّار السماوات والأرض ؛ أو واستعينوا على البلايا والنوائب بالصبر عليها ، والالتجاء إلى الصلاة عند وقوعها ؛ وكان رسول الله r إذا أحزبه أمر فزع إلى الصلاة . وقيل : الصبر الصوم ، لأنه حبس عن المفطرات ؛ وقيل : الصلاة الدعاء ، أي استعينوا على البلايا بالصبر والالتجاء إلى الدعاء ، والابتهال إلى الله في دفعه ، والتضرُّعِ ، ولأن الصوم يزهِّده في الدنيا ، والصلاة ترغَّبه على الآخرة ، . { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } لشاقَّة ثقيلة ، { إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } يعني المؤمنين المتواضعين ، وأصل الخشوع : السكون ، فالخاشع ساكن إلى طاعة الله ، لأنهم يتوقَّعون ما ادَّخر للصابرين على متاعبها ، فتهون عليهم ، ألا ترى قوله : { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ  } أي يتوقَّعون لقاء ثوابه ، ونيل ما عنده إن امتثلوا ، ويخافون عقابه إن خالفوا أمره ، وأمَّا من لم يوقن بالجزاء ولم يرجُ الثواب كانت عليه مشقَّة ، والخشوع الإخبات ، وأمَّا الخضوع فاللين والانقياد . { وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } مجازون على أعمالهم كيف كانت .

 

{  يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } (لعله) وهم المتمسَّكون بدين قوم موسى على ما يدلُّ عليه معاني ما بعده ، {  اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } على الجمِّ الغفير من الناس ، والمراد الكثرة ، أو على عالمي زمانهم أو فضَّلهم على سائر الحيوانات كما قال : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَا..... ) تمام الآية .

 

{ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي } أي يوم القيامة { نَفْسٌ } مؤمنة { عَن نَّفْسٍ } كافرة { شَيْئاً } أي لا تقضي عنها شيئاً من الحقوق التي لزمتها شيئاً {  وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ  } عن أن يطمع في الشفاعة مرتكب الكبائر، { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } أ ي فدية لأنها معادلة للمفدي ؛ أو لا يقبل منها عمل بطاعة لأنَّها غير مطيعة { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } يعانون .  

 

{  وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } أي نجيَّنا أسلافكم وآباءكم الذين هم سبب إيجادكم { يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ } يكَّلفونكم ويذيقونكم سوء العذاب ، أشدَّ العذاب وأسوءه ، بدليل قوله : { يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ } يتركون بناتكم أحياء للخدمة ، وقيل : إنَّما فعلوا لهم ذلك لأن الكهنة أنذروا فرعون بأنَّه يُولد مولود يزول ملكُه بسببه ، فلم يغن عنه اجتهاده ، { وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ } صنيعهم ، محنةٌ إن أشير بذلك إلى صنيع فرعون ، ونعمةٌ إن أشير به إلى الإنجاء { مِّن رَّبِّكُمْ } لأنَّه هو المقدَّر ذلك لهم ، { عَظِيمٌ } .

 

{ وَإِذْ فَرَقْنَا } فصلنا بين بعضه بعض حتى صارت مسالك لكم ، { بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ } اقتصر على ذكر الآل (لعله) للعلم بأن فرعون أولى بالغرق ، { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } إلى ذلك وتشاهدونه .

 

{ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى } قيل : وعده الله الوحيَ ، ووعد هو المجيء للميقات إلى الطور ، { أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } لأن الشهَّور عددها بالليالي ، { ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ } إلهاً { مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ } بوضعكم العبادة غير موضعها .

 

{ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ } محونا عنكم ذنوبكم ، { مِّن بَعْدِ ذَلِكَ } (لعله) أي الاتخاذ { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } لكي تشكروا النعمة في العفو عنكم .

 

{ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ } الجامع بين كونه كتابا منَّزلا وفرقاناً يفرق بين الحقَّ والباطل وهو التوراة ، { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } لكي تهتدوا بالكتاب .

 

{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ } : عباد العجل ، { يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ } معبودا ، { فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ } خالقكم الذي خلق الخلق أبرياء من التفاوت ؛ وفيه تقريع لما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم أبرياء من التفاوت إلى عبادة البقر الذي هو مثلٌ في الغباوة والبلادة ، { فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } فرض عليهم قتل أنفسهم إذ ظلموا أنفسهم باتخاذهم العجل ، وكان ذلك توبة لهم ، إذ قال :  { فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } فلما قتلوا أنفسهم كان ذلك توبة الله عليهم ، وكانت تلك طاعة عليهم ؛ يبتلي الله خلقه بما شاء { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ } ، { فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } يغفر الذنوب وإن كثرت .

 

{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } عياناً ، { فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ } أي الموت ؛ قيل : هي نار نزلت من السماء فأحرقتهم . روي أن السبعين الذين اختارهم موسى ، وكانوا معه عند الانطلاق إلى الجبل ، فقالوا له : نحن لم نعبد العجل كما عبده هؤلاء فأرنا الله جهرة ، فقال موسى : سألته عن ذلك فأباه عليَّ ، قالوا : إنك رأيت الله ، فلن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، فبعث الله عليهم صاعقة فأحرقتهم { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } إليها حين نزلـت .

 

{ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم } أحييناكم ، { مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فيما بقي من العمر ، قيل : هو الشكر ، هو الطاعة بجميع الجوارح في السِّر والعلانيَّة ؛ وقيل : شكر كل نعمة أن لا نعصي الله بعد تلك النعمة ؛ وقيل : حقيقة الشكر : العجزُ عن الشكر .

 

{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } قيل : ذلك في التيه ، سخَّر الله لهم السحاب يسير سيرهم يظلَّهم من حرَّ الشمس ، وذلك أنه لم يكن لهم في التيه كنٌّ يسترهم فيشكوا إلى موسى ، فأرسل الله غماما أبيض رقيقا أطيب من غمام المطر فيما قيل . { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ } قيل : كان ينزل عليهم مثل الثلج ؛ وقال : الزجاج ، << جملة المنِّ ما يمنُّ الله من غير تعب >> . { وَالسَّلْوَى } قيل : كان يبعث عليهم طيورا سُمَانَى { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ } لذيذات ، أو حلاوات ، { مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا } أي ضَّره ظلمهم جلَّ وعزَّ وتعالى عن ذلك ، { وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } لأن وبال ظلمهم راجع ضرره إليهم على أنفسهم .

 

{ وَإِذْ قُلْنَا } : لهم بعدما خرجوا من التيه ، { ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ } الأرض المقدَّسة ، { فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً } واسعاً ، { وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدا } قيل : أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكرا الله وتواضعا . { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } [أ] حطوا التعالي على الله ، وأسلموا له وقال عكرمة : << هو قول لا إله إلا الله >> وهو صحيح . { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } جمع خطيئة وهي الذنب ، { وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ } كما قال : (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة) .

 

{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } يعني مكان << حطٌةٌ >> قولاً غيرها وهو ضدُّها { فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً } عذاباً ، { مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } بسبب فسقهم .

 

{  وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ } (لعله) أي اذكروا نعمتي في إجابتي دعاء نبيكم في شـأنــــــكم ، { فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ} قيل : إنهم عطشوا في التيه فدعا لهم موسى بالسقيا ، فقيل له : اضرب بعصاك الحجر ، { فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً } قيل : عدد الأسباط ، {  قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } عينهم التي يشربون منها ، { كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } قيل : العثوُّ أشدُّ الفساد .

 

{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ } قيل : هو ما رُزقوه من المنَّ والسلوى ؛ {  فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا } هو ما أنبتته الأرض من أطايب البقول مما يأكله الناس ، { وَقِثَّائِهَا } قيل : الخيار ، { وَفُومِهَا  } قيل : الحنطة أو الثوم ، وقيل : الحبوب التي تؤكل كلُّها ؛ { وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى } أقرب منزلة وأدون مقــدار ، { بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} أرفع وأجلَّ { اهْبِطُوا مِصْراً } من الأمصار ، { فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ } أي الذس سألتموه يكون في الأمصار لا في التيه ، ويحتمل سؤلهم هذا لمباشرةِ الأسباب ، وهم قد أمروا بالعبادة والانقطاع فيها ، والله أعلم بتأويل كتابه ؛ ويدل على أنَّهم منقطعون عن الأمصار بدليل قوله : ( اهبطوا مصراً ) . { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } أي جعلت الذلة محيطة بهم ، مشتملة عليهم ، فهم فيها يعمهون ؛ { وَالْمَسْكَنَةُ } أي الهوان والفقر ، أو فقر القلب ؛ سمِّي الفقير مسكينا لأنَّ الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة ، وقيل : الذلَّة فقر القلب ، { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } أي صاروا أحقَّاء بغضبه ، { ذَلِكَ } إشارة إلى تقدم من ضرب الذلَّة والمسكنة والغضب ، { بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ } أي ذلك بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء ، وقتلُهم يخرج على معنيين : قتلهم بتفويت أرواحهم ، وقتلهم بالتخطئة لدينهم كما جاء عن النبي ÷ أنه قال : (( خلع المؤمن كقتله ، ومن خلع مؤمن فقد قتله )) وهذا أعمَّ من الناس في بعضهم بعض . والنبي بمعنى النبأ لأنه يخبر عن الله تعالى ، فعيل بمعنى مُفعِل ، أو بمعنى مُفعَل ، ومن نَبَأ : أي ارتفع ، والنبوة : المكان المرتفع . { بِغَيْرِ الْحَقِّ } عندهم أيضاً فإنهم لو أنصفوا لم يذكروا شيئا يستحقون به القتل عندهم أي يقتلونهم مبطلين { ذَلِكَ } الكفر والقتل { بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } بسبب ارتكابهم أنواع المعاصي ، واعتدائهم حدود الله في كل شيء مع كفرهم بآيات الله .

 

{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا } قيل : بألسنتهم من غير مواطأة للقلوب ، وهم المنافقون ، { وَالَّذِينَ هَادُوا } قيل : هاد إذا تاب ، لقولهم : ( إنا هدُنا إليك ) { وَالنَّصَارَى } سمُّو نصارى لأنهم نصروا المسيح لقولهم ( نحن أنصَّار الله ) . { وَالصَّابِئِينَ } الخارجين من دين مشهور إلى غيره ، من صبأ إذا خرج من الدين ، وهم قوم عدلوا عن دين اليهود والنصَّرانية وعبدوا الملائكة ، وقيل : هم يقرؤون ألزبور . { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } من هؤلاء إيماناً خالصاً ، { وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } قيل : لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون في الآخرة .

 

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ } قيل : إن موسى عليه السلام جاءهم بالألواح فرأوا ما فيها من التكاليف الشَّاقة حتى كبرت عليهم وأبوا قبولها فأمر جبريل عليه السلام فقلع الطور ورفعه فظلَّله فوقهم ، وقال لهم موسى : إن قبلتم وإلا ألقي عليكم ، حتى قبلوا ، والله أعلم بتأويل كتابه ، { خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ } بجدِّ واجتهاد ومواظبة وعزيمة ، فوصَّى الله عباده بذلك ، لأن طبعهم التراخي والتثاقل عن طلب ما يجب عليهم من طلب السؤال لما يلزمهم في دين خالقهم ، وأنهم لا يبلغوه بدون القوَّة .

 

{ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ } واحفظوا ما في الكتاب من معانيه وأسراره وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه وعن التدَّبر والعمل بما فيه . { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } لكي تنجوا من الهلاك في الدنيا ، والعذاب في العقبى ، لأن ليس إلى التقوى سبيل إلاَّ بالعلم . { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به ؛ { مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } من بعد القبول [ أو ] من بعد الأمر بالقوَّة بأخذ ما أتوا ، { فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } بتأخير العذاب عنكم ، أو بتوفيقكم للتوبة ، { لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (لعله) الرحمة وذهاب [ كَذَا ] الدنيا والآخرة المستوجبين عقوبة الدنيا ولآخرة .

 

{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ } حال { الَّذِينَ اعْتَدَوْا } عن الحدَّ { مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ } مصدر سبتَتِ اليهود إذا عظَّمت يوم السبت ، وقد اعتدوا فيه ، أي جاوزوا ما حدَّ لهم فيه من التجُّرد للعبادة وتعظيمه ، واشتغلوا بالصيد ، وذلك أن الله تعالى نهاهم أن يصيدوا في السبت بما ابتلاهم ، فما كان يبقى حوت في البحر إلا أخرج خرطومه في السبت ، فإذا مضى تفرَّقت ، فحفروا حياضاً عند البحر وشرعوا إليها الجداول ، وكانت الحيتان تدخلها يوم السبت لأمنها من الصيد وكانوا يسدون مشارعها من البحر فيصطادونها يوم الأحد ، فذلك الحبس في الحياض اعتداؤهم فيه ، والله أعلم بتأويل كتابه . { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا } بتكويننا إيَّاكم { قِرَدَةً خَاسِئِينَ } صغاراً مطرودين ، والخساء : الإبعاد . { فَجَعَلْنَاهَا } يعني المسخة ، { نَكَالاً } عبره لكلِّ من اعتبرها ، تنكلُ أي تمنعه ، والمسخ (لعله) صوريِّ ومعنويِّ ، { لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } لمِا قبلها ، { وَمَا خَلْفَهَا } وما بعدها من الأمم والقرون ، { وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } الذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم ، أو لكلِّ متقِّ سمعها .

 

{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } البقرة الأنثى من البقر ، ويقال : مأخوذة من البَقرِ وهو الشَّقُّ ، سميت به لأنها تشَّقُّ الأرض ، أي تشقُّها للحراثة . قال بعض المفسرين : أول القصة مؤخّر في التلاوة ، وهو قوله : ( وإذ قتلتم نفساً فادرأتم فيها ) ، وذلك أن رجلاً موسِراً قتلوه بنو عمَّه ليرثوه وطرحوه على باب مدينة ، ثم جاؤوا يطلبون بديَّنه فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليُحيَى فيخبرهم بقاتله . { قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً } أتجعلنا مكان هزء ، أي اتستهزيء بنا ؟ نحن نسألك عن أمر القتيل وتأمرنا بذبح البقرة ! وإنما قالوا ذلك لبُعد ما بين الأمرين في الظاهر ، ولم يدروا ما الحكمة فيه . { قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ } أي امتنع بالله ، العياذ واللّياذ من حال واحد ، { أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } لأنَّ الهزُؤ في مثل هذا من باب الجهل والسفه .

 

{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ } أي ما حالها وما صفتها ، { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ } لا مسنَّة ولا فتيَّة ، { عَوَانٌ } نصف { بَيْنَ ذَلِكَ } أي ما بين ذكر الفارض والبكر. { فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ } أي يؤمرون بـه .

 

{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا }  الفقوع نصوع الصفرة ، ولذلك يقال : أصفر فاقع . { تَسُرُّ النَّاظِرِينَ } أي تعجبهم .

 

{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } إن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا . { وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } لمعرفتها .

 

{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ } أي لم تذلَّـل للكِراب وإثارة الأرض .{ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ }  ولا هي من النـواضـح . { مُسَلَّمَةٌ } عن العيوب وآثار العمل . { لا شِيَةَ فِيهَا } لا لمعة في نُقبَـتِها من لون آخر سوى الصفرة .{ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } أي بحقيقة وصف البقرة { فَذَبَحُوهَا } أي فحصلوا القرة الجامعة لهذه الأوصاف كلَّها فذبحوها . { وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } لغلاء ثمنها ، أو لخوف الفضحية في ظهور القاتل ؛ وقيل : وما كانوا (لعله) يجدونها باجتماع وصفها ؛ وقيل : وما كادوا يفعلون منت شدَّة اضطرابهم واختلافهم .

 

{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } فاختلفتم واختصمتم في شأنها . { وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } مظهر ما كتمتم من أمر القتل .

 

{ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا } ببعض البقر ، { كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى } ، روي لمَّا ضربوه قام بأذن الله وقال : (( قتلني فلان وفلان )) لبني عمَّه ثمَّ سقط ميتاً فأخذا وقُتلا { وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } دلائله على أنه قادر على كل شيء . { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } تعملون على قضيَّة عقولكم .

 

{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ } استيعاب القسو من بعد ما يوجب لين القلوب ورقَّتها ، وصِفَة القلوب بالقسوة مثل لنبـوهَّا عن الاعتبار والاتعَّاظ ؛ وقيل : قست يبست وجفَّت وجفاف القلب خروج الرحمة واللَّّين عنه ؛ وقيل : غلظت ؛ وقيل : اسودَّت . { مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } من بعد ما تقَّدم من الآيات المذكورة . { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ } فهي في قسوتها مثل الحجارة . { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } منها . { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ } بيان لزيادة قسوة قلوبهم عليها . { لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ } التفجَّر التفتَّـح بالكثرة . {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ } يعني أن من الحجارة فيه جروف واسعة يندفق منها الماء الكثير ، ومنها ما ينشقُّ انشقاقاً بالطول والعرض فينبع منه الماء أيضاُ ، وقلوبهم لا تندى ولا يخرج منها ما يوجب القسوة وهي الأمراض [ كذا ] . { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ } يتَّردى من أعلاه ، { مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } قيل : هو مجاز عن انقيادها لأمر الله ، وأنها لا تمتنع عمَّا يريد فيها ، وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تغفل ما أمرت به ؛ وقيل : المراد به ما أمرت به حقيقة الخشية ، على معنى أنه يخلق فيها الحياة والتمييز ، وليس شرط خلق الحياة والتمييز في الجسم أن يكون على بنية مخصوصة (لعله) عند أهل السنَّة ، وعلى هذا قوله : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبيل .... ) الآية ، بشيء ، وقلوبهم لا تخشى وهو هدٌّ ووعيد وعليمٌ أن ليس ما يتولَّد من القلوب القاسية إلا الباطل ، فإن قيل : حجر جماد لا يفهم كيف يخشى ؟ قيل : الله تعالى : يُفهمها ويُلهمها فتخشى بإلهامه ؛ ومذهب أهل السنة أن الله علما الجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء ، لا يقف عليه غيره فلها صلاة وتسبيح وخشية كما قال : (وإن من شيء إلاَّ يسبح بحمده ) فيجب على المرء الإيمان به وبكل علمه إلى الله { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } وهو هدٌّ ووعيد وتعليم أن ليس ما يتولد من القلوب القاسية إلا الباطـل .

 

{ أَفَتَطْمَعُونَ } الخطاب لرسول الله والمؤمنين { أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ } أن يؤمنوا لأجل دعوتكم . { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ } طائفة ممن سلف ، { يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ } وهي الكتب الخالية { ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } من بعد ما فهموه { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم كاذبون مفترون ، والمعنى إن كفر هؤلاء وحرفَّوا فهم سابقه في ذلك ، وكأن الحجة قامت على الجميع بقيامها على طائفة منهم ؛ وإذا كان هذا حال علمائهم فما طمعكم بِسَلَفَتِهم ! .

 

{ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا } أي المنافقون لقوا المخلصين ، { قَالُوا آمَنَّا } بأنَّكم على الحقَّ { وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ } الذين لم ينافقوا { إِلَى بَعْضٍ } الذين نافقوا { قَالُوا } عاتبين عليهم { أَتُحَدِّثُونَهُمْ } أتخبرون أصحاب محمَّد ، { بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } ممَّا بيَّن لكم في التوارة من صفة محمد ، { لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ } ليحتجَّوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه ، { أَفَلا تَعْقِلُونَ } أن هذه حجة عليكم حيث تعترفون به ثم تتابعونه . { أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان .

 

{ وََمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققَّ (لعلهُ : يتحقَّقوا) ما فيها . جمع أمَّيِّ منسوب إلى الأمِّ ، كأنه يأتي على ما اتصل من الأمِّ لم يتعلَّم كتابة ولا قراءة { لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ } التوارة ، { إِلَّا أَمَانِيَّ } إلاَّ ما هم عليه من أمانيهم أن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا تمسهم النار إلاَّ أياما معدودة ، أو إِلا أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم فيقبلوها على التقليد ؛ ومنه قول عثمان : << ما تمنَّيت منذ أسلمت >> ؛ أو إِلا ما يقرؤون من قولهم : (( تمنَّى كتاب الله أوَّل ليلة )) أي لا يعلمون [ كذا ] هؤلاء حقيقة للمنزَّل ، وإنما يقرؤون أشياء أخذوها من أحبارهم . وقيل : الأماني جمع أمنية ، وهي في الأصل ما يقدَّروه الإنسان في نفسه من منى إذا قدر ، ولذلك يطلق على الكذب وعلى ما يُتمنَّى ؛ وقيل : لا يعلمون إِلاَّ التلاوة المجرَّدة . { وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } أي يشكَّون ، وهم متمكَّنون من العلم بالحقِّ لا يدرون حقائقه .

 

{ فَوَيْلٌ } ويل كلمة يقولها كلُّ واقع في هلكة  ، وقيل : هو دعاء الكفَّار على أنفسهم بالويل ؛ وقيل : شدَّة العذاب . { لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ } المحرَّف ، { بِأَيْدِيهِمْ } من تلقاءِ أنفسهم ، من غير أن يكون حقاَّ ؛ والكتاب جامع للتنزيل والتأويل . { ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } عرضاً فانيا ، { فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } من الكذب { وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } من الثمن القليل .

 

{ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً } أي عهد إليكم أنه لا يعذبكم إلاَّ ما قدَّرتموه ، ولعلهم خيلَّ لهم الشيطان أنه لا يعذبهم إلاَّ قدر ما عصوا من تكذيبهم لرسول الله ÷  ثم يخرجون من النار إلى الجنَّة ، ولعلهم أثبتوا الأعمال الصالحة التي عملوها مع كفرهم برسول الله ÷  كما زعم من زعم من أهل القبلة وتأوَّلوا هذا التأويل . { فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } .

 

{ بَلَى } إثبات لمَا بعد النفي وهو لن تمسَّنا النار ، أي تمسكم أبدا ، بدليل قوله : { مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً } كبيرة وهي ضدُّ الحسنة ، { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } أي استولت عليه واشتملت جملة أحواله حتَّى صارت كالمحيطة به مثل الحائط يستولي على ما فيه ، ومتى أحاطت به خطيئة صار مخذولا مستدرجاً محبوط الأعمال ، فرائضها وفضائلها ، مأخوذا بصغائر الذنوب وكبائرها ، لأنَّه عاص فلا تقوم منه طاعة أبدا إلاَّ أن يتوب . { فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .

 

{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أنبأ الله مآل الفريقين .

 

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ } الميثاق : العهد المؤكد غاية التوكيد . { لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ } ولا تشركون به شيئا من طاعة الشيطان ولا غيره ، {  وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } أي أحسنوا بهما ، { وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً } قيل : الحقَّ ، وقيل : حسن الخلق ، وقيل : قولوا للناس حسنا ما تحبون أن يُقال لكم . { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } عن الميثاق ورفضتموه ، { إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ } إلاَّ الأقلَّ أقاموا بما عليهم ، { وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ } عن الوفاء بما يجب عليكم .

 

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } أي لا يفعل ذلك بعضكم ببعض ؛ وقيل : لا تسيئوا جوار من جاوركم فتلجئوهم إلى الخروج بسوء جواركم . { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ } بالميثاق واعترفتم بلزومه ، { وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } عليها ، كما يقول فلان مقرٌّ على نفسه بكذا شاهدا عليها .

 

{ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ } غير مراقبين ميثاق الله {  تَظَاهَرُونَ } أي تتعاونون ، { عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } بالمعصية والظلم ، { وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ } بفداء الأسارى ، { وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } بالقتل والإجلاء ، قيل : أخذ الله عليهم أربعة عهود : ترك القتل وترك الإخراج وترك المظاهرة وفداء الأسير ، فأعرضوا عن كلِّ ما أمروا به إِلاَّ الفداء . { فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ } هو إشارة إلى الإيمان ببعض والكفر ببعض ، { إِلَّا خِزْيٌ } فضحية وهوان لأنَّ الخزي والهوان والعذاب في الدنيا حالٌّ بكلِّ من عبدَ الشيطان عند من تحققَّ أمرهم ولم تغره ظواهر الأمور ، { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ما دام حياً إِلاَّ أن يتوب ، { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ } وهو الذي لا روح فيه ولا فرج ، أو إلى أشد من عذاب الدنيا ، { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } .

 

{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ } اختروها على الآخرة اختيار المشتري ، { فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ } يهــوَّن ، { الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } .

 

{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } التوارة ، { وَقَفَّيْنَا } أتبعنا من القفا ، { مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ } المعجزات الواضحات ، { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } قيل : بجبريل ، لأنه يأتي بما فيه حياة القلوب ، { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ } تعظَّمتم عن قبوله ،  { فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } .

 

{ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } جمع غلف ، أي هي خلقة مغشَّاة بأغطية لا يتوَّصل إليها ما جاء به محمدٌ ولا تفقهه ، مستعار من الأغلف ، وقيل : قلوبنا أوعية لكلِّ علم فلا تحتاج إلى علمك . قال الكلبيُّ << معناه أوعية لكلِّ علم فلا تسمع حديثا إلاَّ وعته إِلاَّّ حديثك لا نعقله ولا نعيه ، ولو كان فيه خير لوعته وفهمته >> . { بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ } (لعلهُ) طردهم وأبعدهم عن خير الدارين ، { بِكُفْرِهِمْ } فرد الله عليهم أن تكون قلوبهم مخلوقة كذلك ، لأنهَّا خلقت على الفطرة والتمكُّن من قبول الحق ، بل إنما طردهم عن رؤية الحقِّ كفرهم وزيغهم فصار ذلك حجاباً على قلوبهم كما قال : ( بل رآن على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) . { فَقَلِيلاً } منهم ، { مَا يُؤْمِنُونَ } أو فإيمانا قليلا يؤمنون أي غير خالص ، كما قال : ( ولا يذكرون الله إِلاَّ قليلا ) أي غير خالص ؛ وقيل : إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض ؛ وقيل : << غُلفٌ >> تخفيف << غُلفٌ >> وقرئ به جمع غلاف ، أي قلوبنا أوعية للعلوم فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره ، أو أوعية للعلم فلو كان ما جئت به حقا لقبلنــا .

 

{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي القرآن ، { مُصَدِّقٌ } موافق ، { لِمَا مَعَهُمْ } من كتابهم لا يخالفه . { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ } يعني القرآن ، { يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } يستنصرون على المشركين من غيرهم إذا قاتلوهم ، قالوا : اللهمَّ تنصرنا بالنبيِّ المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته في التوارة ، ويقولون لأعدائهم من المشركين : قد أطلَّ زمان نبيِّ يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم . { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ } بغياً وحسدا وحرصاً على الرئاسة ، { فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } .

 

{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ } بئس ما باعوا حظَّ أنفسهم أي اختاروا الكفر والنار على الإيمان والجنة . { أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } القرآن ، { بَغْياً } أي حسدا وطلباً لما ليس لهم ، { أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ } بأن ينزِّل ، أو على أن ينزِّل ، أي حسدوه على أن ينزل الله . { مِنْ فَضْلِهِ } الذي هو الوحي ، { عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } وهو محمد ، { فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } فصاروا أحقَّاء بغضب مترادف ، { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } مذلِّ في الدنيا والآخرة .

 

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } لهؤلاء اليهود أو غيرهم ، { آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } يعني القرآن أو غيره ، { قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا } أي التوراة { وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } أي يكفرون بما وراء التوراة ، { وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ } غير مخالف لهم ، { قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } قيل ك تولَّوا قََتَلَةَ الأنبياء فسمَّوا قاتلين .

 

{ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ } إلهـا ، { مِنْ بَعْدِهِ } من بعد خروج موسى إلى الطور ، { وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } أي وضعتم العبادة غير موضعها .

 

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ } قد سبق تفسيره ، { وَاسْمَعُوا} ما أمرام به في التوراة ، { قَالُوا سَمِعْنَا } قولـك ، { وَعَصَيْنَا } أمرك ، وطابق قوله جوابهم من حيث أنه قال لهم : اسمعوا سماع تقبُّل وطاعة ، فقالوا : سمعنا ولكن لا سماع وطاعة . قال أهل المعاني : إنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم ، ولكن لمَّا سمعوا وتلقَّـوه بالعصيان نسب ذلك إلى القول اتَّساعا . { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ } أي تَدَاخلهم حبُّه والحرص على عبادته كما يتداخل الصبغ الثوب ، معناه : دخل في قلوبهم حبُّ العجل وخالطها كإشراب اللون لشدة الملازمة ، فلان مشروب اللون إذا اختلط بياضه بالحمرة . وقوله : ( في قلوبهم ) بيان بمكان . { بِكُفْرِهِمْ } بسبب كفرهم ، { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ } بالتوراة ، لأنَّه ليس في التوراة عبادة العجل . وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكَّم وشكَّك في صحَّة (لَعَلَهُ) إيمانهم ، وقدحٌ في صحَّة دعواهم له ، وكذا إضافة الإيمان إليهم . { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } تشكيك في إيمانهم ، وقدحٌ في صحة دعواهم ، أي بئس إيمان يأمر بعبادة العجل .

 

{ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ } أي الجنَّـة ، { عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً } لكم خـاصَّـة ، { مِنْ دُونِ النَّاسِ } أي ليس لأحد سواكم ، كما قال : { فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } في ما تقولون ، لأن من أيقن أنه من أهل الجنَّة اشتاق إليها تخلُّصا من دار ذات الشوائب ، كما قيل : عن عمـَّار بصفَّين : << الآن ألاقى الأحبَّة محمداً ÷  وأصحابه >> . وقال حذيفة حين احتضر : << مرحبا حبيبٌ جاء على فاقة لا أفلح من ندم >> ، أي على التمنَّي سيما إذا علم أنها سلامة ، وقال : << لا أبالي سقطت على الموتُ أو سقط الموتُ عليَّ >> .

 

{ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً } لن يتمنَّوه ما عاشوا ، { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } من الكفر (لعله) ولعلهم أنهم في دعواهم كاذبون ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } تهديد لهـم .

 

{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا } لأنهم لا يؤمنون بعاقبة ، ولا يعرفون إلاَّ الحياة الدنيا ، فحرصهم عليها لا يستبعد ، لأنها جنَّتهم ، { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } يريد ويتمنَّى { لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } بيان لزيادة حرصهم ، { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} أي وما أحدهم بمن يزحزحه من النار تعميره ، { وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } لأنهم لم يستعملوا أنفسهم في حال التعمير في الطاعة ، وإنَّما يزيدهم عذابا ، وفيه توبيخ عظيم ، لأن حرص المشركين على الحياة غير مستبعد لأنها جنتهم ولم يؤمنوا بعاقبـة .

 

{ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } فإنَّ جبريل نزَّل القرآن على قلب محمد ÷  ؛ وخص القلب لأنه محلُّ الحفظ ، ولو أنصفوا لأحبُّوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم . { بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } .

 

{ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } (لعله) يعني من كان عدوًّا لأحد هؤلاء فإنه عدوٌّ للكل ، لأن الكافر بالواحد كافر بالكَّل .

 

{ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ } الخارجون عن الطاعة .

 

{ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ } نقضه ورفضه ، وقال : { فَرِيقٌ مِنْهُمْ } لأن منهم من لم ينقض ، { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } بالتوراة وليس من الدين في شي ، فلا يعدُّون نقص المواثيق دينا ، ولا يبالون به . {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } محمَّد ÷ ، { مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } أي التوراة ، والذين أوتوا الكتاب اليهود ، { كِتَابَ اللَّهِ } يعني التوراة ، لأنهم بكفرهم برسول الله المصدِّق لما معهم كافرون به نابذون لها ؛ أو كتاب الله : القرآن نبذوه بغد ما لزمهم تلقيَّه بالقبول . { وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ } مثلٌ لتركهم وإعراضهم عنه ، مثل ما يرمي به وراء الظهور استغناء عنه وقلَّة التفات إليه { كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ } أنه كتاب الله . وقيل : كانوا يقرؤون التوراة ولا يعلمون بها .

 

{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ } أي نبذ اليهود كتاب الله واتبعوا كتب السحر (لعله) ممَّا وسوست به الشياطين ، { عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } تكذيب للشياطين ، ودفع لمِا (لعله) بهتت به سليمان من اعتقاد السحر والعمل به { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } هم الذين كفروا باستعمال السحر وتدوينه . { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} قصدا لأغوائهم وإضلالهم . (لعله) وقيل : معنى السحر العلم والحدقُ بالشيء ؛ وقيل : السحر عبارة عن التمويه والتخييل ؛ وقيل : إنه يؤثِّر في فلت الأعنان ، فيجعل الأدميَّ على صورة الحمار والأصحُّ أنه تحيُّل ؛ قال : الله ( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ ) لكنَّه يؤثر في الأبدان ، (لعله) بالأمراض والموت ، والحيوان ، والكلام تأثيره النَّطَّاع ، والنفوس ؛ وقد يسمع الإنسان ما يكره فيحمرُّ ويغضب فهو بمنزلة العوارض والعلل التي توثِّر في (لعله) الأبدان . { وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } ومن جواب أبي سعيد : << وقلتُ : ما يقول في الملكين هاروت وماروت اللَّذين يعلَّمان الناس يبرأُ منهما أم كيف الوجه فيهما ؟ أنهما كانا من الملائكة فالملائكة عليهم السلام في ولاية الله وطاعته ، وقال الله فيهم : (مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) . فمن عادى ملائكة الله فقد عادى الله عزَّوجَّل ، وقد عرفنا من قول أبي الحسن رحمه الله قول الله تعالى : ( يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) إنما أولئك الشياطين ، ( وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) معَنَا أنه ما أنزل السحر على الملكين هاروت وماروت ، ( وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ ) أي ما يعلَّمان هُمَا أحدا السحرَ ، وإنما كانا يقولان : السحرُّ كذا وكذا فلا تكفر، فلا تفعـل كذا فتكفر >> . رجع : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا } ينبِّهاه وينصحاه ويقولاَ له : {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } ابتلاء واختبار ، { فَلا تَكْفُرْ} بتعلَّمه والعمل به على وجه يكون كفرا ، { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } أي علم السحر الذي يكون سببا في التفريق بين الزوجين . { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ } بالسحر ، { مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } بقضاء به ومشيئته . { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ } في الآخـرة ، { وَلَقَدْ عَلِمُوا } أي اليهود ، { لَمَنِ اشْتَرَاهُ } أي استبدل ما يتلوا الشياطين على كتاب الله . { مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } نصيب بسبب حبوط أعماله بارتكاب ما نهى الله عنه ، { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ } باعوها ، وإنما نفى العلم منهم بقوله : { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } مع إثباته لهم : ( ولقد علموا ) على سبيل التوكيد القَسمَيِّ لأن معناه لو كانوا يعلمون بعلهم ، جعلهم حين لم يعملوا به كأنَّهم لا يعلمون.

 

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا } برسول الله والقرآن ، { وَاتَّقَوْا } الله فتركوا ما هم عليه ، { لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } أن ثواب الله خير مما هـم فيـه .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا } وأحسنوا سماع ما يكلِّمكم به رسول الله ÷  ويلقي إليكم من الحكمة بآذان وأذهان حاضرة .حتى لا تحتاجوا إلى الاستعارة وطلب المراعاة . { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .

 

{ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ } يعني أنهم يرون أنفسهم أحقَّ بأن يوحى إليهم فيحسدونكم ، وما يحبُّون أن ينزل عليكم شيء من الوحي ، والله يختصُّ بالنبوَّة من يشاء ، { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } فيه إشعار بأنَّ إيتاء النبوَّة من الفضل العظيم .

 

{ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } قيل : يجوز نسخُ التلاوةِ ، والحكم دون التلاوة ، والتلاوة دون الحكم . { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا } نأت بآية خير منها للعباد ، أي بآيةٍ العملُ بها أكثر للثواب . { أَوْ مِثْلِهَا } وقيل : أو مثلها في المنفعة والثواب ، وكلُّ ما نسخ إلى الأيسر فهو أسهل في العمل وأسلم ، وما نسخ في الأشقَّ فهو أخطر ، وفي الثواب أكبر في ذلك إذ لا فضيلة لبعض الآيات على البعض . { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

 

{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } فهو يملك أموركم ويدَّبرها ، وهو أعلم بتعبُّدكم به من ناسخ ومنسوخ . { وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ } يلي أموركم ، { وَلا نَصِير} ناصر يمنعكم من العذاب .

 

{ أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } قصده ووسَّطـه .

 

{ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً } أي لأجل الحسد ، وهو الأسف على الخير عند الغير ، { مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } من قبل شهواتهم لا من قبل التديُّن والميل مع الحقَّ ، { مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } أي بعد علمهم بأنـَّكم على الحقَّ ، { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا } فاسلكوا معهم عن المجاراة سبيل العفو والصفح عمَّا يكون منهم من العداوة ، { حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } بالقتال ، أو بما يشاء ، { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فهو يقدر على الانتقام منهم .

 

{ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ترغيبا وتهييجا لفعل الخير .

 

{ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى } قيل : قالت اليهود : لن يدخل الجنة إلاَّ من كان هودا ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلاَّ من كان نصارى ، وذلك واجب على كلِّ متدِّين أن يدين لله أن كلَّ من خالفه في دينه فهو في النار .

 

{ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } أشير بها إلى الأمانيِّ المذكورة (لعله) وهي شهواتهم الباطلة التي تمنوَّها على [الله] بغير الحقِّ ، { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } في دعواكـم .

 

{ بَلَى} إثبات لِما نفوه من دخول غيرهم الجنَّة . { مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } من أخلص نفسه له لا يشرك به غيره ، والمعنى : أي ليس كما قالوا بل الحكم الإسلام ، وإنَّما يدخل الجنَّة من أسلم وجهه لله ، أخلص دينه أو أخلص عبادته لله ، أو تواضع لله . وأصل الإسلام الاستسلام والخضوع . وخصَّ الوجه لأنه إذا جاد بوجهه في السجود لم يبخل بسائر جوارحه . { وَهُوَ مُحْسِنٌ } في عمله , { فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } .

 

{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ } على شيء يصحُّ ويعتدُّ به من أمر دين أو دنيا ، مبالغة عظيمة ، كقولهم : (( أقلُّ من لا شيء )) لأن دنياهم في الحقيقة إذا كانوا على غير دين تزيدهم خسرانا ، فصار ما عليهم من أمر دنياهم أمورا وهميَّة مضمحلَّة لا ثبات لها ، ولا تعدُّ سببا مع الباقي ، عدمه كوجوده بل أشدُّ تخسرا ؛ وكذلك قوله تعالى ( لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) . { وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ } أي على خلاف ما وجدوا في كتابهم ، وحقّ على من حمل التوراة أو الإنجيل أو غيرهما وآمن به أن لا يكفر بالباقي ، لأن كل واحد من الكتابين مصدِّق للآخر . { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } أي الجهلة الذين لا علم عندهم ولا كتاب ، كعبدة الأصنام والمعطلة ، قالوا لأهل كُلِّ دين ليسوا على شيء ، وهذا توبيخ عظيم لهم حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم . { فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي بين المختلفين .

 

{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } هذا تهدُّد من الله لكلِّ من منع مسدا من مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها بلهو أو لغو ، أو خوض في باطل ، أو عمل من أعمال الدنيا يمنع الذاكرين الله بصلاة أو قراءة أو فكر ، أو يشغلهم أو يؤذيهم بأكل طعام أو شراب أو إدخال صبيان أو مجانين أو من لا يعقل على غير ضرورة ، أو يجعل فيها مدارس لتعليم الصبيان أو قـربها ، وكان ذلك ممَّا يمنع الذاكرين لله فيها أو يشغلهم ؛ وكذلك حضور العوامِّ الذين ديدنهم الخوض لأكل فطور أو هجور ، أو عزاء ميت ، أو تفريق شيء من الفواكه ، أو أكل نذر ، فكلُّ هذا ومثله وما أشبهه من السعي في خرابها والمنع عن عمارتها ، وإن كان قد سبق عمل الناس بما ذكرنا وما أشبهه بلا حجة من كتاب الله ولا سنة ولا إجماع ولا أثر صحيح ولا حجَّة عقل ، وقد قال الله تعالى : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ) ، وقال : ( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) فأين هذا وعمل الناس اليوم في مساجدهم ؟ { أُولَئِكَ } المانعون حقا الظالمون لها صدقا . { مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ } أي ما كان ينبغي لهم أنَّ يدخلوا مساجد الله ، المعنى ما الحقُّ إلاَّ كذلك ، لولا ظلم الكفر وعتوِّهم ، { لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .

 

{ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا } يعني : تولية وجوهكم شطر القبلة ، { فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } أي الجهة التي أمر بها ، والمعنى أنكم إذا منعتم أن تصلُّوا في المسجد الحرام فقد جعلت لكم الأرض مسجدا فصلُّوا في أي بقعة شئتم من بقاعها ، وافعلوا التولية فيها فإنَّ التولية ممكنة في كلِّ مكان . { إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أي هو واسع الرحمة يريد التوسعة على عباده ن وهو عليم بمصالحهم .

 

{ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ } نزَّه وعظَّم نفسه ، { بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي هو خالقه ومالكه ، { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } منقادون مقَّرون له بالروبية ، وقيل : مذللَّون مسخَّرون لما خلقوا له ، لا يمتنع شيء عن تكوينه وتقديره .

 

{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي مخترعهما ومبدعهما ، لا على مثال سبق ، وكلُّ من فعل ما لم يسبق إليه يقال له أبدع ، ولهذا قيل : لمن خالف السنة والجماعة : مبتدع ، لأنه يأتي في دين الإسلام بما لم يسبقه إليه الصحابة والتابعون . { وَإِذَا قَضَى أَمْراً } أي حَكَم أو قدَّر ، { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } معناه أن ما قضاه من الأمور ، وأراد كونه إنما يتكوَّن ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقَّف ، كالمأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل ولا يكون منه إيباء .

 

{ وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ } هلاَّ يكلَّمنـا ، { أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ } استكباراً وعتوًّا ، { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } في العمى ، فلمـا تشابهت العقائد تشابهت الأقوال والأعمال لأنها نتائجها . { قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } يطلبون اليقين من حجة عقل أو كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح أو رأي ، فما بأن لهم فيه اليقين وانشرحت له صدورهم واطمأنت به نفوسهم فهو الحقُّ اتبعوه ، وما بان لهم فيه الباطل رفضوه ، وما اشتبه عليهم أنه حق أو باطل وقفوا عنه ولم يقطعوا فيه ، وردُّوا علمه إلى الله ؛ أو يوقنون الحقائق لا يعتريهم شبهة ولا عناد .

 

{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ ً } ولم نرسلك عبثا ولا لعبا ، وتفسيره ما بعده ، { بَشِيراً} للمؤمنين بالثواب ، { وَنَذِيرا} للكافرين بالعقاب ، { وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } ولا نسألك عنهم ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلَّغت ، وبلَغت جهدك في دعوتهم ؛ وقيل : << تسأل >> على النـَّهيِ ، ومعناه تعظيم ما وقع فيه الكفار من العذاب ؛ و << الجحيم >> معظم النار .

 

{ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } أي لا يرضون عنك وإن أبلغت جهدك في رضاهم حتى تترك دينك وتتبَّع دينهم ، وهذه سنة الله في المختلفين في الدين لا يرضى أهل ملَّة عن غيرها من الملل ، ولا تقرُّ عينها ، ولا ترضى عنها حتى تتبَّع ملَّتها . { قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ } الذي رضي لعباده ، { هُوَ الْهُدَى } أي الإسلام ، وهو الهدى كلُّـــه لـــيس وراءه هــدى ، { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } فلا يمنعه من عذابه مانـع .

 

{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } هو العاملون بما عملوا ، { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ } أي يقرؤونه حقَّ قراءته في الترتيب وأداء الحروف ، والتدبُّر والتفكُّر ، أو يعملون به ويؤمنون بما في مضمونه . ويوجد عن عبدالله بن أباض في تفسير هذه الآية قال : << وحقُّ تلاوته الإيمان به ووضع الكتاب مواضعه حتى يحلَّ ما أحلَّ الله ، ويحرِّم ما حرم الله ، ويحكم بحكم الكتاب ، ويضع الأمور مواضعها في جميع ما جاء من الله على ما جاء من الله ، فيما تخيره [كذا] ، وجعل الكفر به تحريف الكلم عن موضعه >> . { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي صفة الذين يتلونه حق تلاوته هم الذين يؤمنون به ، وإيمانهم به يقتضي التدَّبر لمعانيه ، والتدَّبر لمعانيه يقتضي العمل بما فيه ، والإخلاص لله تعالى ، وأما الذين لا يؤمنون به لا يتلونه ، وإن تلوه لا يتدبَّرون لمعانيه ، وإن تدبَّروا لمعانيه لا يعملوا ، وإن عملوا لم يخلصوا . { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } حيث اشتروا الضلالة بالهــــدى .

 

{ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } على عالمي  زمانكم ، وقيل : على عالمي أجناس الحيوان ، وهو تفضيل عظيم إن شكر النعمة التي فُضِّل بها وخُصَّ بها على غيره ، وأفضلها العقل المركَّب فيه ، لأن به يستوجب غنى الدارين .

 

{ وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً } أمر الله به ونهى عنه ، ليست لأحد في شيء ممَّا قضى الله به ورسوله . { وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } .

 

{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ً } اختبره بأوامر ونواهٍ { فَأَتَمَّهُنَّ } قام بهنَّ حقَّ القيام ، وأدَّاهنَّ حقَّ التأدية من غير تفريط ولا تقصير ونحوه : ( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) ، خلاف الذين قال فيهم : ( فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ) ، وقال : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) . { قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاما } لأن كلَّ من ابتلاه الله بشيء من دينه فأتمه وقام به حقَّ القيام ولم يضيعه ، ولا ضيع شيئا فرضه الله عليه فواجب أن يؤتَّم به ، لأنه سالك طريق الحقِّ ، فواجب أن تقتفي منه أقواله وأحواله ويكون إماما وحجَّة لمن اتبعه وحجَّة على من خالفه ، وطوبى لمن كان إماما للمتقين ، يسمو عليهم بالمسارعة والمسابقة إلى الخيرات كما قال : ( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَام ) ؛ وهذا هو الجاه الحقيقيُّ ، إذ أمر الله تعالى كافَّة الخلق من الجنَّ والأنس أن يذعنوا وينقادوا إلى طاعته ، ومن خالفه ظَاهَره الله وملائكته وأهل طاعته عليه ، وأين يكون الجاه الوهميِّ مع هذا . { قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } أي لا يرتقي إلى هذه الدرجة الفاضلة من هو ظالم لنفسه ، لأن من كان ظالما لنفسه لكان لغيرها أظلم ، وكيف يجوز نصب الظـالم للإمامة والإمام إنَّما هو لكشف الظلمـة .

 

{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ } مثابة : مرجعا يثاب إليه كلَّ عام ، أي وقلنا له : اتخذوا منه موضع صلاة يصلَّون فيه للناس مباءة ومرجعاً للحجَّاج والعمَّارة ، (لعله) والقائمين والعاكفين والركَّع السجود ، يحصلون به الثواب . {  وَأَمْناً } أي ذا أمن ، { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً } للصلاة . عن النخعي : << الرم كله مقام إبراهيم >> . { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } أمرناهما ، { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ } قيل : طهِّراه من كلِّ ما يعبد من دون الله ، للعابدين الله لأنه موضع للعبادة { لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } .      

  

 { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ َ} (لَعَلهُ) المتقين ، { مِنَ الثَّمَرَاتِ } لأنه لم يكن له ثمرة ، { مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } (لعله) دعا للمؤمنين خاصَّة ، { قَال } : الله تعالى ، { وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً } (لعله) أي سأرق الكافرَ قليلا إلى منهي أجله ، وذلك أن الله تعالى وعد الرزق للخلق (لعله) كافَّة ، مؤمنهم وكافرهم ، وإنَّما (لعله) قيل بالقلة لأنَّ متاع الدنيا قليل . { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ } (لعله) ألجئه وأدفعه ، { إِلَى عَذَابِ النَّارِ } دفع المضطر الذي لا يملك الامتناع إلى عذاب النار ، { وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .

 

{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (لعله) دلالة على أنهما بنيا الكعبة مسجدا لا مسكنا لأنهما التمسا القبول ، { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ إِنَّكَ } موحدَّين ، ومعناه زدنا إخلاصا وإذعانا ، { لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا } علمَّنا { مَنَاسِكَنَا } شرائع ديننا وأعلام حجنَّا ؛ وقيل : متعبَّداتنا ،{ وَتُبْ عَلَيْنَا } قالا هذه الكلمة انقطاعا إلى الله ن { أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } .

 

{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ } (لعله) لأنه [كذا] من القرآن كلام متَّصل ، { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } الحكمة : ما تكمل بها نفوسهم الروحانية ، وتمحو بها نفوسهم الجسمانية ، وهي العلم والعمل ، ولا يكون الرجل حكيما حتى يجمعهما . { وَيُزَكِّيهِمْ } ويطهِّرهم من جليِّ الشرك وخفيِّه ، (لعله) ومن صفات أنفسهم ، { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} (لعله) الغالب ، { الْحَكِيمُ } تضع الأمور مواضعها .

 

{ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ } أي يترك دينه وشريعته ، { إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } استبعاد وإنكار لأن يكون أحد يرغب عن الملة الواضحة الغرَّاء ، إلا من جهل نفسه الذي لم يفكَّر في عاقبته ، ومن عبد غير الله فقد جهل نفسه ، { وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا } أي بعمل الصافي الخالص من الأعمال ، { وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } حجَّة وبيان لذلك ، فإن من كان صفوة الله في العباد مشهود له بالاستقامة والصلاح يوم القيامة كان حقيقا بالأتباع لا يرغب عنه إلاَّ سفيه متسفِّه ، أذلَّ نفسه بالجهل والإعراض عن النظـر .

 

{ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ } أذعن وأطع ، وأخلص دينك لله ، { قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } كأنه قال : اذكر ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفى الصالح المستحقُّ للإمامة والتقدم ، وأنـه نال بالمبادرة إلى الإذعان ، وإخلاص السر حين دعاه ربه ، أو خطر بباله دلائله المؤدية إلى الإسلام .

 

{ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ } أي : اختار لكم ؛ وقيل : أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان ، {الدِّينَ } أي : فرض عليكم دين الإسلام ، وهو أن توحَّدوه وتعبدوه وتطيعوه ، ولا تعصوه ولا تتعالوا عليه في شيء ، ولا تشركوا به شيء من هوى نفس وطاعة شيطان ، وغرور دنيا . { فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } فلا يكن موتكم إلاَّ على حال كونكم ثابتين على الإسلام ، فإن الأمور بالخواتيم ، والنهي في ظاهر الكلام وقع على الموت ، وإنما هو في الحقيقة عن ترك الإسلام ، ومعناه داوموا على الإسلام حتى لا يصادفكم الموت إلاَّ وأنتم مسلمون . 

 

 {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ } والخطاب للمؤمنين ، يعني ما شهدتم ذلك ، وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي . { إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً } نفيٌ واعتقاد عن أن يعبدوا غيره من آلهـة ، { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } .

 

{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (لعله) يعني يُسأل كلٌّ عن عمله لا عن عمل غيره

 

{ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } الحنيف المائل عن كلِّ دين باطل إلى الحقَّ ، معناه بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا . قال مجاهد << الحنيفيَّة إتباع ملَّة إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إماما للناس . { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } تعريض بأهل الكتاب وغيرهم ، لأن كلاً منهم يدَّعي إتَّباع إبراهيم وهو على شرك جليِّ أو خفيِّ .

 

ثم علَّم المؤمنين طريق الإيمان ، فقال جلِّ ذكره : { قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ } يحمل الخطاب للكافرين وغيرهم ، { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ } الأسباطُ : قيل ك أولاد يعقوب . { وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } أي نؤمن بالكَّل ، لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى ، { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } لله مخلصون .

 

{ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ } عمَّا تدعونهم إليه ، { فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } فما هم إلاَّ في شقاق الحقَّ وهو المناوأة والمخالفة ، فإنَّ كلَّ واحد من المتخالفين في شقٍّ غير شقِّ الآخر ، قال ابن عباس : << في خلاف>> ، قال : << شاقَّ إذا خالف كلُّ واحد أحداً في شقٍّ غير شقِّ صاحبه>> . { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ } ضمان من الله لإظهار رسوله عليهم ، وهذا عامٍّ لِكُلِّ من دعا إلى الإسلام فلم يقبل المدعَى منه ويحاول في معاداته فسيكفيه الله شرَّه ، { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } .

 

{ صِبْغَةَ اللّهِ } أي أصبغنَا الله صبغتَه ، وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها ، فإنه حلية الإنسان المؤمن ، كما أن الصبغة حلية المصبوغ ، (لعله) لأنه يظهر أثر الدين على المتديَّن كما يظهر أثر الصبغ على الثوب . { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً } أي لا صبغة أحسن من صبغته ، ولا تطهير أحسن من تطهيره ، كما قال : ( بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ) . { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } .

 

{ قُلْ } : يا محمد ، { أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ } في توحيده وربوبيته ، { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } أي موجِّدون . قيل الإخلاص أن يخلص العبد دينه وعمله لله ، فلا يشرك به في دينه أن (لعله) يعمله من أجل الناس .

 

{ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ } : يا محمد ، { أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ } يعني : أن الله شهد لهم بملَّة الإسلام ، { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ } أي كتم شهادة الله التي عنده أنه شهد بها ، وهي شهادته لإبراهيم بالحنيفية . { وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } .

 

{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ } (لعله) لم يبق لها إلاَّ كسبها ، { وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } بل نسألكم عن أعمالكـم .

 

{ سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ } السُّفهاء من الناس ، كلُّ من خالف دين الله في شيء منه ، ولو بحرف واحد ، فهو سقيه في دينه ، وإن كان غير سفيه في أمور أخرى ، وعلى هذا فالناس كُّلهم سفهاء إلاَّ المخلصون . { مَا وَلاَّهُمْ } ما صرفهم ، { عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا } يعنون بيت المقدس ، والقبلة " فِعلَة" من المقابلة ؛ { قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } وألا رض كلُّها له ، { يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وهو ما ترتضيه الحكمة وتقتضيه المصلحة ، من التوجُّه إلى بيت المقدس تارة والكعبة أخرى .

 

{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } خيارا ، وقيل للخيار وسط ، لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والأوساط محمية ؛ قال أبو سعيد : << كذلك قوله : (أوسطهم) أفضلهم ، وكذلك قوله : ( أمَّةً وسطا ) ، قال : خياراً فيما قيل >> ؛ { لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ } أي تشهدون أعمالهم من بِّر وفجور ، فتضعون كلاً منزلته ، وتوفونه حقَّه ، { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } كما كنتم شهداء على الناس ، { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } إلاَّ امتحانا وابتلاء ، لنعلم الثابت على الإسلام الصَّادق فيه ، ممن هو على حرف ينكص على عقبيه لقلقه ؛ وكذلك جعل كلَّ فتنة حلَّت على أحد من خلقه امتحاناً وابتلاءً ليعلم الثابت من خلقه على دينه ليزداد بذلك إيمانا ، ويعذب من ينقلب على عقبيه ، كأنه سبق في عمله تحويل القبلة سببا لهداية قوم وضلالة آخرين ، لأن تبديل العادات وترك المألوفات ثقيل على النفوس ، إلاَّ عباد الله المخلصين ، وقليل ما هم ؛ { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } وإن كانت التَّحويلة لكبية ثقيلة شاقَّة ، { إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ } إلا الثابتين الصادقين في أتباع الرسول ، وجميع الطاعة كبيرة شاقة ( لعله) ولا سيما الانقلاب من المنسوخ إلى الناسخ ، إلا على المهتدين ؛{ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ }(لعلهُ) وذلك قيل : إن أناسا قالوا للمسلمين : <<أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس إن كانت هدى ، فقد تحولتم عنها ، وإن كانت ضلالة فقد دنتم لله بها ، ومن مات منكم عليها فقد مات على ضلالة !، فقال المسلمون : إن الهدى ما أمر الله به ، والضلالة ما نهى عنه ، { إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } لا يضيع أجورهم ؛ والرأفة أشدُّ من الرحمة .

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} يتوقع من ربه نزول الوحي عليه والتحولة إلى الكعبة موافقة لإبراهيم ومخالفة لليهود ؛ {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} ( لعلهُ) فلنعطينك ،  {قِبْلَةً تَرْضَاهَا} تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة ، التي أضمرتها لا الهوائية الجسمانية الشيطانية ، ولذلك وافقت مشيئة الله وحكمته ، ( لعلهُ) ويرجى له الثواب على طلب من ذلك ؛ و{ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي نحوه ، {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ} من الأرض وأردتم الصلاة؛{فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ} أن التحويل ، تحويل التوجه إلى الكعبة هو الحق المنزل ، {مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } فالأول: وعيد للكافرين بالعقاب على الجحود والإيباء ، والثاني : وعد للمؤمنين بالثواب .

{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ} أراد ذوي العناد منهم ،{ بِكُلّ آيَةٍ}برهان قاطع ، والمعنى لو أتاهم بكل آيَةٍ من آيات الله ، ليس آية دون آية . { مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ } لأن تركهم أتباعك ليس على شبهة تزيلها بإيراد الحجَّة ، إنما هو من مكابرة وعناد مع علمهم لما في كتبهم من نعتك أنك على الحق ، وهكذا عادة كلِّ من كان ديدنه الحمق والعناد ، { وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } حسمٌ لأطماعهم إذ كانوا اضطربوا في ذلك وقالوا : لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجوا أن يكون صاحبنا الذي ننتظره ، { وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } يعني : أنهم مع اتفاقهم على مخالفتك ، مختلفون بأنفسهم في شأن القبلة ، لا يرجى اتفاقهم كما لا يرجى موافقتهم لك ، فاليهود تستقبل بيت المقدس ، والنصارى مطلع الشمس ؛ { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ } أي من بعد وضوح البرهان ، { إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } لَمِن المرتكبين الظلم الفاحش ، وفي ذلك لطف للسامعين وتهييج للثبات على الحقِّ ، وتحذير لمن يترك الدَّليل بعد إنارته ، ويتَّبع الهوى ؛ والخطاب متوجِّه لجميع المتعبَّدين ، وكل ما لم يقيم الدليل بجوازه فهو إتباع الهوى .

 

{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ } أي الرسول أو القرآن ، { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ } مبالغة لارتفاع الشك من قلوبهم ، ومعرفة الأنباء من غيرهم مع آبائهم ليس فيها للشكِّ مجال . { وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ } من الذين لم يسلموا ، { لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ } حسداً وعنادا ، { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ذلك لأن الله بينَّه في كتابهم ، { الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } كلُّ ما ثبت من عندالله فهو الحقُّ ، وما لم يثبت من عنده فهو الباطل الذي لا ثبات له ولا أصل ؛ { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } الشَّاكين .

 

{ وَلِكُلٍّ } من أهل الشرائع والأديان أو الأهواء ، { وِجْهَةٌ } قبلة وطريقة متوجهِّون إليها ،{ هُوَ مُوَلِّيهَا } هو مولِّيها وجهَة ؛ { فَاسْتَبِقُواْ } أنتم أيها المؤمنون ، أي : تسابقوا إلى { الْخَيْرَاتِ } لِكُلٍّ من المخلوقين وجهة هو مستقبلها وساعٍ إليها من أمر الدارين ، من خير وشرٍّ ؛ وأمر الله المؤمنين أن يتوجَّهون نحو الخيرات ويتسابقوا إليها ، ومن كان أسبق كان أفضل ، { أَيْنَ مَا تَكُونُواْ } أنتم وأعداؤكم ، { يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً } أي يجمعكم يوم القيامة فيفصل بين المحقِّ والمبطل ، وفيه وعد للمحقِّ ووعيد للمشاقق المبطل ، { إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

 

{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } .

 

{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } أي لا تكون حجَّة المبطل على محقِّ في شيء ، بل الحُجَّة التامة له على جميع من خالفه ؛ { إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } قيل : والذين ظلموا من الناس فلا يكونون عليكم حجَّة و " إلاَّ " هنا بمعنى الواو ؛ وقيل : (إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ) فهم مشركو مكة أنهم قالوا لمَّا صرف قبلتهم إلى الكعبة : أن محمداً قد تحيَّر في دينه فلا تتبَّعوه ، والله أعلم بتأويل كتابه ؛ { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } ويحتمل : ( والذين ظلموا منهم فلا تخشوهم ) فلا تخافوا مطاعَنتهم في دينكم فإنهم لا يضُّرونكم ، { وَاخْشَوْنِي } فلا تخالفوا أمري ، { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } بهدايتي إياكم حتى أزحزحكم عن النار وأدخلكم الجنة التي هي دار القرار ، وهو تمام النعمة ، { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } ولكي تهتدوا إلى الحقِّ .

 

{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ } من مثلكم في الخلق ، { يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا } أي آيات القرآن ، { وَيُزَكِّيكُمْ } ويطِّهركم من خبائث الشيطان ، { وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ } أي : تنزيله وتأويله ، { وَالْحِكْمَةَ } أي : العمل على مقتضى العلم ، { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } بالفكر والنظر والاستدلال والاستنباط ، { فَاذْكُرُونِي } أي : وحِّدوني واعبدوني ولا تشركوا بي شيئا ، { أ َذْكُرْكُمْ } بالتوفيق على الطاعة والثواب عليها ، { وَاشْكُرُواْ لِي } أطيعوني في جميع ما أنعمت به عليكم ، { وَلاَ تَكْفُرُونِ } ولا تجحدوا نعمائي  .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ } على الأمر والنهي ، { وَالصَّلاَةِ } التي هي أمُّ العبادات ، ومعراج المؤمنين ، وقوام الدين ومناجاة ربِّ العالمين ، { إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } بالنصر والمعونة .

 

{ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء } لمن قتل على طاعته ، وسبيلُه طاعته كما قال : ( قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) ، وإن كان قيل : إن الآية نزلت فيمن قتل في المعركة مجاهداً في سبيل الله ، فأفضل منه من قتِل أو مات في طلب العلم والذبِّ عن الشريعة ، وأفضل منهم الأنبياء والرسل عليهم السلام ، { بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } لا تعلمون ذلك قبل أن يخبركم الله به ، لأن حياة الشهيد لا تعلم حِسًّا .

 

{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } ولنصيبنَّكم بذلك إصابة ، تشبه فعل المختبر لأحوالكم هل تصبرون على ما أنتم عليه أم لا ، { بِشَيْءٍ } بقليل من كلِّ واحدة من هذه البلايا وطرف منه ، وقُلّل ليؤذن أن كلَّ بلاء أصاب الإنسان – وإن جلَّ – ففوقه من يقل إليه [كذا] ، ويريهم أن رحمته معهم في كلِّ حال ؛ وأعلمهم  بوقوع البلوى قبل وقوعها ليوطنوا أنفسهم عليها ، { مِّنَ الْخَوفْ } من خوف العدوِّ ، أو الله ، { وَالْجُوعِ } أي القحط ، أو صوم رمضان ، { وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ } بذهبها بشيء من الآفات أو الزكاة ، { وَالأنفُسِ } بالقتل والموت ، أو بالمرض والشيب ، { وَالثَّمَرَاتِ } وإهلاك ثمرات الحرث ، أو موت الأولاد الذين هم ثمرات الأكباد ، { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } على هذه البلايا ، والمسترجعين عند البلايا ، لأن الاسترجاع الحقيقي بتسليم وصبر وإذعان ، في الحديث << من استرجع عند المصيبة ، جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفا صالحا يرضاه >> . وطفئ سراج رسول الله r فقال : << إنا لله وإنا إليه راجعون >> فقيل : أمصيبة هي ؟ قال : << نعم كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة >> .

 

{ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ } مكروه ، { قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ } إقرار له بالملك ، ولا يسخط عليه ما يفعله في ملكه ، { وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } إقرار على أنفسنا وما خوَّلناه بالفناء ، وأنَّ الأمور كلها راجعة إليه ، وليس الصبر بالاسترجاع باللَّسان ، بل بالقلب بتصَّور ما خلق لأجله ، وأنه راجع إلى ربه ، وبذكر نعم الله عليه ، فيرى أن ما بقي عليه أضعاف ما استردَّه منه ، فيهون على نفسه ويستسلم له .

 

{أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ } الصلاة : الرحمة ، فوضعت موضع الرأفة ، وجمع بينهما وبين الرحمة ، كقوله : ( رَأْفَةً وَرَحْمَةً ) ،      (رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) والمعنى عليهم رأفة بعد رأفة ، { وَرَحْمَةٌ } بعد رحمة ، { وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } لطريق الصواب حيث استرجعوا ، وأذعنوا لأمر الله ، وردوا الملك إلى مالكه ، والأمانة إلى أهلها .

 

{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ } هما علمان لمن تطَّوف بهما ، { مِن شَعَآئِرِ اللّهِ } من أعلام دينه ومناسكه ومتعبَّداته ، { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ } قصد ، { أَوِ اعْتَمَرَ } زار الكعبة ، فالحجُّ : القصد ، والاعتمار : الزيارة ثم غلبا على القصد البيت وزيارته للنُّسُكَينِ ، وهما في المعاني كالنجم والبيت في الأعيان ؛ { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ } فلا أثم ، وأصله من جنح ، أي : مال عن القصد ، { أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } أي يتطَّوف ، وأصل الطواف : المشي حول الشيء ، والمراد هنا السعي بينهما ؛ { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً } أي فعل غير المفروض عليه من زكاة وصلاة وطواف وغيره من أعمال الطاعات ، { فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } مجازٍ على القليل كثيرا ، والشكر من الله أن يعطي فوق ما يستحقُّ من شكر اليسير ، ويعطي الكثير .

 

{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ } من الآيات الشاهدة بالحقِّ وعليه ، والكتمان كفرانهم للآيات ، لأن الكفر هو التغطية ، ويحتمل كتمانهم لغيرهم ما يجب إظهاره لغيرهم ، { وَالْهُدَى } أي الإسلام ، { مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ } وضَّحناه ، لأن الحق واضح جليِّ سهلٌ يسير على من طلبه وكُله خفيٌّ على من تعامى عنه ، { لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ } المنزَّل لم يدع فيه موضع إشكال ، فعمدوا إلى ذلك المبيَّن فكتموه أو حرَّفوه ؛ { أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } الذين يتأتَّى منهم اللعن ، أي يسألون الله أن يلعنهم ؛ وقيل : جميع ما خلق الله يلعنه غضبا لله ، كما أن المطيع كلُّ شيء يستغفر له رضًى لله .

 

{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ } عن الكتمان وترك الإيمان ، { وَأَصْلَحُواْ } ما أفسدوا من أمورهم لأنَّ ترك الإيمان والكتمان من الفساد في الدين ، { وَبَيَّنُواْ } وأظهروا ما كتموا ، وفسروا بأصحِّ تفسير ، أو عملوا بمقتضاه ، فإن ذلك من البيان ، وضده الكفر ؛ { فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } أقبل توبتهم ، { وَأَنَا التَّوَّابُ } الرجَّاع لقلوب عبادي المنصرفة (لعله) عنِّي إليَّ ، { الرَّحِيمُ } الرحيم بهم بعد إقبالهم عليَّ .

 

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ } الذين ماتوا على إصرارهم على الكفر { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } المراد بالناس : المؤمنون والكافرون ، إذ يلعن بعضهم بعضا ، لم يبق لهم خليل قط .

 

{ خَالِدِينَ فِيهَا } في اللعنة أو في النار ، إلاَّ أنها أُضمرت تفخيما لشأنها وتهويلا ، { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أي : لا يُمهلون أو يُنتظرون ليعتذروا ، أو لا ينظر إليهم نظر رحمة .

 

{ وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } أي : إله من عبََدَهُ ومن عَبَدَ غيره ، واحد لا ثاني له ، { لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } تقرير بالوحدانية بنفي غيره وإثباته ، { الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } أي المُوليِ لجميع النعم أصولها وفروعها ، ولا شيء سواه بهذه الصفة ، فما سواه إمَّا نعمةٌ وإمَّا منعم عليه .

 

{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } في اللون والطول والقصر ، أو تعاقبهما في الذهاب والمجيء { وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } يُبسهما ، { وَبَثَّ } فـرَّق { فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ } قبولا ودبورا ، وجنوبا وشمالا ، وفي أحوالها حارَّة وباردة ، وعاصفة ولينة ، وعقيما ، ولوا قح ، وتارة بالرحمة ، وطورا بالعذاب ، { وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ } المذلَّل المنقاد لمشيئة الله فيمطر حيث شاء { بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون ، ويستدلون بهذه الأشياء على قدرة الخلق لهذه الآيات وأمثالها لأبهرت عقولهم عند رؤيتها في أوَّل مرَّة ؛ في الحديث << ويل لمن قرأ هذه الآية فمجَّ بها >> ، أي لم يتفكَّر فيها ولم يعتبرها .

 

{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً } أي مع هذا البرهان النيِّر من الناس [مَن] يتخذ أنداداً ، أمثالا من الأصنام ، أو الأهوية الضالَّة ، لقوله : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ) أو الشيطان ، كقوله : ( لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ) { يُحِبُّونَهُمْ } يعظّمونهم ويخضعون لهم ، تعظيم المحبوب { كَحُبِّ اللّهِ } كتعظيم الله والخضوع له ، أي : يُحبون الأصنام كما يُحبون الله يعني يسوؤون بينهم وبينه في محبتهم ، لأنهم كانوا يقرُّون بالله ويعبدون وينقادون لآلهتهم في أحوال ؛ وقيل : يُحبونهم كحب المؤمنين الله ؛ { وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ } لأنه لا تنقطع محبتهم لله في شدة ولا رخاء ، ومحبة الكافرين الأنداد فإنها لأغراض فاسدة موهوبة ، تزول بأدنى سبب ، كما قال : (وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ ) ، فهذا في الدنيا ، وفي الآخرة قال : (وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ) .

 

{ وَلَوْ يَرَى } ذلك لرأيت أمرا عظيما ، { الَّذِينَ ظَلَمُواْ } إشارة إلى متخذي الأنداد ، { إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ } عند الموت أو الآخرة { أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً } لن تبق لذي قوَّة قوَّته إلاَّ الله { وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } أي ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم باتِّخاذهم الأنداد ، أن القدرة كلَّها لله على كلِّ سيء من الثواب والعقاب دون أندادهم ، ويعلمون شدَّة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة .

 

{ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ } وهم الأنداد المتبوعون ، { مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ } من الأتباع العابدين غير الله ، { وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ } أي بِتَراء ، وفي حال رؤيتهم العذاب ، { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ } الوصلات التي كانوا يتواصلون بها ، الأرحام التي كانوا يتعاطفون بها ، والمعنى : زال عنهم كلُّ سبب يمكن أن يتوصَّل به من مودَّة أو عهد أو قرابة ، التي كانت من الاتفاق على دين واحد ، ولأغراض الداعية الباطلة الزاهقة عند بيان الحقائق وانكشافها ، لأنَّ الظواهر تنمحق والبواطن تتحقَّق .

 

{ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ً } أي الأتباع ، {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّة } رجعة إلى الدنيا ، { فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ } على سبيل المجاراة لأنهم يتعذَّبون ببراءتهم من بعضهم بعض ، { كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا } أي بترك طاعتهم وعبادتهم والانقياد إليهم ، كما تركونا ووحَّدونا ، لأنَّا علمنا أنهم لا ينفعونا إن عبدناهم ، ولا يضرونا إن تركناهم ، وفي هذا يدخل جميع ما يشغل عن طاعة الله من جميع معاصي الله التي تعود عليهم حسرات كما قال : { كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ }أي : أن أعمالهم التي يحسبونها شيئا ، ولم يجدوها كما حسبوها تنقلب حسرات عليهم ، فلا يرون إلاَّ حسرات مكان أعمالهم ؛ { وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } بل هم فيها دائمون ، باقون ببقاء الله .

 

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً } أي كلوا مما أحل الله لكم منها ، والحلال جميع المباح لأن أصله كان حلالا ، إلاَّ ما حرمه الله عليهم بالاستثناء ، وله أن يركب الحلال مباحا له من المأكولات والمشروبات والمركوبات والمنكوحات ، (لعله) : وهو مراده فيهم ذلك ، { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } طُرقه التي يدعوكم إليها إلى ارتكاب ما نهاكم الله عنه ؛ والخطوة في الأصل ما بين قدمي الخاطئ ، يقال : اتبع خطواته إذا اقتدى به واستنَّ بسنته . { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ظاهره العداوة غرور ، (لعله) ولا تناقض هذه الآية قوله : ( وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ) أي الشيطان ، إنه عدوٌّ للناس حقيقة ، ووليُّهم فإنه يريهم في الظاهر الموالاة ويزيِّن لهم أعمالهم ، ويريد بذلك هلاكهم .

 

{ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ } بيان لوجوب الانتهاء عن إتباعه ، وظهور عدواته ، أي لا يأمركم بخير قط ، إنما يأمركم { بِالسُّوءِ } لأنها تسوء فاعلها ، { وَالْفَحْشَاء } وما يتجاوز الحدَّ في القبح من العظائم ؛ وقيل السوء ما لا حدَّ فيه ، والفحشاء ما فيه حدٌّ . { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } هو جميع الكذب ، ويدخل فيه استعمال الجوارح لما لم تخلق له ، وكلُّ ما يضاف إلى الله ممَّا لا يجوز عليه .

 

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ } أي للناس ، { اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا } وجدنا { عَلَيْهِ آبَاءنَا } فإنهم كانوا خيرا منا وأعلم ، فرد الله عليهم بقوله : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } معناه التعجُّب : أيتبعونهم ولو كان آباؤهم !....{ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً } قطعا من أمر دينهم ودنياهم لأنهم لا يعقلون عاقبة شيء ولما خُلق له ذلك الشيء من جميع المخلوقات ، وإنما هو كالبهائم التي لا تسمع ( إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ) << شيئاً>> : من الأشياء نفي عنهم عن أن يعقلوا شيئاً ، لأنهم وإن عقلوا ما عقلوا من غير الدين لم ينتفعوا به في دينهم إذ لم يعقوا جميع اللوازم ، لأن الدين لا يتجزَّأ ، ولذلك في قوله تعالى : ( لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً ) . { وَلاَ يَهْتَدُونَ } (لعله) لشيء من الصواب . 

 

{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : ومثل داعي الذين كفروا ، { كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ } يصيح ، { بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء } والمعنى أنهم لا يسمعون من الدعاء إلاَّ جرس النغمة ودويِّ الصوت ، من غير إصغاء أذهان ولا استبصار ، كالبهائم التي لا تسمع إلاَّ نداء الناعق ونداء الذي هو تصويت لها وزجر لها ، ولا تفقه شيئا آخر كما يفهم العقلاء ؛ والنعيق : التصويت ، يقال : نعق المؤذن ونعق الراعي بالضَّأن ؛ والنداء : ما يُسمع ، والدعاء قد يُسمع وقد لا يُسمع . { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } عن الحقِّ ، { فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } الموعظة .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } أمر الله عباده المؤمنين أن يتحرَّوا طيِّبات ما رُزقوا ويقوموا بحقوقها ، فقال : (وَاشْكُرُواْ لِلّهِ ) على ما رزقكم وأحل لكم (إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) ، فإن عبادته لا تتمُّ إلاَّ بالشكر لإتمامه ، وهو عدم عند انعدامه . وعن النبيِّ u : << يقول الله إنِّي والإنس والجنَّ في نبإ عظيم أخلقُ ويُعبدُ غيري ، وأرزق ويُشكرُ غيري >> .

 

{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ } أي : ذبح للأصنام ، فذكر عليه غير اسم الله ؛ { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ } للذَّة وشهوة ، { وَلاَ عَادٍ } متعدٍّ غير الحاجة ، وأصل البغي قصدُ الفساد ، وأصل العدوان الظلمُ ومجاوزة الحدِّ ، { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .

 

{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ } لأنه إذا أكل ما يلتبس بالنار لكونها عقوبة عليه ، فكأنه أكل النار ، { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } كلام رضًى ، وبما يسرُّهم ، إنما يتوعدهم بالنار ، وهو (لعله) ما يجدونه في كتابهم من ديوان سيئاتهم ، { وَلاَ يُزَكِّيهِمْ } ولا يطهِّرهم من رجس ذنوبهم من حيث لم يطهِّروا أنفسهم منها ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .

 

{ أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى } (لعله) لمَّا لم ينتفع بعمله فصار وجوده أشد عليه من عدمه ، { وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ } لكتمان الحقِّ للأغراض الدنيويَّة ؛ { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } فأيُّ شيء صبَّرهم واضطرَّهم على عمل يؤدي إلى النار ، وهذا استفهام معناه التوبيخ ، فقد سمَّى الله الضلالة نارا ، فقد باعوا نِعَم الدارين بعذاب الدارين ؛ قيل : فما أصبرهم عَلَى عمل أهل النار ، أي : ما أدوهم عليه ؛ {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } (لعله) يعني : ذلك العذاب بأنَّ الله نزَّل الكتاب بالحثِّ ، فأنكروه وكفروا به ؛ { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ } أي بالدِّين ، فقالوا في بعضها حقٌ ، وفي بعضها باطل ، { لَفِي شِقَاقٍ } خلافٍ { بَعِيدٍ } عن الحقِّ .

 

{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ } أي : ليس البَّر توليتُكم { وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } (لعله) أي: يقوم المصلَّي يصلَّي على غير تقوى ، { وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } قيل : إنَّ الهاء راجعة إلى المال ، الذي أعطى المال في حال صحته وحجيـَّته المال ؛ وقال ابن مسعود : << أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر >> . وقيل : هي عائدة إلى الله ، أي على حب الله ، { ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى } المراد الفقراء من ذوي القربى ، واليتامى المحتاجين ، { وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } المسافر المنقطع عن ماله ، (لعله) وفي خ ابن السبيل المسافر الذي انقطع عنه ما يكفيه في سفره ، وسمَّي ابن السبيل لملازمته له ، و (لعله) الضيف ، صرَّح به السلف ؛ { وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ } في معاونة المكاتبين إذا كانوا أهلاً لذلك ، وأنت أهل للبذل ، { وَأَقَامَ الصَّلاةَ } المكتوبة ، { وَآتَى الزَّكَاةَ } المفروضة ، قيل : هو توكيد للأوَّل ، وقيل : المراد بالأوَّل نوافل الصدقات والمبارُّ ، { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } الله والناس ، { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء } الشدائد ، { والضَّرَّاء } المرض والزمانة ، { وَحِينَ الْبَأْسِ } وقت القتال ؛ { أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } (لعله) إيمانهم اللفظيَّ باتبِّاع الحقِّ وطلب البِّر وترك الشهوات ، { وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } عن الكفر وسائر الرذائل ؛ والآية كما ترى جامعة للكمـالات الإنسانية بأسرها ، دالّة عليها صريحا وضمنا ، فإنها بكثرتها وتشعُّبها منحصرة في ثلاثة أشياء : صحة الاعتقاد ، وحسن المعاشرة ، وتهذيب النفس .  

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ } عبارة عن المساواة ، { فِي الْقَتْلَى } المعنى فرض عليكم اعتبار المماثلة والمساواة بين القتلى ، { الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } أي تُرك له وصُفح عنه من الواجب عليه وهو القصاص ، وهذه توصية للعافي والمعفوِّ عنه جميعا ؛ { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } يعني : أن الوليِّ إذا أعطي له شيء من مال أخيه ، يعني القاتل بطريق الصلح ، فليأخذه بمعروف من غير تعنيف ، وليؤدِّه القاتل إليه بلا تسويف ، { ذَلِكَ } الحكم المذكور من العفو وأخذ الدِّية ؛ { تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } فإنه قيل : كان في التوراة القتل لا غير ، وفي الإنجيل العفو (لعله) بغير بَذَلٍ لا غير ؛ وأبيح لنا القصاص والعفو وأخذ المال بطريق الصلح توسعة وتيسيرا ؛ { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ }  التخفيف ، فيجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل ؛ أو القتل بعد أخذ الدِّية ، { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الدنيا والآخــرة .

 

{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ }  لكلام فصيح [كَذَا] لما فيه من الغرابة ، إذ القصاص قتل وتفويت للحياة ، وقد جُعل طراقا للحياة ، (لعله) لأن بالمجازاة يكفُ الخلق  بعضهم عن بعض الاعتداء ، لأن أكثرهم لا يردعهم ،  خوف الله  تعالى ، لأنه إذا همَّ بالقتل فعلم أنَّه يقتصُّ منه ، فارتدع سِلم صاحبه من القتل ، وسلم هو من القود فكان القصاص سبب حياة نفسين ؛ وقيل : كانوا في الجاهلية يقتلون بالمقتول غير قاتله ، فتثور الفتنه ويقع بينهم التناصر ؛ وفي تعريف القصاص وتنكير الحياة بلاغة بيَّنه ، لأنَّ المعنى : ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص ، حياة عظيمة ، { يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به ، وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة ومن يقوم مقامهم بذلك .

 

{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } أي : إذا دنا منه ظهرت أماراته ، { إِن تَرَكَ خَيْراً } مالا كثيرا ، وسمَّي خيرا لأنَّه يُعين على الوصول إلى دار الخير وهي الجنة ، كما سمِّيت نعمة الدنيا نعمة لأنها توصل إلى النعمة الأبديِّة . { الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ } (لعله) أي : الشيء الذي يعرف العقلاء أنه لا جور فيه ولا حيف ، { حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } أي : حقُّ ذلك على أهل التقوى .

 

{ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } قيل : إنه الورثة والوصيُّ ، أو أحدهما ، { إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .

 

{ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً } ميلا عن الحق بالخطإ في الوصية ، { أَوْ إِثْماً } تعمُّد للحيف ، { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ } أي فُرض { عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } المعاصي بالصيام ، فالصائم أمنعُ لنفسه واردع لها من مواقعة السوء ؛ { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً } لا يقدر أن يصوم ، أو يخاف من الصوم زيادة المرض ، { أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قال أبو سعيد : << ولا يخرج في معنى الاعتبار في الإفطار ، إلاَّ بمعنى صرف المشقَّات ، وكذلك القصر في الصلاة >> . { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } قيل : الإطعام منسوخ ، وليس على العبد إلاَّ الصيام إن قدر ، وإن لم يقدر فلا إطعام عليه ؛ وقيل : إذا عجز عنه صيم عنه وأُطعم عنه ؛ { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً } فزاد على مقدار الفدية ، { فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .

 

{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } أي أُنزل هداية للناس إلى الحقِّ ، وهو آيات واضحات مكشوفات مِمَّا يهدي إلى الحقِّ ، ويفرِّق بين الحقِّ والباطل ؛ ذَكَر أوَّلاً أنه هدى ،ثُمَّ ذكر أنه من جملة ما هدى به الله ، وفرق به بين الحق والباطل من وحيه وكتبه السماويِّة الفارقة بين الهدى والضلال ؛ { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ } فيما تعبَّدكم به ، لأنَّ دينه كله يسرٌ لأوليائه ، وكله مشقَّة على أعدائه ، { وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } ولتعظَّموا الله على ما هداكم من أمر دينه ، { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } كي تشكروا .

 

{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } عِلما وإجابة ، لتعاليه عن القرب مكانا وهو قريب لمن سأل ؛ { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي } إذا دعوتهم للإيمان والطاعة ، كما أنيِّ أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم ، { وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } كأنَّ إجابة الدعوة مستجابة لمن استجاب لله تعالى فيما أوجبه عليه ، لأنَّه قال : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي ) كأنه الذين يعبدونه ولا يشركون به شيئا ، ثم قال : ( فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي ) فصحَّ ذلك للمؤمنين المستجبين لله تعالى ، وقال في آية أخرى : ( وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ) .

 

{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ } الجماع { إِلَى نِسَآئِكُمْ } زوجاتكم وإمائكم ، { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } قيل : لباس أي ستر عن الحرام ، { عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } تظلمونها بالجماع وتنقصون حظَّها من الخير ، والاختيان :  من الخيانة ، كالاكتساب : من الكسب ، { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } حين تبتم ، { وَعَفَا عَنكُمْ } ما فعلتم قبل الرخصة ، { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } العكوف : هو الإقامة على الشيء ، والاعتكاف في الشرع : هو الإقامة في المسجد على عبادة الله ؛ { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ } حدود الله ما منع الله عنها من مخالفتها ، { َلاَ تَقْرَبُوهَا } نهى أن نقرب الحدَّ الحاجز بين الحقِّ والباطل لئلاَّ يُدانى الباطل فضلا أن يُتخطَّاه ، كما قال u << إنَّ لكلِّ ملك حمى وحمى الله محارمه ، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه >> ، وهو أبلغ من قوله : << فلا تعتدوها >> ، ويجوز أن يريد بحدود الله محارمه ومناهيه ؛ { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ } شرائعه ، { لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } .

 

{ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم } أي لا يأكل بعضكم مال بعض ، { بِالْبَاطِلِ } أصل الباطل الشيء الذاهب بالوجه الذي لم يحبَّه الله ولم يشرِّعه ، { وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ } ولا تلقوا أمرها إلى الحكَّام ، { لِتَأْكُلُواْ } بالتحاكم ن { فَرِيقاً } طائفة { مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنَّكم على الباطل ، وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها أقبحُ ، وصاحبه بالتوبيخ أحقُّ .

 

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } أي معالم يؤقِّت بها الناس مزارعهم ومتاجرهم ومحالَّ ديونهم وصومهم وفطرهم وزكاتهم ، وعِدَد نسائهم وحيضهنَّ ، ومُدد حملهنَّ وغير ذلك ؛ ومعالم الحجَّ يعرف بها وقته ، { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } أي باشروا الأمور من وجوهها التي تحب أن تباشر منها ، أيَّ الأمور كان ، ولا تعكس انعكاسا على أم الرأس ، كقوله : ( أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ ) . { وَاتَّقُواْ اللّهَ } فيما تعبَّدكم به { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } لتفوزوا بالنعيم السرمديِّ .

 

{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه ، { الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } الكفرة كلَّهم بعد الدعوة إلى أن يرجعوا إلى ما خالفوا فيه الحقَّ ، حتى يكون الدين كلُّه لله لا شريك له فيه ، ويدخل في هذا الخطاب مقاتلة الأعداء الباطن إبليس وأعوانه ، حتى لا يتابعوا فيما يوسوسون فيه ، { وَلاَ تَعْتَدُواْ } بترك ما أمرتم به وفعل ما نهيتم عنه ؛ وقيل : ولا تعتدوا بقتال من نُهيتم عن قتاله ، أو بالمثلة أو بالمفاجأة من غير دعوة ،  { إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } ما حدَّه وفرضه .

 

{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } وجدتموهم ، والثقف : وجود على وجه الأخذ والغلبة ، { وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } من مكة وغيرها ، { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } والفتنة هاهنا : فعل معصية الله ظاهراً بين ظهراني الإسلام ، مع القدرة على تغييرها وإنكارها ، وهي أشدُّ من قتال فاعليها ، لأنَّ ذلك يرجى انكشافها ، ويطاع الله ولا يعصى إلاَّ سريرة ، فإنَّ ذلك لا يضرُّ إلاَّ فاعلها . { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ } أي ولا تبدؤوا بقتالهم في الحرم حتى يبتدئوا . { فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ } .

 

{ فَإِنِ انتَهَوْاْ } عن معاصي الله ، { فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ } لما سلف من ذنوبهم { رَّحِيمٌ } بقبول توبتهـــــم .

 

{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } معصية يجب إنكارها ، { وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ } خالصا ، ليس للشيطان نصيب ، أي لا تعبد دونه شيءٌ ظاهرا : هوى ولا شيطان ولا نفس ولا دنيا ، { فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ } أنفسهم بحبِّ الأدنـى .

 

{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ } أي : وهذا الشهر بذاك الشهر وهتكه بهتكه ، يعني تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم ، { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } أي : كلّ حرمه يُجزِي يُجزِي فيها القصاص ، من هتك حرمة – أيَّ حرمه كانت – اقتُصَّ منه بأنَّ تهتك له حُرمَةٌ ، فحين هتكوا حرمة شهركم فافعلوا بهم نحو ذلك ؛ وأكَّد ذلك بقوله { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } أي : بعقوبة مماثلة لعداوتهم . { وَاتَّقُواْ اللّهَ } في ما حدَّه وفرضه وبيَّنه ،  { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } بالنصر والتوفيق .

 

{ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } في رضا الله ، { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } التهلكة كلُّ ما عاقته إلى الهلاك ، معناه أنَّ ذلك العبد إذا واقع المعصية أو السيئة ، ثم تعرض له معصية أخرى فيركبها من أجل فعله المعصية السابقة منه ، ثم يمضي قدما بترك الطاعات للمعصية الماضية منه ، ويركب المعاصي للمعصية التي سبقت منه ، فذلك هو إلقاؤه بيده إلى التهلكة . وحثه مع ذلك وأمَره فقال : { وَأَحْسِنُوَاْ } أي وتوبوا من المعصية كلَّها الأولى والآخرة ، ولا تتركوا شيئاً من الطاعة لمعصية ، ولا تركبوا شيئاً من المعصية لمعصية ، {  إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } لأنفسهم بالطاعة .

 

{ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } أدُّوها تامَّين بشرائطهما لوجه الله بلا توان ، { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } يقال : أحصر فلان إذا منعه أمر ، من خوف أو مرض أو عجز ، وحُصر إذا حبسه عدوٌّ عن المضيِّ ، وعندنا الإحصار يثبت لِكُلَّ منع كان ، لظاهر النصِّ .   { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } يعني فإن منعتم من المضيِّ إلى البيت وأنتم محرِمون لحجَّ أو عمرة فعليكم إذا أردتم التحلُّل ما استيسر من الهدي ، من بعير أو بقرة أو شاة ، { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } أي لا تحلقوا الرأس حتى تعلموا أنَّ الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ محلِّه . { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً } فمن كان به مرض يحوِّجه إلى الحلق ، { أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ } وهو القمل أو الجراحة ،         { فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ } ثلاثة أيام { أَوْ صَدَقَةٍ } ستة مساكين ، { أَوْ نُسُكٍ } شاه ؛ { فَإِذَا أَمِنتُمْ }الإحصار ، { فَمَن تَمَتَّعَ } استمتع { بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ } استمتاعه باستباحة ما كان محرَّما عليه إلى أن يحرِم بالحجِّ ، { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } هدي المتعة ، { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } المتعة ، { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ } فيما تعبَّدكم به ،  { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } لمن لم يتَّقه .

 

{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } معروفات عند الناس لا يشكلن عليهم ، ولا يحتجن إلى تخصيص بتفسير . { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ  الْحَجَّ } ألزم نفسه بالإحرام فيهنَّ ، { فَلاَ رَفَثَ } وهو الجماع وما تولَّد من أسبابه ، { وَلاَ فُسُوقَ } هو المعاصي ، { وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ } ولا مراء مع الرفقاء والخدم والمكَّارين ولا غيرهم ، وإنما أمر باجتناب ذلك – وهو واجب الاجتناب في كلِّ حال – لأنه مع الحجِّ أسمج ، أي : أقبح ، كلبس الحرير في الصلاة والتطريب في قراءة القرآن ، ثم حثَّ على فعل الخير عُقَيب النهي عن الشرِّ ، وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن ، ومكان الفسوق البِّر والتقوى ، ومكان الجدال الوفاق وحسن الأخلاق ، فقال : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ } واعلموا بأنه علم به يجازيكم عليه . وقيل : كان أهل اليمن لا يتزودون ويقولون : نحن متوكلون ، فيكونون كلاًّ على الناس فنزل فيهم : { وَتَزَوَّدُواْ } أي : تزودوا واتَّقوا الاستطعام وإبرام الناس والتثقيل عليهم . { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } أي الاتقاء عن الإبرام والتثقيل ، وتزَّودوا للمعاد باتقاء المحظورات فإن خير الزاد اتقاؤها ، { وَاتَّقُونِ } وخافوا عقابي ، { يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ } فإن قضية اللُّبِّ تقوى الله ، ثم أمرهم بأن المقصود منها هو الله فتبَّروا عن كلِّ شيء سواه ، وهو مقتضى العقل المعرَّى عن شوائب الهوى فلذلك خصَّ أولي الألباب بهذا الخطاب .

 

{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ } في مواسم الحجَّ ، { فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } عطاء منه وتفضَّلا وهو النفع والربح في التجارة والكراء . { فَإِذَا أَفَضْتُم } دفعتم بكثرة وهو من إفاضة الماء وهو صبُه { مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ } بالتلبية والتهليل والتكبير أو بصلاة المغرب ، { عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } والمشعر : العَلَم لأنه معلم  للعبادة ، { وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } أي اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة ، واذكروه كما علَّمكم ، { وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ } من قبل الهدى { لَمِنَ الضَّآلِّينَ } الجاهلين ، لا تعرفون كيف تذكرونه .

 

 

{ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ } لذنوبكم ، أو من التفصير في أعمال الحجَّ ، { إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } بكم .

 

{ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ } عباداتكم التي أمرتم بها في الحج ، { فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ } أي فاذكروا الله ذكرا ، مثل ذكركم آباءكم ، والمعنى : فأكثروا ذكر الله وبالغوا فيه ، كما تفعلون في ذكر آباءكم ومفاخرهم وأيَّامهم .{ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } أي : أكثر من ذكر الآباء والدنيا كلها ، لأنه إذا أحب شيئا أكثر ذكره بلسانه وبقلبه ، وإذا أُمِروا أن يذكروا الله كذكرهم آباءهم بعد فراغهم من مناسكهم فكيف ما داموا في حالها ! . { فَمِنَ النَّاسِ مَن    يَقُولُ } فمن الذين يشهدون الحجَّ من يسأل الله حظوظ الدنيا للتمتُّع بها لا غير ، ولا يسأله لأمر آخرته . { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا } أي اجعل إيتاءنا أي إعطاءنا في الدنيا خاصَّة يعني : الجاه والغنى للتمتُّع لا للتزوُّد ، ولم يسألوه حسنة كما سأله المؤمنون ، لأنهم لا يريدون بسؤالهم الآخرة ، ولأن الحسنة من الطاعة ، وهؤلاء مقتصرون على الحظوظ العاجلة ، ويحتمل هذا السؤال منهم بلسان المقال ، ويحتمل بلسان الحال ، { وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } من نصيب .

 

{ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } عافية ومالا وعلما وعبادة وتوفيقا عليهما ، { وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً } عفوا ومغفرة وجنة ، { وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } أحفظنا من عذاب جهنم ، لأنهم كانوا وجلون منها ، { أُولَـئِكَ }الداعون بالحسنتين ، { لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ } من أعمالهم الحسنة ، أو لِكُلِّ فريق نصيبا من جنس ما كسبوا . { وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد ، فبادروا [إلى] إكثار الذكر وطلب الآخرة ؛ ووصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم وكثرة أعمالهم ليدل على كمال قدرته ، ووجوب الحذر من نقمته .

 

{ وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } أيام التشريق ، وقيل : المعلومات هنَّ العشر ، والمعدودات هنَّ أيام التشريق ، وقيل : المعلومات والمعدودات هنَّ أيام العشر والتشريق . { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى } الصيد والرفث والفسوق ، أي مخيَّر في التعجُّل والتأخُّر ، وإن كان التأخُّر أفضل ، فقد يقع التخيير بين الفاضل والأفضل ، كما خُيِّر المسافر بين الصوم والإفطار وإن كان الصوم أفضل . { وَاتَّقُواْ اللّهَ } في جميع الأمور ، { وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } لأن من علم بذلك لا شك أخلص العمل لله .

 

{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ الدُّنْيَا } يروقك ويعظم في قلبك ، ومنه " الشيء العجيب " الذي يعظم في النفس ، { قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ } بلسان مقاله ، أو بلسان حاله ، والآية في المنافقين . { وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ } يحلف ويقول : الله شاهد على ما في قلبي من محبتك ومن الإسلام ، أو يشهد الله بِعَمَله الذي هو خلاف قوله أو اعتقاده بقلبه ،  { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } شديد الجدال والعداوة للمسلمين ، والخصام : المخاصمة ، ويشهد عليه بذلك لسان حاله ؛ ويشهد عليه بذلك قوله : { وَإِذَا تَوَلَّى } عنك وذهب بعد إِلاَنَة القول ، { سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ } الزرع والحيوان ، أو إذا كان واليا فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل ؛ وقيل يظهِر الظلم حتى يمنع الله بشؤمِ ظلمِه القطر فيهلك الحرث والنسل . { وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ } .

 

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ } في الإفساد والهلاك ، { أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ } حملته النخوة وحميَّة الجاهلية على الإثم الذي ينهى عنه ، وألزمته ارتكابه ، وأخذته العزَّة من أجل الإثم الذي في قلبه . { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } أي كافية ، { وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } الفراش .

 

{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ } يبيعها ، { ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ } لم يكن منه سعي إِلاَّ مرشاته ، كالعبد المملوك الذي ر يملك شيئاً ، ماله ونفسه لمولاة ليس لنفسه ولا لهواه منه شيء إِلاَّ ما كان من الحقِّ . { وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ } الذين شروا أنفسهم لله

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ } وهو الاستسلام والطاعة لله ، { كَآفَّةً } لا يخرج أحد منكم بُدَّه عن طاعته ، أو يدخلوا في الطاعات كلِّها .

{ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } وساوسه ، { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ظاهر العداوة .

 

{ فَإِن زَلَلْتُمْ } مِلتم عن الدخول في السِّلم ، { مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ } أي الحجج الواضحة ، { فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ } غالب لا يمنعه شيء من عذابكم ، { حَكِيمٌ } لا يعذِّب إِلاَّ بحقٍّ . وروي أن قارئاً قرأها : << غفور رحيم >> فسمعه أعرابِّي لم يقرأ القرآن فأنكره ، وقال : ليس هذا كلام الله إذ الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل والعصيان .

 

{ هَلْ يَنظُرُونَ } ما ينتظرون ، { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ } أي أمره وبأسه ، أي لا يقلعون من الزلل إلى أن يأتيهم أمر الله ، { فِي ظُلَلٍ } جمع ظلة وهو ما أظلك ، { مِّنَ الْغَمَامِ } يحتمل هذا أن يكون مجازا ، والغمام في الحقيقة سكرات الموت { وَالْمَلآئِكَةُ } يقبض أرواحهم ، ويحتمل ( في ضلل من الغمام ) في حال جهلهم وعصيانهم وسكراتهم بسبب شهواتهم ، أو يأتيهم أمر الله في غير حال تخوف ، والله أعلم بتأويل كتابه . { وَقُضِيَ الأَمْرُ } بقضاء آجالهم ، وتَّم أمر هلاكهم ، وهو فرع منه . { وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } أي أنه ملَّك العباد بعض الأمور ملكا وهمياًّ لا ثبات له ولا حقيقة ، والحقيقة بأنَّ مرجع الأمور إليه يوم النشور .

 

{ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ } سؤال تقريع كما يُسأل الكفرة يوم القيامة . { كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ } واضحة ، { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ } هي آياته هي العلم ، وهو أجلُ نعمة من الله ، لأنه الهدى من الضلالة والنجاة من الهلاك والغنى من الفقر والسلامة من العذاب في الحياتين ، وتبديلهم إيِّاها أن الله أتاهم بها ليكون أسباب هداهم ، فجعلوها أسباب ضلالتهم وكفرهم ، كقوله : (فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ....) الآية . { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ } من بعد ما عرفها وتمكن من معرفتها وصحت عنده ، لأنه إذا لم يعرفها ويعرف المراد بها فكأنها غائبة عنه . { فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } له في الدارين .

 

{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } حسنت في أعينهم ، وسرت محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها وأعرضوا عن غيرها ، والمزيِّن في الحقيقة هو الله إذ ما من شيء إلاَّ وهو فاعله ؛ وقيل : المزيِّن هو الشيطان زيَّنها لهم وحسَّنها في أعينهم بوساوسه ، وحببها إليهم فلا يريدون غيرها . { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ } يريد فقراء المؤمنين ، أي يسترذلونهم ويستهزؤون بهم ويسَّفونهم على رفضهم الدنيا وإقبالهم على العقبى ، { وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } لأنهم في عليين وهم في أسفل سافلين ، { وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } في الدنيا ولآخرة .

 

{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً } قال أبو سعيد : << في التأويل أنهم كانوا أمَّة واحدة في معرفته تبارك وتعالى ، يعبدونه بمعرفته ولم يكن لهم غير ذلك قبل أن يبعث الله الرسل ، ولم يكن لهم في مخالفة ذلك ولا الشكُّ فيه ولا في شيء منه إلاَّ بالاعتراف له بآياته وشواهد فضله وعدله وقدرته وحكمته وما أظهر من آياته ، ولم يكونوا قبل ذلك ليبلغوا إلى ما لم يأتهم به الرسل من الأمر والنهي الذي يتعبَّدهم الله به ، ولا بالكتب التي ينَّزلها الله عليهم ، ولا بالرسل التي يرسلها الله إليهم ، وإنما كانت العبادة له قبل الرسل له تبارك وتعالى ، بصحَّة المعرفة له وإخلاص الطاعة له ، والعبادة بالاستسلام له والإيمان به وبآياته . قال الله تبارك وتعالى : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً ) على هذا فاختلفوا في عبادته قبل أن يرسل إليهم الرسل ، منهم الشاكُّ ومنهم الجاحد ومنهم المعطَّل ومنهم العابد معه غيرة . قال : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ) فجاءت الرسل والكتب عن الله مبشِّرة لمن أطاعة وعبده ، وشاهدة له بالصواب والثواب ؛ ومنذرة لمن عصاه وشاهدة عليه بباطله ومخالفته ، وبالعقاب على ذلك .  { فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ } المؤمنين بالثواب ، { وَمُنذِرِينَ } الكافرين بالعقاب ، { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ } مع كلِّ واحد كتابة ، { بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ } الله أو الكتاب أو النبي المنَّزل عليهم . { بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ } في دين الإسلام ن { وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ } أي الكتاب المنزَّل لإزالة الاختلاف ، أي [ما] ازدادوا إلاَّ اختلافا لما أنزل عليهم الكتاب . { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ } واضحات على صدقه ،      { بَغْياً بَيْنَهُمْ } حسدا بينهم وظلما ، لحرصهم على الدنيا وقِلة الإنصاف منهم . قال الغزالي : " فأنزل الله العلم ليجمعهم ويؤلف بينهم على طاعته فأمرهم أن يتألفوا بالعلم فتحاسدوا وتخالفوا إذ أراد كلُّ واحد أن يتفَّرد بالرئاسة وقبول القول فردَّ بعضهم على بعض " . { فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ } أي فهدى الله الذين آمنوا بالحق الذي اختلف فيه من اختلف ، { مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } بإرادته من أهل طاعته ، { وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ } فلا هداية إلاَّ لمن هداه الله إلى الهدى ، ولا هدى من الله إلاَّ لمن آمن به ، ولا يكون مؤمنا إلاَّ حتى يوافق سبيل الإيمان >> هذا من قول أبي سعيد ، انتهى . { إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي إلى الحقِّ .

 

{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم } أي : إتيان ذلك متوقع منتظر ، { مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ } مضوا أي حالهم التي هي مثل في الشدَّة ؛ { مِن قَبْلِكُم } أي : أخبارهم وما حل بهم من البلوى ، { مَّسَّتْهُمُ } بيان للمثل { الْبَأْسَاء } أي : البؤس ، { وَالضَّرَّاء } المرض والجوع ،         { وَزُلْزِلُواْ } وحرِّكوا بأنواع البلايا ، وأزعجوا إزعاجا شديدا شبيها بالزلازلة .{ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ  } إلى الغاية التي قال الرسول ومن معه من المؤمنين : { مَتَى نَصْرُ اللّهِ } أي : بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر ، ومعناه : طلب النصر وتميتنه واستطالة زمان الشدة ، وفي هذه الغاية دليل على علوِّ شأنهم واصطبارهم وضبطهم لأنفسهم ، فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجروا وضجوا ، كان ذلك الغاية في الشدة التي لا مطمع وراءها ، فقيل لهم : { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } وفيه إشارة إلى أن الوصل إلى الله والفوز بالكرامة عنده برفض الهوى واللذات ومكابدة الشدائد والرياضات ، كما قال u << حُفَّت الجنة بالمكاره ، والنار بالشهوات >> .

 

{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } .

 

{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } جميع ما كلفه الله العباد تأباه نفوسهم ومكروه في طباعهم وهو منط صلاحهم ، وسبب فلاحهم . { وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } وهو جميع ما نهوا عنه ، فالنفس تحبه وتهواه وهو يفضي بها إلى الردى وإنما قال : << عسى >> لأن النفس إذا ارتاضت تنعكس لأمر عليها [كذا] ، { وَاللّهُ يَعْلَمُ } ما فيه صلاحكم { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ذلك فباروا إلى ما يأمركم به وإن شقَّ عليكم .

 

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ } أي : منع المشركين [له] وأصحابه عن البيت ، { وَكُفْرٌ بِهِ } أي بالله ، { وَالْمَسْجِدِ   الْحَرَامِ } عطف على سبيل الله ، { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ } أي أهل المسجد الحرام ، { مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ } إخبار عن دوام معاداة المشركين للمسلمين ، وأنهم لا ينفكُّون عنها حتى يردوهم عن دينهم .    { إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } سُّموا أصحابها لأنها خلقت لهم وخلقوا بها .

 

{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ } جميع حظوظ النفس ،          { وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } جهاد الظاهر والباطن ، { أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ } معناه أُولَئِكَ يستحقون أن يرجوا رحمة الله لأن من رجا طلب ، ومن خاف هرب . { وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .

 

{  يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } بسبب المخالفة لدينه ، { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } بالتجارة في الخمر ونيل المطامع بلا كدٍّ في الميسر ، وقيل : ذلك قبل التحريم ، { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } لأن إثمها يخلِّد صاحبه في النار ،              { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } أي : أنفقوا ما فضل عن قدر الحاجة وكان التصدُّيق بالفضل في اوِّل الإسلام ، فنسخ بآيةِ الزكاة ، وقيل : العفو والقبض [و] الجهد ، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه من الجهد واستفراغ الوسع ، { كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ  فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } فتأخذون بالأصلح والأنفع منهما وتجتنبون ما يضركم فعله ولا ينفعكم عمله ، وتتفكرون بالحقائق والبواطن لا الأمور الوهمية .

 

{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } أي مداخلتهم على وجه الصلاح لهم ولأموالهم خير من محمايتهم وتركهم ضياعا ، { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } في الدين لأنهم فطروا على الإسلام ، { وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ } لأموالهم وأحوالهم ، { مِنَ الْمُصْلِحِ } لها ، فتجاريه على حسب مداخلته فاحذروه ولا تتحروا غير الصلاح ولا تعلموا فيهم إلاَّ به ، { وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ } لحملكم على العنت وهو المشقَّة ، { إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } لا يكلف إلاَّ وسعهم .

 

{ وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } ثم بين علة ذلك فقال : { أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } أي يدعون إلى ما يؤدي إليها ، { وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } فيتعَّظون .

 

{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } التواب كلما أذنب تاب ، { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ }،{ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }

 

{ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ } ولا تجعلوه حاجزا لما حلفتم عليه ، أي ولا تجعلوا الحلف بالله مانعا لكم من البر والتقوى ، { أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ } بقول يدخل بين الناس بالصلح ويبرُّ قسمه ، ولا يقل باليمن فلا يصلح بين الناس ولكن يصلح ويكفِّر يمينه ، { وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ } قيل : هو أن يحلف على شيء يظنُّه على ما حلف عليه والأمرُ بخلافه ،    { وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } كسبُ القلب العقد والنيَّة . { وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ }

 

{ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ،   { وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .

 

{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } قيل : كان الرجل إذ طلق زوجته ثلاثا في أوَّل الإسلام كان حقَّ بردِّها ما كانت في العدة ، ثم نُسخت هذه الآية بقوله : ( الطَّلاَق مَّرتان ) . { إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } فيما جعل الله عليهن من العدة للأزواج في الطلاق ، فيما لا يبلغ إلى علمه إلاَّ بعولتهن من انقضاء عدتهن وغير انقضائها ، فلا يحلُّ لها أن تقول : إن عدتها قد انقضت بحيض أو بولادة ، فيما يمكن صدقُ قولها في ذلك ، وهي لم تنقض عدتها فتكون ... ، { فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً } وهو المعاشرة بالمعروف ، { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ } ويجب لهن من الحق على الرجال والمهر والنفقة ، وحسن العشرة وترك المضَّارة ، مثل الذي يجب لهم عليهن ، من الأمر والنهي ؛ { بِالْمَعْرُوفِ } بالوجه الذي لا يُنكر في الشرع وعادات الناس ، فلا يكِّلف أحد الزوجين صاحبة ما ليس له ؛ والمُراد بالمماثلة : الواجب في كونه حسنةً لا في جنس الفعل ، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له ، أن يفعل نحو ذلك ، ولكن تقابله بما يليق بالرجال .

 

{ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } زيادة في الحقِّ ، وفضيلة بالقيام بأمرها ، وإن اشتركا في اللذة والاستمتاع ، أو بالإنفاق وملك النكاح ، وقيل : بالعقل ، وقيل : بالطلاق ، وقيل : بالرجعة ، غير ذلك ، { وَاللّهُ عَزِيزٌ } لا يتعرَّض عليه في أموره ، { حَكُيمٌ } لا يأمر إلاَّ بما هو صواب وحسن .

 

{ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ } إلاَّ أن يعلم الزوجان ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من واجب الزوجية ، لما يحدث من نشوز المرأة وسوء خلقها { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } قيل : إن ذلك في الخلع على سبيل ما يرجو أن الطاعة في ذلك ، والخروج من المعصية ، فلا جناح عليه أن يقبل فِديتها ما لم تردَّ عليه أكثر بما نقدها مِما تدعُ له مِما عليه لها ، {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ }أي ما حدَّ من النكاح واليمين والإيلاء والطلاق والخلع وغير ذلك ، { فَلاَ تَعْتَدُوهَا } فلا تجاوزوها بالمخالفة ، { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } الضارُّون أنفسهم .

 

{ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ } كان في ظنهما أنهما يقيمان حدود الله ، ولكن للظن علامات وأمارات ، فإذا كان الغالب على ظنهما أنهما يقيمان حدود الله ، فيما يجب لهما وعليهما ، وفي حال معاشرتهما بعضهما لبعض ، { وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } يفهمون ما بين لهم .

 

{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } بتعريضها لعقاب الله ،     { وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً } أي جدُّوا في التعليم لها والفهم لما فيها ، والأخذ بها والعمل بما فيها ، وراعوها ، إنما أنت لاعب وهازئ ، وقيل : لا تستخفوا بأوامره ونواهيه { وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } كالعقل والإسلام ، ونتائجها ؛ { وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ } من القرآن والسنة ، وذكرُها مقابلتها بالشكر والقيام بحقها ؛ { يَعِظُكُم بِهِ} بما أنزل عليكم ، { وَاتَّقُواْ اللّهَ} فيما امتحنكم به ، { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } من الذكر والاتِّقاء والاتعاظ وغير ذلك ، وهو أبلغ ، وعد ووعيد .

 

{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ } بما يحسن في الدين والمروءة ، { ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } فالموعظة فالمواعظ إنما تنجع فيهم ؛ { ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} من أدناس الآثام ، وذلك أنه إذا كان في نفس كلِّ واحد منهما علاقة حبٍّ ، لم يؤمن أن يتجاوز ذلك إلى غير ما أحل الله لهما ؛ { وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } .

 

{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ } والمشاورة : استخراج الرأي ، والمشاورة في الأمر غير الاستبداد ؛ { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .

 

{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ } بعد موت أزواجهنَّ ،    { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أيهُّما الأيمَّة والحكَّام ،      { فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ } من التعريض للخطَّاب ، { بِالْمَعْرُوفِ } بالوجه الذي لا ينكره الشرع ، { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .

 

{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ } أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألستنكم ، لا معرِّضين ولا مصرِّحين .       { عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } لا تصبرون عن السكوت عنهنَّ ، وعن الرغبة فِيِهنَّ ؛ { وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } جماعا ، لأنه ممَّا يسرُّ ، أي لا تقولوا في العدَّة : إني قادر على هذا العمل ، { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } وهو أن تعرضوا ولا تصرِّحوا ؛ { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } حتى تنقضي عدتها وسميت العدة كتابا لأنه لِكُلِّ أجل كتاب ، { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ } من العزم على ما لا يجوز وما يجوز ؛ { فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } لا يعاجلكم بالعقوبة .

 

{ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ } .

 

{ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } أي عفوا الزوج بلإعطاء كلِّ المهر خير له ، وعفوا المرأة بإسقاط المَهر كلّه خير لها ، { وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } أي : ولا تنسوا أن يتفضَّل بعضكم على بعض ، فإنكم مجازون عليه ، أو الفضل المتقدِّم الساري من بعضكم لبعض ، واشكروه وكافئوه عليه ، وكذلك ينبغي للعبد ، ومنه أن لا ينسى فضلا عن شكر ما أسدِي إليه من الله ، أو على يد أحد من خلقه أو بسبب من الأسباب ، أو لا ينسى ذلك المسبِّب ويراعيه حقَّه ، ولا يغَّيره ولا يحوِّله إلاَّ لشيء أفضل منه ، فإنه إن فعل ذلك رُجي له من الله تمام تلك النعمة ، كما قال النبي r : : << إذا تناولتم ...>> ؛ { إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فيجازيكم على تفضُّلكم .

 

{ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ } داوموا عليها بمواقيتها وأركانها وشرائطها ، { والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } هي مخصوصة من بين الصلوات لفضلها وشرفها ؛ { وَقُومُواْ لِلّهِ   قَانِتِينَ } مطيعين خاشعين ، لأن الصلاة طاعة ، فلا يستقيم أن يأتي بالطاعة على غير طاعة الله ، في جميع أمره ، لأن القبول إنما يُرجى عند كما ل النعمة .

 

{ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ } صلوا صلاة الأمن { كَمَا عَلَّمَكُم } مثل ما علمكم { مَّا لَمْ تَكُونُواْ   تَعْلَمُونَ }من صلاة الأمن .

 

{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } قيل : إن هذه [الآية] منسوخة ، ومعناه : أن حق الذين يتوفَّون منكم عن أزواجهم ، أن يُوصوا قبل أن يحتضروا بأَّن يتمتع أزواجهم بعدهم حولا كاملا ، أي : يُنفق عليهنَّ من تركته ولا يَخرجن من مساكنهن ، وكان ذلك مشروعا في أوِّل الإسلام .

 

{ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } لأنهم هم القائمون بحقوق الله وحقوق عباده ، ومن سواهم لا يتأتى منهم ذلك ، وإلاَّ فجميع الواجبات واجبة على المتعبَّدين ، [و] كلُّ ما تخصُّه من اللوازم ، {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }

 

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ } أ ي: فأماتهم مِيتةَ رجل واحد بأمر الله ومشيئته ، وتلك ميتة خارجة عن العادة ، وفيه تشجيعٌ للمسلمين على الجهاد ، وأن الموت إذا لم يكن منه بدٌ ولم ينفع منه مفرٌّ ، فأولى أن يكون في سبيل الله ؛ { ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } ليعتبروا أنه لا مفر من حكم الله وقضائه ، { إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } حيث يبصَّرهم ما يعتبرون به كما بصَّر أولئك ، وكما بصَّركم باقتصاص خيرهم ، أو لذو فضل على الناس ، من حيث أحيَي أولئك ليعتبروا فيفوزوا ، ولو شاء لتركهم موتى إلى يوم النشور } .

 

{ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } فضل الله ، لأنهم لا يعرفون النعم إلاَّ بعد فقدانها ، والدليل على أنه ساق هذه القصة بعثا على الجهاد ، أتبعه من الأمر بالقتال في سبيل الله ، وهو قوله : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } فخضَّ على الجهاد بعد الإعلام ، لأن الفرار من الموت لا يغني ، وهذا الخطاب لأمَّة محمد r ، ولمن أحياهم ، { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .

 

{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً } ابتغاء رضاه ، ويخرج هذا في بذل المال والنفس وجميع الطاعة لله تعالى ، وإن كانت الآية مراد بها إخراج المال ، لقول بعض أهل العلم : << أقرضوا الله من أنفسكم ساعات ، يردَّها عليكم في الجِنان خالدات >> ؛ { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } لا يعلم كنهها إلاَّ الله ، { وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } يقتِّر الرزق على عباده ، ويقبض وُسعه عليهم ، فلا تبخلوا عليه بما وسَّع عليكم ، لا يبذلكم الضيقة ، ولا بتركه السعة ، { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فيجازيكم على ما قدمتم .

 

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ } الأشراف ، لأنهم يملؤون القلوب جلالة ، والعيون مهابة ، { مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً } أنهض للقتال معناه أميرا ، نصدر في تدبير الحرب عن رأيه ، وننتهي إلى أمره ، لأنَّ الأمور لا تتأتي بأميرين ؛ { نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ } المعنى : ما أتوقعه أنكم لا تقاتلون وتجتنبون ، وإنه كما توقع فيهم ، وإنه صائب في توقعه ؛ وقيل : عن النبي r إنه قال : << اتقوا فِراسة المؤمن فإنه ينظر بنور      الله >> .

 

{ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ } وأي داع لنا إلى ترك القتال ؟ وأي غرض لنا فيه ! . { وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ } أي أجيبوا إلى ملتمسهم ؛ { تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } وهم أهل خشية الله ، { وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } وعيدٌ لهم على ظلمهم بترك الجهاد .

 

{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا } حسدا منهم له ، {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ } طلبا للتَّريُّس ، { وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ    الْمَالِ } استحقارا له ، وتعاليا عليه ؛ { قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ } أي : اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم ، ولا اعتراض على حكمه ؛ ثم ذكر مصلحتين أنفع مما ذكروا من النسب والمال ، وهو العلم المبسوط والجسامة ، فقال : { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } قيل : كان أعلم بين إسرائيل بالحرب والديانات في وقته ، وأطول من كل إنسان برأسه ومنكبه ، والبسطة : السعة والامتداد ، والملك لا بد أن يكون من أهل العلم ، فإن الجاهل مُزدرًى غير منتفع به ، ويُفسد أكثر مما يصلح من أمر الدِّين والدُّنيا ، وأن يكون جسيما شجاعا ، لأنه أعظم في النفوس ، وأهيب في القلوب ؛     { وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ } أي : الملك له غير منازع فيه ، فهو يُؤتيه من يشاء وليس ذلك بالوراثة ، { وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } واسع الفضل والعطاء .

 

ثم طلبوا من نبييهم آية على اصطفاء الله طالوت : { وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ } صندوق التوراة ، قيل : وكان موسى إذا قاتل قدمه ، فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفَّرون ، { فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } سكون واطمئنانية ،         { وَبَقِيَّةٌ } قيل : هي زضاض الألواح ، وعصا موسى وثيابه ، وشيء من التوراة ، ونعلا موسى ، وعمامة هارون ، { مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ } أ ي: مما تركه موسى وهارون ، والآل مقحم لتقحيم شأنهما قبل ذلك ؛ { تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ }  يعني : التابوت ، وقيل : كان رفعه الله بعد موسى ، فنزلت به الملائكة تحمله ، وهم ينظرون إليه ؛ { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } إن في رجوع التابوت إليكم علامة أن الله قد ملّك طالوت عليكم إن كنتم مصدِّقين .

{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ } قيل : سألوا أن يجري لهم نهرا ، { قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ} مُختبركم بنهر ، أي : يعاملكم معاملة المختبر له ، لتمَّيز المحقِّقُ في الجهاد من المعذِّر ؛ { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ } كَرعًا ، { فَلَيْسَ مِنِّي } فليس من أتباعي وأشياعي وأهل ديني ، { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } لم يذُقه ، مِن طَعم الشيء إذا ذاقه ، { فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } معناه : الرُّخصة في اغتراف الغُرفة باليد دون الكرع ، والدليل عليه : { فَشَرِبُواْ مِنْهُ } أي : فكرعوا { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } روي : أن من اقتصر على الغُرفة كفته كشربة وأروته ، ومن لم يقتصر عليه عطشه ن واسودَّ شفته ، ولم يقدر أن يمضي وهكذا الدنيا لما صد الأجرة ، { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ } هو جبَّار ، { وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ } يوقنون بثواب الشهادة ، { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } إيقانا بوعد الله إياهم .

 

{ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا } أي : قال الذين يظنون أنهم مُلاقوا الله    { أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } لتقوية قلوبنا ، والقاء الرُّعب في صُدور عدوِّنا ،    { وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } وذلك قالوا ببراء منهم من الحول والقوَّة .

 

{ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ } النبوة وفصل الخطاب ، { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ } لما يكون له آله وعاملا له ؛ { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ } ولولا أن الله يدفع فساد بعض الناس ببعض ، ويكفُّ بهم فسادهم لَغلب المفسدون وفسدت الأرض ، وبَطلت منافعها والحرث والنسل ، أو ولولا أن الله ينصر المسلمين على الكافرين لفسدت الأرض بغلبة الكفَّار ، وقتل الأبرار ، وتخريب البلاد ، وتعذيب العباد ، أو ولولا العلماء الذين يصلح بهم الأرض لفسدت بالجهل ، لأنه لا يتأتى الصلاحُ إلاَّ بالعلم والفساد لا يكون إلا من نتيجة الجهل ؛ وفي الحقيقة ما عُمل بالجهل فهو فاسد ومعناه : أن الله لا يترك الناس يفسدون الأرض بدون دفع من بعضهم ، ما لم ينقضِ أجل الدنيا ، لأن ذلك خرقٌ للحكمة الإلهية ، لأن ذلك مما يؤول إلى فساد الدنيا والدين ، فكيف وأن الدِّين متيسِّر لمن طلبه ؛ { وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } بإزالة الفساد عنهم .

 

{ تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ } يعني القصص التي اقتصَّها ، والأخبار التي أوردها { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ } باليقين الذي لا شك فيه ، { وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } حيث يخبر عنها .

 

{ تِلْكَ الرُّسُلُ } إشارة إلى جماعة الرُّسل التي ذُكرت قصصها في هذه السورة ، من آدم إلى داود ، أو التي ثبت علمها عند رسول الله r ، { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } بالخصائص وراء الرسالة لاستوائهم فيها ، كما أن المؤمنين مستوون في صفة الإيمان ، ويتفاوتون في الطاعات بعد الإيمان ، وكما أن العلماء يتفاوتون في القرائح ؛ ثم بينَّ ذبك بقوله : { مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ } أي : كلمه الله يعني : من فضله بأن كلمه بما يشاء وكيف شاء ، { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } يعني : ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء ، وكان بعدها تفاوتهم في الفضل ، أفضل [كذا] منهم بدرجات كبيرة ، وهو مأجور على عمل ما أوتي ، فلذلك فضَّل به على سائره ؛ { وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ } كإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ،  بخصائص خصُّوا بها [كذا]  ، { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } قوَّيناه بجبريل ، أو الإنجيل ، { وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ } أي : اختلف ، لأنه سببٌ لتقاتُل { الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم } من بعد الرُسل ، { مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ } المعجزات الطّاهرات ، { وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ }  بمشيئتي ، ثم بينَّ الاختلاف فقال : { فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ } بمشيئتي ، يقول : أجريت أمور رُسلي على هذا ، أي : لم يجتمع لأحد منهم طاعة جميع من أرسله الله إليهم في حياته وبعد وفاته ، بل اختلفوا عليهم ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر { وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ } لم يقع بينهم اختلاف فيقتتلوا ، { وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ } يُشترى من للحياة الأبدية ، { وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } أنفسهم ، بتركهم التقديم ليوم حاجتهم .

 

{ اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ } أي : لا مستحق للعبادة إلاَّ هو ، لأنَّ الإله هو المستحقُّ أن يُعبد ؛ { الْحَيُّ } الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء ؛ { الْقَيُّومُ } الدائم القائم بتدبير الخلق وحفظه ، وقيل : << القُّيوم >> القائم في خلقه بما فيه صلاحهم ونفعهم ورشدهم ،  { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } نعاس ، وهو ما يتقدَّم النَّوم ، والفتور ، { وَلاَ نَوْمٌ } عن المضلِّ ، السِّنة : ثقل في الرأس ، والنعاس : في العين ، والنوم : في القلب ، فهو تأكيد للقيوم ، لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيُّوما ؛ { لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } مَلكًا ومُلكاً ؛ { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } هو بيان لِمُلكه وملكوته ؛ { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } ما كان قبلهم وما يكون بعدهم ، أو على العكس ؛ { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ } ومعلوماته ، والإحاطة بالشيء عِلما ، أن يُعلم كما هو على الحقيقة ؛ { إِلاَّ بِمَا شَاء } إلاَّ بما علم ، { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } أي : علمه ، ومنه الكُرَّاسة لتضمُّنها العلم ، والكراسي : العلماء ، وسِّمي العِلم كرسيًّا تسمية بمكانه الذي هو كرسيُّ العالم ، وهو كقوله : ( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً ) أو عرشه أو قدرته ؛ { وَلاَ يَؤُودُهُ } ولا يثقله ولا يشقُّ عليه { حِفْظُهُمَا } حفظ السَّماوات والأرض ، ومن حِفظ السَّمَاوات والأرض حفظُ من فيها من الخلائق وغيرها ؛ { وَهُوَ الْعَلِيُّ } في ملكه وسلطانه ، { الْعَظِيمُ } في عزِّه وجلاله وامتنانه ، والعليُّ : المتعالي عن الصفات التي لا تليق به ، [و] العظيم : المتَّصف بالصِّفات التي لا تليق به ، فهما جامعان لكمال التوحيد ؛ وإنما ترتبت الجمل في أنه الكرسيُّ بلا حرف عطف ، لأنها وردت على سبيل البيان ، فالأولى : بيان القيامة بتدبير الخلق ، وكونه مهيمنا عليه غير ساه عنه ، والثانية : لكونه مالكا لما يدبِّره ، والثالثة : لكبرياء شأنه ، والرابعة : لإحاطته بأحوال الخلق ، والخامسة : لسعة علمه وتعلُّقه بالمعلومات ، [لعله] وتعلُّق المعلومات به كلِّها ، أو لجلاله وعظم قدره ، وهذه الآية مشتملة على أمَّهات المسائل الإلهيَّة ، فإنها دالة على أنه تعالى موجود ، واحد في الإلهية ، متصف بالحياة واجب الوجود لذاته ، موجودٌ لغيره ، إذ القيُّوم : هو القائم بنفسه ، المقيم لغيره ، منزَّه عن التحيزُّ والجور ، مُبرَّأٌ عن التَّغيُّر والفتور ، ولا يناسب الأشباح ، ولا يعتري به ما يعتري الأرواح ، مالك الملك والملكوت ، ومبدع الأصول والفروع ، ذو البطش الشديد الذي لا يشفع عنده إلاَّ من أذن له ، العالم وحده بالأشباح كلِّها جليِّها وخفيِّها ، كلَّها وجزئها ، واسع الملك والقدرة كَّلما يصحُّ أن يملك ويقدر عليه ، لا يؤوده شاقٌّ ، ولا يشغله شأن ، متعال عن أن ندركه ، وهو عظيم لا يحيط به فهم ، ولذلك قال u : << إن أعظم آية في القرآن آية الكرسي >>.

 

{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } أ ي : لا إجبار على الدين يعني أمور الدين جارية على ... والأخبار ونحوه ، (  وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ .... ) الآية ، قيل : لو شاء لأخبرهم . { قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } قد يميَّز الإيمان من الكفر بالدليل ؛ { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ } بالشيطان ، وقيل : كلُّ ما عُبد من دون الله ، وقيل : كلُّ ما يُطغي الإنسان " فاعول " من الطغيان ، { وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ } أي تمسك واعتصم بالعقد الوثيق المحكم في الدين ، والوُثقى تأنيث للأوثق ، هي الأشد من الحبل الوثيق المحكم المأمون ، { لاَ انفِصَامَ لَهَا } لا انقطاع بالعروة ، وهذا تمثيل للمعلوم بالنَّظر ، والاستدلال بالشاهد المحسوس ، حتى يتصوَّر السامع كأنه ينظر إليه بعينيه ، فُيحكم اعتقاده ؛ والمعنى : فقد عقَدَ لنفسه من الدِّين عقدا وثيقا لا تحلَّه شبه ، { وَاللّهُ سَمِيعٌ } لإقراره ، { عَلِيمٌ } لاعتقاده .

 

{ اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ } أي : ناصرُهم ومتولّي أمورهم ، { يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ } يحفظهم بولايته لهم وبتوفيقه إيَّاهم ، من ظلمات الكفر والضَّلالة { إِلَى النُّوُرِ } إلى الإيمان والهداية ، كما قال : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ ) وكأن هذه الآية تقتضي بقوم كانوا كفارا فآمنوا ؛ { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : الذين ارتدُّوا من الإسلام إلى الكفر ، { أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } الله وليُّ المؤمنين يُخرجهم من الشُّبة في الدِّين إن وقعت لهم ، بما يهديهم ، ويوفقهم بتوفيقه لحلها ، حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين ، والذين كفروا أولياؤهم الشياطين ، يُخرجونهم من نور البيِّنَات الذي يظهر لهم ، إلى ظلمات الشكِّ والشُّبهات ، لأن المعصية على الإصرار عليها تنتج معاصي ، والطاعة على التوبة تنتج طاعات ، وذلك لأن المؤمن يتَّبع الملهِم الذي يلهمه الحق ، ويرفض الوساوس الطاغوتيه ، والذي في قلبه مرض ، على العكس من هذا يتبع هواه بغير بيان ، وبترك الحقَّ وإن نازله ، والأول يرفض ما يهواه ، وقد أسسَّ بنيانه على تقوى ؛ {أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } حكم من الله لهم بالتخليد .

 

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ } في معارضة ربوبية ربه ، { أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ } الوهميِّ ، يعني : أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر ، فحاجَّ لذلك ؛ { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } كأنه قال له : مَن ربُّك ؟ قال : ربِّي الذي يُحيي ويميت ، {  قَالَ } الذي حاجَّ ، نمرود أو غيره مِن المردة { أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ } يريد أعفي عن القتل وأقتل ، فانقطع اللعين بهذا عند الخاصَّة ، فزاد إبراهيم ما لا يتأتي فيه التَّلبس على الضعفاء ؛ { قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ } إن كنت تقول إلها ، { فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ } تحيَّر ودهش ؛ { وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي : لا يوفقهم للحجَّة ، لأن الظالم لا يلقي حجَّة فإن احتجَّ بحجَّة الباطل ، غلبته حجَّة الحق ، لقوله : (  بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) .

 

{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } ساقطة مع سقوفها ، وكلُّ مرتفع يسمى عرشا ؛ { قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي } كيف يحيي ، { هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } أي : أحياه ، { قَالَ } له قائل : { كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } بناء على الظن ، وفيه دليل على جواز الاجتهاد . رُوي أنه مات ضُحى ، وبُعث بعد مائة سنه قبل غيبوبة الشمس ، فقال : قبل النظر إلى الشمس يوما ، ثم التفت فرأى بقية من الشمس ، فقال : << أو بعض يوم >> . { قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ  عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } لم يتغَّير، معناه : لم تغيِّره السنون ، { وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ } كيف تفرَّقت عظامه ونخرت ، وكان له حمار قد ربطه ، فمات وبقيت عظامه ؛ { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ }ليعتبروا بك مَن رآك منهم بعين اليقين ، ومن رآك منهم بعلم اليقين ؛ { وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ } عظام الحمار أو عظام الموتى ، { كَيْفَ نُنشِزُهَا } نحركها ، ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب ؛ {  ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً } نجعل اللحم مجازا كاللباس ؛ { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

 

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } لما أن أراد أن يتعرَّف باليقين قدرة الله ، لم يذَّمه الله ، { قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ } قيل : طاوسا وديكا وغرابا وحمامة ، { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } أي : اضممهنَّ إليك ؛ { ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً } جزَّئهن ، وفرِّق أجزاءهن على الجبال التي بحضرتك ؛ { ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً } ساعيات مسرعات ،          { وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } لا يعجزه ولا يغلبه شيء .

 

{ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ } فيه إضمار ، تقديره : << مثل صدقات الذِين ينفقون أموالهم >> ، { فِي سَبِيلِ اللّهِ } أراد سبيل الله الجهاد ، وجميع أبواب الخير الخيِّرة ؛ { كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ } أي : يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء ، لا لكُلِّ منفق لتفاوُت أحوالهم ، أو يزيد على سبع مائة لمن يشاء ؛ قال أبو المؤثر : << وقد قيل : إن الأضعاف ألف ُ ألف >> ،   { وَاللّهُ وَاسِعٌ } لا حدَّ لوسعه ، { عَلِيمٌ } عليم بمن يستحقُّ الأضعاف .

 

{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً } هو أن تعتدَّ على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه اصطنعه ، وواجب عليه حقا له ، وكانوا يقولون : إذا صنعتم صنيعة فانسوها ، { وَلاَ أَذًى } هو أن يتطاول عليه بسبب ما أعطاه ،      { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } لا خوف من العذاب ، ولا حزن بفوات الثواب .

 

{ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } ردٌ جميلٌ ، { وَمَغْفِرَةٌ } ونيلُ مغفرة من الله بسبب ردِّ الجميل ،     { خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى } منه ، { وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ } .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } يريد أن الرياء يُبطل الصدقة ولا تكون النفقة مع النفقة من فعل المؤمنين ، وهذا للمنافقين ، لأن الكافر معلنٌ كفره غير مراء ؛ { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ } أي : حجر أملس عليه تراب ، { فَأَصَابَهُ وَابِلٌ } مطر عظيم ، { فَتَرَكَهُ صَلْداً } أجرد وأملس نقيًّا من التراب ، والصَّلد : الجر الصلب الأملس ، الذي لا شيء عليه ، فهذا مثلٌ ضربه الله لنفقة المنافق والمرائي ، والممنُّ الذي يمنُّ بصدقته ويؤذي ، { لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ } أي : لا يُفدَون على ثواب شيء ، { مِّمَّا كَسَبُواْ } لا يجدون ثواب شيء مِمَّا أنفقوا وعملوا ، { وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } ماداموا مختارين الكفر .

 

{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ }أي : وتصديقا للإسلام وحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم ، لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله ، عُلم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه ، ومن إخلاص قلبه . وفي خ    ( وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) معناه : وليثبتوا من أنفسهم ببذل المال الذي هو أخ الروح ، وبذله أشقُّ على النفس من أكثر العبادات الشَّاقة ، ويجوز أن يراد وتصديقا للإسلام ، وحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم ، لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله عُلم أن تصديقه بالثواب من أصل نفسه وإخلاص قلبه ؛ { كَمَثَلِ جَنَّةٍ } بستان ، { بِرَبْوَةٍ } مكان مرتفع ، وخصَّها لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمرا ، { أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا } ثمرها ، { ضِعْفَيْنِ } ضعفي ما كانت تُثمر ، قيل : بسبب الوابل ؛ { فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } مطرٌ صغير القطر يكفيها ، لكرم منبتها ؛ أو مثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة ، ونفقتهم الكبيرة والقليلة بالوابل والطَّل ، وكما أن كلَّ واحد من المطرين يضعِّف أُكل الجنة ، فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة بعد أن يطلب بها رضى الله ، زاكية عند الله ، زائدة في زُلفاهم وحسن حالهم عند الله . { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .   

 

 ِ{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيها ، ولأن النخيل والأعناب لمَّا كانا أكرم الشجر وأكثرها منافع خصَّها بالذكر ، وجعل الجنة منها ، وإن كانت محتوية على سائر الأشجار تغليبا لهما على غيرها ، { وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء } أولاد صغار ؛ { فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ } ريح تستدير في الأرض ثم تستطع نحو السماء كالعمود ، {  فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ } هذا مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة رياء ، فإذا كان يوم القيامة وجدها محبطة ، فتحسر عند ذلك حسرة من كانت [له] جنَّة جامعة للثمار فبلغ الكبر ، وله أولاد ضعاف والجنَّة معاشهم ، فهلكت بالصاعقة ؛ قال الحسن : << هذا مثلٌ قَّل والله من يعقله من الناس ، إلاَّ شيخ كبير ضعُف جسمه وكثر صبيانه ، أفقر ما يكون إلى جنته ، وأن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا >> ، { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ } بالأمثال في التوحيد والدين ، { تَتَفَكَّرُونَ } فتعلمون أن مقدار حاجة الإنسان إلى عمله ، عند فوات رحمة الله عنه .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } من خيار مكسوباتكم ، { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ } ولا تقصدوا المال الرديء { مِنْهُ تُنفِقُونَ } تخصُّونه بالأنفاق       { وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ } أي : << لا تنفقوا في فرض ربِّك خبثَا ، فإنك لو أردت شراءه لم تأخذه حتى تحطَّ من ثمنه >> من القاموس نقلا ، لا تأخذونه في حقوقكم ، { إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } إلاَّ أن تتسامحوا في أخذه ، وتترخصوا فيه ، من قولك : أغمض فلان عن بعض حقه ، إذا غض بصره قيل : كانون يتصدقون بحشف التمر ، وشراره فنهوا عنه ، { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ } عن صدقاتكم ، { حَمِيدٌ } مستحق للحمد .

 

{ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ } في الإنفاق ، { الْفَقْرَ } ويقول لكم : إن عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا ، والوعد يستعمل فغي الخير والشرِّ ، { وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء } يغُّركم على البخل ومنع الصدقات ، إغراء الأمر للمأمور ، { وَاللّهُ يَعِدُكُم } في الإنفاق ، { مَّغْفِرَةً مِّنْهُ } لذنوبكم ـ وكفارة لها ، { وَفَضْلاً } وأن يخلف عليكم أفضل ما أنفقتم ، { وَاللّهُ وَاسِعٌ } يوسَّع على من يشاء ، { عَلِيمٌ } بأفعالكم ونياتكم .

 

{ يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ } علِم القرآن والسنة ، أو العلم النافع الموصل إلى رضى الله والعمل به ، والحكيم عند الله العالم العامل ؛ قال قائل : الإصابة في القول والفعل ، وهو موافق للأول ؛ وقال ابن عباس << هو علم القرآن >> ؛ قال الحسن : << من أعطي القرآن فكأنما أدرجت النبَّوة بين جنبيه ، إلا أنه لم يوح إليه >> ؛ { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } وما يتعظ بمواعظ الله إلاَّ ذوو العقول السليمة .

 

{ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ } يعمُّ جميع ما أنفق حتى الذي ينفقه على نفسه وأهله ، { أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ } في سبيل الله ، أو سبيل الشيطان ، { فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ } لا يخفى عليه ، فيجازيكم عليه ؛ { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } ممن ينصرهم من الله ، ويمنعهم من عقابه .

 

 { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ } فنعم شيئا إبداؤها ، { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ } فالإخفاء خير لكم في حال ، فالإبداء أفضل في حال ، والإخفاء أفضل في حال ، { وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .

 

{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } قيل : نزل هذا في الفقراء ، وذلك على قول من يجيز تسليم الزكاة إلى غير الأولياء ؛ قال محمد بن روح : قد يقال نزلت فيمن يُتصدَّق عليه ، { وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ } فهو لأنفسكم لا ينفع به غيركم ، فلا تمنوا به على الناس ولا تعجبوا به ، { وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ } وليست نفقتكم إلاَّ ابتغاء وجه الله ، فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث ؟! ، وقيل معناه : النهي ، أي : ولا تنفقوا إلاَّ لابتغاء وجه الله ، { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } ثوابه أضعافا ، فما بالكم تبخلون ! ؛ { وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } لا تنقصون أجره .

 

{ لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } هم الذين أحصرهم الجهاد ، أو طلب العلم ، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو خوف التبَّاعة من الضَّرب في الأرض عن طلب الرزق ، كأنهم ليسوا بأهل مال ولا احتيال ، { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ } للكسب ، { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ } بحالهم ، { أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ } مستغنيين من أجل تعففُّهم عن المسألة ، { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ } بعلاماتهم ، { لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً } إلجاجا ، والإلجاج : هو اللزوم ، وأن لا يفارق إلاَّ بشيء يُعطاه ، وفي الحديث << أن الله يحبُّ الحييَّ الحليم المتعفِّف ، ويبغض البديء السائل الملحف >> ، وقيل : إنهم إن سألوا بتلطَّف ، ولم يُلحوا ، { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } .

 

{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } يعني : يعمَّون الأوقات والأحوال بالصدقة ، لحرصه على الخير ، وكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجَّلوا قضاءها ولم يُؤخِّروه ، ولم يتعلقوا بوقت ولا حال ؛ { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .

 

{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ } أي : يصرعه ،           { الشَّيْطَانُ } أي : المصروع ، لأنه يخبط في المعاملة ، فجوزي على المقابلة ، والخبط : الضرب على غير استواء كخبط عشواء { مِنَ الْمَسِّ } من الجنون ، يقال : مسَّ الرجل ، فهو ممسوس إذا كان مجنونا ؛ { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } فيه دليل على أن القياس يهدمه النص مع خلافه له ؛ { فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ } بذكر وتخويف ، { فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .

 

{ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا } ينقصه ويهلكه بـ[ـإذهاب ] بركته ، ويهلك المال الذي يدخل فيه . { وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } وينميِّها ، أي : يزيد الذي أُخرجت من الصدقة ويبارك فيه ، { وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } .

 

{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } أخذوا ما شرطوا على الناس من الرِّبا وبقيت لهم بقايا ، فأمروا أن يتركوها ولا يُطالبوا بها ، { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } كاملي الإيمان ، فإن دليل كماله امتثال المأمور به .

{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } فاعملوا بها ، من أذان بالشيء إذا علم ؛ قال بعض أهل المعاني : حربُ الله لأهل العصاة : الخذلان لهم في الدنيا ، والنار لهم في العقبى ؛ وحرب رسول الله e لهم : السيف والبراءة منهم ؛ { وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ } المديونين بطلب الزيادة عليها ، { وَلاَ تُظْلَمُونَ } بالنقصان منها .

 

{ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ } بالإبراء ، وقيل : بالانتظار، لقوله u : << لا يحُلُّ دَين امرء مسلم فيؤخره إلاَّ كان [له] بِكُلِّ يوم صدقة ، { خَيْرٌ لَّكُمْ } يوم القيامة ، { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .

 

{ وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .

  

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } وهذا الخطاب وارد للمؤمنين وفيهم ، إذا وقعت المعاملة بينهم ، وإن وقعت فيمن سواهم ، فالأحرى إثبات الأشهاد حذرا عن إتلاف المال ، { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ } أي : كاتب مأمون على ما يكتب ، لا يزيد على ما يجب أن يكتب ولا ينقص ، وفيه أن يكون الكاتب فقيها عالماً بالشرط حتى يجيء مكتوبهم معدَّلا بالشرع ، وهو أمر للمتداينيين يتحيُر الكاتب ، ولا يستكتبوا إلا فقيها دينِّا ، { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ } ولا يمتنع واحد من الكتَّاب { أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ } كتابه الوثائق ، ولا يبدل ولا يغيَّر ؛             { فَلْيَكْتُبْ } تلك الكتابة لا يعدِلُ عنها ، { وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ } ولا يكن المملَّ إلاَّ من وجب عليه الحق ، لأنه هو المشهود على ثباته في ذمته وإقراره ، فيكون ذلك إقرارا عليه نفسه بلسانه ، والإملال والإملاء لُغتان ، { وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ } فلا يمتنع عن الإملاء ، فيكون جحودا لكل حقه ،   { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } ولا ينقص شيئا منه .

 

{ فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً } مجنونا لأن السفه حفَّة في العقل ، أو محجورا عليه لتبذيره وجهله في التصرف ، { أَوْ ضَعِيفاً } صيباُ ، { أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ ِ } بعـيٍّ أو لخرس ، { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ } الذي يلي أمره ، ويقوم به ، { بِالْعَدْل } بالصدق والحقَّ ؛ { وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ } واطلبوا أن يشهد لكم شهيدان على الدَّين ، {  من رِّجَالِكُمْ } من رجالكم المؤمنين ، [ من أهل ] الحرِّية والبلوغ ؛ { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء } ممنَّ تعرفون عدالتهم ، فإنَّ من يكذب على الله أولى أن يكون مردود الشهادة ، { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى } لأجل أن تنسى أحدهما الشهادة فتذكر أحدهما الأخرى ، ومعنى << تضلَّ >> أي : تنسى ، يريد إذا نسيت إحداهما شهادتها تُذكِّرها الأخرى .

 

{ وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } لأداء الشهادة أو للتحمَّل ، لئلا تستوي حقوقهم ، وقد توجد ، عن أبي سعيد فيما أرجوا أنه قال : إذا أدَّاهما وحملها .

 { وَلاَ تَسْأَمُوْاْ } ولا تملَّوا { أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ } أي : أعدل لأنه أمر به ، وإتباع أمره أعدل من تركه ، { وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ } وأعون ، { وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ } أحرى أو أقرب من انتفاء الرِّيب للشهادة والحاكمِ وصاحب الحقِّ ، فإنه قد يقع الشك في المقدار والصفات ، وإذا رجعوا إلى المكتوب يُزال ذلك ؛ وألف << أدنى >> منقلبة من واو ، لأنه من الدُّنوِّ ، {  إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً } إلاَّ أن تكون التجارة تجارة حاضرة ، أو إلاَّ أن تكون المعاملة تجارة حاضرة { تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } أي : تتعاطونها يدا بيد ، { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا } معنى : إلاَ أن تتبايعوا يدا بيد ، فلا بأس ألاَّ تكتبوها ، لأنه لا يتوهَّم في التدَّاين .

 

{ وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } هذا التبايع ، يعني : التجارة الحاضرة على أن الإشهاد كافٍ فيه دون الكتابة ، والأمر للندب ، { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } نهى الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منها ، وعن التحريف والزيادة والنقصان والنهي عن الضرر بهما ، بأنَّ تجَّلا عن مهمَّ ، ويلزأ أو يعطي الكاتب حقه من الجعل ، أو يحمل الشهيد مؤنة مجيئه من بلد ، { وَإِن تَفْعَلُوا } وإن تضاروا { فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ } في مخالفة أمره ، { وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ } شرائع دينه وإصلاح دنياكم ، { وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } لا يلحقه سهو ولا قصور . 

 

{ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً } فإن أمِن بعض الدائنين بعض المديونين بحسن ظّنه فيه ، فلم يتوَّثق بالكتابة والشُّهود والرهن ، {  فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } دَينه ، { وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ } في إنكار حقه ؛ وكأنَّ في هذه الآية دلالة على أن الأمر بالإشهاد والكتابة للحقوق ، وقبض الرهن للندب لا للوجوب ؛ {  وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } أي : فاجر قلبه ، قيل : ما وعد الله على شيء كإيعاده على كتمان الشهادة ، قال : فإنه أثِم قلبه ، وأراد به منه مسخ القلب ، ونعوذ بالله منه ، وصف القلب بالإثم لأنه رئيس الأعضاء ، والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله ، وإن فسدت فسد الجسد كله ، فكأنه قد تمكن الإثِم في أصل نفسه ، وملك أشرف مكان منه ، {   وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } .

 

{ لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ } قيل : لما نزلت هذه الآية اشتدَّ ذلك على المسلمين ، لأنَّ ذلك من أشد البلوى ، إذا كان يؤخذ بما توسوس به النفس ، إلى أن نزلت : ( لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) ، { وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

 

{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } أي : لم يؤمن ببعض ، ويكفر ببعض ، { وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } أي : لا نفرق بين أحد منهم ، فنؤمن ببعض ونكفر ببعض ، { وَقَالُواْ سَمِعْنَا } قولـك ، { وَأَطَعْنَا } أمـرك { غُفْرَانَكَ } أي : اغفر لنا غفرانك { رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} المرجع ، وإقرار بالبعث والجزاء . 

 

{ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } ووسعها طاقتها ، وطاقتها ما تقدر عليه ، وقيل : الُسع ما وسع الإنسان ولا يضيق عليه ؛ { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } ينفعها ما كسبت من خير ، ويضُّرها ما اكتسبت من شر ، وخصَّ الخير بالكسب والشَّر بالاكتساب ، لأن " الافتعال " للانكماش ، والنفسُ تنكمش في الشرِّ وتتكلف للخير ؛ { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا } تركنا أمرا من أوامرك سهوا ، { أَوْ أَخْطَأْنَا } على غير تعمُّد ، { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً } عباءً يأصر حامله ، أي : يحبسه مكانه لثقله ، استعير لتكليف الشَّاق ، من نحو قَتلِ الأنفس وغير ذلك ، { كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } كاليهــود ؛ { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } من العقوبات النازلة بمن قبلنا ، وقيل معناه : لا تفعل بنا فعلاً يحول بيننا وبين طاعتك ، لقوله : { وَاعْفُ عَنَّا } اُمحُ سَيِّئِاتِنَا ، { وَاغْفِرْ لَنَا } واستر عيوبنا ، { وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا } متولِّي أمورِنا ، { فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } فمن حقِّ المولَى أن ينصر عبيده .