وكان فحوى الخطاب دليل على الأمر بها ، ولكن في سبيل ثوابه على تسهيل أبوابه ، وتيسير أسبابه ، رجاء العطاء مع الإلجاء في الدعاء والوسيلة إلى الشيء بشيء من الشيء . فمن عكس هوى فانتكس ، ولذلك يسأله هذا العارف المريد مع الإقامة على الاستقامة بحقه المزيد مخافة الانقطاع عن الوصول إلى مطلوبه ، فقال : (( اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم )) ، طريق الوصلة إلى محبوبه لأن الصراط في اللغة هو الطريق ، قرء بالزاء ، والسين ، والصاد والصاد أشهر والقراءة به أكثر ، وقد كان حمزة يقرأ بإشمام الزاء ، فيما عنه يروى .

 وسمي سراطا لأنه كان يسرط السابلة ، والمراد به العبادة عن طريق الدين في الإسلام إلى الملك العلام ، على أبلغ وجه في التشبيه له بالطريق ، تصويراً يدركه العقل ، من حيث أنه للمسافرين إلى الله في المعنى كل الطريق للسيارة من جميع المارة ، والمستقيم المستوى ، صفة له بأنها المنهاج المجرد عن الميل ، لا يقبل الاعوجاج . والدين منتظم من ثلاثة ، علم وحال وعمل ، فالحال فرع العلم . والعلم والعمل ثمرة الحال ، والهداية إرشاد في غاية اللطف .

 ومخارج أسبابها على الجملة أربعة : الأصلين عقلي ومكتسب شرعي ، فالأول على قسمين أحدهما ضروري ، وذلك ما يتأدى إليه من المعلومات التي لا تقبل الشك جزما ، والثاني رأي نوع والتعب في الروع ، والكشف عن محض سر الحق من قول العقل المطلع بالأنوار القدسية ، على الأسرار الملكوتية ، والواردة على الحدس من حياة القدس على سبيل الإلهام في اليقظة كالملائكة أو في المنام ، وفيضان ذلك من ينابيع العقل إلى الجوارح الظاهرة ، بواسطة النفس القاهرة . وعلى العكس فيما يستمده من الجنس ، في معنى التأدي من الظاهر إلى الباطن ، وإليه يرجع الأمر كله في حكم المواقع النظرية ، في المواضع العقلية .

 والثاني المكتسب الشرعي على قسمين ، وكلاهما يتأديان إلى الغريزة ، ومنها إلى نور البصيرة في الناس ، من مداخل الحواس . لكن أحدهما الروحي ، والمتلقي له من الموحي إليه ، والكتاب والسنة والإجماع والآثار عن أهل العلم من المسلمين الأبرار. والقياس المجرد عن الاحتباس فإنه نوع هدى ، وإن الإمامية من الشيع أنكرته أصلاً ، وأبطلته جهلاً ، فهو حق لأنه من نتائج ذلك ، فالأول رتبة الرسل من الأنبياء ، والوسطى درجة الصحابة الفهماء . والثالثة الأخرى مبلغ التابيعين من العلماء . والقياس يختص به أهل العلم الفطنة من الفقهاء .

 والثاني ما وراء هذا من المواد الحسية الاختيارية والاضطرارية ، التي بها يكتسب العقل بالآية ، ويستمدها لحياته مما سطرته يد القدرة الربانية ، بالأقلام النورانية ، من الحكم الإلهية ، على صفحات ألواح عالم الملك والمؤدى من به اهتدى ، فإنه به أدلة تغمس المستدل بها في دأماء الإيمان اليقين ، ويخرجه من دجى هيكل هيولى ذاته ويسقيه شربة من رحيق المعرفة التوحيدية تبرئة من العيب ، فتعافي من كل داء دفين في الباطن المقتضى لوجود الصحة في الظاهر ، وتبرد غليل القلب من حر العمى ، ونار الهوى ، فلا يظمأ بعدها أخرى أبدا .

 وتجلى صدى الشك وغشاوة النفاق وظلمة الشرك ، فيضيء القلب لمزيد نور العقل ، وبنور ستر المعرفة منه لربه ونفسه ودنياه وآخرته . زيادة تزيده إشراقاً ينسخ ظلمات مدلهم النفس الأمارة بالسوء ، ويصقل مرآته فتنجلي صورة الملكوت فيه ويفرح ويعرج مهما تعلق بأسبابه المتدلية إلى عالم الشهادة فيرى من درجات الكسبية ، إلى المنازل العقلية ، لكن ثم ينادى من شاطئ الوادي الأيمن من وراء حجاب ، فاخلع نعلي صفاتك ، وكن موسى الصفات فتجرد من مسيح الهوى ، والبس خِلَع الآداب الملكية والملابس الروحانية ، وتدرع برياش الحلم والتقى ، إنك بوادِ أسرار الحقيقة المقدس طوى ، واقصد في مشيك واغضض من صوتك ، واثبت لما ترى واستمع من لحن الخطاب وأحسن رد الجواب ، فليس بينك وبين ملكوت الأعلى غير قاب قوسين أو أدنى ، فبفضل الله وبرحمته تفرح .

 ودع قلبك في برزخ أنوار المعارف الإلهية يستريح ، وباستدامة الأذكار تتجلى فيه الأنوار ، حتى يعلوا في الملأ الأعلى ذكره ، لما انشرح بنور الله صدره ، ويفتح له بمفاتيح الكشف الحقيقي باب المحبة والأنس والرضا بأنواع الفضاء فيتيه في عرصات الشوق إلى الله تعالى ، حتى يتخطى الملك إلى الملكوت ، فيسبح في فسيح بيداء أسراره ويموص في آذى بحارها(أي يغتسل في أمواج بحارها) ، ويغوص فيصير بعين البصيرة لآلئ غوامض أنوار الحقائق الغيبيات ، ويفتح لأسماعه باب الاستماع فيفهم في غياض رياض الوجد ، بسماع نغمات تسبيح الجمادات ، حتى يغيب عن الممالك إلى المالك ، فلا يجد ما سواه ولا ينظر ما عداه . فهذه هي الأسماء الأربعة . لكن في بعض المعلومات ما هو على الصحيح في البداية كسبي وفي النهاية ضروري .

 وكذلك يتولد من بعض الضروريات أنواع من المعاني ، يستفيدها العقل بالكسب لها منها فتكون من الكسبي ، وكلها أرسل الله لمن أراد الله أن يرفع قدره ، وينشرح بنور الإسلام صدره . أو يقطع بالحجة البينة عذره ، بعد قيام الحجة بها ، أو بشيء منها في شيء من دينه ، نعم . وبأي وجه من ذلك في العدل اقتدى إلى الله اهتدى . ومن نازع الحجة التي بالهداية منها أتته ، فقد خالف الله شططاً ، وعصى رسله واتبع هواه ، وكان أمره فرطا .

 والمعنى في (( اهدِنَــــا الصِّرَاطَ )) ، أرشدنا إليه ، وقيل وثبتنا عليه ، وكلاهما في النظر حق ، لكون طريق الاستقامة في غاية الخفاء ، أحدّ من الشعرة على عقبة كؤود المسلك إلا على كيّس ذمر ، ليس بذي غمر . كثير الموانع شديد المقاطع ، فكم سائر ضل ، وكم قد زل ، ونيس لأهل التكليف من جوازه بُد ، فمن نعس فهوى في القرار ، هلك في النار ، ومن جاز فقد فاز ، لأن من وراء هذه الكلفة أعظم زلفة ، وأنت ترى أكثر الناس في هذه الدنيا كالفَراش فيها يتهافتون ، من ذروة هذا الصراط يهوون ، وبعضهم ينزلق فيرجع فيعلق ، فالتثبت عليه لا غناية عنه ، ولكونه يتمادى إلى آخر العمر . ولذلك اختلفت أحوال الناس في قطعة من لحظه إلى خمسين عاماً فما فوقها ، وأما ما بينهما حسب مدة الأعمار في هذه الدار .

  فالإرشاد في كل خطوة لا بد منه ، وهذا هو الصراط الدقيق الخفي ، لا الذي ظنه عَمى القلوب أتباع المذهب الردى ولن ينجو منه إلا من نجّاه الله بفضله وهداه . نعم ، وكان في نفس الخطاب دليل من الهدى لأولي النهى ، على أن الهدى لا يتناهى وإنه لا سبيل إليه مع المطلوب منه قيامه ، والمسئول عنه يوم القيامة إلا بالله تعالى ، فينبغي ألا يكون له هم إلا فيه ولا إقبال إلا عليه ، فإنه الكمال الروحاني من الجنس الإنساني في التعلق الاضطراري ، والانقطاع الكلي في كل نفس وحال ، مع المبادرة إلى السؤال والتذلل والتخشع والإخبات في الأعمال ، والتبتل في التضرع والابتهال .