تفسير بيان قصاص الجراحات والعفو عنه:

 

قوله في السورة التي يذكر فيها حم عسق (الشورى:40 ،41 ،43) قال: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } يعني: جزاء جراحة مثلها، يقول: جزاء الجارح أن أساء إليه فيقتص منه إذا كان عمداً كما أساء إلى المجروح, ولا يقتص للعبد ولا للمعاهد من المسلم الحر, ويقتص له منهما، ولا يقتص للمرأة من زوجها في الجراحة ولكن في القتل , ولا يقتص لها في غير ذلك.

 

قال { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ } يعني: فمن ترك الجارح فلم يقتص منه { وَأَصْلَحَ } العمل, والعفو من الأعمال الصالحة { فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } يعني: من بدأ بظلم { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ } يعني : المجروح، يقول: إن اقتص من الجارح من بعد ظلمه { فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } يعني: ما على المجروح من عدوان .

 

ثم ميَّز أن الصبر والتجاوز أحب إلى الله فقال { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ } يعني : المجروح فلم يقتص من الجارح { وَغَفَرَ }, يعني : وتجاوز عنه { إِنَّ ذَلِكَ } يعني : الصبر والتجاوز { لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } من حق الأمور التي أمر الله بها .

 

قال : وإذا كان يوم القيامة نادى المنادي: ألا ليقوم من كان له على الله أجر , فليقم . فيقال: من هذا الذي له على الله أجر؟ فيقول: من عفا وأصلح وصبر على طاعة الله , وأصلح العمل الذي أوجب الله عليه, فأجره على الله .فيقومون إلى أجورهم فيأخذونها بالكرامة والبشارة والنور الذي يسعى بين أيديهم .

 

تفسير من يقتل مؤمناً, ويأكل الأموال عدواناً وظلماً :

قوله في السورة التي يذكر فيها النساء(الآية:29): { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } يعني: بالظلم, يقول: لا تأكلوا إلا بحقه, وهو الرجل يجحد حقاً هو عليه, أو يقتطع مالاً بيمين كاذبة, أو بغضب, أو بأكل الربا, ثم قال: { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } يعني: ما استفضل الرجل من مال أخيه في التجارة فلا بأس .

 

قال: { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } يقول : لا يقتل بعضكم بعضاً { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ } يعني: [ أكل الأموال وسفك الدماء] جميعاً متعمداً { عُدْوَاناً } يعني: اعتداءً بغير حق { وَظُلْماً } فيموت على ذلك { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } يقول : كان ذلك على الله هيناً .

 

عن عمر بن الخطاب رحمه الله أنه قال: الموجبات التي أوجب الله عليها النار لمن عمل بها في هذه الآية والآية الأخرى قوله { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } (النساء:93)، وقوله { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } (النساء:10) ونحوها.

 

حين أصلاه الله النار أخرجه من رحمته إلى غضبه, وإلى عداوته , وهو في عداوة الله , وبريء من ولاية الله , ودخل في ولاية إبليس , إن إبليس قال لربه: { فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }(ص:79-83) فهذا الذي أكل مال اليتيم , وسفك الدم الحرام , وركب الموجبات وأصر عليها حتى مات فهو ممن أغراه إبليس , وبرئ من عباد الله المخلصين { وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ }(لقمان: 32) والختَّار: هو الغدار .

 

فمن كفر بعد ميثاقه خاب وخسر, وقال الله: { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ }(الرعد:25) ، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }(الأنفال:27) .

 

فمن خان أمانته, خان الله ورسوله, وتصديق ذلك أن الله يقول: { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }(آل عمران:161) يعني: فيأتي بالغل يوم القيامة.

 

وقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً }(النساء:107) وإنما نزلت في أهل القبلة الذين خاصموا عن الرجل الذي خان الدرع من اليهودي، وهو الذي أنزلت فيه: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (النساء:116) ولمن مات خائناً قبل أن يشرك بالله شيئاً أدخله الله النار , إنه لا يدخل الجنة إلا من يحب الله , فإن الله لا يقبل العمل إلا من المتقين , وكيف يكون من المتقين من أقام على الزنا والقتل , وأكل مال اليتيم , ونقض العهد والميثاق , والفساد في الأرض والإقامة على المعاصي حتى مات عليها . قال : وإن التقوى { ليست قولاً } بغير عمل , ونما التقوى الإيمان , والعمل حقيقة الإيمان .

 

وقد سماهم مؤمنين حيث استجابهم فأجابوه وصدقوا بما جاء به نبيهم , أمرهم بالتقوى من جميع المعصية , والعمل يعني جميع مما أمر الله , قال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ }(محمد:33).

وقال للمؤمنين: { لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ }(الأنبياء:103) .

وقال: الفقيه كل الفقية من لا يُؤَيِّس الناس من رحمة الله, لأن الله يقول: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى }(طـه:82)، وقال: الفقيه كل الفقيه من لا يرخص لهم في معصية الله .

 

تفسير ما حرم الله من أكل أموال ظلماً وعدواناً :

قوله في سورة البقرة(الآية:188): { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } يعني: بالظلم, ولا تأكلوا إلا بالحق, وذلك أن امرئ القيس بن عابس الكندي وعبدان بن أسوع الحضرمي اختصما في أرض وكان عبدان هو الطالب, ولم يكن له بينة , وكان امرئ القيس هو المطلوب .

فأراد امرئ القيس أن يحلف فقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ } إلى آخر الآية(آل عمران:77) .

 

فلما سمع امرئ القيس كره أن يحلف, فلم يخاصم عبدان وحكَّمه في أرضه, ففيه نزلت { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ } يقول: لا يدلي أحدكم بخصومه إلى حاكم في استحلال مال أخيه, ويعلم أنه مبطل { لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } يعني: تعلمون بأنكم تدعون الباطل.

 

قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إنما أنا كأحدكم , فلعل بعضكم أعلم بحجته من صاحبه, فأقضي له, وهو مبطل-ثم قال- أيما رجل قضيت له بمال امرئ مسلم فإنما أقطع له قطعة من نار جهنم فلا يأكلها" .

 

وقوله في السورة التي يذكر فيها النحل(الآية:95-96): { وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً } يعني: عرضاً من الدنيا يسيراً { إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ } يعني: الثواب الذي عند الله { هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } يعني: أفضل من العاجل { إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ } يعني: ما عندكم من الأموال يفني { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } يعني: ما عند الله في الآخرة من الثواب دائم لا يزول عن أهله.

 

قال { وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ } صبروا على أمروا الله { بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } في الدنيا, ويعفو عن سيئاتهم .

 

عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " من حلف عن يمين فاجرة, ليقطع بها مال امرئ مسلم, أو قال : من غير حل لقى الله وهو عليه غضبان". { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ }(الأنعام:31) .

 

قال : فأبى الله أن يقبل العمل الصالح إلا بالإيمان, ولا يقبل إلا بالعمل الصالح, وكذلك قال الله: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً }(النساء:125).

 

فأبى الله أن يقبل الإسلام إلا بالإحسان, ولا يقبل الإحسان إلا بالإسلام, والإيمان والعمل الصالح كالروح والجسد, إذا فارق بينهما هلكا وإذا اجتمعا عاشا.

 

وقول الله: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }(النساء:48) وسئل عمر عن هذه الآية كيف تفسيرها؟ قال: قول الله: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ الذين ينالهم ] المغفرة والتوبة الذين نزل فيهم { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً }(النساء:31) .

 

فمن وعد الله من أهل القبلة النار بذنب يأتيها إذ قال: { وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ } (الزمر:20)، وقال: { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً }(مريم:61)، وقال: { مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ }(ق:29).

فمن تاب توبة نصوحاً تاب الله عليه, وقال الله ( النساء:122-124): { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً * لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً }.

 

وقال المنافقون للمؤمنين في الآخرة: { أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ } نصلي كصلواتكم ونجلس في مجالسكم ونحج معكم ؟!

قال المسلمون: { بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ } بالتوبة, قلتم: اليوم وغداً وهذا الشهر وهذه السنة .

{ وَارْتَبْتُمْ } يقول: شككتم في وعيد الله، قلتم: ليس هذا هو الوعيد علينا { وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } الشيطان.

فقال الله { فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ }يا معشر المنافقين { وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }(الحديد:14-15).

 

وقد قيل لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما النفاق؟ قالوا: متكلم بالإسلام ثم لا يعمل به فاحذروا منزلة النفاق .