تفسير ما نسخ في الصوم الأول :

قوله في سورة البقرة(الآية:183-187): { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } وذلك أنهم كانوا يصومون قبل شهر رمضان عاشوراء, فنزلت { كُتِبَ عَلَيْكُمُ } يعني: فرض عليكم الصيام { كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } يعني: على أهل الإنجيل أمة عيسى عليه السلام { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يعني: لكي تتقوا الطعام والشراب والجماع بعد صلاة العشاء , وبعد النوم.

 

ثم قال: { أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ } يعني : أيام شهر رمضان { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فكان كتب الله تبارك وتعالى علينا في أول الإسلام إذا غابت الشمس في شهر رمضان حل للصائم ما يحل للمفطر, فمن صلى العشاء الآخرة ونام قبل أن [أن يفطر] حرم عليه ما يحرم على الصائم بالنهار إلى القابلة , وهكذا كان كتب على الذين كانوا من قبلنا على أمة عيسى عليه السلام , فاشتد ذلك الصوم على المسلمين.

 

ثم إن عمر بن الخطاب صلى ذات ليلة صلاة العشاء الآخرة ثم واقع إمرأته ليجعل الله في ذلك رخصة للمسلمين , فلما فرغ ندم فبكى بكاءً شديداً , وتضرع إلى الله , ورغب إليه بالدعاء .

 

فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أعتذر إليك من نفسي هذه الخطيئة واقعت أهلي بعد العشاء الآخرة فهل تجد لي من رخصة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم تك جديراً بذلك يا عمر , فرجع عمر حزيناً.

 

قال: ورأى النبي صلى الله عليه وسلم صرمة بن أنس من بني عدي الأنصاري عند المساء , وقد أجهده الصوم، فقال له : مالك يا أبا قيس أمسيت طليحاً؟

 

فقال : يا رسول الله , ظللت أمسي نهاري كله في حديقتي أعالج فيها فلما أمسيت أتيت أهلي . فأرادت امرأتي أن تطعمني شيئاً سخناً , فأبطأت عليّ بالطعام فرقدت فأيقظتني وقد حرم عليّ الطعام وقد أجهدني الصوم .

 

قال: واعترف رجال من المسلمين بذلك , بما كانوا يصنعون بعد صلاة العشاء عند النوم , فقالوا : يا رسول الله ما توبتنا وما مخرجنا مما عملنا ؟ فنزلت فيهم { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيب } أجيبهم { لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } يعني: لكي يهتدوا .

 

ثم صار ما كان تحرم على المسلمين من بعد الصلاة , ومن بعد النوم بالليل في شهر رمضان [ حلالاً حتى طلوع الفجر] { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } منسوخة نسختها هذه الآية { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ } رخصة للمسلمين بعد صنيع عمر بن الخطاب رحمه الله { الرَّفَثُ } يعني: الجماع { إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ } يعني : هن سكن لكم{ الصِّيَامِ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } يعني: وأنتم سكن لهن { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } يعني: عمر بن الخطاب في جماعه امرأته بعد صلاة العشاء الآخرة { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } يعني : فتجاوز عنكم { وَعَفَا عَنْكُمْ } يعني : فيترككم فلم يعاقبكم { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ } يعني: فالآن حين أحللت لكم الجماع فجامعوهن بالليل { وَابْتَغُوا } يعني: فاطلبوا في الجماع {مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } يعني : ما فرض الله لكم من الولد .

 

ونزلت في صرمة بن أنس { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا } يعني الليل كله رخصة للمسلمين { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } يعني: الضوء المعترض من قبل المشرق {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ }.

 

وأما قوله { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } قال: كانوا في الصوم الأول بالخيار من شاء صام , ومن شاء أفطر, وهو صحيح يطيق الصوم وليس بمسافر , يفدي صومه بالطعام يطعم لكل مسكين نصف صاع حنطة { فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً } يعني : فمن زاد على مسكين فأطعم مسكينين أو ثلاثة مساكين لكل يوم { فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ } من أن تطعم مسكيناً واحداً { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } من الإطعام { إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }.

 

فكان هذا في أول الإسلام , الصوم الأول , ثم حولهم عن الخيار فصارت { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } منسوخة نسختها هذه الآية(البقرة:185) { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } يعني: أنزل من السماء السابعة إلى السماء الدنيا , ثم قال : { هُدىً لِلنَّاسِ } يعني : من الضلالة { وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى } يعني : وبيان الحلال والحرام , ثم قال : { وَالْفُرْقَانِ } يعني : المخرج في الدين من الشبهة والضلالة{ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } يعني : فمن شهد منكم شهر رمضان في أهله فليصمه , فأوجب الصوم على من يطيق , وشهد شهر رمضان في أهله , ثم قال :{ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ } فلم يصم , فإذا برىء المريض , وقدم المسافر من سفره فليصم { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فيصوم متتابعاً { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ } يعني : الرفق في أمر دينكم { وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } في أمر دينكم حين رخص للمريض والمسافر في الإفطار ولا يريد بكم العسر , يعني تمام عدة الأيام , ولو لم يرخص للمريض وللمسافر لكان عسراً ضيقاً, ثم قال : { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } يعني : تمام عدة الأيام المعدودات , يعني: أيام شهر رمضان { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ } ولتعظموا الله { عَلَى مَا هَدَاكُمْ } لأمر دينكم { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }.

 

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الشهر ثلاثون يوماً, ومنها تسع وعشرون يوماً, فصوموا لرؤية الهلال وافطروا لرؤيته فإن أغمى عليكم فأتموا ثلاثين يوماً".

 

وقال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في السفر صائماً ومفطرأً.

 

وعن أبي الدرداء أنه قال : إن صمت في السفر فمأجور وإن أفطرت فمعذور .

 

وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أفطر يوماً واحداً من شهر رمضان وهو في الحضر متعمداً من غير عذر فعليه صيام شهرين , ويخاف على نفسه , وإن قدر أن يعتق رقبة فليعتق , فإن لم يجد فليفعل خيراً ويخاف على نفسه ويتوب إلى الله ويرغب".

 

عن النبي صلى الله عليه وسلم : في رجل جامع امرأته في شهر رمضان متعمداً , قال: فليصم شهرين متتابعين , فإن لم يستطع الصوم فإطعام ستين مسكيناً ويقضي ذلك الشهر كله كاملاً، ويفعل ما استطاع من العتق والصيام ويرغب إلى الله خوفاً وطمعاً { إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }(الأعراف:56) .

 

قال: والمرضع التي خافت على ولدها الفساد , تفطر وتطعم كل يوم مسكيناً , لكل يوم نصف صاع من حنطة , وتقضي بعد ذلك .

 

تفسير السحور :

قال : ثلاثة من أمر النبوة :" تعجيل الفطور , وتأخير السحور , والصمت في غير ذكر الله".

 

قال : رجلان أكلا في شهر رمضان نهاراً ظن أحدهما أن الشمس قد غابت ثم استبان أنها لم تغب , وأنه في النهار .

 

قال : أما هذا فعليه القضاء , لأن الله تعالى يقول ( البقرة:آية187): { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } فلم يتم هذا صومه إلى الليل .

 

وأما الآخر فإنه أكل بعدما أصبح وظن أنه لم يصبح , ثم استبان له أنه أكل بعد الصبح.

 

قال: عليه القضاء لأن الله يقول (البقرة:187): { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ } فعليه أن ينظر حتى يستبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود.

 

تفسير صوم التطوع :

قوله في سورة الأحزاب (الآية:35) : { وَالصَّائِمِينَ } الرجال { وَالصَّائِمَاتِ } قال : من صام شهر رمضان , والذي أوجب الله عليه من الصيام , والحقوق التي افترض الله عليه , فمن أوفى بما عاهد الله فهو من الصائمين والصائمات فسيؤتيه أجراً عظيماً.

 

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من صام ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر أيام البيض فهو مأجور".

 

وقال :" إنه من صام شهر رمضان وستة أيام من شوال فهو عظيم الأجر إن شاء الله".

وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" من صام يوم عاشوراء- وهو اليوم العاشر من محرم - فهو عظيم الأجر إن شاء الله". ومن صام يوماً في الشهر الحرام مثل صوم شهر , وأفضل الصوم أشهر الحرم .

 

قال: وعليك بالصيام , فإن الصيام لو لم يكن فيه شيء إلا أنه مقطعة لكثير من الشهوات , شهوات الخطايا لكنت حقيقاً أن تسارع فيه بل إنك لا تزال في عبادة حسنة ما دمت صائماً , وإن كنت راقداً أو في بعض ضيعتك . ويقال إن الرب تبارك وتعالى يقول " إن الصيام لي وأنا أجزي به".

 

ويقال : إنه للصائم جِنة من النار يوم القيامة .

 

فإذا صمت فليصم سمعك وبصرك , وجوارحك كلها من الخطايا , فإن ذلك من أفضل الصيام , وكذلك وصف الله في كتابه الصائمين والصائمات .

 

سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل صلاة التطوع فقال :" الصلاة طول القيام, و يخفف الله على العبد يوم القيامة".

 

قال : فاستكثر من الصلاة ما استطعت , فإن الصلاة لو لم يكن فيها شيء إلا أنك تسلم من الخطايا ما دمت في الصلاة كان ذلك حسناً حقيقاً أن يرغب فيه , بل إن فيها قراءة القرآن , وتحميد الرب والرغبة إليه وذكر الله فيها , فأنت تطلب أعظم الحاجة , وهي أعمال الملائكة , فإنما المصلي كالقائم على باب الجنة يستفتح ويسأل الدخول , فكل الأعمال لها تبع , فاخشع فيها ولا تلفت واقبل عليها حتى تقضيها , فإذا فرغت من صلاتك فانصب إلى الله وارغب إليه واذكر الله كثيراً.

 

قال : وضع مالك عند من لا يضيعه ويضاعفه لك , ولا تدفنه فتأكله الأرض , ويذهب به من لا يحمدك عليه.

 

سارع في الصدقة ما استطعت مما قل أو كثر , فإن الصدقة لو لم يكن فيها شيء إلا أنها توفيك بمواعيد الله لكنت حقيقاً أن تسارع فيها , بل إنها فكاك من النار , وغسول من الخطايا .

وكان يضرب مثلها كمثل رجل طلب بدم فأخذه أولياء المقتول , فلما أخذوه افتدى منهم بماله , فلم يزل يعطى من قليل أو كثير حتى عتق .

 

وهي مخشعة للقلب , فأسرَّها ما استطعت , وضعها بالذي فرض الله عليك في الحق , واعلم أن كل نفقة في غير الحق فهي تبذير وإن قلَّت.

 

وقد قال الله في المبذرين ما قد علمت, قال: { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً }(الإسراء:27) ، { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }(سـبأ:39).