سُورَة الكَهف مكِّية وآياتها: (110)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحَمدُ لله الذي أَنزَلَ عَلَى عَبدِهِ الكِتَابَ وَلَم يَجعَل له عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأسًا شَدِيدًا من لَّدُنهُ وَيُبَشِّرَ الْمُومِنِينَ الذِّينَ يَعمَلونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمُ أَجرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنذِرَ الذِّينَ قَالوا اتَّخَذَ الله وَلَدًا (4) ما لَهُم بِهِ مِن عِلمٍ وَلاَ لِآبَائِهِم كَبُرَت كَلِمَةً تَخرُجُ مِنَ افوَاهِهِمُ إِن يَّقُولُونَ إِلاّ كَذِبًا (5)فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)

 

السُورَة تُسَمَّى سُورَة الكَهف وسُورَة أصحاب الكَهف وآياتها مائة وعشر آيات في مصحفنا، وهو المشهور، وورد في فضل السُورَة شيءٌ كثير: أحاديث مرفوعة من طرق متعددة في فضل قراءة سُورَة الكَهف خاصة ليلة الجمعة ويوم الجمعة، رُوِيَ عن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ أنه قال: "من قرأ سُورَة الكَهف يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء، لا يزال يضيء له إلى يوم القيامة، وغفر له بين الجمعتين"، وورد أيضاً حديث آخر: "أن البيت الذي تقرأ فيه سُورَة الكَهف لا يدخله شيطان"، وجاءت رواية أخرى: "من قرأ سُورَة الكَهف أضاء له نور ما بينه وبين البيت العتيق، وهو البيت الحرام"، وورد عن الحسن بن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يقرأ سُورَة الكَهف كلَّ ليلة، وذهب كثير من أئمة العلم إلى أن قراءة سُورَة الكَهف سُنّة في يوم الجمعة وليلتها، ورَوَوا أن ذلك من فعل النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ.

 

وذكر بعض أهل التفسير أنها نزلت جملة واحدة وشيّعها سبعون ألف ملك، وإن ثبت هذا فهو يدل على فضلها ومكانتها بين سُورَة القرآن، وذكر البعض الآخر أنها نزلت مُنَجَّمَة، وأنا أرى الجمع بين الروايتين، فلا مانع أن تكون نزلت جملة واحدة، ثم نزلت بعد ذلك مُنجَّمة والله أعلم.

 

وورد في فضل حفظها وقراءتها أن صاحبها يحفظ من فتنة المسيح الدجال، وورد أن من قرأ خواتم سُورَة الكَهف عند نومه ورغب من الله أن يوقظه في ساعة معينة أن يستيقظ في تلك الساعة بإذن الله تعالى، ولا غرابة في هذا فإن في آيات الله سرًا، والله على كل شيء قدير.

 

وجاءت سُورَة الكَهف في الترتيب بعد سُورَة الإسراء، والترتيبُ تَوقِيفِيٌّ، والمناسبة بين السُّورتين قوية وظاهرة، نلمسها بين أول سُورَة الكَهف وبين آخر سُورَة الإسراء، كما نراها بين أول سُورَة الإسراء وآخرها وهذا شيء ملحوظ بين سُورِ القرآن كلِّها، فهي حلقات ذهبية متماسكة متناسقة.

 

فُتِحَت سُورَة الكَهف بذكر الحمد ونسبته إلى الله، وقبلها فتحت سُورَة الإسراء بالأمر بإسناد الحمد إلى الله تعالى، كما فتحت بتسبيح الله تعالى، فبَيْن فاتحتها وخاتمتها، وفاتحة الكَهف وخاتمتها تكتمل حلقات الكلمة التي وَرَدت ووُصِفَت بالباقيات الصالحات وهي: "سبحان الله والحمد الله ولا إله إلاَّ الله والله أكبر"، وجاء ذكر الباقيات الصالحات في مطاوي سُورَة الكَهف، وإن كان معناها لا يقصر فقط على هذا الذكر بل هي لجميع الأعمال الصالحات التي يبقى أجرها وذخرها عند الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ، فالصلاة والصوم والصدقة والحج والعمرة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأداء الحقوق والعدل والإحسان وأنواع الذكر والبر كلها باقيات صالحات.

 

ولنرجع إلى المناسبة القوية بين فاتحتي السورتين: الإسراء والكَهف لنرى بديع كلام ربنا تعالى: فُتحت الأُولى بالتسبيح، وفُتحت الثانية بالحمد وتمام الذكر باقترانهما: سبحان الله والحمد لله ففي التسبيح تنزيه للمولى تعالى عن جميع النقائص مما لا يجوز في حق مولانا العظيم، وفي الحمد إسناد أوصاف الكمال والكبرياء والعظمة والبر والرحمة والإحسان إلى مولانا العظيم، فما ألزم هذين الذكرين بعضهما لبعض وكثيرًا ما يقترنان معاً كما جاء في القرآن: {وإن من شيء إلاّ يسبح بحمده} (الإسراء:44)، {إنما يؤمن بآياتنا الذِّينَ إذا ذكروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم} (الفرقان:58).

 

وجاءت الأحاديث أيضاً باقتران التسبيح والتحميد: "سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم"؛ "سبحان الله العظيم وبحمده" فهما ذكران متلازمان متكاملان في حق الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ.

 

ثم لننظر في الآيتين كرَّة أخرى نجد الله يمتن على عبده ورسوله بالإسراء في السُورَة الأولى، وبإنزال الكتاب في السُورَة الثانية، ويختار من الأوصاف في كليهما أشرفها وألطفها فإضافة العبودية في شخص مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ إلى الله تعالى يشرفه ويشعره بلطفه تعالى به، فما أحلى وقع هذا الوصف عند أولي الألباب فهو أحلى من كل وصف سواه، ولولا ذلك ما اختاره الله لحبيبه وصفِيِّه من خلقه، فمُحَمَّد عبدُ الله خاضعٌ له قبل أن يكون نبياً ورسولاً ولم ينل شرف النبوة والرسالة، ولم يرفع الله مقامه بالإسراء والعروج إلى السماء وبإنزال الكتاب عليه إلاَّ بعد أن قام بحق العبودية متذللاً لمولاه تعالى، فتواضعه لمولاه هو الذي رفع درجته عنده حتى أصبح محلاً لحفاوته وتكريمه، وناهيك بمن يرفعه الله إلى مقام لا يتسامى إليه جبريلُ أمينُ الله المكينُ عند ذي العرش، عليه من ربنا السلام وعلى سائر الملائكة الكرام، وهو مقام دونه كل مقام لم ينله نبي مرسل ولا ملَك مقرب، لقد شرَّف اللهُ من قبل نبيَّه موسى بميقاته الذي وقَّته له بعد أربعين ليلة، غير أن شرف هذا النبي أعظم فميقات موسى ـ عليه السلام ـ في جبل الطور وميقات مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ فوق سبع سماوات، وميقات موسى بعد موعد أربعين ليلة ليتطهَّر ويستعدَّ، وميقات مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ من غير موعد سابق، وفي هذا ما فيه من بيان فضله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ وصدق الله العظيم: {وكان فضل الله عليك عظيمًا} (النساء:113).

 

{الحَمدُ للهِ الذِّي أَنزَلَ عَلَى عَبدِهِ الكِتَابَ (1)}، انظروا إلى شرف هذا الوصف، وصف العبودية، ثم انظروا إلى تشريف إضافته إليه، وقد يبدُو لبعض أن لو اختار له وصف النبوَّة لَكَان أفضل، كلا بل اختيار الله أفضل من اختيارنا وفيه ما فيه من التعبير على سر التواضع، وإن تذلَّلنا بالعبودية لربِّنا رفع لمقامنا عندَه وعزٌ لنا، وأيُّ عز، وكَذلِك نجد هذا التعبير يجري في القرآن بالنسبة إلى سائر أنبياء الله {ولكنَّ الله يَمُنُّ على من يشاء من عباده} (إبراهيم:11) وفي لفظ التشهد: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين".

 

ثم لنرجع إلى المناسبة بين سورتي الإسراء والكَهف نجد من بينها ذكر الأجوبة على الأسئلة الثلاثة الموزعة بينهما، وذلك أن اليهود قالوا لقريش حين سألوهم عن شأن مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ؛ قالوا لهم: "اسألوه عن أمور ثلاثة، فإن هو أجاب عنها كلها فليس برسول، وإن عجز عن الجواب عنها كلها فليس برسول، وإن أجاب عن بعضها وترك بعضاً مفوِّضا فيها الأمر إلى الله فهو رسول حقًّا"، فأجاب بإذن ربِّه عن بعضها وفوَّض البعض الآخر إلى الله.

 

سألوه عن الروح، وعن قصة أصحاب الكَهف، وعن ذي القرنين، فكان جوابُه عن الروح ما أوحي إليه في حقها وهو قوله تعالى: {ويسألونك عن الروحِ قل الروحُ من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً} (الإسراء:85)، فقامت عليهم الحُجَّة بهذا الجواب وبما بعده، وما منعهم من الإيمان برسالته إلاَّ الحسد والجحود، وقالوا كيف يقول لنا {وما أوتيتم من العلم إلاَّ قليلاً} (الإسراء:85) وقد أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء، فأنزل الله في أواخر هذه السُورَة: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً} (الكَهف:109).

 

وفي قصة موسى مع الخضِر عليهما السلام عبرة لهم ومزدجر، ومن لطائف الموضوع أن جاء الجوابُ عن سؤال الروح في سُورَة الإسراء وجاء الجواب عن المسألتين الأخريين في سُورَة الكَهف، ذلك لأن قضية الروح من علوم الغيبيات ومن أمور ما وراء المادة، فناسب أن تذكر في هذه السُورَة التي فيها قصة الإسراء والمعراج وما شاهد هناك رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ من أمور الغيب والملكوت مما يمكن أن يظهره الله عليه فلا مطمَع بعد ذلك في الاطِّلاع على ما وراء ذلك من علوم الغيب التي اختص الله بها، {عالم الغيبِ فلا يُظهر على غيبه أحداً، إلاَّ من ارتضى من رسول}الآية ـ (الجن:26ـ 27) وهذا الإظهار لا يكون إلاَّ بمقدار، فلو كان عِلم الروح ممكناً لكان أولى من يُظهَر عليه هذا الرسولُ الذي فتح الله له من آيات الغيب ما طوى عن غيره، فلا مَطمَعَ بعد لأحد من المخلوقات في الاطِّلاع على حقيقة الروح، فسبحان ربنا العليم الحكيم المتفرد بالعلم المطلق والحكمة البالغة لا إله إلاَّ هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم.

 

{الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتابَ وَلَم يَجعَل له عِوَجًا قَيِّمًا لِينذِرَ بَأسًا شديدًا من لَّدنهُ ويُبشِّر المومنين الذِّينَ يعملون الصالحات أن لَهُمُ أجرًا حسنا مَّاكثين فيه أبدا ويُنذِرَ الذِّينَ قالوا اتخذ الله ولدًا ما لَهُم بِهِ من عِلمٍ وَلاَ لآبَائِهِم كَبُرَت كَلِمَةً تَخرُجُ منَ اَفوَاهِهِمُ إن يَّقُولُونَ إلاّ كَذِبًا}

 

الحمد هو الثناء باللسان على ذي الكمال والجلال والإنعام والإفضال، تبارك ربنا وتعالى، وفيه معنى الشكر وهو الاعتراف بالجميل لصاحب الجميل، والله جلَّ وعلا مَجمَعُ المحَامدِ ومُفِيضُ النِّعم، أنعم علينا بنعمة عظيمة وهي إنزال كتابه هدًى ورحمة للمؤمنين، يقول علماء اللغة: "تعليق الحكم بالمشتقِّ يُؤذن بِعِلِّيَّة ما منه الاشتقاق، وتعليق الحكمِ بالصِّلة يدلُّ على أن ما في حيِّز الصلة هو العلة"، فإنزال الكتاب هو النعمة الكبرى التي لا تتناهى بركاتها، كيف لا؟ وهو الهادي إلى السعادة الأبدية بالنعيم المقيم ورضوان الله أكبر.

 

واختار الله هنا لرسوله الكريم صفة العبودية ونسبها إليه تشريفًا وتكريمًا وهي الصفة التي لا أشرف ولا أحلى منها في قلب النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ وهو الذي يتشرَّف أن يكون عبداً لله ويعلو مقامه بتواضعه لربه، وهو القائل: (ولا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم، ولكن قولوا عبد الله ورسوله).

 

ثُمَّ إن الله يسمَّى كتابُه {الكتاب}، فهو الكتاب الجامع من الآيات البيَّنات والهدى والفرقان، تقاصرت دونه الكتب، فهو الكتاب حقًّا يستحق اسم الكتاب، وغيره لا يستحق هذا الوصف وإن تَسَمَّى به، فَـ: {تبارك الذي أنزل على عبده الفرقان ليكون للعالمين نذيرا} (الفرقان:01)، و {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا} (الكَهف:01)، وجاء في آية أخرى وصفه: {قرآنًا عربيًا غير ذي عوج} (الزمر:28)، والعِوَجُ هو الانحراف عن القصد وهو عكس الاستقامة، وكتاب ربنا هو الصراط المستقيم لا انحراف ولا عوج ولا جَورَ في دَلاَلَتِه ولا في أحكامه ولا في أغراضه ومقاصده ولا في أمثاله وقصصه ولا في شيء من معانيه، ولا اختلاف ولا تناقض بين سُوَرِهِ وآياته فهي تفسر بعضها بعضًا ويؤيد بعضها بعضًا ويكفل بعضها بعضًا وكلُّها معجز لا ينقضي العجب منها {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لَوَجَدُوا فيه اختلافًا كثيرًا} (النساء:82).

 

فهو الكتاب المستقيم في مبناه وفي معناه، نزل بالحق، وبالحق أنزله الله لا ريب فيه هدى للمتقين، لا يزال الناس يغترفون من بحور بلاغته ومعانيه وأحكامه، ويستخرجون منه دُرَرَ البَيَان وجواهر المعاني وحقائق العلوم وفصل الخطاب ومقاطع الحقائق وقوانين الأحكام، من قال به صَدَق ومن عَمل به نجا ومن حَكَم بِه رَشَد ومَن دَعَا به هُدِيَ إلى صراطٍ مستقيم، نَفَى الله عنه العِوَجَ وَسَمَّاه {قَيِّمًا}، يَقُولُ بَعضُ المفسِّرين في القَيِّم تأكيدٌ للمعنى الذي سبق، غير أن الوصف السابق جاء بطريق النفي وجاء هذا بطريق الإثبات، فالكتاب {قَيِّمٌ} أي مُستقِيم غير ذي عِوَجٍ، ونقول أنه لا يُصار إلى التأكيد إلاَّ إذا لم نجد معنى للتأسيس جديدًا، والعلماء يقولون: "التأسيسُ خيرٌ من التأكيد"، وإذا نظرنا في اللغة وما تدل عليه كلمة {قَيِّمٌ} نجد لها مدلولا قويًا فوق مدلول الاستقامة فهي تدل على القيام والقائمية {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} (الرعد:33) وهي تدل كذلك على الهيمنة وسُلطَة الحكم، فالقيِّمُ هو المهيمن على جميع الكتب التي سبقته ولا كتاب بعده فهو القيِّم عليها، ما وافقه منها قُبِلَ وما خالفه تُرِكَ؛ لأنَّ القرآن لا يناله ما نال الكتبَ التي قبله من التبديل والتغيير والتحريف، فهو الكتاب الخالد {الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} (فصلت:42) والقرآن هو القائم على شؤون الناس وهو الحَكَم العدل بينهم، فهو القيِّم بهذا المعنى أيضًا فهو القائم على المؤمنين يعلمهم ويُربِّيهم ويُصلّح شؤونهم ويهديهم إلى صراط مستقيم، له السُّلطة والإشراف والقيام في كل شأن من شؤون الدنيا والدين، وله الحجَّة البالغة والشهادة المعدّلة يوم القيامة، فهو قيّم أبدًا؛ لأنه كلام قيُّوم السماوات والأرض، قيُّوم الدنيا والآخرة، فما أحراه بهذا الوصف وما ألزمه به أبدًا.

 

وفي اللغة أيضًا يقال: قيِّم لما له قيمة غالية وعظيمة {فيها كتب قيِّمة} (البينة:03) تقول هذا كتاب قيِّم أي نفيس لا يوجد مثله، فقد ظفرنا والحمد بكتاب ليس مثله في النفاسة كتاب، وهو قيِّمُنا وهادينا ومربِّينا ومهذبنا وهو حُجَّتنا بين يدي الله إن نحن عمِلنا بما فيه وجعلناه إمامنا وقيِّمنا.

 

وتنبغي وقفة قصيرة بين كلمتي {عِوجًا، قيِّمًا} حتى لا يُتوهَّم أن الثانية نعتٌ للأولى، وهذا تناقض لا يصح ولا يستقيم في المعنى، فقد نُفِيَت الأولى وأُثبِتَت الثانية، فينبغي الفصل بينهما بوقفة قصيرة نفيًا للوهم ودفعًا للغلط، فالكلمة الأولى تتعلق بما قبلها، والكلمة الثانية وصف ثابت للكتاب، ولها اتصال وثيق بما بعدها.

 

{قيِّمًا لِيُنذِرَ بَأسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنهُ}.

فالغرض من إنزاله النذارة والبشارة، أنزل الله الكتابَ على عبده مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ ليُنذر الناس بأسًا شديدًا وعذابًا أليمًا من قِبَل الله إن هُم تمادوا على ما هُم عليه من الكفر والضلال والفساد، إن لله بأسًا شديدًا أعدَّه للكافرين وبأسًا شديدًا يُنزلُه على المتمردين من خلقه الذِّينَ يخالفون أوامره ويعصُون أنبياءه ورُسُلَه ويتمادون في الغي والضلال، ثم بعد بيان الغرض الأول وهو النذارة والتحذير من سوء المصير، يعطف عليه البشارة للمؤمنين والنذارة للمشركين الذِّينَ نسبوا الولد إلى الله، فيقول:

 

{ويُبشِّر المومنين الذِّينَ يعملون الصالحات أن لهم أجرًا حسنًا ماكثين فيه أبدًا ويُنذِر الذِّينَ قالوا اتخذ الله ولدًا ما لَهم به من علم ولا لآبائهم كَبُرَت كَلِمَة تَخرُجُ مِنَ افوَاهِهمُ إن يقولون إلاَّ كذبا}.

 

ذكر الإنذار أولا ثم ذكر التبشير وأردفه بالإنذار مرة أخرى، وللمفسرين تأويلات في هذا التكرار للإنذار؛ قال بعضهم: "الإنذار الأول للكفار عمومًا، والإنذار الثاني خصوصًا للذين قالوا تخذ الله ولدًا"، كما يظهر من ظاهر التعبير، قالوا: "لأن من الكفار من لم ينسب الولد إلى الله فجاء الإنذار هنا خاصة للذين نسبوا الولد إلى الله زجرًا لهم"، وهذا تأويل جمهور المفسرين، ومنهم من قال غير هذا، ونحن نقول في تأويل ذلك غير ما قالوا ونكشف إن شاء الله عما هو أروع وأنسب لكلام الله البديع، نقول: من المعلوم أن الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ أرسل رسلا كثيرين، ونجد أسلوب القرآن البديع يختار وصفهم بالنذارة أولا {إني لكم نذيرٌ مُبِينٌ} (هود:25) ويسميهم نُذرًا {وَقَد خَلَت النُّذُر مِن بَينِ يَدَيهِ وَمِن خَلفِهِ} (الأحقاف:21) فَكَأَن الوظيفة الخاصة بالرسل هي النذارة، ولا يذكر البشارة إلاَّ في مقامات أخرى يقرنها بالنذارة كما نرى في هذا الموضع، بينما نراه يقول في شيخ المرسلين سيدنا نوح ـ عليه السلام ـ {إنا أرسلنا نوحًا اِلَى قومه أنَ اَنذِر قومَك من قبل أن يَاتِيهِم عذابٌ اَليمٌ، قال يا قوم إني لكم نذير مبين} (نوح:01-02) نراه يقول في خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ: {يَس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قومًا ما أُنذِرَ آباؤُهُم فَهُم غَافِلُون لَقَد حَقَّ القولُ عَلَى أكثرهم فهم لا يُومنون} (يس:01-07)، ويقول في أول سُورَة السجدة: {أَلَم تَنزيلُ الكِتَابِ لاَ رَيبَ فِيهِ من رَبِّ العَالَمِين أَم يَقُولُون افتَرَاهُ بَل هُو الحَقُّ مِن ربِّكَ لِتُنذِر قَومًا مَا أَتاهم من نَّذِير مِن قَبلِكَ لعلَّهم يَهتَدُون} (السجدة:01-03)، ويقول في سُورَة القصص: {وَمَا كُنتَ بِجَانبِ الطُّور إِذ نَادَينَا وَلكِن رَّحمة مِّن رَّبِّك لتنذِر قَومًا مَا أتاهم من نَّذير من قَبلِكَ لعلَّهم يتذكرون} (القصص:46)، ويقول في سُورَة الحجر: {وَقل انِّي أَنَا النَّذيرُ المبين} (الحجر:89).

فما هو سر هذا الوصف المخصص بالنذارة لرسله في كلام ربنا تعالى؟

 

يجب أن نبحث لنعرف السر في هذا الاختيار القرآني المتكرر في غير موضع، لَم أَرَ الجوابَ عن هذا فيما اطلعت عليه من التفاسير فاستمعوا إلى السر الذي فتحه الله لي لعلَّه يكون فيه الشفاء بالجواب الكافي: إنه من المعلوم أن كل رسول إنما يرسل إلى قوم ضالين كافرين سادرين في غيِّ الشرك والجهالة وفساد الأخلاق، والظلم في المعاملات وسيئات الأعمال، فهم في الظلمات تائهون، فناسب إذن أن يكون الرسول الذي يرسل إليهم نذيرًا والحالة هذه، ينذرهم من عواقب ما هم فيه من الغفلة والإعراض والظلم والإفساد، ففي مثل هذه الحالة يجدر ذكر الإنذار أولا، ويختفي التبشير هنا فكان من الطبيعي أن يقول لهم رسولهم إن ما أنتم عليه من الضلال والفساد يوجب عليكم نقمة الله وسخطه وعذابه، فاتقوا الله واتقوا عاقبة ما أنتم عليه، وتلك هي النذارة.

 

وكذلك فعل رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ لما نزل عليه قولُه تَعَالَى: {وأنذِر عَشِيرَتَك الأَقرَبِينَ} (الشعراء:214)، ونزل عليه قولُه: {يا أيُّهَا المدَّثِّر قُم فَأَنذِر} (المدَّثر:01-02)، فجمع قومه وعشيرته فقام فيهم خطيبًا فقال: "يا قوم أرأيتم لو أخبرتكم أن وراء هذا الجبل خيلاً مغيرة عليكم تُصبِّحُكم أو تُمسِّيكم ماذا تقولون؟ أكنتم مُصدِّقيَّ.؟!"، قالوا: "ما جرَّبنا عليكَ كذبة"، قال لهم: "إني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد"، فنطق بالنذارة كما أمره الله؛ لأنَّ حالتهم تدعُو إلى النذارة، فالنذارة هي الوظيفة الأولى للرُّسل كما هو نصُّ القرآن، وما فسَّر القرآنَ مثل القرآن، فعلى ضوء هذا التحقيق نهتدي إلى سر الابتداء بالإنذار أولاً ثم بعده يأتي التبشير لمن اتَّبَع وسمع وأطاع، والإنذار لمن أعرض وتولَّى واتبع هواه وعصى، وهذا الإنذار الثاني له وقع خلاف وقع الإنذار الأول كما يظهر مما تقدم، فليس في التكرار إشكال، ولا تكرار في المعنى وإن تكرَّر اللفظ، والحمد لله على فتحه وهدايته".

 

ثم ننتقل إلى الآية التالية:

 

{ويُبَشِّر المومنين الذِّينَ يعملون الصالحات أنَّ لَهُمُ أجرًا حَسَنًا مَّاكِثِينَ فِيه أَبَدًا}.

 

يبشر رسول الله الذِّينَ آمنوا به واتبعوا النور الذي أُنزِل معه أن لهم أجرًا حسنا ومثوًى كريما يمكثون فيه أبدا لا يبغون عنه حِوَلاً، يبشر المؤمنين الذِّينَ عادتهم ودينهم أن يعملوا الصالحات من الفرائض والسنن والنوافل، أن لهم أجرا حسنا، جعل الله جزائهم على إيمانهم وعملهم أجرا حسنا، نَكَّرَهُ لتعظيمه ثم وصفه بالحسن، والحَسَنُ ما حَسَّن الله، ثم وصفه بالدوام والبقاء، ولا يعلم إلا الله مدى هذا الحُسن وتمتع فيه الماكثين فيه أبدا الآبدين، والسر الأكبر في الخلود، فلو أن إنسانا خُيِّر بين قصر عظيم يسكنه لمدة قليلة ثم يخرج منه، وبين دار متواضعة يسكنه طول عمره على القصر الذي لا يستقر فيه، هذا إذا كان ما يدوم أقل قيمة مما يزول، فكيف إذا كان ما يدوم مقرونًا بالحسن والجودة؟ لا محالة هو الكمال الذي يصبُو إليه العاملون، فما قيمة عمر الإنسان في هذه الدنيا الفانية بالنسبة للأبد؟!، ثم ننتقل إلى آية الإنذار.

 

قال تعالى:

{ويُنذِرَ الذِّينَ قالوا اتخذ الله ولدًا ما لَهُم به من علم ولاَ لآبائهم كَبُرت كلمة تخرج مِّنَ اَفوَاهِهِمُ إن يَّقُولُونَ إلا كذبًا}

 

أمر نبيَّه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ أن يُنذِر الذِّينَ قالوا اتخذ الله ولدا، وقولُهم هذا من أقبح أنواع الكفر وهو شرك فظيع من أفظع أنواع الشرك وأشنعه، وذلك أن نسبة الولد إلى الله زيادة على ما فيه من الكفر والإشراك يستلزم اتخاذ الصاحبة، وهذه جرأة كبيرة في حق ذي الجلال والإكرام {أنَّى يكونُ له ولدٌ ولم تكن له صاحبة} (الأنعام:101)، {وأنَّه تَعَالَى جَدُّ ربِّنا ما اتخذ صاحبَةً وَلاَ وَلَدًا} (الجن:03)، ذلك؛ لأن اتخاذ الولد يستلزم الزوجة، واتخاذ الزوجة شرك فظيع وشنيع وخسيس؛ لأنه أمر يستلزم الشهوة البهيميَّة، وهذا أمر يَجِلُّ عنه ربُّنا، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، {وَقَالَت اليَهُودُ عُزَيرُ ابنُ الله وقَالَت النَّصَارَى المسيحُ ابن الله ذَلِكَ قَولُهم بِأفوَاهِهم يُضَاهُونَ قَول الذِّينَ كفروا من قبل قاتلهم الله أنَّى يُوفكون} (التوبة:30)، وَقَالُوا هم وغيرهم من الكفار: "الملائكة بناتُ الله"، فنسبوا الولد إلى الله فجعلوه أنثى وهو ما يكرهون، وليتهم جعلوه مما يشتهون وكل ذلك شرك وبعضه أشد من بعض، أنكر الله عليهم كل ذلك وحاجَّهُم بما يعلمون استحالته، ولا تقبله عقولهم وهو وجود الولد مع عدم الصاحبة {أنَّى يكون له ولد ولم تكون له صاحبة} (الأنعام:101)، نفى عنه الصاحبةَ والوَلدَ، ونسبهم إلى الجهل والقول بغير علم {ما لَهُم بِه من عِلمٍ وَلاَ لآبائهم}، نفى عنهم العلم، فهم يقولون ما لا يعلمون حقيقتَه ولا وُجوده، ولا آباؤهم الذِّينَ يُقلِّدُونهم في هذا القول يعلمون ذلك، ونفي العلم هنا يعني نفي وجود، لاَ نَفيَ عِلمٍ فقط، بل المدَّعَى معدومٌ، فكيف يُعلم مَا لاَ وجود له؟، وكذلك ينفي الله علم الشريك والولد حتى عن نفسه {قُلَ اَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الارض} (يونس:18)، فالمقصود ـ إذن ـ من نفي العلم هنا هو نفيُ الوجود مطلقا.

 

{كَبُرَت كَلِمَة تَخرُجُ مِن افوَاهِهِمُ إن يَّقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا}، ما أعظمها وما أفظعها كلمة تخرج من أفواههم، صيغة تعجُّب واستنكار لهذه الكلمة التي يتجرأ مخلوقٌ فيتفوه بها كفرا وجهالة، وليتَه إذ جَالَ فِي خاطِرِه نوعٌ من هذا الكفر كَبَتَه ولم يتفوَّه به، إذن يكون كفره هينا ولا يؤاخذه الله إذا كره ذلك من نفسه، ولكنهم كفار جهلة يجهرون بكفرهم ويجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، إن هو إلا الهوى وتقليد آبائهم، {إنهمُ أَلفَواْ آبَاءَهُم ضَالِّينَ فَهُم عَلَى آثَارِهِم يُهرَعُونَ} (الصافات:69-70)، وما قولهم هذا إلا كذب وزور لا شيء فيه من حقيقة فهو كذب محض باطل كله، لا علم له به ولا وجود لما يقولون.

 

{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفسَكَ عَلَى آثَارِهِمُ إن لَّم يُومِنُوا بِهَذاَ الحديث أسفا (6)}

 

لعلَّ ـ هُنَا ـ للتحذير من أمرٍ واقعٍ وهو: الأسفُ، وأمرٌ مُتوقَّعٌ وهو: إهلاكُ النَّفس وراء هذا الأسف والحزن الشديد؛ لأن النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ حَزِن حزنًا شديدًا ممزوجا بالغضب على قومه الذِّينَ لم يؤمنوا بالقرآن كلام الله الحق بعدما تبين أنه من عند الله، لأنهم عجزوا بعد التحدي أن يأتوا بسُورَة من مثله.

 

نهى الله نبيَّه أن يهلِكَ أسفا على عدم إيمانهم، والبخعُ: إجهادُ الشيء وتحميله فوق طاقته، يقال: فلان بَخِع أرضَه إذا أجهدَها بالحرث في كل عام ولم يتركها تستريح وتسترجع قوتها، ونهيُ اللهِ وتَحذِيرُه لِنبيِّه في رأفة به وتسلية وتطمين بأنه قد بلَّغ ولم يقصِّر؛ لأن حزن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ على عدم إيمان قومه فيه إشفاق وخوف من أنه ربما يكون ذلك لعدم قيامه بواجب التبليغ كما ينبغي، فسلاَّه الله وطَمأَنَه وقال له: لا تهلِك نفسَك، ولا تقتلها أسفا، فما عليك بعد أن بلغت أَلاَّ يؤمنوا؛ فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، ونَفسُك أعزُّ عند الله من أن تهلكها على آثارهم أسفا.

 

وللمفسِّرين في قوله: {عَلَى آثَارِهِم} تأويلات، منهم من قال: "وراءَهم"، أي بعد إعراضهم، ومنهم من قال: "بعد موتهم"، والأمر أبسط من ذلك ونحن نعبِّر بلغتنا العامية فنقول: "لا تهلِك نفسَك في جرَّتهم"، أي بِسبَبِهم، والجرَّة في لغتنا العامية هي أثر الأقدام في الأرض، ونستعملها في مثل هذا التعبير للسبب والعلة، أي لا تقتل نفسَك بِسبَبِهم؛ لأنَّهم أعرضوا ولم يؤمنوا بهذا الحديث، والمقصود بالحديث هنا هو كلام الله، القرآن المنزل عليهم.

 

والأسف يكون بمعنى الحزن ويكون بمعنى الغضب وذلك في قوله تعالى: {فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين} (الزخرف:55)، أي أغضبونا، ويلاحظ أن الأسف يُفسَّر بالغضب إذا كان من القوي على الضعيف، أما إذا كان من الضعيف على القوي فيكون حزنا، وإذا كان من الأعلى إلى الأدنى ولا يقوم على الانتقام فهو حزن ممزوج بغضب، كما في قوله تعالى في حق موسى ـ عليه السلام ـ: {وَلَمَّا رَجَع مُوسَى إِلَى قَومِه غَضبَانَ أَسِفًا} (الأعراف:150)، فهو في هذا الموضع حزن ممزوج بغضب وحيرة على عدم إيمانهم بعدما قامت عليهم الأدلة وسطعت الحجج على الحق الواضح، ولكن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء فالأمر له وحده: {إِن تَحرِص عَلَى هُدَاهُم فَإِنَّ اللهَ لاَ يَهدِي مَن يُضلُّ} (النحل:37).

 

{إِنَّا جَعَلنَا مَا عَلَى الاَرضِ زِينَةً لَّهَا لِِِّنَبلُوَهُمُ أَيُّهُمُ أَحسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)}

 

زيَّن الله تعالى هذه الأرض بما انبت عليها من الأشجار وسائر النباتات، وبما أجرى عليها من العيون والأنهار، والماء أصل الحياة، وبما ذرأ عليها من أصناف الحيوانات، وبما خبَّأ فيها من المعادن، وفي بحارها من الجواهر واللآلِئ واليواقيت، فهذه الأخيرة وإن لم تكن على ظهر الأرض فهي في قشرتها العليا، فكأنها عليها، ويستخرجها الإنسان فهي على الأرض زينة، جعل الله ما على الأرض زينة لها نعمة للناس وابتلاء لهم ليختبرهم أيشكرون فيستعملونها في طاعة الله، أم يكفرون فيفتَتِنُون بها ويَطغَون ويستعملونها في محاداة المنعم بها عليهم بأنواع المعاصي والظلم، فيستحق المحسن الشاكر ثواب الله، ويستحق المسيء الكافر عقاب الله، ومصير كل ذلك إلى الزوال والفناء.

 

{وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جُرزًا}،

الصعيد: هو ما صعد على وجه الأرض من ترابها وأحجارها، والمراد هنا وجه الأرض الخالي من النبات والزينة، والجرُزُ: هو المحق والمحو، تقول: جرز الجراد الأرض، وجرزت الدواب إذا جردتها من كل حرثها ونباتها ولم تترك عليها من ذلك أثرا، وهذا الجعل الذي وعد الله به يقع في كل عام مرة أو مرتين، وفي كل مكان، كما ضرب ذلك مثلا للحياة الدنيا: {واضرِب لَّهُم مَّثَلَ الحَيَاة الدُّنيَا كَمَاءٍ انزَلنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاختَلَطَ بِه نَبَاتُ الاَرضِ فَأَصبَحَ هَشِيمًا تَذرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ مُقتَدِرًا} (الكَهف:45)،

وهو ما نشاهده دائما من تقلب الأرض من حال إلى حال، ولنا في ذلك اعتبار وذكرى تذكرنا بمصير زينة الحياة الدنيا.

 

وفي الآية تفسير آخر، وربما يكون هو المقصود وهو حالة الأرض بعد فناء ما عليها يوم تبدَّل الأرض غير الأرض والسماوات {وإذَا الاَرضُ مُدَّت وَأَلقَت مَّا فِيهَا وَتَخَلَّت وَأَذِنَت لِرَبِّهَا وَحُقَّت} (الانشقاق:03-05)، ذلك هو مصير الأرض الأخير فناءُ وزوالُ كلُّ ما عليها ومن عليها، وفي تذكر الإنسان لهذا المصير موعظة له بليغة حتى لا يفتَتِنَ بما عليها من الزينة ويلهُوَ عَن النُّذُر التي جاءته من قِبَلِ خَالِقِه على يد أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، وتلك هي المناسبة بين هذه الآية وما قبلها من أول السُورَة وإن اضطرب فيها المفسِّرُون، أي في وجه المناسبة وذهبوا في التكلُّف مذاهِبَ، وحَامُوا ولم يقعوا على وجه الصواب، وقد نظرت في التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي، وفي تفسير الألوسي فوجدتُ تكلُّفا ظاهرا، والمناسبة ظاهرة في غاية الوضوح.

 

من المعلوم أنَّ الغرض من إنزال الكتاب على نبينا مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ إنما هو التَّذكير والإنذار والموعظة وهي الوظيفة الأولى والأخيرة لجميع رسل الله ـ عليهم السلام ـ، فكان من المناسب جدًا أن يُخاطب المُنذَرِين والمُنذِرِين بالغرَضِ من خلق الأرض وتَعمِيرِها وتزيِينِها لهم بِمَصير ذلك كلِّه، فهو لِرُسله تسليةٌ لهم وتزهِيدٌ لهم في زينة الحياة الدنيا وترغيب لهم فيما يبقى، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى مخاطبا نبيه مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَينَيكَ إِلَى مَا مَتَّعنَا بِهِ أَزوَاجًا منهُم زَهرَةَ الحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفتِنَهُم فِيهِ وَرِزقُ رَبِّكَ خَيرٌ وَأَبقَى} (طه:131)، فهذا الخطابُ صَرفٌ لِنَظَر النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ عن زهر الدنيا وأصحابها، وأنَّ ذلك زائل لا بقاء له، و أنَّ ما عند الله لأوليائه خير وأبقى، هذا ما كان من مخاطبة الرسل والمنذِرِين، وأمَّا مَا كَان من مخاطبة المنذَرِين فوعظ لهم وزجر حتى لا يفتتنوا بزهرة الحياة الدنيا ويميلوا إليها، فتصرفهم عن الإيمان بالله والاستعداد للآخرة كما هو حال أكثر الناس، يذكّرهم الله تعالى أن ما جعله الله من الزينة على ظهر الأرض إنما هو للابتلاء والاختبار لا غير، وأن الذِّينَ حسبوه للتمتع مخطئون خاطئون، فهم يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير.

 

{زُيِّن للنَّاس حُبُّ الشَّهوَات من النِّسَاء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضَّة والخيل المسَوَّمة والاَنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حُسنُ الْمَآب} (آل عمران:14)، فلا تغرنكم أيها الناس زينة الحياة فإنها ستفنى قريبا ولا يبقى لها أثر، وما أعظم خسارة من آثر ما يفنى على ما يبقى، وما أعظم ربح من اشترى ما يبقى بما يفنى، فهو التاجر الرابح، تجارته لن تبور، ولا يوفق لهذا إلا من انتفع بكتاب الله القيِّم الذي أنزله رحمة للعالمين، أولئك الناجحون في الامتحان، لم يفتتنوا بزينة الحياة الدنيا، بل اشتروا بها الآخرة فكانوا أحسن عملا جزاؤهم عند ربهم أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدًا، فالمناسبة متينة وواضحة بين هذه الآية وما قبلها من الآيات كما ترون، والابتلاء المذكور في الآية هُو إِظهَار علم الله في خلقه فالله عليم بما يصنعون قبل أن يصنعوه {أَلاَ يَعلَمُ مَن خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} (الملُك:14)، فمن ظن غير ذلك فقد ضل وجار عن القصد، لا إجبار ولا إنكار لعلم الله وقدره وعدله في خلقه، يُضِلُّ من يشَاء ويَهدِي من يشاء، ومن ضلَّ منهم فإنما يضل على نفسه وبنيته وبمحض اختياره، ومن اهتدى فبفضل الله وتوفيقه {وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} (الأعراف:43).

 

فإذا ظهر من الناس ما علمه الله منهم بعد البيان والاختيار قامت حُجَّة الله عليهم، لا سيما وقد أخبرهم بهذا الابتلاء قبل وقوعه، وهذا تفضُّلٌ منه وإعذار، ولو شاء ما فعل، لو شاء ربنا لابتلى خلقه بما يريد من غير أن يخبرهم بذلك، ولكان ذلك عدلا لا ظلم فيه، ولكن الله كتب على نفسه الرحمة فأخبرهم حتى يستعدوا ويصلحوا من أحوالهم كي ينجحوا في الامتحان، وفتح باب التوبة واسعا يسع الذنوب جميعا، فما أعظم رحمة الله وما أوسع فضله، فلا يحرم منه إلاّ شقي.. نعوذ بالله من سوابق الشقاء، أفيظن بعد هذا عاقل أن الناس خُلِقُوا عبثا ويتركون سُدًى وأنهم لا يفتنون؟!، أم يستبعدون البعث والنشور؟! ويقولون: {ذلك رجع بعيد} (ق:03)، إن الذي أنشأهم أول مرة هو الذي سيُعِيدُهم، ومَا خَلقُهم وَلاَ بَعثُهُم إلا كنفس واحدة، ولِحِكمَة خلقهم ولِحِكمَةٍ يُعيدهم ليُجازِي المحسِنُ بإحسانه،

 

الكهف: الآيات ( 9 - 31 ) قصة أصحاب الكهف

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (16)وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)

--------------------------------------

 

ثم يُذكِّرنا الله بِقصَّة فتية آمنوا بربهم فزادهم هُدًى وربط على قلوبهم وتقبَّلهم قبولا حسنا؛ لعلنا نقتدي بهم ونسعى مثل سعيهم، وهؤلاء هم أصحاب الكَهف والرقيم الذِّينَ آمنوا بربهم ونابذوا قومهم المشركين وهجروهم إلى الله، فآواهم الله إليه وجعلهم في حصنه الحصين وحرزه المكين.

 

{أَم حَسِبتَ أَنَّ أَصحَابَ الكَهفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِن اَياتِنَا عَجَبًا (9) اِذَ اَوَى الفِتيَةُ إِلَى الكَهفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِن اَمرِنَا رَشَدًا (10)}

 

قَبل الشروع في بيان هذه القصة العجيبة الجارية على أسلوب القصص القرآني في إبداء مشاهد العبر من القصة الطويلة؛ لأن هذا الكتاب نزل للتذكير والاعتبار لا للتسلية بحكايات القصص بتفاريعها وجُزئِياتها.

 

قبل الشروع في بيانها ينبغي أن نعلم وجه المناسبة بينها وبين ما قبلها وما الحكمة من إيرادها في هذا المقام، ولتقريب ذلك يجب أن نعلم سبب نزول هذه الآيات وما اكتنفها من الظروف، وبهذا يظهر تمكنها ومناسبتها لما قبلها وما بعدها.

{أَم حَسِبتَ أَنَّ أَصحَابَ الكَهفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِن ايَاتِنَا عَجَبًا}، أمَّا الكَهف فهو الغار الكبير في الجبل، وأما الرَّقيم فاختلف فيه المفسرون، فقال قومٌ: اسمُ كَلبِهِم، وقال آخرون: اسمُ بلدتهم، وقال آخرون غير ذلك... والذي نراه أخذًا من مادة الرقم وهو الكتابة والنقش، أنه اسم لوح كتبت فيه قصتهم وأسماؤهم، قيل ووُضع ذلك اللوح على باب البلد على عادة القدامى يُخلِّدُون أخبارهم في النقوش والألواح يُرقِّمُونها فيها رقمًا، وهذه الرواية هي الأنسب بالاسم.

 

أَحَسِبتَ يَا مُحَمَّد وتالي القرآن أن قصة أصحاب الكَهف كانت عجبًا من آياتنا، إن آيات الله كلَّها لَعجيبة، وإن فيها ما هو أعجب من أصحاب الكَهف وإن كان قريش قوم النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ جعلوها علامة على صدق النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ وأنَّه رسول إن أجاب عنها، وإن لم يجب عنها فليس برسول، ولقد أجاب عنها، وما نفعهم ذلك بل أمعنوا في الكفر والضلال، ولو أنصفوا لعرفوا الحق قبل هذه القصة وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ولكنهم يجحدونه، ولقد اشتدوا في معارضته وحاولوا إعجازه ومن ذلك أنهم أرسلوا من فتيانهم شابين من أهل المكر والدهاء، وهما: النضر بن الحرث، وعقبة بن أبي معيط، أرسلوهما إلى المدينة حيث اليهود أهل الكتاب يعلمون أخبار النبوات الأولى، يسألونهم عن حقيقة هذا الذي يَدَّعي أنه نبي ورسول، ما آية صدقه؟، فقال لهم اليهود: "اسألوه عن ثلاثة أشياء، وإن أجاب عنها كلها فليس بنبيّ، وإن لم يجب عنها وعجز عنها فليس بنبيّ، وإن أجاب عن بعضها فهو نبيّ"، وقد تقدّم بيان هذا السبب في تفسير سُورَة الإسراء.

"اسألوا عن خبر فتية ذهبوا قديمًا إلى غار في جبل فضرب الله على آذانهم قرونًا ثم بعثهم وكان من شأنهم ما كان، واسألوه عن رجل طوَّاف طاف الأرض حتى بلغ مغرب الشمس ومطلعها وبلغ بين السّدَّين، واسألوه عن حقيقة أمرِهِ"، فسألوه عما أمروهم وظنوا أنهم بهذا يُعجِزُونه ويَظهَرُون عليه، فلما سألوه قال لهم سأجيبُكم غدًا، ولم يقل إن شاء الله، فتأخر عنه الوحي خمس عشرة ليلة حتى ذهبت به الظنون مذاهب، وما ذلك إلاّ تأديبًا له من ربِّه حتى يردّ أمور الغيب كلها إلى مشيئة الله، وما كان تأخُّر الوحي عنه بِمُغْضٍ من مقامه وصدق رسالته، وإن كان قومُه سُرُّوا بذلك وذهبوا يرجفون بالخبر، يحاولون تشكيك الضعفاء في نبوته، فقطع الله حُجَّتهم بالجواب الشافي الذي نزل به جبريل ـ عَلَيه السَّلاَمُ ـ على قلب النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ فأخبرهم بِخبرهم على طريقة القصص القرآني البديع في استخلاص مشاهد العبر والموعظة من القصة لا على طريقة سرد القُصَّاص الذِّينَ يملأون الفراغ لتسلية الناس لا غير.

---------------------------

 

{نحنُ نَقُصُّ عَلَيكَ نَبَأَهُم بِالحَقِّ إِنَّهُم فِتيَةٌ آمنوا بربهم وزدناهم هُدًى وَرَبَطنَا عَلَى قُلُوبِهم} نحن نقص عليك يا مُحَمَّد الرسول المبعوث بالحق نبأهم بالحق إنهم فتية شباب آمنوا بربهم فزادهم الله هدى، وقوّى قُلوبهم وثَبَّتَهم على الإيمان، وكذلك يزيد الله الذِّينَ اهتدوا هدى ويؤتيهم تقواهم ويثبتهم، إنهم فتية شباب أعلنوا إيمانهم بالله الواحد، وآووا إلى كَهفٍ فِي الجَبَل فِرَارًا من بطش قومهم الكفَّار ومَلِكِهِم الجبَّار، ولَجَؤُوا إلى ربِّهم الذي آمنوا به وحده متضرعين إليه بالدعاء الخالص، وكذلك يفعل المؤمنون.

 

{رَبَّنَا آتِنَا مِّن لَّدُنكَ رَحمَةً وَهَيِّئ لَنَا مِنَ اَمرِنَا رُشدًا} دعاء بليغ ألهمهم الله إياه لأنه أراد بهم خيرًا، إنَّ حالتَهم عجيبة، فقد فرُّوا من الملك وقومهم الكفار إلى هذا الغار الكبير في الجبل، وهم يَجهَلُون عاقبتَهم ولا يدرُون بعد هذا الفرار مصيرهم، ولم يكونوا خطَّطُوا لِفِرَارِهِم هذا من قبل، ولا رَسَمُوا بعده خُطَّةً يسلُكُونَها، وذلك حسبما يبدو من دعائهم هذا، وهُم يعلَمون أن قومهم سيتقصَّون آثارهم، فكيف يكون المخرَجُ من هذا المأزق؟، وكيف يَصدرُون من هذا المورد الذي وَرَدُوهُ من غير اختيارٍ، إلاّ أنهم أُلجئوا إليه إلجاءً، فوكّلوا أمرهم إلى خالقهم الذي هداهم ورغبوا إليه أن يهب لهم من لدنه رحمة ويهيئ لهم من أمرهم رشدًا، رغبوا إلى ربهم أن يهب لهم من لدنه رحمة وهُم أَمَسُّ الناسِ حاجَةً إِلَى رحمة الله تغمرهم، ومَنْ غَيرُ اللهِ يَرحَمُهم في حالَتِهم هذه؛ ولذلك سألوها من لدنه، ورحمةٌ مِن لَدُن رَحِيمٍ تكون عظيمة وشاملة، والهدية على قدر المُهدِي.

 

فاستجاب الله دعاءهم وغمرهم برحمة الدنيا ورحمة الأبد وهيّأ لهم من أمرهم المبهَمِ الرَّهِيبِ رَشَدًا، ولم يكونوا هيَّؤُوا له خُطَّة قبل فِرَارهم هذا، فالتجأوا إلى العليم الخبير أن يُهَيِّئ لهم من لطفه وقدرته رشدًا يصيرون فيه إلى العاقبة الحسنى، فكان الله عند ظَنِّهم، وكذلك يُنَجِّي الله المؤمنين به، ويجعل لهم من أمرهم يُسرًا، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه عاقبة الأمور.

 

{فَضَربنَا عَلَى آذَانِهِم فِي الكَهفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَـثنَاهُم لِنَعلَمَ أَيُّ الحِزبَينِ أَحصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)}

 

هيّأ لهم ربُّهم من لُطَفِه رَشدًا فَضَرب على آذانهم حِجَابًا من النوم يحجُب عنها كل أصوات الدنيا حتى يَنَامُوا نَومًا هَنِيئًا يُخرِجُهم من عالَمِهم المليء بالهواجس والمخاوف إلى عالَم كلُّه سُبَاتٌ ورَاحَة، وردّ عنهم أيدي الظالمين وحجبهم عن أعين الطالبين، وأطال نومهم هذا سنين طويلة حتى تغيَّر أمر قومِهم وسلطانهم، ثم بعثَهم بعد نومهم ليظهر أمر الله العجيب في إنامتهم هذه المدة الطويلة التي لا يعتادُهَا النَّائِمُون، وحفظ أجسادهم من التآكل والبلى.

 

ويظهر أمر الله العجيب فِي بَعثِهم بعد نَومهم الطويل الذي يشبه البعث بعد الموت ليظهر العلم الحقيقي من الله بهذه المدة الطويلة ومقدارها، والناس يختلفون كثيرًا في أبسط من هذا، فنصب الله العليم لمدتهم علامة وهي هذه العُملَة التي نُقِشَت بِاسمِ مَلِكِ زَمَانِهِم، ولذلك ذكرها الله نصًّا في نبأهم منها، يتَّضِح للناس مقدار مدة لَبثِهِم التي أخبَرَ اللهُ عنها بالنص، وهي ثلثمائة سنين وزيادة تسع سنوات، وهي الفرق ما بين الحساب القمري والحساب الشمسي، جعلها الله ثلثمائة بالحساب الشمسي حتى يستيقظوا في نفس الطَّقس والفصل الذي ناموا فيه ولا يتغير عليهم الجو فيظنوا أنهم ناموا يومًا أو بعض يوم، ثم بعد ذلك يظهر لهم الفرق الكبير، كما سيأتي في الآيات التالية:

 

{نَحنُ نَقُصُّ عَلَيكَ نَبَأَهُم بِالحَقِّ إِنَّهُم فِتيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِم وَزِدنَاهُم هُدًى (13) وَرَبَطنَا عَلَى قُلُوبِهِم إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاَرضِ لَن نَّدعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَّقَد قُلنَا إِذًا شَطَطًا (14)}

 

النبأ هو الخبر الذي له شأن وقيمة، وهذا كذلك؛ لأن فيه أمرًا عجيبًا من آيات الله وفيه معتبر وموعظة للمتقين، {نَحنُ نَقُصُّ عَلَيكَ نَبَأَهُم بِالحَقِّ}

 

بِمَا هُو الصدقُ واليقينُ، وبِطَريقة الحق التي جَاء بِهَا القرآن في إيراد القصص مورد الاعتبار، لا مَورِد التفكّه والتسلية، كما اعتاد القصَّاصون، أمّا كلامُ الحقِّ فَهو حقٌّ لاَ بَاطِل فيه ولا لغو ولا فراغ بل هو القول الفصلُ، تنزيل من حَكِيمٍ حَمِيدٍ، وفِي العبَارَة إشارة لطيفة إلى أن القُصَّاصَ قد زادوا في القصة وحرَّفوا وغيَّروا كعادة أكثرهم، فجاء النبأ الحق من لدن عالِم الغيب والشهادة يقول الحق جل جلاله:

------------------

 

{إِنَّهُم فِتيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِم وَزِدنَاهُم هُدًى (13) وَرَبَطنَا عَلَى قُلُوبِهِم إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاَرضِ...}

إنَّهم شَبَاب، ويقال إنهم من أبناء الأغنياء والخاصة، هداهم الله وهم في سنِّ الشباب والفتوَّة وثبَّتَهم على الهدى، على دين المسيح ـ عليه السلام ـ وشريعته، وربط على قلوبهم أي ملأها قوة وشجاعة لم يهابوا الملك حين صارحوه بعقيدتهم في ربهم بكل إيمان وثبات، ويقال أنهم من مدينة تُسَمَّى "أفسُوس" وأكثر المفسِّرين أنها المدينة المشهورة اليوم باسم "طرسوس"، وهي مدينة قصدها الملِك في بعض رحلاته التي تحرك إليها ليفتن الناس وينظر هل يعبدونه ويعبدون آلهته أم هم على دين المسيح وكان في المدينة مؤمنون على دين المسيح يكتمون إيمانهم ومنهم هؤلاء الفتية الأبرار، ولم يكن بعضهم يعلم ببعض حتى هيّأ لهم من لُطَفِه فرصة يتعارفون فيها ويطَّلع بعضهم على حقيقة البعض الآخر، وذلك في عيد من أعياد قومهم الدينية التي اعتادوا فيها أن يخرجوا كلُّهم من مدينتهم ويتقرَّبوا إلى آلهتهم بالقرابين ويذبحون لها ويقدّمون لها من طعامهم، فخرج الناس ولم يتخلّف عنهم إلاّ المؤمنون المستترون، ومن هؤلاء المتثاقلين وراء الناس هؤلاء الشباب، كل واحد على حاله، جلس أحدهم في ظل شجرة يتفكّر أسفًا في حالة قومه الضالين، فرآه الثاني وظن أن الذي قعد به عن الناس هو نفس الهم والأسف الذي في قلبه فتقدّم منه فتعارفا وتصارحا وبث كل منهما لأخيه ما في قلبه، ثم جاء الثالث فالرابع إلى تمام عدتهم التي يعلمها الله، فبث كل منهم ما في نفسه فإذا هم على دين الواحد الأحد الإله الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤًا أحد، فاتخذوا لأنفسهم مكانًا سِريًّا يخلون فيه لعبادة ربهم فكانوا بعد ذلك يجتمعون مستخفين من قومهم، ولم يمض عليهم وقت طويل حتى حانت رحلة الملك الجبار ولم تسلم مدينتهم من فتنته فدخلها وأقام لهم مهرجانًا دينيًا أمر جميع الناس بالخروج فخرجوا وجعلت جواسيس الملك يتعقَّبون المتخلفين ويفضحون أمرهم للملك فيقتل من يشاء ممن يأبى عبادة آلهته، ويسجن ويعذب من يشاء منهم، حتى رفع غليه أمر هؤلاء الفتية فجيء بهم إليه فلما مثلوا عنده فرض عليهم أن يسجدوا لآلهته، فَأَبَوا ذلك وقالوا:

 

{لَن نَّدعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَّقَد قُلنَا إِذًا شَطَطًا}، فغضب الملِك وهدَّدهم بالتعذيب والقتل، فأصرُّوا على الثبات على عقيدتهم، فعزم على قتلهم لولا أن بهره ما رأى من هيئتهم الحسنة وغضارة شبابهم ونضارة وجوههم، فأشفق على هذه الغصون الطرية أن تهصر في صباها فأمهلهم أيامًا ليتفكروا في أمرهم، وظن أنهم سيرجعون عن دينهم الجديد إلى وثنية أجدادهم الموروثة، وما درى الجاهل أن بشاشة الإيمان إذا خالطت القلوب لن تزايلها وأنها لن يُثنِيَها عن دينها تهديدٌ بالقتل والصَّلب أو التَّعذيب، فسلَّموا أمرهم لله الذي ربط على قلوبهم وزادهم الله هدى، وثبتوا على إيمانهم ولم يرهبوا من تهديده إياهم، فتركهم وخرج إلى مدينة أخرى على أن يرجع إليهم بعد أيام، وقيل إنه أمر أن يجرَّدوا من ثيابهم الحسنة وأن تنزع منهم خواتمهم الذهبية وزينتهم إهانة لهم، ومن لُطَفِ الله بهم أن لم يُقيِّدهم ولم يَسجُنهم وتَرَكهم أحرارًا وأمهلهم ليتفكروا في أمرهم، فجلسوا يتفكرون في طريقة تنجيهم من هذا الجبار الذي لا يرحم، فاهتدوا أن يفروا في وقت يغفل فيه الناس إلى غار في جبل من الجبال القريبة من مدينتهم، ففعلوا ذلك بعدما جمعوا لهم شيئًا من المؤونة لا يكفي إلاّ لأيام قليلة، كان هذا قرارهم فمضوا فيه قائلين:

 

{رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاَرضِ لَن نَّدعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَّقَد قُلنَا إِذًا شَطَطًا (14)} والشَّططُ: القول البعيد عن الحق الذي لا يفوَّه به عاقل لبيب، ولا ينطق به إلاّ من أعمى الله بصيرته، فلم يعد يبصر الأشياء على حقيقتها وأعماه التقليد فهو في ضلاله يعمه من غير سلطان بيّن، قالوا ربنا الذي خلقنا وخلق السماوات والأرض هو الذي نعبده وحده، وندعُوه وحده لن ندعُوَ من دونه إلهًا آخر؛ إننا إن فعلنا ذلك نقول إذن باطلا وزورًا تعالى ربنا عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا.

--------------------------------

 

{هَؤُلاَءِ قَومُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّولاَ يَاتُونَ عَلَيهِم بِسُلطَانٍ بَيِّن فَمَن اَظلَمُ مِمَّن افتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا (15) وَإِذ اعتَزَلتُمُوهُم وَمَا يَعبُدُونَ إِلاَّ اللهُ فَاوُوا إِلَى الكَهفِ يَنشُر لَكُم رَبُّكُم مِّن رَّحمَتِهِ وَيُهَيِّئ لَكُم مِن اَمرِكُم مَّرفِقًا (16)}

 

إن قومَنا هؤلاء يعبدون آلهة من دون الله خالق السماوات والأرض ما لهم بها من سلطان بيِّن، بل هم يفترون على الله الكذب، ولا أحد أظلم ممن افترى على الكذب، تبرَّأنا منهم ومن عبادتهم، وبَدَا بيننا وبينهم العداوة والبغضاء، وإنا إذ اعتزلناهم في عبادتهم ونبذنا شركهم، فلنعتزلهم في سَكَنهم ولا نُخَالِطهم، ولْنَأوِ إِلى الكَهفِ لعلَّ الله يرحمنا ويُهيِّئ لنا من أمره مرفقًا، أحسنوا الظن حين أحسنوا العمل، فكان الله عند ظنِّهم فلم يخيبهم فنشر الله لهم رحمته وهيّأ لهم من أمرهم رشدًا ومرفقًا، وكذلك ينجي الله المؤمنين ويجعل الله للمتقين مخرجًا من كل ضيق، ويفتح بينهم وبين قومهم بالحق وهو خير الفاتحين.

 

أخذ كلٌ منهم مقدارًا من الدَّراهم، وكانوا أولاد أغنياء فذهبوا في الموعد المضروب إلى المكان المقصود، خرجوا مستخفين لا يشعر بهم أحد إلاّ كلبًا لأحدهم كان قد ربّاه، وأَلِفَهم فَتَبِعَهم فطردوه ورموه بالحجارة فأنطقه الله، وقال لهم: "ما الذي يُخيفكم منّي؟، اتركوني اتَّبِعكم، فإني أحبُّكم يا أولياء الله، اتركونِي أحرُسكُم، فتركوه، والعبرة من أمر هذا الكلب أنَّ رفيق أولياء الله لاَ يشقى ولو كان كلبًا، وأن محبة الرَّحمن وأولياء الرحمن ترفع مقام الكلاب، فتدنيهم من رحمة الله مع الذِّينَ أنعم عليهم من النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.

 

مَضَوا سائرين وكلبُهم يَتبَعُهم حتى وصلوا إلى الكَهف المقصود، فآوَوا إليه ومكثوا فيه أيامًا يعبُدون الله يصلُّون له، ويسبِّحُون ويصُومُون ويُفطِرُون على بُلْغة الأقوات، وإذا نَفذ زَادُهم بَعَثوا أحدهم إلى المدينة

 

مستخفيًا في ثيابِ أحد الرعاة يشتري لهم طعامًا، ويتنطَّس لهم الأخبار، وهم على ذلك حتى رجع الملك من جولته ودخل المدينة ثانِي مرَّة واقترب الموعد المضروب لهم، ففتَّش عنهم فلم يَجدهُم، وأمر بإحضار آبائهم فأمر الآباء بإحضار الأبناء وتوعَّدهم بالعقاب إن لَم يفعلوا، فاعتذروا بأنهم لا يعلمون من أمرهم شيئًا وأنَّهم مُتحيِّرون على مَصيرهم وأنَّهم آسفون غيرُ راضين على هذا التصرّف، وقد يكون هؤلاء الآباء من الذِّينَ يكتُمون إيمانهم وأنهم راضون على أبنائهم داعون لهم بالرحمة والتوفيق، ثم إن الملك أمر قوَّاته بالتفتيش عنهم فسلكوا في ذلك كل سبيل وصعدوا الجبال وتتبَّعوا كهوفها وشعابها حتى عثروا على الكَهف الذي آووا إليه، ووقفوا على بابه وأبصرُوهُم وهُم رُقُود وكلبُهم باسط ذراعيه نائم بباب الغار، ولكنَّ الله إذا دخل مَنْ يشاء منْ عبيده في حِرزه فلن تناله الأيدي ولو كانت بطَّاشة وقوية، حفظهم بحفظه وحرسهم بجند من الرعب ألقاهُ في قلوب كل من يطَّلع عليهم، وما يعلَم جُنُودَ ربِّك إلاّ هُو، فتولَّى الملك ومن معه فارِّين مرعُوبِين لا تنفعهم قُوَّتُهم، ولا يغني كيدهم شيئًا.

-------------------------

 

{وَتَرَى الشَّمسَ إِذَا طَلَعَت تَزَّاورُ عَن كَهفِهِم ذَاتَ اليَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَقرِضُهُم ذَاتَ الشِّمَال وَهُم فِي فَجوَةٍ مِّنهُ ذَلِكَ مِن اَيَاتِ اللهِ مَن يَّهدِ اللهُ فَهُو الْمُهتَدِ وَمَن يُضلِل فَلَن تَجِدَ لَه وَلِيًّا مُّرشِدًا (17) وَتَحسِبُهُمُ أَيقَاظًا وَهُم رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُم ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيهِ بِالوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعتَ عَلَيهِم لَوَلَّيتَ مِنهُم فِرَارًا وَلَمُلِّئتَ مِنهُم رُعبًا (18)}

 

يُخاطِب الله نبيَّه، وتَالِي القرآنَ كَأنَّه يَرَاهم ويُشَاهِد آياته فيهم؛ ذلك لأن أسلوبَ الخطاب أشدُّ تأثيرًا في النَّفس، فَرُؤيتُها وهي تسمَع كلام الله الصادق رؤية اعتبار وإيمان، فكأن الله يرسم لنا لوحًا لهيئة كهفهم واتجاهه، ويبدو أنه يتجه نحو النجمة القطبية أي نحو الشمال حتى تكون الشمس تميل عند طلوعها عن يمين الكَهف، وتقرضهم عند غروبها أي تقطعهم ذات الشمال، ويمين الكَهف هو يمين الواقف على بابه متجهًا نحو خارجه، وشماله كذلك، وهم في فجوة منه أي في براح واسع لا يزحم بعضهم بعضًا، كل ذلك وما تقدم من شأنهم، وما سيأتي في الحديث عنهم من آيات الله التي تملأ النفس والقلب إيمانًا بالله وقُدرته ورحمته بأوليائه ولُطَفِه بهم.

 

{مَن يَّهدِ اللهُ} من يُردِ اللهُ هدايتَه فهو المهتدي حقًا، ومن يضلل ويخذل فلن تجد له في أهل السماوات ولا في أهل الأرض وَلِيًّا يُرشِده، فالمهتدي من هداه الله والضال من أضله الله ولم يرد هدايته، فاجعلنا ممن هديت يا هادِيَ الذِّينَ آمنوا إلى صراط مستقيم.

---------------------

 

{وَتَحسِبُهُمُ أَيقَاظًا وَّهُم رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُم ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ}

 

فهيئتُهم وهم نيام كهيئة الأيقاظ على هيئة حسنة، لا تنكشف لهم سوءة، ولا يبدو فيهم شعث وهم يتقلَّبون بأمر الله، حتى لا تتآكل جنُوبُهم من هذا الرقاد الطويل، ولا يضرهم حر ولا قر ولا ريح صر، وحتى كلبهم شملته عناية الله ولطفه وهو الآخر آية من آيات الله ينام هذا النوم الطويل باسطًا ذراعيه على باب الغار يحفظه الله كما يحفظهم من تقلُّبات الأجواء الجبليَّة عبر الفصول المتعاقبة، من يراه باسطًا ذراعيه يرهبه ويظنه أسدًا ترتعب منه النفوس، وترتعد منه الفرائص فيُولي فارًّا بنفسه خائفًا، فَيَا لَعِنَاية الله إذا لحظت من يريد من عبيده، فهو الآمن لا تناله المزعجات، ينام مطمئنًا ولا تزعجه الليالي التي هي بالعجائب حبالى مثقلات، ولا يبليه كرُّ القرون المتعاقبات، تلك آيات الله الهاديات.

 

ولنرجع إلى التأمل في أسلوب القرآن وعرضه للقصة فهو أسلوب بدْع من الأساليب، وكلام فيه روح الدعوة والتذكير لا كسائر الكلام، إذ لو كان كلامُ غيرِ الله لَسَرَد القصة سَردًا متتابعًا خاليًا من الروح، أما كلام الله ففيه العجب العجاب الذي لا ينقضي ولا يبلى على التكرار، بل لا يزداد إلا عُلُوًّا وتَمكُّنًا وحلاوة في قلوب المتدبرين، فهو في أثناء الكلام عن هيئتهم وحالتهم يُلفتُنَا إلى آيات الله فيهم حتى لا ننسى المقصود من عرض نبأهم وهو الاعتبار والاهتداء، ويتبين لنا على ضوء هذا البيان القرآني العجيب أن الناس في كل زمان ومكان على فريقين شتان ما بينهما: فريق يتولَّى اللهُ هِدَايَتَهُ فَهُو المهتدي، وفريقٌ يَخذُلُه الله ويترُكه ما اختار لنفسه من تقليد الآباء والأجداد، لا ينظر في آيات الله بالعقل الذي وهبه الله إياه، بل يَعمَى عنها ويتصامَمُ عن النُّذر، كأن في أذنيه وقرا، فهو في الضلال يَعمَهُ، لَن تجد له وليا مُرشدا ولو حرصت على هدايته، {إِنَّكَ لاَ تَهدِي مَن احبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهدِي مَن يَّشَاءُ} (القصص:56)، ثم يستأنف ويعود إلى بقية الحديث في موضوع قصتهم فيعرض منها المشاهد الباقية التي لها اتصال وثيق بالموعظة والاعتبار كما تقدم بيانه.

 

ثم لننتقل إلى المشهد التالي، وهو استيقاظهم بعد نومهم الطويل وما جرى لهم فيه، قال الله تعالى:

{وَكَذَلِكَ بَعثنَاهُم لِيَتَسَاءَلُوا بَينَهُم قَالَ قَآئِلٌ مِّنهُم كَم لَبِثتُمْ قَالُوا لَبِثنَا يَومًا اَو بَعضَ يَومٍ قَالُوا رَبُّكُمُ أَعلَمُ بِمَا لَبِثتُم فَابعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُم هَذِهِ إِلَى المَدِينَةِ فَليَنظُر اَيُّهَا أَزكَى طَعَامًا فَليَاتِكُم بِرِزقٍ مِّنهُ وَليَتَلَطَّفَ وَلاَ يُشعِرَنَّ بِكُمُ أَحَدًا (19) إِنَّهُمُ إِن يَّظهَرُوا عَلَيكُم يَرجُمُوكُمُ أَو يُعِيدُوكُم فِي مِلَّتِهِم وَلَن تُفلِحُوا إِذًا ابَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعثَرنَا عَلَيهِم لِيَعلَمُوا أَنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيبَ فِيهَا إِذ يَتَنَازَعُونَ بَينَهُمُ أَمرَهُم فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيهِم بُنيَانًا رَّبُّهُمُ أَعلَمُ بِهِم قَالَ الذِّينَ غَلَبُوا عَلَى أَمرِهِم لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيهِم مَّسجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلاَثَةٌ رَّابِعُهُم كَلبُهُم وَيَقُولُونَ خَمسَةٌ سَادِسُهُم كَلبُهُم رَجْمًا بِالغَيبِ وَيَقُولُونَ سَبعَةٌ وَثَامِنُهُم كَلبُهُم قُل رَّبِّي أَعلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعلَمُهُم إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمُ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا وَلاَ تَستَفتِ فِيهِم مِّنهُمُ أَحَدًا...}

 

وكذلك من آيات الله العجيبة بعثُهم من نومهم على هيئتهم الأولى من الصحة والنضارة والشباب بعد هذه القرون المتعددة، لم ينل الدهر منهم شيئًا، فذلك من آيات الله، وحكمة هذا البعث أن يشعروا بلُطَف الله بهم واستجابته لدعائهم وليزدادوا إيمانًا على إيمانهم بعد أن يعرفوا قدرة ربهم وعنايته بهم في إنامتهم هذه المدة الطويلة وبَعثِهم منها فيزدادوا يقينًا بالبعث، وكذلك يثبِّت الله الذِّينَ آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، كما طَمأَنَ قَبلهم قلب خليله إبراهيم في قضية البعث بعد الموت، والقصة مشهورة وهي في سُورَة البقرة، فالقصد من هذا البعث الأول إذن هو التذكير بالبعث الآخر، ليتساءلوا بينهم، ثم تنكشف لهم الحقيقة بعد التساءل.

 

استيقظُوا من نومهم قُبيل غروب الشمس وكانوا قد ناموا في صدر النهار فشعروا بالراحة فظنوا أنهم ناموا أكثر من يوم وقال بعضهم: {بَعضَ يَومٍ} أي من الصباح إلى المساء، غير أنهم لم يطمئنوا لهذا القول وبقوا حائرين في أمرهم لا يدرُون الحقيقة، ولن يتركهم الله في هذه الحيرة، بل سيكشف لهم جلية أمرهم.

 

فأرسلوا واحدًا منهم إلى المدينة ليشتري لهم طعامًا وأَوصَوهُ أن يتلطَّف ولا يشعرن بهم أحدًا من الناس ظنًا منهم أن أهل المدينة هم الذِّينَ تركوهم في غلبة وقهر من الكفر فخافوا إن هم ظهروا عليهم ـ أي كشفوا على أمرهم ـ سيَرجُموهم أو يعيدوهم في ملتهم، أي في ملة الكفر بالإكراه والفتنة، ولا يَأمَنُونَ على أنفسهم الفتنة، فإنهم إن يفتنوا على دينهم لن يفلحوا أبدًا، والذي خافوه من العودة في الكفر أعظم من الذي خافوه من الرجم والقتل، فإنهم علَّقوا الخسران الدائم وعدم الفلاح على الثاني لا على الأول، وما دروا أن الله قد هيَّأ لهم من أمرهم مرفقًا كما هيأ لهم من أمرهم رشدًا.

 

بعثوا أحدهم بدارهم فضية من بعض ما احتفظوا به لِقُوتهم، وأمروه أن يقتصد ويلتمس لهم من أزكى الطعام ومن أبركه وأرخصه وأطهره؛ لأنهم عهدوا أن أهل مدينتهم يذبحون لأصنامهم وقد علموا أن ما ذبح عليها حرام في شريعة الله التي آمنوا بها، أرسلوه وأوصوه أن يبالغ في التلطُّف.

 

فذهب إلى المدينة فإذا الناس غير الناس الذِّينَ تركهم تغيرت الوجوه وتغيرت كثير من المعالم حتى ظن أنه ضل طريقة، فسأل عن اسم المدينة فإذا هو "أفسوس"لم يتغير فاستغرب أمرهم فسأل عن الملك فإذا هو اسم جديد ويسأل عن اسم الملك المعهود فاستغرب الناس وقالوا ذلك ملك مضى، ومضى زمانه، وطَوَتهُ القرون فلم يبق له أثر فإذا ملكهم مؤمن، ثم إنه قصد السوق ليشتري الطعام، فلما ناولهم دارهمه قالوا هذه دراهم مضى زمانها فلم يعد لها وجود، فاجتمع عليه الناس وكثر التساؤل، وظنوا أنه اكتشف كنزا قديما فاشتد طمعهم أن يقفوا على هذا الكنز، وبعد المحاوله ارتفع أمره إلى أهل السلطة فأقبلوا عليه يسألونه عن جلية أمره فأخبرهم وقد اطمأن على نفسه لما وجد أكثرهم مؤمنين ويحكمهم ملك مؤمن.

وقد كثر الجدل في زمانه في أمر البعث فاعتزلهم الملك ولبس مسوح العبادة، فرغب إلى الله أن يثبّته ويعنيه عليهم، فأرسل الله له هذا الشخص من أهل الكَهف الذِّينَ كثر فيهم الجدل ليظهر الله له على يده أمر البعث وتظهر آية الله في نوم هؤلاء الناس قرونا عديدة ثم يبعثون على حالتهم الأولى، ليدُل نومهم وبعثهم على قدرة الله.

 

وأمر عجيب كهذا الأمر، يدل على صدق أخبار الرسل، وإذا ظهر أمر الله في جماعة دل تحققُّهُ في جميع الناس، وبَعثٌ في الدنيا مِثل هذا البعث، يدل على البعث الآخر بعد الموت، والله على كل شيء قدير.

----------------------------

 

{وَكَذَلِكَ أَعثَرنَا عَلَيهِم لِيَعلَمُوا أَنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيبَ فِيهَا}

 

العثور على الشيء هو الوقوف عليه فجأة ومن غير سابق معرفة به، كذلك أعثر الله الناس على هؤلاء الفتية الذِّينَ ناموا قرونًا واستيقظوا فكان نومهم الطويل وبعثهم آية على ما آمن به الملك، وأغلب الناس من رعيته من آمن بالبعث يوم القيامة للجزاء، فعلموا أن وعد الله حق، وأن الساعة لا ريب فيها، وأن الله الذي بعث أهل الكَهف يبعث من في القبور، فانحسم النزاع وأفلجت حجة المؤمنين، وزهق الباطلُ، إن الباطلَ كان زهوقًا.

 

ثُمَّ إنَّ الملك ورَعيَّته رافقوا ذلك الرجل إلى الغار حيث يثوي أصحابُه، فوقفوا بباب الغار ودخل هو على أصحابه فأخبرهم الخبر وازدادوا إيمانًا بما شرح الله له صَدرهم من أمر الساعة والبعث والجزاء، ثم إن الله أعادهم إلى نوم آخر وهو النوم الذي لا بعث بعده حتى تقوم الساعة، قبض الله أرواحهم إليه وآواهم إلى رحمته، وجعلهم آيةً للناس فوقع فيهم نزاع بين الناس.

------------------------------

 

إِذ يَتَنَازَعُونَ بَينَهُمُ أَمرَهُم فَقَالُوا ابنُوا عَلَيهِم بُنيَانًا رَّبُّهُمُ أَعلَمُ بِهِم قَالَ الذِّينَ غَلَبُوا عَلَى أَمرِهِم لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيهِم مَّسجِدًا}.

 

لا يزال النِّزاع قائمًا إلى يوم الناس هذا في أمر أصحاب الكَهف في موطنهم وقومهم وفي عُدَّتهم ونومهم، وكذلك تنازع الناس الذِّينَ وقفوا على كهفهم ومرقدهم، حين ضرب الله على آذانهم الكرة الثانية فمن قائل ابنوا عليهم باب الكَهف ربُّهم أعلم بحقيقة نومهم الأول والثاني، وهو أعلم بعاقبتهم ومصيرهم.

 

وإضافة الرِّب إليهم إشارة إلى أن قائلي هذا القول مؤمنون ومُوالُون لهم وواثقون أن الله سيتولَّى أمرهم كما تولاَّه من أول يوم وأكرم مثواهم، ولا يكون مصيرهم بعد نومهم الثاني إلاَّ حسنًا، فهؤلاء ناس فازوا بِمَعيّة الله وهذا ما تدل عليه كلمة {رَبُّهُم}، وقال الذِّينَ غلبوا على أمرِهم وهم الملِكُ ووُزَرَاؤُه وأعيان القوم: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيهِم مَّسجِدًا} يصلِّي فيه الناس ويذكُرُون الله ويتخذونه عيدًا، والفرق بين العبارتين يدلُّ أن هذا هو الذي وقع فعلا، فإن ضعفاء الناس اقترحوا رأيهم اقتراحًا ولم تكن لهم قوة التنفيذ فقالوا ابنوا عليهم بنيانًا، أما الغالبون فقرَّروا رأيهم قرارًا، قالوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيهِم مَّسجِدًا} فكان قرارُهم هو النافذ، ثم إن النزاع وقع فيمن علم بأمرهم بعد زمانهم، تنازعوا في عددهم.

---------------------------

 

{سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُم كَلبُهُم وَيَقُولُونَ خَمسَةٌ سَادِسُهُم كَلبُهُم رَجمًا بِالغَيبِ وَيَقُولُونَ سَبعَةٌ وثَامِنُهُم كَلبُهُم قُل رَّبِّي أَعلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعلَمُهُمُ إِلاَّ قَلِيلٌ}.

 

تنازعوا في عدتهم والنِّزاع مستمر، سيقول الناسُ: "هم ثلاثة رابعهم كلبهم"، ويقولون: "خمسة سادسهم كلبهم"، ويقولون: "هم سبعة وثامنهم كلبهم"، أخبر الله تعالى بتنازع الناس فيهم ولم يحسم النزاع جريًا على أسلوب القرآن الفصل الحكيم؛ لأن الحكمة لا تتعلَّق بذكر عُدَّتِهم قلّت أو كثرت، فالتنازع في هذا لا يفيد وهو من ترف العلم، وإن كان المتأمل في الآية يُلاحظ أن العبارة تشير إلى أنَّ القولين من الرجم بالغيب وتعرض عن القول الثالث، ولا تنفي العلم بعُدَّتِهم عن جميع الناس بل تثبِته للبعض، ولذلك يقول ابن عباس: "أنا من القليل الذي يعلمهم، هم ثمانية"، ولابن عباس وجهة نظر، ولهُ معتمده في استدلاله على صحة قوله، وهو ترجمان القرآن، آتاه الله الفهم وعلَّمه التأويل، ويؤيد ابن عباس في رأيه هذا كثير من العلماء، واستدلوا بأدلَّة بسَطَها الإمام الفخر الرازي في تفسيره، والحكمة تتعلق بما قصَّ الله عنهم لا بما طوى من أمرهم، ولذلك نهى نبيه أن يجادل فيهم الناس إلاَّ جدالا بسيطًا، والمراء ممقوت عند الله.

-------------------------

 

{فَلاَ تُمَارِ فِيهِمُ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا وَّلاَ تَستَفتِ فِيهِم مِّنهُمُ أَحَدًا}.

 

فلا تجادل في أحوال أصحاب الكَهف إلاَّ جِدَالاً ظاهرًا، إلا لحاجة فيه، ولا تستفت فيهم من أهل الكتاب أحدًا إنهم لا يعلمون تفاصيل أمرهم، وقد علَّمك الله من أمرهم ما تقيم عليهم به الحجة، وتجلي به العبرة، وفي ذلك ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أما القول فيهم بغير علم فهو رجم بالغيب، شبَّهه الله بالرجم، ورَميُ الشيء بالغيب وهو لا يراه يذهب طائشًا لا يصيب الغرض، فما أبين هذا التشبيه وما أدلَّه على المقصود، وفيه تقبيح لكل كلام بغير علم، {وَلاَ تَقفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ} (الإسراء:36)، ثم إن الله علَّم نبيّه وكل من يقتدي به إلى كلمة هي من حسن الأدب مع الله عالم الغيب والشهادة مُقدِّر الأمور بمقاديرها ومواقيتها، فقال جل من قائل:

---------------------------

 

{وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيءٍ اِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) اِلاَّ أَن يَّشَاءُ اللهُ وَاذكُر رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُل عَسَى أَن يَّهدِيَنِ رَبِّي لِأَقرَبَ مِن هَذَا رَشَدًا (24)}.

 

إرشادات وتوجيهات من الله العليم الحكيم تأتي في نواهٍ وأوامر حكيمة يوجهها الله تعالى إلى نبيّه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ ولكل قارئ للقرآن من أمته، هي الهداية لهم وهي التي توجب لهم من الله الرحمة وحسن العواقب في الدنيا والآخرة.

 

جاء هذا النهي مؤكَّدًا بنون التوكيد الثقيلة لأهميته وتأكد الأخذ به؛ ذلك لأن عواقب الأمور كلُّها بيد الله تعالى، والمخلوق لا يملك منها شيئًا ولو كان نَبِيًّا من أنبيائه، وهو أولى الناس أن يتأدب مع الله فلا يقول لشيء أراد أن يفعله غدًا أو بعد حين إني فاعل ذلك إلاَّ أن يشاء الله فيعلق الأمر بمشيئته تعالى إيمانًا ويقينًا أنَّ ما شاء الله كان، وما لَم يشأ لَم يكن، فعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء عِلمًا .. وهكذا يُؤدِّبُنا ربُّنا تعالى، ويُعلِّمنا ما ينفعنا ويحسن عواقبنا في الدنيا والآخرة.

 

{وَاذكُر رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}.

 

ذلك لأن النسيان طبع في الإنسان لا يسلم منه أحد فأمرنا عندما ننسى أن نذكره حين نتذكر ولو بعد حين، وذكر الله نور لنا، وحصن حصين من عدوِّنا الشيطان الرجيم.

 

{وَقُل عَسَى أَن يَّهدِيَنِي رَبِّي لِأَقرَبَ مِن هَذَا رَشَدًا}.

 

أكثر المفسرين جعلوا دلالة اسم الإشارة {هذا} على حال أصحاب الكَهف أو آيتهم العجيبة، فقال بعضهم معناها: "عسى أن يهديني الله لأقرب من حال أصحاب الكَهف في الهداية والرشد"، وقال آخرون معناها: "عسى أن يؤيدني الله من المعجزات والآيات بما هو أقرب من آيتهم رشدًا وأدل على صدق نبوَّتي ورسالتي"، وكأن هذا عَودٌ على بدء حيث يقول ربنا ـ تَبَارك وتعالَى ـ:

 

{أَم حَسِبتَ أَنَّ أَصحَابَ الكَهفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنَ اَيَاتِنَا عَجَبًا}.

 

إنَّ ما عند الله من الآيات البينات ما هو أقرب رشدًا وأهدى للحق من آية أصحاب الكَهف، وحملوا معنى اسم الإشارة {هَذَا} هنا على هذا المعنى، وقال غيرهم بغير هذا التأويل واضطربوا كثيرًا في تفسيرها، ولكن يبدو أن في كلامهم شيئًا من التكلُّف، والذي يظهر لي من معناها ـ والله أعلم ـ وهو الأقرب إلى الصواب في نظري أن معناها يرجع إلى أقرب آية تليها والتي هي توجيه رشيد من ربنا، وتأديب حسن منه لنبينا ولنا جميعًا.

 

{وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا اِلاَّ أَن يَّشَاءُ اللهُ وَاذكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُل عَسَى أَن يَّهدِيَنِي رَبِّي لِأَقرَبَ مِن هَذَا رَشَدًا}.

 

إذا عزمت أيها المؤمن على عمل فتوكل على الله، واعلم أن مقاليد الأمور كلها بيده وهو العليم بعواقب الأمور وإليه مصيرها، وقل: "سأفعل إن شاء الله"، وإذا نسيت أن تذكر الله في مبدإِ أمرك فاذكُره حين تتذكر، ولا تكن ساكنًا كل السكون إلى عزمك فلعل عزمك هذا يكون ضررًا لك وأنت لَم تشعر به، فكثيرًا ما تنبه الناس أو ينبههم إخوانهم وأصدقاؤهم إلى أخطار كادوا أن يقعوا فيها لعزمهم على أشياء تكمن فيها هذه الأخطار وما كانوا يتصورونها لولا أن نبَّههم نصحاؤهم، فإذا كان هذا يقع بين العباد الذِّينَ لا يعلمون الغيب، ولا يدرون بالعواقب إلاَّ تفرسًا وتخرصًا، فكيف بعالِم الغيب والشهادة ومالك العواقب؟، ما ظنك به؟، فتوكل عليه وفوِّض جميع أمورك إليه.

 

{وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا اِلاَّ أَن يَّشَاءُ اللهُ وَاذكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُل عَسَى أَن يَّهدِيَنِي رَبِّي لِأَقرَبَ مِن هَذَا رَشَدًا}

 

لا تطمئن إلى الأمر الذي عزمت عليه، وفوِّض فيه أمرك إلى من بيده عواقب الأمور عالِم الغيب والشهادة وقل عسى أن يهديني لأقرب من هذا الأمر رشدًا، وأسلم منه عاقبة، ولله عاقبة الأمور.

 

هذا الذي أراه من معنى اسم الإشارة (هذا) في هذه الآية ولم أره لأحد من المفسرين قبلي، وهو معنى قوي لا ينبغي إلاَّ أن نعتمد عليه؛ لأن فيه تقوية لإيماننا بربنا وتفويضنا لأمورنا إليه وتوكلنا عليه، وفيه حسن الرضا بما قضى الله لنا وقدَّر، إذا لَم يكن ما نريدُ فَلنُرِد مَا يَكُون، عسى أن يكون ما كان أقرب رشدًا لنا مما أردناه، وما اختار الله لنا خير مما اخترناه لأنفسنا لدنيانا وآخرتنا، ونحن نؤثر الحياة الدنيا والله يؤثر لنا ما هو خير وأبقى، فَلنُردَّ جميع أمورنا إليه ولنتوكَّل في كل ما نفعله ونعتزم فعله عليه، ولنتوجه إليه وحده بالدعاء الخالص أن يجعل عاقبة أمرنا سلامة ورشدًا، إن الله يحب المتوكلين.

 

وللفقهاء في تأويل هذه الآية نظر فيما يتعلق بالأحكام فقال بعضهم في معنى: {وَاذكُر رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}، أي إذا نسيت الصلاة فصل إذا ذكرت وهذا وإن كان معناه صوابًا، غير أن الآية لا يقتصر معناها على هذا الحكم الذي عرف من الحديث النبوي الصحيح: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها أنَّى ذكرها"، وقال آخرون إن في الآية حكمًا للاستثناء المنقطع المتأخر في الأيمان إلى عام وإلى ما بعد عام، وعزوا هذا القول إلى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فقالوا: "إذا حلفت على أمر ونسيت أن تستثني في أثناء قسمك، فاستثن إذا ذكرت وينفعك الاستثناء إذا قلت إن شاء الله، ولو بعد مدة طويلة، فلا يلزمك الحنث ولا الكفارة"، وهذا التأويل بعيد يأباه المحققون من الفقهاء إذ لو كان الأمر كذلك ما لزمت أحدًا كفارة يمين بل كان يستثني في أي وقت تذكر، كيف وقد شرع الله في كتابه الكريم كفارة الأيمان وفصَّلها تفصيلا كما أرشده عبده "أيوب"إلى التحلل من قسمه على أن يضرب امرأته مائة سوط إن شُفي من مرضه، فلما شفاه الله أفتاه الله بما يبره في قسمه فقال {وخذ بيدك ضغثًا فاضرب به ولا تحنث} (ص:44).

 

أمره الله أن يأخذ مائة سوط حزمة واحدة فيضرب بها امرأته حتى لا يحنث في قسمه ولو كان الاستثناء المتأخر ينفع لأرشده إليه، ثم إن النبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ يقول: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفِّر عن يَمينه، ولَيأت الذي هو خير"،فظهر بما تقدم بطلان قولهم إذ لو كان صحيحًا لَقَال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ: "فليستثن"،ولَم يأمرنا بالتكفِير الذي فيه التكليف والمشقة، والتيسير أحب شيء إلى نبيِّ الرحمة ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ.

 

أما فتوى جمهور العلماء في الاستثناء في اليمين فهي أن يكون متصلا بالقَسَم غير منفصل عنه كأن يقال: "والله لأفعلن كذا، إن شاء الله"، وقال بعضهم: "يجب أن يذكر الاستثناء قبل الفعل المقسم عليه فيقول: "والله إن شاء الله لأفعلن كذا أو لا أفعل كذا"، حتى يكون نافعًا في عدم انعقاد اليمين، وأوسع ما أفتوا به في الموضوع أن يكون الاستثناء في المجلس نافعًا، حتى ولو تأخر عن القسم بعض دقائق، ولعل هذه الفتوى تكون مقبولة، واليمين عقد كسائر العقود، والله يخاطبنا بالإيفاء بالعقود {يا أيها الذِّينَ آمنوا أوفوا بالعقود} (المائدة: 01)، فلو كان الاستثناء ممدودًا غير محدود لتحلَّل الناس من جميع العقود، وهذا طبعًا كلام لا يصح في العقل ولا في النقل، وزعموا أن ابن عباس أفتى بمد الاستثناء إلى عام، ولو صحَّ هذا عنه لكانت فتوى الرسول ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ بالتَّكفير مقدمة على فتوى غيره، وما من عالم إلاَّ وفي علمه مأخوذ ومتروك ما خلا رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ.

------------------------

 

{وَلَبِثُوا فِي كَهفِهِم ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازدَادُوا تِسعًا (25) قُلِ اللهُ أَعلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيبُ السَّمَاوَاتِ وَالاَرضِ أَبصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَّلِيٍّ وَلاَ يُشرِكُ فِي حُكمِهِ أَحَدًا (26)}

 

من المعلوم أن أصحاب الكَهف لبثوا في كهفهم مدة طويلة وأن الناس اختلفوا في تحديد هذه المدة كما هو الشأن في أمثال هذه الأحداث العجيبة، يختلف فيها الرواة، وللقصاص حظُّهم من المبالغة، فبيَّن الله تعالى مقدار لبثهم وقطع النزاع ولم يحك أقوال المختلفين في مدة اللبث كما حكاها في عدتهم ولعلها لكثرتها أعرض الله عن تفصيلها إذ يقتضى ذلك إسهابًا ليس هو من أسلوب القرآن الحكيم، بل ذكر القول الفصل وذيَّله بقوله: {قُلِ اللهُ أَعلَمُ بِمَا لَبِثُوا}، وفي هذا إشارة إلى أقوالهم المختلفة، وإن العلم الحقيقي عند الله.

 

ثم إن الله تعالى أضاف الكَهف إليهم هذه المرة وفي هذه الإضافة نكتة لطيفة وهي أن هذا الكَهف لما صار مأوى لهم وطال مكثهم فيه، ثم صار مدفنا لهم نسب إليهم واختصوا به، فهو منزلهم الذي سيمكثون فيه إلى الحشر وما أروع التعبير القرآني.

 

{وَلَبِثُوا فِي كَهفِهِم ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازدَادُوا تِسعًا}

 

وهنا تأتي نكتة أخرى لطيفة، وهي كيف أنه تعالى أخَّر ذكر التسع في الذكر، ولم يذكرها مع العدد الأول فلم يقل ثلاث مائة وتسع سنين؟

 

ذلك لما سنذكره وهو أنه في هذا المقام يفصل الحكم بين طائفتين: طائفة تحسِب بالحساب الشمسي، وهم أهل الكتاب اليهود والنصارى، وطائفة تحسِب بالحساب القمري، وهم العرب، فذكر أولاً مقدار لبثهم بالحساب الشمسي كما هو عند أهل الكتاب، وزاد بعده الفرق بين الحسابين وهو تسع سنوات الزائدة، لمن يحسب بالحساب القمري، ثلاثُ سنوات لكل مائة عام، وقد تنبه لهذا الإمام عليٌّ ـ كرّم الله وجهه ـ، وهو تأويل صحيح ووجيه، ولا معنى لردِّ الفخر الرازي على الإمام عليٍّ في هذا التأويل بدعوى أنَّ الفرق ليس تسع سنوات بالضبط، بل فيها زيادةُ ثلاثة وسبعين يوما، والعجب أنَّ مثل الإمام الفخر الرازي يغفل عن طريقة حساب العرب في أمثال هذه العقود فهم يُلغُون الكسور الزائدة أو الناقصة ولا يجعلُون لها اعتبارا في الكلام الموجز البليغ، فكم تكون نسبة ثلاث وسبعين يوما التي هي أقل من ربع العام بالنسبة لهذا العدد الضخم من السنين؟

 

إن تأويل الإمام عليٍّ هو الصحيح المقبول، ولا عبرة لمن يعترض عليه بمثل هذا، ثم يذهب في تأويل هذه الزيادة إلى أقوال سخيفة لا ثبات لها ولا اعتبار، والقرآن نزل بلسان عربِي مبين، فهو يَجري بأسلوب التعبير العربِي وفي القمة العليا من البلاغة والإيجاز.

-----------------------

 

{قُلِ اللهُ أَعلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيبُ السَّمَاوَاتِ وَالاَرضِ أَبصِر بِهِ وَأَسمِعْ}

 

اللهُ وحدَه يعلَمُ مِقدار لَبثِهم في كهفهم، وهي المدة التي ذكرها بتفصيل السنين بالحسابين الشمسي والقمري ليقطع نزاع المختلفين، فله لا لغيره غيب أخبار السماوات والأرض، ما أبصره بحقيقة المبصرات وما أسمعه للسِّر والنجوى، وما هو من ذلك أخفى، أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، وفي هذه الصيغة: صيغة التفضيل الواردة في الآية في أوصاف الله تعالى ردٌّ على من زعم أنَّ صيغة التفضيل لا تصح في حق الله تعالى، والقرآن في تعبيره هذا يرد عليهم فلا معنى لاعتراضهم، وقد وردت في الآثار عبارات توافق ما ورد في الآية ففي الحديث الشريف الوارد عن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ: "سبحانك ما أَحلَمك على من عصاك، وما أوسعك لمن دعاك، وما أعطفك على من سألك"، وفي الابتهال الذي رُوِيَ عن جبريل ـ عليه السلام ـ: "سبحانك سبحانك، ما أعظم شأنك وأعز سلطانك"، ابتهالات فيها روعة وجلال وتعظيم لله عز وجلَّ، فلنسلك طريقة القرآن والسّنة، ولا عبرة بمن ذهب يتكلَّف خلافهما والله أعلم.

 

{مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وِلِيٍّ وَّلاَ يُشرِكُ فِي حُكمِهِ أَحَدًا}

 

هذا تقرير لعقيدة التوحيد في قلوب الذِّينَ يتلون القرآن، وهي طريقة القرآن الذي هو كتاب ذكر، يذّكر الناس بعظمة ربِّهم ووحدانيته في ذاته وصفاته وأفعاله، فلا يكاد يعرض قصة من القصص إلاَّ ويستخلص منها العبرة التي هي المقصود من إيرادها، وفيما تقدَّم من نسبة العلم لله وحده ونسبة البصر والسمع إليه يتجلَّى هذا المعنى العظيم، وهنا ينفي معنى الولاية لغير الله، فما للناس من ولِيٍّ يَلِي أمورهم إلاَّ الله، فهو وحده يحكم ويقضي ولا يشرك في حكمه وقضائه أحدًا، لا مَلَكًا مُقرَّبًا ولا نَبِيًّا مرسلا، تفرَّد بالأمور قضاء وقدرًا، حكمًا وتنفيذًا، {إن الحكم إلاَّ لله يقصُّ الحقَّ وهو خير الفاصلين} (الأنعام:57).

 

وردَّ بعض المفسرين الضمير هنا إلى المشركين الذِّينَ يلتمسون من غير الله الولاية والشفاعة، والحق أنه لا ولِيَّ لَهم دون الله خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم، يلبِّي جميع أمورهم وتجري فيهم أحكامه قضاءً وقدرًا دون اعتراض منهم أو اختيار.

 

وردَّ البعضُ الآخر ضمير الآية إلى أصحاب الكَهف الذِّينَ جاء الحديث عنهم وعن قصَّتهم، فكان محط الاعتبار من هذا الخبر أننا رأينا من لطف الله بهم وعنايته بمصيرهم ما يزيدنا إيمانًا بأنَّ ولاية الله لعباده المؤمنين خيرُ وَلاَيَةٍ، فهو وحده لا غيره يلبي أمورهم ويجعل عاقبتها سلامة ورشدًا، وهو وحده جعل لهم من أمرهم يسرًا.

 

{الله ولِيُّ الذِّينَ آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} (البقرة:257)، {ذلكَ بأَنَّ اللهَ مَولَى الذِّينَ آمَنُوا وَأَنَّ الكَافِرِينَ لاَ مَولَى لَهُم} (مُحَمَّد:11)، .

 

وهذا المعنى الذي ذهبوا إليه صحيح، غير أن البعض جعلوا مرَدَّ الضمير لعموم الناس جميعًا، فقالوا إن ولاية الله على جميع خلقه قضاء وقدرًا، فأحكامه تجري وتنفذ في جميع مخلوقاته، {مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَّلِيٍّ وَّلاَ يُشرِكُ فِي حُكمِهِ أَحَدًا}، فالحكم لله وحده لا شَرِكَةَ لِأَحَد سواه فيه، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله، تفرَّد ربُّنا بالْمُلك والأمر، وتعالى عما يقول الجاهلون عُلُوًّا كبيرًا.

--------------------------

 

{وَاتلُ مَا أُوحِيَ إِلَيكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلتَحَدًا (27) وَاصبِر نَفسَكَ مَعَ الذِّينَ يَدعُونَ رَبَّهُم بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجهَهُ وَلاَ تَعدُ عَينَاكَ عَنهُم تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَلاَ تُطِع مَنَ اَغفَلنَا قَلبَهُ عَن ذِكرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمرُهُ فُرُطًا (28)}

 

أمران ونهيان من الله تعالى لنبيّه ورسوله مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ مُوجَّهان إليه وإلى أمته الذِّينَ يتَّبِعون هداه، الأمر الأول تِلاوة كتابِ اللهِ الكريمِ، والذكرُ الحكيمُ هو الحقُّ لا مبدل لكلماته؛ لأن الذي أنزله عليم خبير، يعلم غيب السماوات والأرض، وبيده مقاليدها وإليه تصير الأمور، ولا تبدو له البدوات، فكلُّ كلام لغيره يحتمل التبديل والتغيير، حاشا كلام رب العالمين.

 

اتل كلامَه، اقرأه وتدبَّره، واعمل بأحسنه إنك يا مُحَمَّد لن تجد من دونه ملتحدًا، لن تجد من دون كلام الله بديلا، ولن تجد من دون الله وَلِيًّا ولا نصيرًا، فاستمسك بالذي أوحي إليك ولا تَمِل عنه، وكلُّ مَيلٍ عن كلمات الله فهو إلحاد عن طريق الحق، إنه لا مبدل لكلمات الله، ومن ذا الذي يبدِّل كلام الله إلاَّ أن يكون الله هو الذي يريد نسخ آية من الأحكام لا من الأخبار، ثم يأتي بخير منها أو مثلها، رحمة بعباده الضعفاء تقتضيها حِكمَتُه، وهو اللطيف في أحكامه الحكيم بتشريعاته.

 

أما سبَب نُزُول هذه الآية فهُو أنَّ كبراء قريش قالوا للنبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ: "إن شِئتَ أن نَجلس إليك ونستمع إليك ونحادثك"، فاطرد هؤلاء الفقراء والضعاف والعبيد من مجلسك فإنه لا يجمعنا وإياهم مجلس واحد، وذلك يحطُّ من شرفنا ويغض من قدرنا، ويريدون بهؤلاء ضعاف المسلمين الأوائل أمثال بلال وسلمان وصهيب وعمار وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن أم مكتوم وأبي ذر وأمثالهم من ضعاف وفقراء الصحابة الأوائل ـ رضي الله عنهم ـ، مِمَّن تزدري عين الكبراء من قريش، فهم يحتقرونهم ويُعظِّمون أهل الثراء والشرف والعظمة والأنساب.

 

لما قالوا ذلك للنبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ أنزل الله عليه هذه الآية تثبيتا لمقامهم ورفعا لشأنهم عند الله وعند رسوله والمؤمنين، فواحد منهم عند الله خير من طلاع الأرض من هؤلاء المتعاظمين بدنياهم، وميزان الله في تقدير الناس هو الإيمان والتقوى، {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات:13)، أما موازينهم الخاطئة فهي ترفع أهل الدنيا، والله يريد أن يحق الحق بكلماته فيضع نسبهم ويرفع نسبه، والله عزيز حكيم، أمر نبيَّه أن يُصبِّر نفسه، أي يحبِسها مع هؤلاء وأمثالهم الذِّينَ يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، فهؤلاء هم أهل الإكرام عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين، بما معهم من الإيمان والتقوى والتواضع والإخلاص لربهم، فهم يريدون بعبادتهم وجه الله ويطلبون رضاه لا يدعون سواه.

 

اصبر نفسك معهم ولا تَعدُ عيناك عنهم، لا تترك عينيك تميلان عنهم ولا تتجاوزهم بنظرك إلى أهل السيادات والمال، وإن كنت لا تريد بذاك دنياهم بل تريد استمالتهم إلى الإسلام فما عليك ألا يسلموا إنما عليك البلاغ، فإياك أن تميل نفسك إلى زينة الحياة الدنيا، أو تطيع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا، ولم يرد إلاّ الحياة الدنيا، فهم يتبعون أهواءهم فصار أمرهم باتباع الهوى فرطًا، أي ضياعًا، فهم الغافلون أغفل الله قلوبهم عن ذكره، وانطمست بصائرهم باتباع الهوى وكذلك الهوى يعمي ويصم.

 

{وَقُل الحَقُّ مِن رَّبِّكُم} هذا هو الحق الذي أنزله ربُّكم عليكم، فاتبعوه أيها الناس تهتدوا ولا تتبعوا السُبُل فتفرَّق بكم عن سبيله، أعْلِنها دعوة صريحة ثم اترك الناس بعد ذلك أحرارًا، لا إكراه في الدين.

----------------------

 

{وَقُل الحَقُّ مِن رَّبِّكُم فَمَن شَاءَ فَليُؤمِن وَمَن شَاءَ فَليَكفُر}

 

قُل يا مُحَمَّد هذا هو الحقُّ من ربِّكم الذي كتب على نفسه الرحمة، خلقَكُم ولَم يترككم سدى، بل هدَاكم للإيمان، وبيّن لكم النجدين فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها، من شاء فليختر سبيل الإيمان ومن شاء يختر سبيل الكفر، ليهلِكَ من هلك عن بينة ويحيا من حيِيَ عن بينة، أمّا جزاؤكم عند الله فإما نار يدوم جحيمها وإما جنة يدوم نعيمها.

 

{إِنَّا أَعتَدنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا اَحَاطَ بِهِم سُرَادِقُهَا وَإِن يَّستَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهلِ يَشوِي الوُجُوهَ بِئسَ الشَّرَابُ وَسَاءَت مُرتَفَقًا (29)}

 

المقام هنا مقام وعيد وتهديد شديد لأهل الكفر والضلال والكبرياء، بعد إعراضهم عن الحق واحتقارهم لمن آمن به، وقد تبيّن لهم الهدى، فأعرضوا عن ذكر الله، واتبعوا أهواءهم واشتروا الضلالة بالهدى، إن الله أعدّ لهم عذابًا أليمًا، وهيّأ لهم نارًا، {نَارًا} عظيمة، نكَّرها الله؛ لأنها فَوق وصف الواصفين، فهي نار لا يأتي عليها وصف ولا تُدرِك حرَّها وهولَها العقول.

 

{اَحَاطَ بِهِم سُرَادِقُهَا}، جاء التعبير هنا بصيغة الماضي؛ لتحقيق وقوعها وقرب زمانها وكل آت قريب فكأنهم في وسطها وبين طياتها، يستغيثون فلا يغاثون إلاّ بما يزيدهم عذابًا، وقد {احَاطَ بِهِم سُرَادِقُهَا}، فهي من تحتهم ومن فوقهم ومن جميع جهاتهم، {لهم من جهنَّم مهاد ومن فوقهم غواش} (الأعراف:41).

 

والسُّرَادِقُ في لغة الغرب: هي الحواجز التي يحيط بها الناس خيامهم ومضاربهم، وقد يطلق على المخيمات والفساطيط سرادقات، ضرب الله لناره مثلا بالسرادقات حتى نتصوّر إحاطتها بهم من جميع جهاتهم، فهم لا يستطيعون التفلُّت منها ولا الفرار، وأنَّى لهم ذلك، وهي مطبَّقة عليهم وهم مُبلِسون، يستغيثون، يطلبون ما يبرد قلوبهم من الحر الذي لا يطاق فيغاثون بِحرٍّ مثله أو أشد منه، {بِمَاءٍ كَالْمُهلِ}، والمهل دَرديُّ الزيت تشتعل فيه النار فيكون أشد حرارة من الماء، وألصق ببدنِ صاليه، والمهلُ أيضًا يُطلَق على ذائب الحديد والنحاس، وهو ما هو في شدة حرارته يشوي الوجوه بأواره عندما يقبلون عليه ملهوفين يظنونه ماءً، فيسقط لحم وجوههم من شدة حرِّه قبل أن يُصبَّ عليهم ويجرعوه، ثم يسقونه جبرًا وبالرغم منهم، يتجرعونه ولا يكادون يسيغونه ويصب من فوق رؤوسهم فيصهر ما في بطونهم والجلود، أيّ شراب هذا؟!! {بِئسَ الشَّرَابُ}، وأي مرتفق هذه النار ساءت مرتفقًا، صيغتا تعجّب في قبح الشراب وسوء المرتفق، والمرتفق: هو المنزل الذي تعد فيه وسائل الراحة، وكانوا في الدنيا يتنعمون بالظلال والمرافق والمياه الباردة ولا يشكرون هذه النعم، بل ازدادوا بها طغيانًا وكفرًا، فعاقبهم الله بما يشوي وجوهَهُم المنعَّمة في دار الهوان والصَّغَار، فيها كل أنواع العذاب، لا راحة فيها ولا نعيم، ما أقبحها من دار، وما أسوأها مرتفقًا، هذا مثوى المتكبرين لا مفر لهم منه ولا محيص ولا سامع لاستغاثتهم ولا مجيب لدعائهم، وقانا الله هذا المصير وحشرنا مع الفريق الذِّينَ يقول تعالى في ثوابهم ونعيمهم:

--------------------------

 

{إِنَّ الذِّينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجرَ مَن اَحسَنَ عَمَلاً (30) أُولَئِكَ لَهُم جَنَّاتُ عَدنٍ تَجرِي مِن تَحتِهِمُ الاَنْهَارُ يُحَلَّونَ فِيهَا مِنَ اَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلبَسُونَ ثِيَابًا خُضرًا مِّن سُندُسٍ وَإِستَبرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الاَرَائِكِ نِعمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَت مُرتَفَقًا (31)}

 

بعد ذكر الوعيد في الآية السابقة يثني الله هنا بأية الوعد، يبسط فيها بعض أنواع النعيم تشويقًا لعباده المؤمنين حتى يصبروا على أذى الكفَّار وعلى تحمّل مشقة العبادة، والعبادة إيمان بالقلب لا يشوبه ريب، وعملٌ صالح بالأركان، وما يذكر ثواب الإيمان في القرآن إلاّ ويذكر معه العمل الصالح إيذانًا من الله أنه لا ينفع القولُ باللسان مجردًا عن العمل الصالح؛ لأن الإيمان الصادق هو الذي يتحقق بأداء الفرائض وترك المناهي والتخلّق بالأخلاق الحسنة، والتحلي بالآداب التي دعا إليها القرآن الكريم، فإذا امتثل المؤمن قولَ ربِّه كان مؤمنًا حقًا يستحق من الله الثواب والنعيم في جنات عدن، والعَدنُ: هو الإقامة الطويلة دائمًا، ومنه سميت المعادن معادن لاستقرارها في الأرض دوامًا، والعدْنُ أيضًا: عَلَمٌ لإحدى الجنَّات، أو عَلَم من أعلام الجنة.

 

{إِنَّ الذِّينَ آمَنُوا وَّعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، تبتدئ الآية بـ: "إنّ واسمها"، فأين خبرها؟ يقول بعض المفسرين إن خبرها أولئك وما بعدها، فهو إخبار عن حال الذِّينَ آمنوا وصدقوا إيمانهم بالعمل الصالح، إنهم مُنعَّمون في جنات عدن بما ذكر من النعيم جزاءً بما كانوا يعملون، ويقول البعضُ الآخر: "إن خبرها ما يليها"، وهو قوله تعالى: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجرَ مَن اَحسَنَ عَمَلاً}، أي أن الله لا يُضيع أجرَهم، وسيجزيهم الجزاء الأوفى، ويزيدُهم من فضله، وأظهر مكان الإضمار هنا؛ ليبيّن أن الذي استحقوه من الجزاء الأوفى إنما هو إحسانهم في الأعمال، {هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان} (الرحمن:60)، إن الله بَرٌّ رحيم، لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولو كان حقيرًا؛ لأن الأعمال بالنيات، وربما ينساه عامله لقلته وحقارته، ولكن الله يحصيه له ولا ينساه، وعلى كلا التفسيرين فالمعنى صحيح، والتصريح باسم الإشارة {أُولَئِكَ}؛ للعناية بهم وتكريمهم ورفع مقامهم، فهم في جنَّات لا في جنة واحدة، جناتٍ كثيرة، يتنقلون بين ظلالها وقصورها وأنهارها التي تجري دائمًا ولا تنقطع، وجري الأنهار ضمان لحياة الأشجار وزينة ومتعة للناظرين، ولا يعرف الناس منتزهًا أحلى من ضفاف الأنهار، وهناك تبنى قصور الملوك والمترفين من أهل النعيم، ونعيم الآخرة أعظم وأبقى.

 

ثم يعرض لنا لونًا آخر من ألوان النعيم في الجنة، وهو ما يحلون به من أنواع الحلي والحلل، فهم يُحلَّون فيها من أساور من ذهبٍ، وقد اعتاد ملوك الدنيا وأُمراؤها أن يحلُّوا أنفسهم بأَسْوِرَة الذهب، وقديمًا فخر عدو الله فرعون على نبي الله موسى بهذا النوع من الزينة فقال: {لولا ألقي عليه أساورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين} (الزخرف:53).

 

فأساور الذهب زينة عرفها الناس قديمًا، تحلى بها الملوك والأمراء، وأصحاب الجنة يوم القيامة ملوك منعمون، يحلون بأنواع الحلي من ذهب الجنة وفضتها ويلبسون ثيابًا خضرًا من أنواع حرير الجنة من سندسها وإستبرقها، وهذان نوعان من الحرير الناعم الرقيق والخشن، والكلمتان قيل: "أصلهما من اللغة الفارسية استعملهما العرب وعرفوهما قديمًا"، وجرس الكلمتين يدل على النعومة والليونة والبهاء، وأقصى ما وصل إليه الناس من الترف والزينة الذهب والحرير حليّ أهل الجنة ولباسهم، وليس ذلك فحسب، بل وقصورهم وأوانيهم وسجفهم وفرشهم وأرائكهم، فهم متكئون على سُررٍ موضونة من قصب الذهب، بطائنها من إستبرق أكِلَّتها من سُندس، والاتِّكاء يرد في كثير من مواطن الكلام عن أحوالهم، وليس معناه أنهم متكئون دائمًا، بل هم يترددون في رحاب الجنة الفسيحة، ويتزاورون ويتنزهون في بساتينها وعلى ضفاف أنهارها، والتعبير بالاتِّكاء كناية عن تمام راحتهم في ترفها ونعيمها، وأنهم غير مطالبين فيها بأي عمل من الأعمال، فلا صلاة فيها ولا صوم ولا جهاد ولا تكلّف فيها لكسب أرزاقهم، إذا خطر شيء من ذلك ببالهم، فدعواهم: "سبحانك اللهم"، فإذا هو مهيأ بين أيديهم، حتى الماء يسكبه لهم في أكواب الذهب والفضة غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون يطوفون عليهم بما يشتهون، وأي نعيم هذا وأي ثواب؟ {نِعمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَت مُرتَفَقًا}، ما أعظمه من ثواب، وما أحسن الجنة منزلا ومرتفقًا، يجد أهلها فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذُّ الأعين، وهم فيها خالدون ورضوان ربهم فوق كل نعيم ودونه كل ثواب.

 

ولنرجع إلى نكتة لطيفة فيها تقدم من وصف حال أهل الجنة وهي أنه لما وصف حِليَتَهم قال: {يُحَلَّونَ}، ولما ذكر لباسهم قال {ويَلْبسون} فنسب الأولى للمجهول، ونسب الثانية للمعلوم؛ وذلك لأن تمام نعيمهم أنهم لا يتكلَّفون بتحلية أنفسهم بأنفسهم، بل هناك من الخدم والوصائف والحور العين من يُحليهم، أما اللباس فنسبَهُ لهم وهو أنسب؛ لأن في اللباس ستر العورات؛ فناسب أن يتولَّوا ذلك بأنفسهم، وفي ذلك صَونٌ لعوراتهم وستر لها، فلا يطَّلع عليها غيرهم، فما أدق تعبير القرآن وما أدَّله على المقصود، ثم إن الله تعالى وصف لون ثيابهم بالخضرة؛ لأن اللون الأخضر أزهى الألوان وأحلاها في العيون، وهو اللون الذي تناسبه ألوان حُلِيِّ الذهب والفضة وسائر الجواهر والدرر التي يحلون بها، فتتجلى هذه الألوان في أروع وأحلى مناظرها، وصدق الله العظيم: {فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون} (الزخرف:71)، اللهم متعنا بنعيم الجنة وخلودها وروِّحنا برضاك يوم نلقاك يا أرحم الراحمين.

 

الآيات ( 32- 49 ) قصة صاحب الجنة

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)

------------------------------

 

بعد ذكر ما تقدَّم من احتقار الكفار للفقراء والضعفاء وتعظيمهم لأهل الدنيا، فهم يستنكفون من مجالسة فقراء المسلمين وضعفائهم، ولكن الله يأمر نبيَّه أن يصبر معهم ولا يعدوهم ببصره إلى أهل الدنيا، وما ذلك إلاّ لِهَوان الدنيا على الله، يضرب لنا في هذه الآية مثلا لحقارة الدنيا وزوالها، وأن الذِّينَ فُتنوا بها هم الخاسرون النادمون على ما أشركوا بالله غيرَه، وأن الولاية الحقيقية هي ولاية الله الحق هو خير ثوابًا وخير عُقبًا، واضرب يا مُحَمَّد لهؤلاء مثلا رجلين، جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل، وجعلنا بينهما زرعًا، الجنتان على شكل متناسق بديع، جنتان من أعناب محفوفتان بنخيل ولا يزال الناس يحوطون الكروم بالأشجار وبالنخيل ترد عنها عواصف الريح والسَّمُومِ وقساوة الجو، والنخل يصلح بتعرضه للشمس والهواء فتجود بذلك غلته، والزرع يصلح في أرض عراء لا غرس فيها، وإذا كان بين جنتين فهو أحفظ لنباته من الرياح الهوج، ومن رمالها ومن قساوة الجو، حرِّه وقرِّه، فهو تخطيط رباني عجيب، فيه إرشاد لنا إلى نظام غرس النخيل والكروم والزرع، والذي يزيد من قيمة الجنتين ويضمن بقائهما ـ لو أن صاحبَهما شكر نعمة الله ـ تفجير الماء الغزير خلالهما، فهو نهر دائم الجريان يسقيهما.

 

والقصة قال بعض المفسرين: "إنها رمزية ضربت مثلا من واقع الناس، ومحاورة أهل الإيمان لأهل الكفر"، وقال البعض الآخر: "إنها واقعية لأخوين من بني إسرائيل"، وقيل من غيرهم، مات أبوهما فترك لهما ثمانية آلاف دينار ذهبًا اقتسماها بينهما نصفين فأنفق أحدهما ألف دينار في شراء الجنة والقيام بها، وأنفق الآخر ألف دينار في سبيل الله يبتغي بها جنةً عند الله في دار كرامته ورضاه، ثم أنفق الآخر ألفًا أخرى في شراء دار وتأثيثها، وأنفق أخوه ألف دينار في شراء دار في الجنة يدوم نعيمها، ثم أنفق الآخر ألفًا في نكاح امرأة والإنفاق على عرسها فتصدّق أخوه بألف دينار، وقال: اللهم إني أتصدق بهذا مهرًا للحور العين فزوجني من الحور عندك وفي جنتك ومتعني بها في دار الخلود يا أرحم الراحمين، وتصدَّق بالباقي في سبيل الله، وطلب رضاه بينما أمسك الآخر الألف الباقية لينفقها في نيل شهواته وحاجاته، فمر بأخيه الفقير في أبهته وخيلائه بين خدمه وحشمه وهو معجب بدنياه فخور بها، فقال له: {أَنَآ أَكثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا}، وأنت أنفقت مالك كلَّه وتركتَ نفسك للفقر، وحَرَمتَها متعتها، فانظر إلى كثرة أموالي ووفرة أولادي وأنصاري وخلاني وبقيت أنت وحيدًا لا ناصر لك ولا حميم.

-----------------------------

 

{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَّمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَّلَئِن رُّدِدتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيرًا مِّنهَا مُنقَلَبًا}.

 

راح يقول هذه الكلمات في صلف وتيه وإعجاب بأمر دنياه، مُعرِضًا عن نُصح أخيه وصاحبه، غير خاشٍ عاقبة الكفر والطغيان، ولا متعظ بتقلبات الزمان، فهو مطمئن إلى جنتيه متوكل على نهره الجاري خلالهما لا على خالقه وخالقهما، ومفجر الماء خلالهما ولا يتوقع لمصيره يوم القيامة الذي أصبح يشك فيه أن يكون مثل ما هو فيه من النعيم أو أوفر، وهو شعور أمثاله من الطغاة في كل زمان، وما أبعده عن الصواب، ويعجز عن طلبه حين يذهب كل شيء ويبقى فقيرًا.

 

{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرتَ بِالذِّي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لَكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلاَ أُشرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَولاَ إِذْ دَخَلتَ جَنَّتَكَ قُلتَ مَا شَاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَآ أَقَلُّ مِنكَ مَالاً وَّوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَن يُّوتِيَنِ خَيرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرسِلَ عَلَيهَا حُسبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) اَو يُصبِحَ مَاؤُهَا غَورًا فَلَن تَستَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)}

 

ظلم نفسه بالركون إلى الدنيا وفتنتها والإعراض عن الله وكفر نعمته، فذكره صاحبه بأصل خِلقَتِه الأولى وبخالقه، قال له: "أَكَفَرتَ بربِّك الذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً؟، كلُّنا مخلوقون من تراب، وهو المادة التي خلق منها أصلنا الأول، ومن التراب غذاؤنا ثم من نطفة وهي المادة التي منها خلق كل واحد منا، ثم تطورت من طور إلى طور حتى سوانا ربنا ـ تَبَارك وتعالَى ـ رجالاً، كيف نكفر بهذا الخالق العليم؟، إن هذا لظلمٌ عظيم، وَعَظَه صاحبُه وحذَّره من عاقبة هذا الكفر والطغيان ويبدو أنه لَم يقبل منه وَعْظَه، شأن المتكبرين ولذلك ردَّ عليه قائلا:

{لَكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلاَ أُشرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا}.

 

لكن أنا إيماني واعتقادي هو الله ربى أعبده وحده وأشكر نعمته ولا أشرك به أحدا، هو الذي خلقني وأنعم عليّ بنعمِهِ التي لا تحصى، أشكره ولا أكفره وأذكره ولا أنساه.

-------------------------

 

{وَلَولاَ إِذْ دَخَلتَ جَنَّتَكَ قُلتَ مَا شَاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ}

 

ليتك حين دخلت جنتك ورأيت أثر نعم الله عليك، عَلمتَ أن جميع النعم من الله تعالى وقلتَ بلسانك: "ما شاء الله كل هذه بإرادة الله وتيسيره"، ما شاء الله كانَ وما لَم يشأ لم يكن، لا قوة إلاَّ بالله بيده الخير وهو على كل شيء قدير، لا قوة إلاَّ بالله، لا يقوى أحد من مخلوقاته على شيء إلاَّ بإذنه وقوته وتيسيره، فبِقُوَّتِه أثمرت جنتك هذه، وبقُوَّتِه تفجر نهرها، وبِقُوَّتِه تمتعتَ بخيراتها.

 

علّمنا الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ أن نقول هذه الكلمة التي تنبع من الإيمان العميق بالله المنعم، أن نقول هذه الكلمة الطيبة التي تنبئ عن شكر النعمة كما رأينا ما يعجبنا في أموالنا وأولادنا.

 

{مَا شَاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ}

 

هي شكرٌ للنعمة، ورُقيًا مما عسى أن يصيب المرئي من العين، فإذا قلت هذه الكلمة مخلصًا من قِبَلِك حفظ الله ما رأيته من إصابة العين، وبورك لك ولغيرك فيه فسلمت وسلم الناس منك، ثم حاور صاحبه قائلا له:

 

{إِنْ تَرَنِ أَنَآ أَقَلُّ مِنكَ مَالاً وَّوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَن يُّوتِيَنِي خَيرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرسِلَ عَلَيهَا حُسبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا اَو يُصبِحَ مَاؤُهَا غَورًا فَلَن تَستَطِيعَ لَهُ طَلَبًا}

 

لا تفتخر عليَّ بمالك ولا بأولادك، إن تَرَ قِلَّة مالي وولدي فعسى الله أن يذهب بمالك ويؤتيني خيرًا من جنتك، ويرسل عليها عذابًا أو نارًا من السماء، فيهلكها فتصبح صعيدًا زلقًا، أرضًا جرداء، يزلق فيها الزالق، لا أثر فيها لزرع ولا شجر، أو يذهب الله بمائها فيغور في الأرض فلن تستطيع له طلبًا، فتيبس هذه الأشجار وتنقطع ثمارها، وتصبح هذه الزروع هشيمًا تذروها الرياح، نفى عنه استطاعته طلب الماء لا وجوده، لأنه حينئذ ييأس من طلبه ويعجز عن طلبه حين يذهب كل شيء ويبقى فقيرًا.

 

وفسَّروا الحُسبَانَ بالنار أو بالعذاب، وسُمِّيَ حسبانًا؛ لأن الله ينزل ذلك على من يريد تعجيل عقوبته محاسبةً له على طغيانه وكفره والله سريع الحساب.

------------------------------

 

{وَأُحِيطَ بِثُمُرِهِ فَأصبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيتَنِي لَم أُشرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَّلَم تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَّنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا هُنَالِكَ الوَلاَيَةُ لِلَّهِ الحَقِّ هُوَ خَيرٌ ثَوَابًا وَخَيرٌ عُقُبًا}

 

جاء أمر الله بعد أيام معدودة، وأمره لابد واقع، فهلكت الجنتان وهلك كل ما فيهما من ثمار كما تدل صيغة الجمع، ويبدو أن الهلاك جاء والأشجار محمَّلةٌ بغلالها حتى يكون وقعهُ أشدَّ على من كفر بنعمة الله وأعرض عن الناصحين، هلك كل شيء، وغار الماء، وقُضِيَ الأمر، فأصبح الرجل المغتر بدنياه يُقلِّب كفَّيه أسفًا وندمًا وحسرة على ما أنفق فيها من الأموال الكثيرة الوافرة، فهي اليوم ذاهبة ولا أثر لها، لا يملك من أمرها إلاَّ الندم والحسرات، وتقليب الكفين إشارة إلى كل ذلك، فهي عبارة اِعتاد العربُ استعمالَها لتدُلَّ على الندم العميق مع العجز الكامل عن طلب التالف أو استدراك بعضه، ذهب كل شيء، وفات كل شيء، وانهارت الآمال، وبارت الأموال، فالجنة خاوية على عروشها، كل شيء فيها يدل على الخراب، حتى الأعمدة التي كانت منصوبة للأشجار المعروشة هي الآن ساقطة، يا لَهَولِ المنظر ويا لَعِظَم الكارثة، وقف الرجل يُقلِّب كفَّيه ويقول:

 

{يَا لَيتَنِي لَمُ اشرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا}

 

ولم تكن منه هذه العبارة ندمًا على شركه بربِّه وما أدركه التوفيق بعد، إنما هي تعبيرٌ منه على النَّدم على تلف ماله، ندم على الشرك الذي كان سببًا في هلاك جنتيه وذهاب غناه فلو لَم يتلف المال ما كان يتحوَّل عن شركه، فندمه هذا صورة للإيمان الذي لا ينفع يوم يأتي بعض آيات ربك، هذا هو المعنى المتبادر من موقفه هذا، وأبواب ربِّك مفتَّحة بعدُ لو أراد الرجوع إلى الله، ولعلَّه يرجع فتُقبَل توبته والفرصة لَم تفت.

 

أمَّا الجانب المعروض من القصة فهو جانب الاعتبار والاتِّعاظ بحال هذا الكافر، وما آل إليه من زوال النعم وذهاب الأبصار، ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا، لَم يبق له من أنصاره الكثيرين من يَقدِر على نُصرتِه، ولم يكن منهم من يقوى على رد الأمر بعد وقوعه، كما أنهم لَم يقدروا على دفعه قبل وقوعه بل وقفوا متفرجين، لا يملكون لصاحبهم ولا لأنفسهم حولاً ولا طولا، {وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا}، ولَم يكن هو الآخر يملك حيلة يدفع بها المقدور أو يخففه وهو نازل، بل حُمَّ قضاء الله، وتم ما أراده ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه.

-------------------------

 

{هُنَالِكَ الوَلاَيَةُ للهِ الحَقُّ هُوَ خَيرٌ ثَوَابًا وَخَيرٌ عُقُبًا}

 

هنالك في هذه الحالة الحاسمة تمحَّضَ الحق وتبيَّن أن الولاية النافعة هي ولاية الله وكل ولايةٍ غير ولايته لا تجلب نفعًا ولا تدفع ضرًا، ألا كل شيء ما خلا الله باطل، فولاية الله هي الحق والله خير ثوابًا وخير عقبًا، من آمن به وتوكَّل عليه، وفوَّض الأمر إليه نال ثواب عمله، ومن كفر به وأشرك به غيره، وأعرض عن ذكر ربه لقيَ جزاء كُفرِه، كلٌّ ينال جزاءه موفورًا ويصل إلى غايته، وخير العواقب ما كان في طريق الإيمان بالله وشكر نعمه واتباع أنبيائه ورسله، {هُوَ خَيرٌ ثَوَابًا وَخَيرٌ عُقُبًا}، هكذا يُبيِّن لنا هذا المثل العجيب من أمثال الله الفارق الكبير بين أحوال الشاكرين وأحوال الكافرين ومصير الجبارين الذِّينَ لا يحبون الناصحين، كيف تكون عاقبتهم وَخِيمَة في هذه الدنيا، ولَعَذابُ الآخرة أشد وأبقى، ويُبيِّن للمعتبرين أنَّ عواقب الأمور كلَّها بِيَد ربِّ العالمين، فمن أراد الولاية الحق والنُّصرة الحق فليتخذه وكيلاً، فهو نعم الوكيل وهو نعم المولى ونعم النصير، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.

---------------------------

 

{وَاضرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنيَا كَمَاءٍ اَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاختَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الاَرضِ فَأَصبَحَ هَشِيمًا تَذرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ مُّقتَدِرًا (45) المَالُ وَالبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيرٌ اَمَلاً (46)}

 

مثل آخر يضربه الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ لحقارة الدنيا وسرعة زوالها وزوال ما فيها، ما أقصر الحياة وما أسرع زوالها وما أعجب أمر من يغتر بها.

 

مضى لنا منذ أول السُورَة جولات في الذِّينَ غرتهم هذه الحياة الدنيا، أول ذلك: ملِك أصحاب الكَهف الذي تكبر بما ناله من عز المُلك وإقبال الأيام، فطغى وكفر بالله ودعا الناس إلى عبادته، وبطش بالذِّينَ عبدوا الله وحده، ثم جاء بعد ذلك أمر الله لنبيّه أن يصبِّر نفسه مع فقراء المسلمين الذِّينَ يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ولا يصرف عنهم بصره ناظرًا إلى زينة الحياة الدنيا، ولا يطيع الذِّينَ أغفل الله قلوبهم عن ذكره لافتتانها بالحياة، فهي مرادهم ومبلغ علمهم فكان أمرهم فرطًا، ثم يضرب لنا مثلا من الرجلين المتجاورين وقد افتتن أحدهما بجنتيه وطغى وظن أن الحياة الدنيا باقية والساعة غير قائمة، وكفر بالله وأعرض عن صاحبه الذي ظل يعظه ويبصره بالحقيقة، ويحذره عواقب الطغيان والكفران، ولكنه لَم يتعظ فكان من أمره ما كان من وخيم العواقب، فانتهى بالحسرات والندم، ولات حين مندم، ثم يعقب الله هنا بمثل الحياة الدنيا ومراحلها الثلاث في جمل وجيزة بليغة: ماء ينزل من السماء فيهيج به نبات الأرض ويختلط بعضه ببعض، نجمه وشجره وأعشابه وأزهاره وزروعه، فيصبح بعد مدة قريبة هشيمًا قد اصفرَّ ويبس وفارقته الحياة والنضارة، ثم يتصوح ويصير هشيمًا تذروه الرياح فتبدده وتذهب به في نواحي الأرض فيتلاشى ويفنى، تلك هي عاقبة الحياة الدنيا وقد انطوت كلها في هذه العبارات القليلة الموجزة.

 

{وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ مُّقتَدِرًا}

 

وكان الله على الخلق والإفناء قادر، بل هو على كل شيء قدير، وقد جاء التعبير هنا بهذه الصيغة {مُّقتَدِرًا} ليدل بهذه الحروف الزائدة على زيادة المعنى فهو كامل القدرة شديدها، أحاطت قدرته الجبارة بكل شيء لا يعجزها شيء، سواءٌ عندَه الأمورُ العظيمةُ والحقيرةُ والمخلوقاتُ الكبيرة والصغيرة، ثم يناظر بين حقارة الدنيا وفنائها وشرف الدار الآخرة وبقائها أن العمل لها خيرٌ عاقبةً وثوابًا.

------------------

 

{المَالُ وَالبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَّخَيرٌ اَمَلاً}

 

زُيِّن للناس أصناف الأموال، فهم يسعون ورائها ويجمعونها ويكنِزونها ويبخلون بها ويعصون ربهم في جمعها وإمساكها، وهي ذاهبة وهم قبلها ذاهبون، فما هي إلا زينة هذه الحياة الدنيا، ثم تزول ويصير حلالها حسابا وحرامها عقابا، هذا مصير الأموال التي بها يغترون وعليها يقتتلون، وهم كذلك يفتتنون بزينة البنين ويعصون الله من أجلهم، فهم يجمعون الحرام من أجل البنين ويبخلون بما رزقهم الله ولا ينفقونه في حقه، وهذه فتنة الأولاد كما جاء في الأثر: "الولد مبخلة مجهلة مجبنة"،وما هو إلا زينة الحياة الدنيا، وكثيرا ما يكون غصة على والديه وغما ونكدا ونحسا لهما، فليتهما لَم يلداه وليتهما لَم يجمعا له الحرام وليتهما لَم يفتتنا به، وقد قدم الله ذكر الأموال على البنين في الإعجاب بها والافتتان؛ وما ذلك إلا لأن فتنة المال أشد على الإنسان، وميله إليه أكثر، فالمال زينة ولو بدون الولد، أما الولد بدون المال فهو همٌ وغمٌ، لا سيما إن كثروا وقل المال، فيصير أمرهم حينئذ ثقلا وغمًا على والديهم، فالولد زينة مع وجود المال ولذلك قُرن به، والمال زينة على كل حال ولذلك بُدئ به، وما أعجب بلاغة القرآن.

 

{وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَّخَيرٌ اَمَلاً}

 

الباقيات الصالحات هي الأعمال الصالحة بنواياها الخالصة، فلا يبقى شيء من الحياة الدنيا إلاّ ما تتزوّد منها من الحسنات الباقيات التي تبقى معك وتدخل معك القبر حين يذهب كل شيء، يذهب المال عند خروج روحك، ويذهب البنون والأهلون والأحبة حين يوسّدونك التراب في القبر وتبقى الأعمال، فيا طوباك إن كانت صالحة.

 

وفسّر بعض أهل التفسير الباقيات الصالحات بنوع من الذكر وهو: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر"، وزاد بعض: "لا حول ولا قوة إلاّ بالله"، وهذا التفسير ضعيف إلاّ أن يكون هذا من جملة الباقيات الصالحات فلا مانع من ذلك، أما أن يقتصر المعنى على هذا النوع من الذكر فهذا تحجير للواسع، فالباقيات الصالحات تبقى عند ربك ثوابًا حين تفنى كل أشياء الحياة الدنيا وتزول، {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} (النحل:96)، وهي خيرٌ أملا، نعم هو الأمل النافع، والنفع الدائم وهو الأمل الذي يرغبك في العمل الصالح ويذكرك بالآخرة، لا الأمل الذي يصدك عن العمل وينسيك الآخرة، ذكر خير الثوابين وخير الأملين ولم يذكر ما دون ذلك لحقارته، فلا وزن له إلى جانب ما يبقى وكلمة {خَيرٌ} تدل على التفضيل ويكفي ذكرها تعريضًا لحقارة ما سواها وتفاهته، فلا حاجة إلى ذكره ويكفي أن يفهم من فحوى الكلام ومما تقدم، فاعملوا أيها المؤمنون لما يبقى، ولا تلهِيَنَّكم زينة الحياة الدنيا، فإن مصيرها إلى الزوال والفناء، وموعدكم يوم الحشر حيث توفون أعمالكم وتجاوزون على ما قدمتم منها جزاءً وفاقًا عدلا لا ظلم فيه، إن الله سريع الحساب.

-------------------------

 

{وَيَومَ نُسَيِّرُ الجِبَالَ وَتَرَى الاَرضَ بَارِزَةً وَّحَشَرنَاهُم فَلَم نُغَادِر مِنهُمُ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَد جِئتُمُونَا كَمَا خَلَقنَاكُمُ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَل زَعَمتُمُ أَلَّنْ نَّجعَلَ لَكُم مَّوعِدًا (48) وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى الْمُجرِمِينَ مُشفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَّلاَ كَبِيرَةً اِلاَّ أَحصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَّلاَ يَظلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)}

 

لمناسبة الكلام المتقدم على زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وقُربِها، يذكرنا الله تعالى بيوم القيامة بادئًا بفناء الكون مثنيًا بالحشر وتحقق وقوعه فكأنه قد وقع وقد عبر عنه بصيغة الماضي في المشاهدة الرهيبة لتحقق وقوعها في يومها المحدود {وما نُوَخِّرُهُ إلاّ لأجل معدود} (هود:104).

 

اذكر يا مُحَمَّد، وذكّر أمتك بهذا اليوم الهائل القريب يوم نسيّر الجبال، وهذه الجبال الرواسي التي هي أوتاد الأرض تكون كالعهن المنفوش وتسيّر كالهباء أو كالسراب، أيّ قوة هذه التي تنسف الجبال نسفًا وتذرها قاعًا صفصفًا، سبحان الذي أحاطت قدرته بكل شيء وأتقن صنعه كل شيء وترى الأرض بارزة، تمد الأرض مد الأديم لا عوج ولا أمت فيها، مرّت جبالها الرواسي مر السحاب فبرزت الأرض وأشرقت بنور ربها وألقت ما فيها وتخلّت وأذنت لربها وحقّت، ذلك يوم البعث والحشر والعرض والجزاء يعرض الناس كلهم على ربهم، ويقع الخطاب مركزًا على منكري البعث الجاحدين له الذِّينَ تقدم عنهم الكلام منذ أول السُورَة، يعرض هؤلاء وغيرهم ممن أنكر البعث والحساب، يعرضون على ربك صفًا صفًا، وقعت الإضافة على كاف الخطاب؛ وذلك إهانة لهم وإبعادًا لهؤلاء السفهاء عن شرف الإضافة، فهم لتكبرهم وتكذيبهم وإعراضهم لا يستحقونها، بل يكون نصيبهم يومئذٍ الهوان والنسيان كما نسوا آيات الله فهم لا يستحقون من الله إلاّ أن يخاطبوا خطاب الإهانة والتبكيت.

----------------------

 

{لَّقَد جِئتُمُونَا كَمَا خَلَقنَاكُمُ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَل زَعَمتُمُ أَلَّن نَّجعَلَ لَكُم مَّوعِدًا}

 

لقد جئتمونا أيها المكذبون بالبعث كما خلقناكم أول مرة، ما خلقكم ولا بعثكم إلاّ كنفسٍ واحدة، كان الأولى بكم أن تتفكروا بعقولكم في قضية الخلق الأول فتستنتجوا منها إمكان الإعادة، وهي أهون، ولكنكم ضللتم وزعمتم أن لا بعث ولا حساب وما ذلك إلاّ لطغيان نفوسكم، فآثرتم أن تَفْجُروا وأنكرتم البعث؛ لأن فيه جمعكم للعرض والحساب فالجزاء، والحق لا يتغيّر لأهوائكم، وأمر الله لا بدّ واقع، فها قد وقع وها قد حشركم الله فلم يغادر منكم أحدًا، جمعكم صفوفًا ولم يترك منكم أحدًا.

 

ورد في الحديث عن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ أن الله تعالى يقول يوم القيامة: "يا عبادي إني أنا الله لا إله إلاّ أنا أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، وأسرع الحاسبين، هيئوا كتبكم ويسِّروا حسابكم، فإنكم محاسبون، يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفًا على أنامل أقدامهم"، يصطفون كلهم منتظرين أمر الله فيهم، حينئذٍ يؤمن الكافر إيمانًا لا ينفعه، ويوقن المرتاب، ويعترفون بذنوبهم، فسحقًا لأصحاب السعير.

--------------------------

 

{وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى الْمُجرمِينَ مُشفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَّلاَ كَبِيرَةً اِلاَّ أَحصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَّلاَ يَظلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}.

 

خمسة أشياء متعاقبة من أمور يوم القيامة: تسيير الجبال، وبروز الأرض مستوية، وحشر الأولين والآخرين مجموعين وعرضهم على الله صفوفًا، ووضع الكتاب المحصي عليهم أعمالهم كلها، تعرض هذه الأشياء الهائلة بصيغة الماضي متعاقبة في جمل وكأنها قد وقعت، وما أقرب وقوعها، والكتاب المذكور: هو الكتاب الذي يحصي على كل مكلَّف أعماله، فالألف واللام للجنس، وبُني الفعل للمجهول؛ لأن الغرض يتعلق بالوضع نفسه لا بالواضع، فترى المجرمين مشفقين مما فيه؛ لأنهم علموا أنهم سيفتضحون بجرائمهم ومعاصيهم، فأشفقوا من إحاطته وإحصائه لكل صغيرة وكبيرة من أفعالهم وأقوالهم،لم يترك واحدة إلاّ أحصاها، ووجدوا ما عملوا من خير أو شر محضرًا، تعجبوا وأشفقوا من إحصائه الدقيق لأعمالهم ولم ينكروا منه زيادة في سيئاتهم، ولو وقع ذلك لكان الإنكار بدل التعجب، فهم مشفقون من دقة الإحصاء ومن عدالة الجزاء، ولا يظلم ربك أحدًا بزيادة في سيئاته ولا نقص من حسناته.

 

لله ما أروع إيقاع هذه الجمل المتعاقبة في قلوب الذِّينَ يؤمنون بالآخرة، وما أشد وقعها على الذِّينَ يجحدون آيات الله ظلمًا وعلوًا، وقد استيقنتها أنفسهم، وسيأتي اليوم الذي يعترفون بما كانوا يكفرون به من قبل، وقد فات الأوان.

 

ثم ينتقل الأسلوب القرآني العجيب إلى قصة سجود الملائكة المكرمين لآدم وإباء إبليس اللعين واستكباره وعتوه عن امتثال أمر ربه، وما كان ينبغي له أن يفعل لولا أن سبق في علم الله وقضائه خذلانه، فنعوذ بالله من الخذلان ومن سوابق الشقاء.

 

الكهف: الآيات ( 50 - 59 )

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)

----------------------------------

 

{وَإِذ قُلنَا لِلمَلاَئِكَةِ اسجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنَ اَمرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَولِيَاءَ مِن دُونِي وَهُم لَكُم عَدُوٌ بِيسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) مَّا أَشهَدتُهُم خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَرضِ وَلاَ خَلقَ أَنفُسِهِم وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)}

 

بعد ذكر طوائف الطغاة من البشر وكيف كان تكبرهم عن آيات ربهم وتجبرهم على المؤمنين بالله واليوم الآخر، وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء، يذكر الله قصة سجود الملائكة لآدم امتثالا لأمر الله ويذكر إباء إبليس لامتثال أمر ربه كبرًا وحسدًا، وهذا مناسب لما تقدم من مصير المتكبرين والجبابرة، وكذلك ناسب بعد ذكر منتهى هذا العالم أن يذكر مبدأه، وكيف أن الحق والباطل في صراع دائم، وأصل هذا كله قصة السجود الذي أمر الله به لآدم فامتثل الملائكة أمرَ الله وهم سلف المؤمنين، وأبى إبليس وهو سلف الكافرين ورأس المجرمين المتمردين، وتتكرر هذه القصة في مناسبات متعددة من القرآن الكريم، وبأساليب متنوعة من التعبير القرآني البليغ ما بين مسهب وموجز، ولكل وقعه حسب موضعه ومناسبته.

 

ترد القصة هنا في سُورَة الكَهف وقبلها في سُورَة الإسراء وفي سُورَة الحجر وفي سُورَة الأعراف وفي سُورَة البقرة وبعد هذه السُورَة تأتينا في سُورَة طه وفي سُورَة ص، وكذلك سائر القصص منها ما يتكرر ذكره مطولاً ومختصرًا، ولكل حكمته ومناسبته، وفي كل عبرة وموعظة وذكرى، يصرِّف الله القول ويبيّن للناس آياته لعلهم يتذكرون.

 

{وَإِذْ قُلنَا لِلمَلاَئِكَةِ اسجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنَ اَمرِ رَبِّهِ}.

 

اذكر لهم يا مُحَمَّد قصة سجود الملائكة لآدم وإباء إبليس، والقصة معروفة عند قريش وسائر عرب الجزيرة يتناقلونها عن أهل الكتاب، ذكَّرهم بها لعلهم يتذكرون، اذكر يوم خلق الله آدم ونفخ فيه الروح وأمر الملائكة ومعهم إبليس، أمرهم بالسجود لهذا المخلوق العجيب وقد نفخ الله فيه الروح فامتثل الملائكة وسجدوا لآدم كلَّهم أجمعون امتثالا لأمر ربهم إلاَّ إبليس، كان من الجن، عصى وتمرد عن أمر ربه فلم يسجد استكبارًا وحسدًا لآدم، وقد كان يعتقد أنه خير من آدم، وأنَّ العنصر الذي خلق منه وهو النار أشرف من الطين التي خلق منها آدم، ومنعه هذا الكبر وهذا الزعم الباطل أن يسجد امتثالا لأمر الله الذي خلقه وخلق آدم، كما سجد الملائكة كلهم؛ ذلك أن الملائكة أطهار أبرار، خَلَّصَ اللهُ أصلَهم من الشهوات، أما إبليس فكان من الجن، سلطت عليهم الشهوات ابتلاء من الله، كما ابتلى بها آدم وبنيه.

 

ويستشكل بعض المفسرين الأمر فيقولون: ما دام أمر السجود موجهًا للملائكة، فكيف يطالب به إبليس إذا كان من الجن، فيقول بعضهم: "إن الجن المذكور هنا نوع من الملائكة"، ويستدلون لقولهم بقول الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ في سُورَة الصافات: {وجعلوا بينه وبين الجِنَّةِ نَسَبًا ولقد علمت الجِنَّة إنهم لمحضرون} (الصافات:158)، والجِنَّة هنا باتفاق المفسرين هم الملائكة وسموا جِنَّة؛ لاجتنانهم، أي استتارهم عن أبصار الناس، ويرد على هذا القول أن إبليس نسب الله له الذرية، والملائكة لا يتوالدون فإبليس إذن من جنس الجن الذِّينَ يتوالدون كالإنس، والجواب عن الإشكال الذي تقدم أن الخطاب موجه إليهم جميعًا وما دام إبليس معهم فيدخل في الخطاب، أو يكون قد وجه إليه خطاب خاص، ولولا أنه فهم يقينًا أنه داخل في الخطاب لتخلَّص من الأمر بجواب آخر يكون له عذرًا يخلصه من العقاب، فلا معنى لإشكالهم هنا، والمعنى واضح فإبليس إذن فسق عن أمر ربه وعصى متعمدًا ومنعه من السجود الكبر والحسد لا غير.

 

{قال آسجُد لمن خلقت طينا} (الإسراء:61) قال كيف أسجد لمن خلقته من طين وأنا خير منه خلقتني من نار، تكبر على أمر ربه، واحتقر آدم وحسده على هذا الشرف الذي أراده له ولذريته الذِّينَ سيكون منهم أنبياء الله ورسله وأولياؤه، فهو منذ ذلك اليوم يعلنها عداوة صريحة لآدم وبنيه، وأنه سيسعى جاهدًا في إغوائهم، فنبهنا الله وحذرنا من هذه العداوة التي لا تزول ونهانا أن نطيعه هو أو أحدًا من ذريته.

-------------------------

 

{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَولِيَاءَ مِن دُونِي وَهُم لَكُم عَدُوٌ بِيسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً مَّا أَشهَدتُهُم خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَرضِ وَلاَ خَلقَ أَنفُسِهِم وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا}

 

عجبًا لكم يا بني آدم إن أمركم لغريب، أنى تؤفكون، أتغفلون وتجهلون فتتخذون إبليس وذريته وأنصاره وأعوانه أولياء من دوني وهم لكم عدو؟!، تتركون عبادة ربكم الذي خلقكم، والذي أسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، والذي أمْرُكُم بيده وإليه المصير؟!، أتتركون ولاية الله، وتستبدلون بها ولاية إبليس وذريته وهم لكم أعداء؟!.

{بئسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً}

 

أظهر مكان الإضمار وعبر بلفظ: "الظالمين"؛ ليتبيّن لنا أن من فعل ذلك فقد ظلم نفسه ظلمًا عظيمًا، وكل أنواع الظلم تنبع من ظلم الشرك بالله وهو الذي يعمي بصيرة الإنسان، فينطلق من كل القيود، فيطغى ويظلم ظُلمَ من لا يخشى يوم الحساب، ولا يخاف عاقبة الظلم وعقوبة الظالمين، وقرن بإبليس ذريته لنعلم أن لإبليس ذريةً وأعوانًا وجنودًا حتى نحذرهم.

 

واستشكل بعض المفسرين نسبة الذرية، وأوَّلَهُم بالأنصار والأعوان ولا داعي إلى العدول عن ظاهر اللفظ، ويمكن أن يكون لإبليس ذرية كما لأشكاله من الجن، ونحن نعلم أن الجن يتوالدون كما يتوالد الإنس، وإن كنا لا نعلم كيفيَّة تناكحهم وتوالدهم، ولا يعنينا هذا الأمر، إنما حذرنا الله من ولاية شياطينهم وولاية أشكالهم من شياطين الإنس الذِّينَ يصدون عن سبيل الله، واتخاذ هؤلاء أولياء يكون إما بطاعتهم ومعصية الله والرسول، وإما بعبادتهم وقد عبد الناس الشياطين، وذبحوا لهم وتقربوا إليهم بأنواع القربات رجاء عونهم واتقاء ضرهم وما يملكون لهم من ذلك شيء، إنما النفع والضر بيد الله، وقد علمنا الله تعالى أن نستعيذ بالله من شر الشياطين وما أضللن، وأنزل على نبيه المعوذتين وآية الكرسي التي من قرأها أَمِنَ شرَّ الشياطين وكيدهم، وأنهم لا يضرون أحدًا إلاَّ بإذن الله، ونبهنا الله أن عداوتهم لا تنقلب ولاية أبدًا.

{وَهُم لَكُم عَدُوٌ}

 

فما أبلغ إتيان هذه الجملة في هذا المقام، فهي جملة متمكنة مفيدة للغاية ممهدة للحكم الذي يأتي بعدها، وهو قبح العوض الذي استبدله الظالمون من دون الله، أيبتغون عندهم النصرة والعزة وهم الضعفاء الأذلاء؟!، لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا.

 

{مَا أَشهَدْتُهُم خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَرضِ وَلاَ خَلقَ أَنفُسِهِم وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا}

 

خلق الله السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وما أشهد أحدًا من خلقه، ولا اشهد هؤلاء الشياطين، أنَّى يشهدون ذلك وهم بَعدُ في العدم لَم يبرزوا إلى الوجود؟!، ولا أشهدهم خلق أنفسهم، ولا كان لهم بذلك علم ولا اختيار، كيف يمكن أن يُتَّخذ مَن هَذَا حالُه وَلِيًّا من دون الله، يُطاعُ، ويعصى الله، ويُعبدُ ويُكفَرُ بالله العظيم؟!، ما كان الله ليأذن في ذلك وما كان ليتخذ من المضلين أعوانا وأنصارا، وتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرًا، والله غني عن العون والعضد، وكيف هو الخالق وما سواه مخلوق؟!، وهو الرب وما سوا مربوب؟!، وهو الصانع وما سواه مصنوع؟! وفي هذه العبارة إشارة وتأديب لنا أن لا نتخذ من الظالمين أعضادا وأنصارا، وكذلك كان رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ لا يستعين بأهل الشرك على أهل الشرك والظلم، وقد عرضوا عليه أن ينصروه فأبى نصرتهم، واكتفى بمن معه من المؤمنين على قتلهم، وكانوا يتوكلون على ربهم ويستنزلون النصر من عنده وحده، وما النصر إلا من عند الله، هذا هو تأديب الله لعباده المؤمنين وهذه هي سيرة أنبيائه ورسله وأولياءه، لا يعتمدون إلا على ولاية الله {ذلك بأن الله مولى الذِّينَ آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} (مُحَمَّد:11).

----------------------

 

ثم ينتقل بنا الأسلوب القرآني البليغ إلى مشهد عظيم من مشاهد يوم القيامة حيث يزايل الله بينهم وبين شركائهم، فيعلمون أنهم كانوا في ضلال مبين، وأنهم كانوا ظالمين في اتخاذهم الشياطين وذرياتهم أولياء من دون الله، وأنهم بئس البدل.

 

{وَيَومَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَاءِيَ الذِّينَ زَعَمتُم فَدَعَوهُم فَلَم يَستَجِيبُوا لَهُم وَجَعَلنَا بَينَهُم مَّوبِقًا (52) وَرَءَا الْمُجرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَم يَجِدُوا عَنهَا مَصرِفًا (53) وَلَقَد صَرَّفنَا فِي هَذَا القُرآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَّكَانَ الاِنسَانُ أَكثَرَ شَيءٍ جَدَلاً (54) وَّمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُّومِنُوا إِذْ جَاءَهُم الهُدَى وَيَستَغفِرُوا رَبَّهُمُ إِلاَّ أَن تَاتِيَهُم سُنَّةُ الاَوَّلِينَ أَو يَاتِيَهُم العَذَابُ قِبَلاً (55) وَمَا نُرسِلُ الْمُرسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الذِّينَ كَفَرُوا بِالبَاطِلِ لِيُدحِضُوا بِهِ الحَقَّ وَاتَّخَذُوا ءَايَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُؤًا (56)}

 

مشهد آخر من مشاهد يوم القيامة، وهو مشهد رائع ترتعد منه الفرائص حيث يوقف أهل الشرك موقف الذل والخزي، ويؤمرون أمر تبكيت وتوبيخ، يوجه إليهم القول:

 

{نَادُوا شُرَكَائِيَ الذِّينَ زَعَمتُم فَدَعَوهُم}

 

يقول الله تعالى لهم نادوا شركائي الذِّينَ زعمتم وتعالى الله عن الشركاء، ولكن يقول لهم ذلك تبكيتًا لهم، حيث يقفون على بطلان زعمهم وخيبة أملهم في هؤلاء الذِّينَ يزعمون أنهم شفعاء، يشفعون لهم، فدعوهم ولكن هل يجيبون دعوتهم؟، هل ينصرونهم ويشفعون لهم؟، كلا، ما أخيبهم يومئذ، إنهم لا يستجيبون لهم وقد كانوا في الدنيا عن دعائهم غافلين.

 

واستشكل بعضٌ بُعد الشركاء عنهم وعدم استجابتهم هنا، بينما يذكر القرآن في موضع آخر أن حوارًا يجري بينهم.

 

{ويوم نحشرهم جميعًا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون، فكفى بالله شهيدًا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين} (يونس:28-29)، {ويوم نحشرهم جميعًا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون، قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون} (يونس:40-41)، والذي نراه نحن أن لا إشكال في الموضوع، إنما تختلف العبارات حسب اختلاف المقامات وتعددها في يوم القيامة الطويل، فهنالك مقامات يجمع الله فيها بين المعبودين وعُبَّادهم فيجري بينهما الحوار، وهنالك مقامات يزايل بينهم فلا داعي ولا مجيب، فهي أحوال متعاقبة، واليوم طويل وطويل يقول الله تعالى هنا:

 

{وَجَعَلنَا بَينَهُم مَّوبِقًا}

 

اختلف المفسرون في تحديد معنى الموبق بَعد أن اتفقوا أن مادة: "وَبَقَ"، معناها: الهلاك، فالموبق إذن مسافة بعيدة دون اجتيازها الهلاك، وهذه المسافة إما مادية وإما معنوية، وقد يتراءون ولكن يزايل الله بينهم، فلا يطمع أحد في نفع الآخر، لا ينصره ولا يدفع عنه ما هو نازل به، خابت الآمال، وانقطعت الأسباب، ذلك هو الموبق، وقد يكون الذِّينَ عبدوهم من دون الله أنبياءَ أو أولياء وأنّى لهم حينئذ أن يدركوهم، وهؤلاء في رحمة الله ذهبوا إلى الجنة وهم بقوا وراءهم، {فضُرب بينهم بسورٍ له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} (الحديد:13)، هؤلاء صاروا إلى رحمة الله وهؤلاء صاروا إلى سخط الله وعذابه، أنّى لهم أن يطمعوا في لقياهم أو في محاورتهم.

----------------------------

 

{وَرَءَا الْمُجرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُوَاقِعُوهَا وَلَم يَجِدُوا عَنهَا مَصرِفًا}

 

سماهم الله تعالى مجرمين؛ لأن الشرك بالله والتمرد على أنبيائه ورسله هو أصل الإجرام بل هو الإجرام بعينه، إنهم يوم يرون العذاب يعلمون أنهم مواقعوه لما شهدوا من مبادئه وعلاماته، فالظن هنا بمعنى اليقين، وكأنهم كانوا قبل رؤية جهنم وسماع زفيرها يطمعون في النجاة منها أو الرجوع إلى الدنيا، ولكنهم يوم يرونها عين اليقين يعلمون علم اليقين أنهم صالوها، فتختلط بجلودهم وأعصابهم وقلوبهم، لا مفر لهم منها ولا يجدون عنها مصرفًا يصرفهم عنها أو يصرفها عنهم {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} (غافر:18)، هنالك تنهار آمالهم الباطلة في شفعائهم الذِّينَ كانوا ينتظرون شفاعتهم، تبرأوا منهم وكفروا، وكفر إبليس بما أشركوه من قبل، إن الظالمين لهم عذاب أليم، يا له من منظر هائل تزعزع منه القلوب.

---------------------------

 

{وَلَقَد صَرَّفنَا فِي هَذَا القُرآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَّكَانَ الاِنسَانُ أَكثَرَ شَيءٍ جَدَلاً}

 

ولقد ضرب الله الأمثال من كل نوع، فيه للإنسان هداية وعبرة، وصَرفُ القول فيها تعريفًا، أي تنويعًا، في كل ضرب من التعبير تأثير خاص في القلوب الواعية والناس أصناف شتى، فاقتضت الحكمة الإلهية أن يصرف لهم القول لعلهم يتذكرون، فمن أراد الله أن يهديه هداه القول الحكيم إلى صراط مستقيم، ومن لم يرد هدايته تمسك بالجدل {وَكَانَ الاِنسَانُ أَكثَرَ شَيءٍ جَدَلاً}، {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} (الحج:08)، يكثر الإنسان من الجدال، ولديه من الدلائل ما لو تأمله لارتدع عن الجدال، وكان يكفيه النظر إلى أصل خلقته من تراب ثم من نطفة ثم سواه ربه رجلا، يكفيه أن يعتبر رجوعه يوم البعث من أصل خلقته الأول، فيستدل بذلك على كمال قدرة الله على كل شيء، ولكن الإنسان المجادل تطغى عليه الأهواء والشهوات، يريد أن يتبعها ويتحلل من شريعة الله {بل يريد الانسان ليفجر أمامه} (القيامة:05).

------------------

 

{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُّومِنُوا إِذ جَاءَهُم الهُدَى وَيَستَغفِرُوا رَبَّهُمُ إِلاَّ أَن تَاتِيَهُم سُنَّةُ الاَوَّلِينَ أَو يَاتِيَهُمُ العَذَابُ قِبَلاً}

 

إذا كان الله حقًا، وقد صرف أمثلته كل مصرف، فما الذي يمنع الناس من الإيمان إذن؟، إنهم قوم خصمون معاندون مقلدون لآبائهم متبعون لأهوائهم، ما يمنعهم من الإيمان والاستغفار من شركهم وعصيانهم إلاَّ أن ينزل بهم عقاب الله، وحينئذ يؤمنون إيمانًا لا ينفعهم، وعقاب الله لمعاندي رسله شديد وأنواعه كثيرة، ولهم في أوائل المشركين وأسلاف المتمردين سنن، فما عليهم إلاَّ أن ينظروا سنة الله في قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وقوم تبّع، وفي سنة فرعون وهامان وقارون والنمرود وأمثالهم من المتكبرين، أهلكهم الله وترك في أخبارهم عبرة للمعتبرين، لعلّ قومك هؤلاء المعاندين ينتظرون يومًا كأمثال تلك الأيام، وهذا تهديد من الله شديد، وإنذار ووعيد لمن ظهر له الحق ثم لا يتبع الهدى، ولا يستغفر مما فرط من شركه وإعراضه عن الحق طويلا بعد إذ جاءه، فهل ينتظر هؤلاء إلاَّ انتقام الله وبطشه يأتيهم قبلا، أي جهرًا لا سر فيه ولا خفاء {إن بطش ربك لشديد إن هو يبدئ ويعيد} (البروج:12-13) وهو لمن استغفره غفور ودود.

------------------------

 

{وَمَا نُرسِلُ الْمُرسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الذِّينَ كَفَرُوا بِالبَاطِلِ لِيُدحِضُوا بِهِ الحَقَّ وَاتَّخَذُوا ءَايَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُؤًا}

 

يجادلون رسلهم بالباطل، ويقترحون عليهم أنواعًا من المعجزات، ويسخرون بآيات الله البيّنات المجلوة في الأكوان، والمتلوة في القرآن، ويستعجلون الوعيد الذي ينذرونهم به ويقولون متى هو؟، واتخذوا آيات الله ووعيده هزؤا، وما علموا أن مهمة المرسلين هي التبليغ لا غير، فالتبشير لمن اتبع وآمن، والإنذار لمن أعرض وكفر لا غير، إنْ عليك إلاَّ البلاغ، إن رسل الله لا يملكون من أمر الوعد والوعيد شيئًا، لا يقربون البعيد من وعيد الله، ولا يردون بأس الله إذا نزل على القوم المجرمين، إن هم إلاَّ مبلغون ومبشرون ومنذرون، فما لهؤلاء الكافرين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق؟، أي ليزيلوا به الحق، والحق ثابت لا يقوى الباطل على دحضه، بل الباطل هو الداحض الزاهق لا ثبات له مع الحق {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا} (الإسراء:81)، إنهم اتخذوا آيات الله البينات وما أنذروا من أصناف النذر بعذاب الله الواقع في الدنيا والآخرة، اتخذوا كل ذلك هزؤا.

-----------------------

 

{وَمَنَ اَظلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعرَضَ عَنهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَت يَدَاهُ إِنَّا جَعَلنَا عَلَى قُلُوبِهِمُ أَكِنَّةً اَن يَّفقَهُوهُ وَفِي ءَاذَانِهِم وَقرًا وَإِن تَدعُهُمُ إِلَى الهُدَى فَلَن يَّهتَدُوا إِذًا اَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَو يُوَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ العَذَابُ بَل لَّهُم مَّوعِدٌ لَّن يَّجِدُوا مِن دُونِهِ مَوئِلاً (58) وَّتِلكَ القُرَى أَهلَكنَاهُم لَمَّا ظَلَمُوا وَّجَعَلنَا لِمُلَكِهِم مَّوعِدًا (59)}

 

كل أنواع المعاصي كبيرها وصغيرها ظلم، فهي إما ظلم الإنسان لنفسه وإما ظلمه لغيره، وأقبح أنواع الظلم الشرك بالله والكفر بآياته والإعراض عن ذكره، فلا أظلم في الناس ممن بعث الله له من يذكره بآيات ربه ويدعوه إلى الإيمان به وإلى عبادته وحده فأبى وأعرض ونسي عاقبة ما قدمت يداه من المعاصي والظلم والإجرام، ولا تكون أعمال أولئك الكفار المعرضين إلاَّ سيئة، ولا تكون أقوالهم إلاَّ سيئة، وهي صورة لانعكاس كفر قلوبهم وجحودها على جميع جوارحهم، وإن جاء التعبير بما قدمت أيديهم فذلك جري على الغالب من أحوال الإنسان لأن غالب الحركات تنسب للأيدي، وإلاَّ فالمقصود هنا كل الجوارح، وما يصدر عنها من الأقوال والأفعال مما يكون رَانًا على القلب، تلك هي أسباب عَمَى القلوب وصممها، ونسب الله جعل الأكنة لنفسه؛ لأن كل شيء من الله قضاءً وقدرًا، وخلقًا وتكوينًا {وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} (النحل:33)، ظلموا أنفسهم بالإعراض عن آياته، ونسيان ما قدمت أيديهم، فكان ذلك طبعًا لقلوبهم وطمسًا لها، ووقرا في آذانهم، ما صمت آذانهم وإنها لمرهفة السمع، ولكنها لا تنتفع بما تسمع؛ لأنها لا تقبل الحق، فكان ذلك وقرًا وصممًا لها يمنعها من فقه ما تسمع، فإن تدعهم يا مُحَمَّد إلى الهدى فلن يهتدوا أبدًا، ختم الله على قلوبهم بسبب فساد أعمالهم فلا تبتئس إن لم يؤمنوا بآيات الله، ولا تظنن أن ذلك بسبب تقصير منك في التبليغ، فقد بلّغت وما عليك إلاَّ البلاغ، إنما إعراضهم وكفرهم لِنَغَلٍ في قلوبهم وعَمَى بصائرهم، فليسوا أهلا للفقه والاستماع، إنهم لن ينتفعوا بالنذر أبدًا.

---------------------

 

{وَرَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَو يُوَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ العَذَابُ بَل لَّهُم مَّوعِدٌ لَّن يَّجِدُوا مِن دُونِهِ مَوئِلاً، وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً}

 

{وَرَبُّكَ} يا مُحَمَّد، نسب اسم الرب لكاف الخطاب والمخاطب هو رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ إيناسًا له وتطمينًا لقلبه وجبرًا لخاطره، وهي نسبة تشعره بمعية الله ولطفه به ثم عرف الخبر {الغَفُورُ} لإفادة القصر، إن الله هو الغفور العظيم المغفرة، ذو الرحمة الواسعة بالمخلوقين، ولذلك أمهلهم ولم يعجلهم بالعقوبة وهم يستحقونها، لو يؤاخذاهم بما كسبت أيديهم لعجل لهم عذابه، بل أجَّله وأمهلهم ولهم موعد لن يخطئهم ولن يجدوا من دونه ملجأ ولا محيصًا، وهم يحسبون أن إملاءنا لهم خيرًا لأنفسهم، إنما نملي لهم ليزدادوا إثْمًا، ولن يفلتوا من عذابنا، وسنسلك بهم مسلك الذِّينَ سبقوهم من المتكبرين الذِّينَ صرفهم الله بكبرهم عن آياته، فهم لا يهتدون ولا يستمعون للنذر حتى يأتيهم العذاب بغتة وهم لا يشعرون، يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون {فإن يصبروا في النار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين} (فصلت:24)، تلك هي عاقبة هؤلاء المعرضين فلا يغرنهم إمهال الله لهم، {ولا تحسبن الذِّينَ كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون} (الأنفال:95)، وكان الأولى لقومك أن يعتبروا ويتعظوا بمن سبقهم من الكفار المكذبين بالنذر، المعرضين عن آيات الله، فأهلكهم الله وتركوا قراهم خاوية بها ظلموا، أفلا ينظرون إلى تلك القرى التي أهلك الله أصحابها وضرب موعدا لإهلاكها؟

 

فلما جاء أمر الله وأيقنوا بالهلاك لم يستطيعوا لأمر الله دفعا، ولم يجدوا عنه موئلا، أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذِّينَ كانوا من قبلهم وكيف أصبحت قراهم عبرة للمعتبرين؟، إنهم لم يعتبروا بمن سبقهم فجاء موعدهم فأنفذ الله فيهم حكمَهُ ولم يستطيعوا له ردا، فقد أرى الله نبيه مصارعهم يوم بدر وأراه مصارع المستهزئين وغيرهم من المتمردين على الله بعد قليل من نزول هذه الآيات وصدق الله العظيم.

 

ما أبلغ هذه الآيات تعقيبًا على ما سبق من أول السُورَة في أمر المكذبين بآيات الله المتكبرين على رسله المعرضين عما جاءهم من الهدى، إنها صورة مطابقة لهم ولأمثالهم، ممن ختم الله على قلوبهم من الكفار حتى تقوم الساعة، وهي أيضًا تثبيت لقلوب الدعاة إلى سبيله أن يثبتوا على أمرهم ولا يضعفوا أمام هؤلاء العتاة، فإن لهم موعدًا لن يتجاوزوه، {إن أجل الله إذا جاء لا يُوَخَّرُ لو كنتم تعلمون} (نوح:04)، {ألا إلى الله تصير الأمور} (الشورى:53)، {استعينوا بالله واصبروا إن الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} (الأعراف:128)

 

الكهف: الآيات ( 60 - 82 ) قصة موسى والعبد الصالح

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)

------------------------------------

 

قصة موسى عليه السلام مع العبد الصالح

 

ثم ينتقل بنا الأسلوب القرآني إلى موضوع آخر شديد الاتصال بِجَوِّ السُورَة العام:

 

اذكر لهم يا مُحَمَّد رحلة موسى إلى مجمع البحرين، حيث يلتقي بالرجل الصالح الذي علمه الله علمًا لَدُنِيًّا، فكان من شأنه مع موسى ما كان، وتكلم أهل التفسير في موسى هذا: هل هو موسى بن عمران نبِي بنِي إسرائيل صاحب التوراة، أم غيره، وإذا كان هو نبي بني إسرائيل المعروف، فكيف تَرَك بني إسرائيل وذهب في رحلته هذه التي عزم أن يمضي فيها حقُبا؟، أبإذن من الله؟، ومن يترك لبني إسرائيل خليفته عليهم، استشكلوا هذا الغياب من هذا النبي الرسول؟، والراجح فيما يبدو وحسبما تثبت الرواية عن ابن عباس أنه هو نبي بني إسرائيل المعروف لا غيره، وأنه هو الذي يتحدث عنه القرآن كثيرًا باسمه المعهود موسى، ولا نعرف هذا الاسم في القرآن كلِّه إلاَّ لهذا النبي الرسول صاحب التوراة، وأن الرحلة كانت بإذنٍ من الله، وأن سبب هذه الرحلة أن بني إسرائيل سألوا موسى، هل تعلم في الأرض أحدًا أوتي من العلم ما أوتيت؟ فقال لا، وذلك إثر خطبة بليغة خطبها فيهم، بيَّن لهم فيها الحلال والحرام وبيَّن حدود الله وأحكامه ووعده ووعيده.

 

وهذا بعدما جاءهم بالتوراة التي فيها هدى ونور من الله، فألقوا عليه هذا السؤال، وقد تعجبوا من سعة علمه وحكمته وبيانه، فأجاب حسب اعتقاده أن لا أحد في الأرض يعلم مثل هذا العلم، وكان ينبغي أن يرد العلم إلى الله ويقول: "الله أعلم"، فنبهه الله على خطئه هذا، وأوحى إليه أن في الأرض عبدًا من عبادنا عنده من العلم ما ليس عندك يا موسى، فطلب موسى من الله أن يدُلَّه عليه حتى يستزيد من العلم الذي عنده ويضيفه إلى علمه، وقد علم مما أوحي إليه أن طلب العلم فريضة وقربة هي من أعظم القرب إلى الله، فرغب أن يحصل على هذا الفضل ولو طالت الشقة وعظمت المشقة، فأذن الله له في ذلك ودلَّه على طريقه، وجعل له علامة على عثوره على الرجل، فعزم على قصده واصطحب معه فتاه: "يوشع بن نون"، وهو من افرائيم بن يوسف بن يعقوب عليهم السلام، وكان قد صَحِبَ موسى وخَدَمَهُ ولَزِمَه تقربًا إلى الله ورغبة فيما عنده من العلم، لا عبدًا مملوكًا له بل خادمًا متطوعًا، كما كان أنس بن مالك لنبينا مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ.

 

ولنرجع إلى جواب موسى بالنفي حين سأله بنو إسرائيل هل في الأرض أعلم منك؟، لا يجوز أن نظن به أنه قال ذلك اعتزازًا وفخرًا، إنما نفهم من جوابه أنه إنما قال ذلك اعتقادًا لما يقول أنه الحق، وتحدثًا بنعمة الله وفضله عليه، وسدًّا لباب المخالفة والمعاندة لقومه، وهم المعروفون بالعناد والمخالفة، ولو يظنون أن هنالك من هو أعلم منه لجادلوه ولامتنعوا من متابعته حتى ينظروا هذا الذي يجدون عنده من العلم ما لَم يكن عند موسى، فلنحسن الظن بأنبياء الله تعالى وأوليائه، لقد سدَّ عليهم هذا الباب حتى يتبعوا ما أنزل الله ويؤمنوا بالكتاب كله ويعملوا بما شرع الله لهم ويكفوا عن الاختلاف والسؤال المراد به العنت.

 

كان هذا هو السبب في هذه الرحلة من نبي الله موسى في طلب العلم؛ قال لفتاه لا أبرح سائرًا حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبًا، والحقبة في مشهور استعمال العرب ثمانون عامًا، يعني أنه لا يزال سائرًا حتى يجتمع بالرجل العالم وقد جعل الله له علامة التقائه به في مجمع البحرين حيث تدب الحياة في الحوت الذي يتخذه زادًا ويتسرب في البحر فذلك هو الموضع الذي يلتقي فيه بمراده، وقد تكلم المفسرون في مجمع البحرين أي مجمع هذا؟، أفي مجمع البحرين من مضيق هرمز؟، أم مضيق جبل طارق كما قال القرطبي؟، أو مجمع بحر الروم ببحر فارس؟، أو مجمع خليج العقبة بخليج السويس؟

 

والذي نراه ونرجحه هو هذا الأخير؛ لأن جزيرة سيناء هي مضرب موسى وبني إسرائيل وما كان الله ليبعده عن قومه بعيدًا وهو إمامهم ومعلمهم، هذا الذي نراه، ولا يمتنع أن يكون غيره والله أعلم، ولا يفوتنا من القصة غرض الاعتبار بجهلنا هذا الموضع ولو تعلقت به فائدة لذكره الله وعيَّن موضعه.

 

سار نبي الله موسى، وفتاه يوشع يحمل الزاد، وهو حوت في مكتل، وطويًا مسافة السفر في مدة يعلمها الله حتى بلغا مجمع البحرين، وقد أوصى موسى فتاه أن يخبره إذا فقد الحوت؛ لأن فقدانه وتسرُّبه في البحر علامة على التقائهما بالعبد الصالح فاتخذ الحوت سبيله في البحر سربا بعد أن دبت فيه الحياة، ولكن قدر الله شاء أن ينسيا حوتهما ويغفلا عنه، تسرَّب الحوت داخل الماء وبعد مدة من السير شعر موسى بالجوع والتعب.

 

{فَقَالَ لِفَتَاهُ ءَاتِنَا غَدَاءَنَا لَقَد لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}

 

حينئذ تذكر الفتى أنه عندما آوى إلى الصخرة، دبت الحياة في الحوت فقفز في البحر واتخذ سبيله في الماء، ولكن الفتى نسي أن يخبر موسى بذلك وعبر بصيغة التعجب.

 

{أَرَايتَ إِذَ اَوَينَا إِلَى الصَّخرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهِ إِلاَّ الشَّيطَانُ أَنَ اَذكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحرِ عَجَبًا}.

 

وهذه العبارة: "أَرأيت"، كثيرًا ما تستعمل في كلام العرب ولا يراد به حقيقة معناها الاستفهامي، إنما يراد بها التعجب، وقد تكرر ورودها في القرآن قال له: {أَرَايتَ إِذَ اَوَينَا إِلَى الصَّخرَةِ}، والصخرة موضعٌ قالاَ فيه أو باتا، ثم استأنفا سيرهما، هنالك قفز الحوت في البحر فنسي الفتَى أن يخبر موسى بذلك؛ لأنه قال: {وَمَا أَنسَانِيهِ إِلاَّ الشَّيطَانُ أَنَ اَذكُرَهُ}، كما نسي موسى أن يسأل الفتى عند استئناف السير؛ لأنه صاحب الأمر الذي ينبغي أن يهتم له، ولذلك نسب النسيان أول الأمر إليهما معًا، فالفتى نسيَ ذكر الحوت لموسى، وموسى نسي أن يتفقد أمره عند الارتحال، هذا ما يبدو لي من الفرق، ولم أره قبل، إذن فالمنسي عند الفتى هو ذكر الحوت وخبره لا الحوت نفسه، ونسب هذا النسيان لنفسه، لا لهما ونسب الإنساء إلى الشيطان؛ لأنه السبب فيه، وتعجب من أمر الحوت، وأمره حقًا عجب، ترجع إليه الحياة بعدما أخذ منه النصف، وقيل أقل، وقيل أكثر، ثم يذهب سابحًا في لجة الماء، قال موسى: "ذلك ما نبغي"، أي هو الأمر الذي نطلب؛ لأنه علامة على وجود المقصود.

 

{فَارَتَدَّا عَلَى ءَاثَارِهِمَا قَصَصًا}.

 

رجعا يقتصان آثارهما، لا يحيدان عنه يمنة ولا يسرة حتى عثرا على مطلوبهما.

-------------------

 

{فَوَجَدَا عَبدًا مِّن عِبَادِنَا ءَاتَينَاهُ رَحْمَةً مِّن عِندِنَا وَعَلَّمنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلمًا}.

 

عند الصخرة وجدا عبدًا من عباد الله نائمًا مسجى في شملته، وقيل وجداه يصلي، نسبه الله إليه تشريف وآتاه رحمة من عنده وعلمه من لدنه علمًا لم يؤته غيره من العباد، ألقى موسى ـ عليه السلام ـ، فردّ عليه الخضر: عليكم السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال موسى: ومن أنبأك أني نبي بني إسرائيل؟، قال أنبأني الذي أرسلك إلَيَّ، وهذا من العلم اللَّدُنِي لهذا العبد الصالح الذي يكاد يتفق الرواة أن اسمه الخضر، ويختلفون في نسبه، ولا يتعلَّق الغرض باختلافهم في هذا ونحوه، ويذكرون أنه لا يزال حَيًّا يرزق، وأنه اجتمع به بعض الصالحين، وقد يكونون اجتمعوا بروحه كما اجتمع النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ بأرواح الأنبياء ليلة أسرِيَ به، ولا نكذب بما يخبر هؤلاء الصالحون، وعالَم الأرواح أوسع من عالَم المادة، أما أن نقطع بوجوده حَيًّا كما يقول الكثير فلا، ثم يختلفون بعد ذلك في نبوته، فيقول البعض: "إنه نبي؛ لأن الله قال آتيناه رحمةً من عندنا، والرحمة هنا هي النبوة؛ لقول الله تعالى: {أهم يقسمون رحمة ربك} (الزخرف:32)"، فالرحمة هنا قالوا هي النبوة، ولا نرى هذا يكفي دليلاً لإثبات النبوة، وقد قال أصحاب الكَهف، ونحن نقول بعدهم: {ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدًا}، ولم يريدوا بها النبوة، ولا أحد يقول بهذا فهو إذن عبدٌ صالح ميّزه الله واختصه بعلم من لدنه.

---------------------------

 

{قَالَ لَهُ مُوسَى هَلَ اَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمتَ رُشدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَستَطِيعَ مَعِي صَبرًا (67) وَكَيفَ تَصبِرُ عَلَى مَا لَم تُحِطْ بِهِ خُبرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَّلاَ أَعصِي لَكَ أَمرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعتَنِي فَلاَ تَسأَلَنِّي عَن شَيْءٍ حَتىَّ أُحدِثَ لَكَ مِنهُ ذِكرًا (70) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقتَهَا لِتُغرِقَ أَهلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيئًا اِمرًا (71) قَالَ أَلَمَ اَقُلِ اِنَّكَ لَن تَستَطِيعَ مَعِي صَبرًا (72) قَالَ لاَ تُوَاخِذنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرهِقْنِي مِنَ اَمرِي عُسرًا (73)}.

 

عرض موسى طلبه على الخضر عرضًا، تأدبًا معه وكم لنا من آداب نتعلمها من كتاب ربنا الحكيم، قال له:

 

{هَلَ اَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمتَ رُشدًا}

 

يعلمنا القرآن أدبًا آخر من آداب التعلم، وهو أنَّ طالب العلم تابع، والمعلم متبوع لشرف العلم، فهو الإمام ومن سواه مأموم، ثم يصرح موسى بطلبه وهو أن يُعلِّمه مِما عُلِّم من الرشد والهدى.

 

{قَالَ إِنَّكَ لَن تَستَطِيعَ مَعِي صَبرًا}.

 

أجابه العبد الصالح قال: "إنك لن تستطيع معي صبرًا"، والحكم مؤكد بإنَّ، ونكر الصبر، والنكرةُ في سياق النفي تؤذن بالعموم، فلا استطاعة لموسى إذن على أدنى صبر مع الخضر، وكيف ذلك وقد جاء يطلب العلم؟، ذلك لما سيأتي.

 

{وَكَيفَ تَصبِرُ عَلَى مَا لَم تُحِطْ بِهِ خُبرًا}

 

قال له عاذرًا وكيف يتأتى لك أن تصبر على أمور لم تحط بها تأويلا، إنك يا موسى أوتيت علم التوراة فيها أحكام الله وفيها هدى ونور، غير أن العلم الذي اختصني الله به لا صبر لك عليه، كيف يصبر موسى على أمور ظاهرها يخالف ما عنده من الحكم، وهو النبي الرسول المكلف بالنهي عما يراه في الظاهر منكرًا، فهو معذور إذن إن لم يستطع صبرًا مع تصرفات الخضر، غير أنه قال له في هيئة طالب العلم المتأدب مع معلِّمه.

 

{سَتَجِدُنِيَ إِن شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَّلاَ أَعصِي لَكَ أَمرًا}.

 

وتأدب مع ربه فقال: {سَتَجِدُنِيَ إِن شَاءَ اللهُ صَابِرًا}، فقد علَّق أمرَه بِمشيئة الله، وهذا من الأدب العالي الذي نتعلمه من كتاب ربنا، والذي نقتدي فيه بأهل الهدى من أنبياء الله ورسله الذِّينَ جعلهم الله قدوة لمن بعدهم من المؤمنين، {أُولَئِكَ الذِّينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقتَدِه} (الأنعام:90)، وعده أن يصبر معه الصبر الذي يرضاه وأكد هذا الصبر بعدم عصيانه فقال هو:

{لاَ أَعصِي لَكَ أَمرًا}

 

لا أخالفك في أمر، ولا أعصي أوامرك مطلقًا، وهذا هو الأدب العالي الذي يجب أن يتحلّى به المتعلم في عِشرة مُعلِّمه حتى ينال مما عنده من العلم، التواضعُ والخدمةُ والصبرُ والطاعةُ الكاملة، وينبغي أن يلين له القول حتى يطيب قلبه فينال منه مراده، وكذلك كنا نعامل مشايخنا رحمهم الله، كنا نتلطف لهم إذا أخطؤوا بعبارات لطيفة ننسب فيها القصور إلى فهمنا حتى إذا كرروا العبارة وأولوها عناية خاصة لتفهيمنا أدركوا خطأهم بأنفسهم ولا نجابههم بما يسوءهم، وربما نعرض وجه الصواب عرضًا إذا لم ينتبهوا له، ولا نجابههم بالتخطئة أو عدم الفهم تأدبًا معهم ورفعًا لمقام العلم، نتقبل منهم اللوم والعتاب ونتلقف عنهم الصواب، ونستأني بهم إذا أخطؤوا، أيّ أدب هذا تحمله هذه العبارة القرآنية البليغة وتفيضه على تاليها والمتدبرين لمعناها، هذا والطاعة المطلقة لا تكون إلاّ لله ولمن عصمهم الله، أما طاعة غير هؤلاء فهي في معروف، وهذا معروف عند أهل العقول الذِّينَ صنعت عقولهم شريعةُ القرآن الحكيم.

 

{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعتَنِي فَلاَ تَسأَلَنِّي عَن شَيءٍ حَتَّى أُحدِثَ لَكَ مِنهُ ذِكرًا}

 

قال أستاذ موسى لموسى إن اتبعتني لتتعلم العلم فلا تعاجلني بالسؤال عن شيء لم تفهم تأويله حتى أكون أنا الذي أكشف عن حقيقته وحقيقة القصد من فعله، وأكد له النهي، تأكيدًا حتى يلزم متابعة هذا الشرط ويصبر ولا يستعجل، وكأنه علم أنه سيُغلب على أمره ولا يطيق الصبر؛ لأن أفعاله لا تجري على الأحكام التي في علم موسى، وعقب نهيه بغاية كشفه له عن حقيقة الأمر الذي يأتيه حتى يصبر في انتظار الفائدة، وهل أجدى ذلك في موسى؟، وهل صبر كما أمره وكفّ عن السؤال والاعتراض؟، إن حدة موسى في الأمر والنهي لم تتركه يسكت، بل أنسته ما كان قد قطعه على نفسه ووعد به معلِّمَه.

 

{فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقتَهَا لِتُغرِقَ أَهلَهَا لَقَد جِئتَ شَيئًا اِمرًا}

 

انطلقا سائرين على سيف البحر حتى وجدا سفينة ففاوضا أهلها في ركوبها معهم فأذنوا لهما في ذلك من غير مقابل أجرة، ولم يحدثنا القرآن كما روى بعضهم عن ذلك، ولا عن وجهتهما في هذا السفر، ولا تكون الرحلة إلا في وجهة صالحة؛ لأن هذا العبد الصالح المعلم لا يمشي إلاّ لقصد نبيل، وهذا ما لا يحتاج إلى تنصيص، كما أنه لم يحدثنا عن نقط العبر من القصة، يقول: "بينما هم سائرون في البحر إذا بالخضر يأخذ حديدة يخرق بها جدار السفينة، فما إن يرى منه موسى ذلك حتى يسارع في الإنكار ناسيًا كل شيء.

 

قال له: أخرقت السفينة ليدخل الماء فيها فيغرق أهلها؟!، إن هذا لأمر عظيم، وما هذا بالجزاء الذي يجزى به المحسنون؟، قالها كلمات صريحة تفيض بالحدة والإنكار مخاطبًا بها مُعلِّمه الذي كان وعده أن يصبر له، ولا يعصيه في أمره ولا يعرضه في شيء يراه منه حتى يكون هو الذي يخبره بحقيقته والقصد منه"، أجابه الخضر مذكّرًا إياه بوعده وشرطه عليه.

 

{قَالَ أَلَمَ اَقُلِ اِنَّكَ لَن تَستَطِيعَ مَعِي صَبرًا}

 

جاء السؤال في صيغة التقرير؛ وذلك أبلغ حتى يكون موسى هو الذي يقر بالحقيقة ويرجع إلى الصبر، وهذا من الأدب العالي الذي يشرعه القرآن في معاملة أهل العلم لأتباعهم ومريديهم، أليس قد قلت وأكدتُ القولَ إنك لن تستطيع الصبر على ما لم تحط به خبرًا؟، وهذا تنبيه منه لموسى حتى لا يعود مرةً أخرى إلى هذا الخطأ، فتلقاه موسى بكامل الأدب واعتذر لمعلمه بالنسيان، وطلب منه أن لا يؤاخذه على هذا النسيان الذي صدر منه لأول مرة، وأن لا يرهقه بالمؤاخذة عليه ولا يعسر عليه في أمره.

 

{قَالَ لاَ تُوَاخِذنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرهِقنِي مِنَ اَمرِي عُسرًا}

 

عبارات يقولها موسى مخاطبًا بها معلمه، فيها التلطف وحسن الاعتذار، وليس فيها أدنى شيء من المعارضة والتنطع، ولذلك سكت عنه معلمه عاذرًا له عافيًا عنه، وكأن لم تقع مخالفة، وهذا ما ينبغي أن يقع في معاملات التلاميذ لمعلميهم وفي معاملات المعلِّمين لتلاميذهم من العفو عن السقطات الصغيرة التي لم يسبق لها مثيل، والتي مبعثها الغفلة والنسيان لا سيما إن سُلِّم القصد منها.

---------------------------

 

{فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلتَ نَفسًا زَاكِيَةً بِغَيرِ نَفسٍ لَّقَد جِئتَ شَيئًا نُّكُرًا (74) قَالَ أَلَمَ اَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَستَطِيعَ مَعِي صَبرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلتُكَ عَن شَيءٍ بَعدَهَا فَلاَ تُصَاحِبنِي قَد بَلَغتَ مِن لَّدُنِّي عُذرًا (76)}

 

نزلا من السفينة واستأنفا رحلتهما سيرًا في البر وانطلقا حتى لقيا غلامًا وسيمًا فأخذه الخضر، ففصل رأسه عن جسده فمات، لما رأى موسى هذه العملية أخذته سَورَةٌ في إنكار المنكر، ولم يصبر ونسي ما كان وعد صاحبه من الصبر، فأنكر عليه قال:

 

{أَقَتَلتَ نَفسًا زَاكِيَةً بِغَيرِ نَفسٍ لَّقَد جِئْتَ شَيئًا نُّكُرًا}

 

أتقتل نفسًا بريئة طاهرة لم ترتكب إثْمًا ولم تقتل نفسًا، لقد أتيت أمرًا منكرًا، كان إنكار موسى هذه المرة أشد على صاحبه من الإنكار الأول؛ لأنه هنا قتل محقق، وفي الأول غرق متوقع ربما يترتب عليه موت، لذلك جاء جواب الخضر أشد من جوابه الأول.

 

{قَالَ أَلَمَ اَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَستَطِيعَ مَعِي صَبرًا}

 

أما قلت لك صراحة إنك لن تستطيع الصبر معي، ذكَّره بالقول الذي قاله له فنسيه، وكان هذا النسيان هذه المرة مكررًا فهو أعجب وأبعد عن العذر، فهو نسيان يستوجب العتاب وربما العقاب، لذلك فهم موسى فداحة خطئه وحدّة معارضته، وما كان ينبغي أن يفعل لو صبر، فسارع إلى الاعتذار والإعذار:

 

{قَالَ إِنْ سَأَلتُكَ عَن شَيءٍ بَعدَهَا فَلاَ تُصَاحِبنِي قَد بَلَغتَ مِن لَّدُنِّي عُذرًا}

 

قال نادمًا على نسيانه يعتذر لمعلمه: إن سألتك عن شيء بعد هذه المرة فاطردني إن شئتَ من مصاحبتك، قد بلغت من لدني عذرًا؛ لتكرر خطئي وخُلفِي، إنما أطلب منك العفو هذه المرة، وأرغب إليك أن تتركني في صحبتك ولا تطردني، وأعدك أن لا أعود، فإن أنا عدت فلا عذر لي معك، والأمر أمرك حينئذ، إن فارقتني فأنت معذور من جهتي غير ملوم، قال موسى هذا الكلام، ويعلم الله ما في نفسه من الصبر على ما شاهده من صاحبه في هذه المرة والتي قبلها من عمل لا يتحمله عقله ولا يقره علمه، ولكنه تذكر وصبر آملاً أن يحدث له معلمه ذكرًا عندما يريد هو لا عندما يسأله تلميذه، فقبل منه مُعلِّمه للمرة الثانية اعتذاره، والعذر عند كرام الناس مقبول.

---------------------------

 

{فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهلَ قَريَةٍ اِستَطعَمَا أَهلَهَا فَأَبَوَاْ اَن يُّضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُّرِيدُ أَن يَّنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَو شِئتَ لَتَّخَذتَ عَلَيهِ أَجرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَينِي وَبَينِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَاوِيلِ مَا لَم تَستَطِع عَلَيهِ صَبرًا (78)}

 

فاستأنفا سيرهما حتى إذا أتيا قرية طلبا من أهلها طعام الضيافة، فلم يفعلوا وأبوا ضيافتهما، وإطعام الضيف واجب في الدين، وفي حق المروءة والأخلاق، فقد ارتكب أهلُ القرية إذن إثمًا يأباه الشرع، وتأباه الأخلاق والمروءة، بينما كان استطعام الخضر وموسى ليس فيه غضاضة؛ لأنهما طلبا حقًا لهما، وحق الضيف واجب قبل أن يستطعم يتعجل به كرام الناس ولا يؤخرونه.

 

وفي تعبير القرآن بالضيافة استثارة لشعور السامعين بحق إكرام الضيف الذي استقر في النفوس، وتفظيع لمنكِر هذا الحق وإبائه لتقديمه، ورفع لمقام الخضر وموسى عن ذل السؤال وفداحته، فليس عملهما هذا تسوّلا، فمن ظنّه ذاك فقد أساء في حق العبدين الصالحين وأخطأ خطأً بيّنًا، ولا شك أن هيئة الرجلين ليست في هيئة الشحاذين والمتسولين، بل هي هيئة أهل الهمة والمروءة، فما أحرى أن تستقبل هيئتهما بالحفاوة والإكرام، ولكن أهل القرية الذين استضافاهم بخلوا، وما أقبح البخل لا سيما في مثل هذا المقام، وعلى مثل هذين الضيفين الكريمين.

 

{فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُّرِيدُ أَن يَّنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَو شِئتَ لَتَّخَذتَ عَلَيهِ أَجرًا}

 

وجد الخضر وصاحبه في هذه القرية جدارًا مائلا للسقوط، ولا غرابة في التعبير عن هذا الميلان بالإرادة، والجماد ليست له إرادة، ولكن هذه العبارة مألوفة مستعملة في كلام العرب وغيرهم، وفي العبارة تعبير مبين عن مقدار هذا الميلان، وأنه على وشك السقوط، فكأن حالته حالة من يريد السقوط، فهو مجاز بليغ، فمر عليه الخضر بيده فأقامه، فاستقام بإذن الله، هكذا تؤذن العبارة بالإقامة، لَم يقل بناه ولا دعمه ولا رمَّمه، وهي معجزة وكرامة لهذا العبد الصالح الذي علمه الله وقواه على ما يشاء لما يريد لحكمة يعلمها، عندها تأثر موسى لما رأى من صاحبه من الإحسان إلى من لا يستحقون الإحسان في نظر موسى فاعترضه قائلا:

 

{لَو شِئتَ لَتَّخَذتَ عَلَيهِ أَجرًا}

 

قال لو شئت لطلبت أجر عملك الكبير هذا، إنهم أناس لا يستحقون الإحسان وهم لم يقوموا بواجب الإحسان لضيفهم، فلو قطعت عليهم شيئًا يكون أجرة عملك نقيم به أودنا، ونحن في حاجة إلى طعام كما ترى، قال هذا الكلام ناسيًا وعده الأول والأخير، فاستوجب العقاب من مُعلِّمه ولا يكون هذه المرة إلاّ الفراق.

 

{قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَينِي وَبَينِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَاوِيلِ مَا لَمْ تَستَطِع عَلَيهِ صَبرًا}

 

عندها قال الخضر لصاحبه هذا فراق بيني وبينك، لا بقاء لك معي بعد هذا الاعتراض الذي استوجبت به ما قطعته على نفسك من الفراق وعدم المصاحبة، إنه هذه المرة لا يستحق العفو؛ لأنه كرر الذنب ثلاث مرات، وقد نطق هو بنفسه بنوع العقوبة إذا هو كرر السؤال، ولأنه في المرتين الأولَيَين أنكر ما رآه منكرًا، وفي هذه المرة أنكر ما يراه معروفًا، وهو الإحسان، وما ينبغي لمثله لأنْ ينكر هذا الإحسان، ولو كان في نظره واقعًا فيمن لا يستأهلونه، ولكن هذا الإنكار من مثل موسى النبي الرسول ذنب، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، فحق الأنبياء أن يدعوا الناس أن يحسنوا إلى من أساء إليهم حتى لا ينقطع الفضل بين الناس، فإنكاره هذه المرة منكر من مثله لا يستحق العفو، لذلك قال له مُعلِّمُه:

 

{هَذَا فِرَاقُ بَينِي وَبَينِكَ}

 

هذا الذي ارتكبتَه من الخطأ وما ينبغي من مثلك، سيكون سببًا للفراق بيننا، ولك عليّ قبل أن نفترق أن أنبئك بتأويل ما فعلتُ مما أنكرتَه عليَّ، وقد وعدتك من قبل بذلك فاستمع:

-------------------------

 

{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَت لِمَسَاكِينَ يَعمَلُونَ فِي البَحرِ فَأَرَدتُ أَنَ اَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَاخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصبًا (79)}

 

أما السفينة التي سألتني عن خرقها فكانت مِلْكًا لمساكين يعملون في البحر يَحملون عليها الناس وأثقالهم، وقد يكونون صيادين للأسماك، وليس لهم مورد من الرزق غيرها، فهي معتمد معيشتهم بعد الله، فأردت أن أحدث فيها بخرقي إياها وترقيعه عيبًا يكون سببًا في إنقاذها من غصب الملك الجبار، وكان وراءهم ملك يغصب كل سفينة صحيحة ليس فيها عيب، فلو لَم أَعِبْها لأَخذها منهم هذا الملك غصبًا، فيحرمهم من مورد معيشتهم، فيكون الضرر أعظم، فاخترت أن أُحدث لهم هذا العيب الذي هو وإن كان ضررًا خفيفًا، فسيكون وقاية لها من الضرر العظيم، وهو فقدانها وحرمانهم منها، فقد أردت لهم خيرًا، وما فعلته هو بإذن الله لا من أمري.

{وَأَمَّا الغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُومِنَينِ فَخَشِينَا أَن يُّرهِقَهُمَا طُغيَانًا وَكُفرًا (80) فَأَرَدنَا أَن يُّبَدِّلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيرًا مِّنهُ زَكَاةً وَأَقرَبَ رُحْمًا (81)}

 

وأما الغلام الذي أنكرت عليّ قتلَه فكان أبواه مؤمنين صالحين، فخشيت أن يهلكهما ويُحمِّلَهما بطغيانه وكُفره ما لا طاقة لهما به من المشقة والعنت في الدنيا، أو ما لا طاقة به من عذاب الله يوم القيامة إن هما طاوعاه على طغيانه وتَمرُّده، وقد علمتُ مما علمني الله أن الولد إن يَعِشْ فسينشأ شَقِيًّا عَصِيًّا، فأردت ـ وإرادتي من إرادة الله وبإذن الله ـ أن أقتله صغيرًا، وفي قتله راحة له من عذاب الله، وراحة لوالديه من تمرده وطغيانه، وسيصبران على فقده محتسبين أجرهم عند الله، وسيُعوَّضُ لهما بصبرهما خيرًا منه زكاة وأقرب رحمًا من ولد صالح ذكر أو أنثى، علم الله ذلك وعلمني أياه، وسبَرُّهُما هذا الولد الثاني وسيكون لهما رحمة من ربهما.

وإضافة الرب إليهما فيه إشعار بحفاوة الله بهما، وأنه مولاهما الذي يريد بهما خيرًا، وفيه إشارة إلى ما يجب أن يكون عليه المؤمن من الرضا بقضاء الله والصبر على بلائه، ففي ذلك حسن العوض من الله تعالى على ما فات وخير الخلف عما فقد، وأن ثقة المؤمن بربه تكون أعظم من ثقته بما في يده ولا تكون عاقبة الصبر إلاّ خيرًا، وقد قيل عوضهما الله عنه بأنثى نشأت صالحة برَّة بوالديها، وخرج من نسلِها عدة أنبياء، والله أعلم.

--------------------------

 

{وَأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَينِ يَتِيمَينِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحتَهُ كَنْزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَّبلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَستَخرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلتُهُ عَنَ اَمرِي ذَلِكَ تَاوِيلُ مَا لَمْ تَسطِعْ عَّلَيهِ صَبرًا (82)}

ثم يُبيِّن الخضر لصاحبه حكمة إقامة الجدار المائل فيقول: وأما الجدارُ الذي أقمتُه فهو لغلامين يتيمين من أهل المدينة، تحته كنز لهما تركه لهما أب صالح، فأراد ربك يا موسى أن يعيشا حتى يبلغا أشُدَّهُما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وذلك بفضل صلاح والدهما.

 

وكل الذي فعلتُه مما رأيت من خرقِ السفينة وقتلِ الغلام وإقامةِ الجدارِ فهو من أمر ربي وبإذنه، ذلك يا موسى تأويل مالم تسطع عليه صبرا، إذا لو علمتَ حكمة ما صنعتُ ما عارضتَنِي بأسئلَتِك، ولو صبرت لأحطتك علما بما صنعتُ.

 

هكذا يحيط الخضر صاحبه خبرا بما رأى ولم يدرك تأويله، ثم يتكلم المفسرون في الرجل الصالح الذي يترك لأولاده كنزا كيف يكون هذا من رجل مؤمن متوكل على الله يكنز المال ويتركه لأولاده مدفونا تحت الأرض؟

 

قال بعضهم ليس الكنز مالا مدفونا، إنها هي حكم مكتوبة في رق، ولا داعي إلى هذا التأويل، إذ يجوز أن يترك لهم مالا، وفي الحديث الصحيح: "لأن تترك ورثتك أغنياء خير لك من أن تتركهم عالة يتكففون الناس"، ويقول ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: "كل مال أديتَ زكاتَه فليس بكنز، ولو كان مدفونا تحت سبع أرضين"، ونحن نقول يجوز أن يكون الأمران جميعا مال مدفون وحكم مكتوبة؛ حتى يستفيد الولدان بالمال ويعملا بالحكم، فينالا منفعة معيشتهما في الدنيا وثواب عملهما في الآخرة، أما إقامة الجدار فليبقى الكنز محفوظا، إذ لو سقط عليه الجدار لانطمر في أنقاضه فيصعب على الولدين استخراجه، وربما يعجزان عن ذلك، وقد تضيع مَعالِمُه بسقوط الجدار، وربما يظهر الكنز فيأخذه الناس بسقوط الجدار، أو يعثرون عليه حين يحفرون عن أساس الجدار، لإعادة بنائه فينهبونه، ففي إقامة الجدار حفظ لمال حلال تركه أب صالح لولديه، وفي صلاح الولدين صلاح للذرية وضمان لحقوقهم بعدهما ببركة تقواهما، وهذا ما تفيده عبارة القرآن: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَّبلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَستَخرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ}.

 

تلك هي إرادة الله ورحمته وعنايته تختص أهل الصلاح والتقوى في أنفسهم وأهليهم، كما رأيت يا موسى أمثال هذه الرحمات من ربك، وهي ما تفيد إضافة الرب إلى كاف الخطاب؛ حتى يعتبر موسى بما وجد من رحمة ربه وعنايته به منذ ولادته وفي جميع مراحل حياته، وكان بالمؤمنين رحيما.

 

ولنا في مطاوي القصة حكم وأحكام وعِظَات ترشدنا وتعلمنا أن نتقبل ما ينزل علينا من قضاء الله وقدره بقلوب مطمئنة راضية بحسن تأويل ما نراه بلاء ومصائب، إذ كثيرا ما تكون عواقبهما خيرًا لدنيانا، أما الآخرة فهو الأجر العظيم ورفع الدرجات ونزول الرحمات للصابرين، وفي الدنيا يعقب الصبر الظفر.

 

{فعسى أن تكرهوا شيئًا ويَجعلَ اللهُ فيه خيرا كثيرًا} (النساء:19).

 

والذي يظهر لنا من هذه المسائل الثلاثة أمور كبرى من أمور الحياة:

 

(الأمر الأول): الاعتناء بالفقراء والمساكين ومساعدتهم وتخليصهم من ظلم الأقوياء المتجبرين.

 

(الأمر الثاني): الاعتناء بالوالدين وتحذيرهم من فتنة الأولاد، وأن من الأولاد عدوًا للوالدين يكون سببا في فتنتهم وهلاكهم، وتعليمهم الرضا والصبر على ما يهلك من أولادهم في سن الصبا ولا يدرون كيف تكون نشأتهم، إذ ربما تكون نشأتهم مرهقة لوالديهم فليصبروا على القضاء، وليرضوا بقدر الله وليثقوا به، وليعلموا أن ما اختار الله لهم خير لهم مما اختاروا لأنفسهم، ولا يريد الله بعبده المؤمن إلاّ خيرًا، فليتق ويصبر.

 

(الأمر الثالث): الاعتناء بأمر الأولاد من طرف الوالدين والإحسان إلى اليتامى ومساعدتهم على شئونهم، والمحافظة على تركاتهم، وإن هذا من أعظم القربات.

 

في هذه المسائل الثلاث التي أطلع الله نبيه موسى من عبده الصالح علمٌ واسع ينير نواحي الحياة، ويزيد المؤمن إيمانًا، فيتمسك بأركان الدين الأربعة التي لا يتم إيمانه إلاّ بها وهي: التوكل على الله، والرضا بقضاء الله، والتفويض إلى الله، والاستسلام لأمر الله والعلم بأن كل أمر واقع من قضاء الله وقدره لا يخلو من حكمة لله بالغة، وأن ثواب الصبر عند الله خيرٌ وأبقى.

 

هذا نمط من علم الله اللَّدُني الذي علمه عبده الصالح، والذي لا يظهر لموسى وغيره من الأنبياء، ولو صبر موسى لتعلَّم أكثر، ولا شك أن لِلخَضر تصرفات بإذن الله قبل التقائه بموسى وبعده، وهذا نمط منها، وفوق كل ذي علم عليم، وعلوم الله واسعة، وحكمُهُ بالغة، وعواقب أهل الإيمان والصلاح حميدة، ورحمة الله قريب من المحسنين.

 

ولنا في خرق السفينة قاعدة تنير لنا الطريق في باب واسع من الفقه، وهو أن إحداث الضرر اليسير جائز، إذا كان ذلك وقاية من الضرر الكبير، فلولا ذلك الخرق الذي لم يكن خطرًا على السفينة لغُصبت عليهم سفينتهم، فيحرموا منها ويفقدوا معتمد معيشتهم، وهذا أعظم من خرقها وترقيعها، فهو وإن كان عيبًا فيها، لكنه لا يُفَوِّتُهُم مَصلَحَتَهُم منها، تلك هي قاعدة ارتكاب أخف الضررين.

 

أما قتل الغلام فليست من محيط علمنا، ولا تجري وفق تصرفاتنا، وليس في شريعة الله المنزلة علينا قتل الصبيان، ولو ارتكبوا ذنوبًا، وهي في حقهم لا تكون ذنوبًا تستوجب العقوبة؛ لأنَّ قَلَم التكليف مرفوع عن تصرفاتهم ما لم يبلغوا الحلم، ولنا فيها من الحِكم ما تقدَّم مما يزيد إيماننا ويقيننا ورضانا بما يقدّره الله لنا، والذي نستفيده منها ومن التي بعدها أن تقوى الله تدفع المكروهَ الذي في غيب الله عنا وعن أولادنا، فما أعظم بركة التقوى على المتقين، وما أقرب رحمة الله من المحسنين.

 

الكهف: الآيات ( 83 - 98 ) قصة ذي القرنين

وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)

----------------------------------

 

في هذه الآيات تأتي القصةُ الثالثة من القصص المعروضة في هذه السُورَة المباركة التي تحمل هي الأخرى عبرًا وعظات لأولي الألباب، وهنا يأتي الجواب عن السؤال الثالث من الأسئلة الثلاثة التي اقترحها اليهود على كفار قريش حين سألوهم عن خبر هذا النبي المرسل، اقترحوا عليهم أن يسألوه عن ثلاثة أسئلة، وقد تقدم بيانُها، فإما أن يجيب عنها كلُّها أو لا يجيب، وكلا الأمرين مسقط لرسالته، وإما أن يُجيب عن بعضها ويُفوِّض البعض الباقي إلى الله فهو نبيّ حقا، وهذا السؤال الثالث يأتي جوابُه كما يلي:

 

{قُل سَأَتلُوا عَلَيكُم مِّنهُ ذِكرًا}

 

قل لهم يا مُحَمَّد: سأتلوا عليكم من شأنه ذكرا، يكون لكم به موعظة واعتبارا.

 

ولا ترد في الآية كل تفاصيل الحكاية فليس هذا من طريقة القرآن في عرض القصص، فهو لا يعرض إلا ما تتعلق به الفائدة، من تثبيت أصول الدعوة وقواعد الإيمان بالله واليوم الآخر مما جاءت به الرسالات الربانية، ولذلك لم يتكلم عن هوية هذا الرجل الذي يُسمَّى ذو القرنين، ولا عن سبب تسميته بهذا الاسم، ولا عن تاريخ ظهوره، ولا عن موطنه الأصلي، كل ذلك لا يتعلق به الغرض من الدعوة، وللمفسرين والقصاص حظُّهم من ذلك، وقد اختلفوا فيه كثيرًا، فمنهم من قال: "إنه نبي"، واستدلوا لقولهم هذا بقوله تعالى: {قُلنَا يَا ذَا القَرنَينِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِم حُسنًا}، ولا يكفي هذا في الاستدلال على صحة قولِهم كما نرى، ويراه كثير من المفسرين؛ لأن هذا القول الموجه له من الله يمكن أن يكون بطريق الوحي المباشر، ويمكن أن يكون بطريق نبِيٍّ من أنبياء زمانه، ويمكن أن يكون إلهامًا له من الله وإرشادًا، ويتفق المختلفون في نُبُوَّتِه وعدمها في أنه مَلِكٌ صالح، مَلَكَ مُلكًا عريضًا في مغرب من الأرض ومشرقها كما ينص على ذلك كلام الحق جلّ جلاله، ثم يختلفون في موطنه وهويَّته فيقول البعض: "إنه هو الاسكندر المقدوني اليوناني وموطنه مقدونيا وهي عاصمته ونقطة انطلاقه"، ويقول آخرون: "إنه غيره؛ لأن الاسكندر كان تلميذًا لأرسطو طاليس اليوناني، وهذا له فلسفة في الإلهيات مناقضة لأصل الدين الإسلامي الذي جاءت به الرسل"، ولا نطيل في تفاصيل اختلافاتهم؛ لأن ذلك يشغلنا عن المقصود، إلا أنا نعرض هنا خبرًا قرأناه في بحث مهم لأحد الكتاب المعاصرين، وهو عالم بحاثة مسلم من علماء الهند أبوه هندي، وأمه عربية، ولد سنة:1888م، وتوفي سنة:1958م، سكن المدينة وتزوّج فيها ووَلَد، وله مؤلفات كثيرة وهو ذو ثقافة عربية وهندية وإنجليزية، وهو من الذِّينَ يعتمد على أبحاثهم.

 

وملخّص بحثه في الموضوع كما يلي: يقول العالم البحاثة أبو الكلام آزاد: "ما دام السؤال جاء من طرف اليهود، فلابدّ أن يكون لهم علم ببعض شأنه، فمن أين لهم علمٌ به؟، إنا نجد في سفر دانيال من أسفار التوراة أن دانيال ـ عليه السلام ـ رأى رؤيا عندما كانت اليهود مأسورين عند الملك: "بختنصر" الذي سلّط على اليهود وخرّب بيت المقدس وهيكل سليمان، وكان هذا الملك وثنيًا طاغية قتل عددًا كبيرًا من اليهود وأسرَ عددًا وشتت شملهم، وذلك عقوبةً من الله لهم؛ لقتلهم أنبياء الله بغير حق، في هذه الفترة من الزمن كان نبي الله دانيال رأى رؤيا، ورؤى النبيين وحيٌ وحق، رأى في المنام: "كبشًا ذا قرنين كبيرين ينطح بهما شرقًا وغربًا، ثم رأى تيسًا جاء من جهة الغرب، له قرن واحد صلب نطح به الكبش فكسر قرنيه وأرداه قتيلا"، ثم إن دانيال ـ عليه السلام ـ سأل جبريل ـ عليه السلام ـ عن تفسير هذه الرؤيا فقال له جبريل: "أما الكبش ذو القرنين فهو ملك ذو سلطان يخرج من بلاد فارس، يقوى أمرُه ويشتدُّ، وأما التيس ذو القرن الواحد فهو ملك يخرج في أرض اليونان، يتغلّب على الأول ويخرِّب ملكه".

 

فكان الأمر كذلك، بعد مدة خرج في بلاد فارس ملكٌ مؤمن يسمى (قورش) وحّد مملكة فارس، وضم إليها مملكة أخرى بجانبها تُسَمَّى (ميديا) فكوّن من المملكتين دولةً قوية الجانب مرهوبة ثم هجم إلى جهة فلسطين، وحرّر اليهود من الذُّل الذي كانوا فيه، ووحد شملهم وأعاد بناء هيكل سليمان، وطهر بيت المقدس وعمَّره، ثم زحف إلى بلاد آسيا الصغرى وفتحها وضمها إلى إمبراطوريته، ثم توجه صوب المشرق وفتح بلادًا واسعة واشتهر أمرُه اشتهارًا كبيرًا، وهو مؤسس دولة الفرس، وكان هذا في القرن السادس قبل الميلاد، وبعد موت هذا الملك الصالح بقي الْمُلك في أولاده حتى آل إلى الملك (دارا) الأكبر المشهور في التاريخ، ثم ورثه بعده ابنه (دارا) الأصغر الذي هجم عليه ملك اليونان الاسكندر المقدوني، فاستولى على مملكته وقتله وكان مقتله على أيدي بعض حرسه، وبقتله انتهى سلطان هذه الأسرة، فالاسكندر هو التيس ذو القرن الواحد الذي جاء من جهة الغرب في رؤيا دانيال ـ النبي عليه السلام ـ، وذو القرنين هو الملك (قورش) الذي آمن بدين الإسلام الذي هو دين أنبياء بني إسرائيل".

 

ثم إن الأستاذ: "أبو الكلام آزاد" صاحب هذا الكلام بعد أن اطَّلع في سفر دانيال على هذه الأخبار سافر إلى إيران ليتحقَّق من صحّة هذه الأنباء، وبحث في تلك البلاد عن الحقيقة فدرس معالم التاريخ والآثار القديمة وجغرافية البلاد، فعثر على ما يؤيد ما قرأه في سفر دانيال، وهو اكتشاف وقع على أيدي بعض الباحثين في حفريات الآثار القديمة، عثروا على تمثال حجري (لقورش) الملك الفارسي الكبير وللتمثال قرنان وذلك في القرن التاسع ولا يزال التمثال محفوظًا في دار الآثار، فهذا التمثال ذو القرنين يؤيد ما ذهب إليه البحاثة الهندي أن الملك الفارسي (قورش) هو ذو القرنين، وهو مؤمن صالح كما يروِي الإسرائيليون في أخبارهم أنهم عرضوا عليه ديانتهم فاستحسنها واعتنقها، وهو ما تدل عليه الآية، إنه مؤمن بالله واليوم الآخر، عادل في أحكامه رحيم برعيته.

 

نشر هذا البحث لهذا العالم الهندي في مجلة صدرت في أثناء سنة:1952م، وهذه حجج قوية لا تقوم لها حجج من يقول إن ذا القرنين هو الاسكندر المقدوني، وقد اكتفينا بما نشره هذا الكاتب عن التعرض إلى أقوال أخرى واختلافاتهم، في حقيقة هذا الرجل.

 

أما وجه تسميته ذا القرنين فقيل: "لأن رأسه فيها قرنان"، وقيل: "كان يضفر شعره قرنين"، وقيل: "لأنه رأى في المنام أنه أمسك الشمس من قرنيها"، وقيل: "لأنه شجاع مقدام"، فأطلقوا عليه الاسم.

 

{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الاَرضِ وَءَاتَينَاهُ مِن كُلِّ شَيءٍ سَبَبًا}

 

التمكين هو التثبيت، ثبت الله قدمه في الأرض، ومكنه من القوة ما استطاع أن يرسي به دعائم ملكه، وقد استعمل القرآن كثيرًا كلمة التمكين لهذا المعنى ثم قال:

 

{وَءَاتَينَاهُ مِن كُلِّ شَيءٍ سَبَبًا}

 

والسبب في اللغة هو الحبل، واستعمل مجازًا لكل قوة تساعدنا على نيل مرادنا، إذن فقد مكن الله هذا الملِك من كل القوى التي يتمكن بها، من تصريف أمور الْمُلك من سياسة الرعايا وعمارة الأرض ومحاربة الأعداء وغير ذلك من المواهب القوية التي تمكنه من إدارة ملكه إدارة رشيدة، وتمكنه أيضًا من توسيع رقعة مملكته، هذا ما تدل عليه كلمة: {كُلِّ شَيءٍ}، أي من كل شيءٍ ينبغي لمثله من الملوك، ولا تحمل على عموم كل شيء إذ لا يكون هذا إلاَّ لله خالق كل شيء، وقد وردت هذه العبارة في القرآن، في شأن بلقيس ملكة سبأ: {وأوتيت من كل شيء} (النمل:23)، أي من كل شيء مما يصلح لإدارة الملك وعمارة الأرض، وكذلك جاء في ريح عاد: {تدمر كل شيء بأمر ربها} (الأحقاف:25)، نعم تُدمِّر كل شيء، ولكن لا تدمر الجبال ولا الشمس ولا القمر ولا النجوم، ولا تدمر إلاَّ ما على أرض عاد قوم هود، وما وراء ذلك لا تدمره، هكذا تفهم المعلومات على ضوء المعقول والمنقول.

 

{فَاتَّبَعَ سَبَبًا}

 

وقد يستعمل السبب في الطريق، أي سلك طريقًا في غزوه لما يجاوره من البلاد، وقد مكنه الله بذلك فاتجه في غزوه إلى جهة الغرب.

 

{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغرِبَ الشَّمسِ وَجَدَهَا تَغرُبُ فِي عَينٍ حَمِئَةٍ وَّوَجَدَ عِندَهَا قَومًا}

 

حتى إذا بلغ في سيره مغرب الشمس، أي حيث تغرب الشمس من ساحل البحر، والمشهور أنه انتهى إلى ساحل آسيا الصغرى: بلاد الأناضول شرقي البحر الأبيض المتوسط، مشى هو وجنوده حتى ردَّهم البحر الذي تغرب الشمس من جهته، وعلى سواحله عيون وأنهار وبرك تتجمَّع فيها المياه، فتصير بطول المكث حَمِئَة يقف الراكب دونها، ويبدو للناظر أن الشمس تغرب فيها، هنالك وجد قومًا يعمُرون هذه الأرض وقد يكونون ممن يعيشون على صيد أسماك البحر، تمكن ذو القرنين من هذه الأرض واستولى على أهلها، فصاروا تحت سيطرته يتصرف فيهم كما يريد.

 

{قُلنَا يَا ذَا القَرنَينِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِم حُسنًا}

 

قول الله لذي القرنين قد يكون بطريق الوحي إن كان نَبِيًّا، وقد يكون على لسان نبي من أنبياء الله في زمانه، وفي شريعة من شرائع الله المنزلة يتبعها هذا الملك الصالح، فوَّضه الله فيما يستولى عليه من البلاد، إما أن يعذب أهلها المحاربين له، وإما أن يتخذ فيهم طريقة العفو والإحسان، فكانت طريقته فيهم طريقًا وسطًا، وهو طريق الموفقين أمثاله.

-------------------

 

{قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكُرًا، وَأَمَّا مَنَ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءُ الْحُسنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنَ اَمرِنَا يُسرًا}

 

أما من ظلم منهم بالإعراض عن الإسلام، فاستبدل الشرك بالإيمان، والمعصية بالطاعة، فأولئك يلاقون منا العذاب بالقتل أو السجن والتقييد أو النفي أو غير ذلك من أنواع العذاب المشروعة لأمثالهم من العصاة المتمردين، وسيرد إلى ربه يوم القيامة فيعذبه عذابًا نكرًا، أي أليمًا فظيعًا مقيمًا، وأما من آمن وعمل صالحًا فله من الله الجزاء الحسنى، وسنعامله بالحسنى وسنقول له المقالة الحسنى وسنكرمه ونقربه جزاء على إحسانه، وهذا لا يتم إلاّ بالإيمان والعمل الصالح، أما الإيمان فبالعقيدة التي بعث بها كل الأنبياء والرسل، {إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران:19)، وأما العمل الصالح فبما جاء في شريعة نبيهم وكتابهم: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر المبَرَّات التي يدعون إليها.

 

هكذا يبين الله لنا دستور العبد الصالح ذي القرنين في رعاياه ويبين الله لنا أن الإيمان لا يتم إلاّ بقرينه العمل الصالح، وأن إيمانًا بغير عمل صالح لا يُعتدُّ به، فهو كلا إيمان، فدستور ذي القرنين إذن دستور رشيد ينبغي أن يتقفَّاه الملوك والرؤساء في رعاياهم إن راموا فيها صلاحًا، وذلك هو الميزان الذي نفرق به بين أصناف الناس، لا اعتبارَ للأجناس ولا للألوان ولا للأنساب ولا للفقر والغنى، بل الاعتبار وحده للفرق بين الكفر والإيمان والفساد والصلاح، ليس هناك مقياس غير هذا، وكل شيء وراء هذا فهو باطل.

 

{ثُمَّ اتَّبَعَ سَبَبًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطلِعَ الشَّمسِ وَجَدَهَا تَطلُعُ عَلَى قَومٍ لَم نَجعَل لَّهُم مِن دُونِهَا سِترًا كَذَلِكَ وَقَدَ احَطنَا بِمَا لَدَيهِ خُبرًا}

{ثُمَّ اتَّبَعَ سَبَبًا}،

 

أي سلك طريقًا آخر صوب المشرق، يغزو ويستولي على البلاد ينشر فيها الإسلام، حتى إذا بلغ مطلع الشمس، بلغ ساحل البحر حيث تنتهي رحلته البرية، عند هذا الساحل الشرقي وجد قومًا ليس بينهم وبين الشمس الطالعة حجاب من بناء ولا من جبال أو كهوف، إنما هم قوم بُداة ينتشرون في بادية واسعة مترامية الأطراف هذا الذي نرجحه من هذا المعنى، وإن قال بعض المفسرين: "إنهم عراة تطلع الشمس على أجسادهم العارية ليس بينهم وبينها من لباس"، وعلى كلٍّ فَهُم قوم كفار جهلة، غزاهم هذا الْمَلِك الصالح لينشر فيهم الدين الحق، وليُعلِّمهم كيف يعبدون الله، وقد سلك فيهم نفس المسلك الذي سلكه في أهل مغرب الشمس، وإن كان القرآن لم يفصل ذلك بل أجمله في كلمة {كَذَلِكَ}، يعني كانت سياسته فيم هي السياسة الشرعية التي سلكها فيهم قبلهم، وقد أحاط الله به، وبالقوم الذِّينَ غزاهم خبرًا وعَلِمَ سِرَّهم ونَجواهم، وهي السياسة التي لو سلكها الملوك والرؤساء الْمُسلَّطون على الناس لَصَلُح أمر العباد والبلاد، ولكن الله يولي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يكسبون، فاعتبروا يا ملوك المسلمين ورؤساءهم بسيرة هذا الملك الصالح، فإن الله إنما مكنكم في الأرض لتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور، ولا تطغينَّكم أُبَّهَة الْمُلك، ولا تسكرنَّكم نشوة الرئاسة والتسلط، فإن الله مُستَخلِفُكم فناظر ما تعملون، فمجازيكم عليه جزاءً وفاقًا.

--------------------------

 

ثم إن إذا القرنين استمر في رحلته في بلاد الله العريضة ينشر الصلاح ويدعو إلى الله.

 

كانت رحلة ذي القرنين في هذه المرحلة داخل البر، فبعد أن بلغ مغرب الشمس من ساحل البحر الغربي، ومطلع الشمس من ساحله الشرقي، سار في البر العريض فاتِحًا وغازيًا {ثُمَّ اتَّبَعَ سَبَبًا}: أي سلك طريقًا، {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَينَ السُّدَّينِ}: أي بلغ فجًّا بين سلسلتين من الجبال، {وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَومًا لاَّ يَكَادُونَ يَفقَهُونَ قَولاً} وجد من دون السدين: أي في الشق الذي يليه منهما قومًا ذوي لغة تخالف لُغَتَه، فهم لا يكادون يفقهون قولا، و"كاد"في اللغة العربية نفيُها إثباتٌ وإثباتُها نفيٌ، إنهم يخاطبونه ويخاطبهم، ولكن كانوا يفهمونه بمشقة وصعوبة، ولو لم يفهموه مطلقًا ما خاطبوه وما خاطبهم كما سيأتي، وقال بعض المفسرين: "لا يكادون يفقهون قولا؛ لبلادتهم وبساطتهم، لا لاختلاف اللغة"، ولكن هذا القول مردود عليهم، ولو كانوا كذلك لَم تصدر منهم تلك الأعمال العظيمة التي تحقق بها أعظم مشروع عرف في ذلك الزمان وما يزال أعجوبة، ولَم يتحقق إلاّ بمساعدتهم، ثم إن اقتراحهم لبناء السد يدل على أصالة رأيهم.

 

{قَالُوا يَا ذَا القَرنَينِ إِنَّ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ مُفسِدُونَ فِي الاَرضِ فَهَل نَجعَلُ لَكَ خَرجًا عَلَى أَن تَجعَلَ بَينَنَا وَبَينَهُم سُدًّا}

 

لما رأوا قوة عتاد هذا الفاتح الجديد، ووفرة أمواله، وتوسموا فيه الصلاح وحب الخير قالوا يا ذا القرنين: إن بجوارنا قومًا مفسدين في الأرض، يهلكون الحرث والنسل، يغيرون على زروعنا يهلكونها، ويذبحون أغنامنا وحيواناتنا ويقتلون منا عددًا، قيل: "إنهم كانوا يأكلون بني آدم"، إنهم يأجوج ومأجوج قبيلتان، أو شعبان عظيمان لا قِبَلَ لنا بِهم، ولا قوة لنا على ردِّ غاراتهم وفسادهم، فهل نجمع لك أموالا على أن ترد ظلمهم وفسادهم؟، نضرب لك في أموالنا خرجًا، والخرج في اللغة هو: الأجرُ الذي يُدفع عن طواعية واختيار، والخراج هو: الذي يؤخذ بالقوة، وقيل هو: خراج الأرض، أي جزء من غلل الأرض المأخوذة عنوة يأخذه الفاتح، {أم تسألهم خرجًا} (المؤمنون:73)، أي أجرًا.

 

طلبوا من ذي القرنين أن يضربوا له في أموالهم خرجًا يدفعونه له، على أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سدًّا يرد عنهم شرَّهم وفسادهم، وعرضوا له هذا الطلب عرضًا يدل على سداد رأيهم ورجاحة عقولهم، وحسن أدبهم مع هذا الفاتح القوي الأمين.

 

{قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ اَجعَلْ بَينَكُم وَبَينَهُم رَدْمًا}

 

أجابهم ذو القرنين بجوابٍ حكيمٍ يدُلُّ على نزاهته وأمانته وعِفَّته، وأنه ما جاء يفتح البلاد لجمع الأموال، والتمتع بها، كما هو شأن أغلب الفاتحين، إنما جاء ينشر الصلاح في الأرض، ويهدي الناس إلى صراط الله المستقيم، عرضوا عليه الأموال فأبى، وقال في قناعة ونزاهة: ما مكني فيه ربي مِما ترونَ خيرٌ من جمع الأموال، فقد مكنه الله في الأرض، وقوَّاه بما أيده به من الجنود والعتاد والأموال ومعرفة استخراج خيرات الأرض وكنوزها وبركاتها، وتلك هي أسباب الغنى في الأمم، لا مجرد جمع الأموال، فإنها لا تغني شيئًا إذا أهملت الأسباب الأخرى، وكأن هذا الملك يضع بمقالته هذه دستورًا لما يجب أن يكون عليه الأقوياء الفاتحون إذا أرادوا إصلاح البلاد وعمارتها وامتلاك الرعايا بالإحسان إليهم وحسن سياستهم لهم، قال لهم لا حاجة إلى خرجكم، ولكن أعينوني بقوة أبدانكم أجعل بينكم وبين عدوكم بنيانًا عظيمًا لا قِبَلَ لهم باختراقه.

 

{_اتُونِي زُبَرَ الحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَينَ الصَّدَفَينِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ ءَاتُونِي أُفرِغْ عَّلَيهِ قِطرًا}

 

اجمعوا لي قطع الحديد واجمعوا الحطب الجزل، وضعوا قطع الحديد بعضها على بعض، وضعوا خلالها حزم الحطب وأشعلوا فيها النار، وانفخوا عليها بمنافخ كثيرة؛ لتشتد النار فتذيب الحديد، كل ذلك بأمر ذي القرنين وعلى نظام وهندسة يتم بها العمل الجبار، وقد ساوى بين الصدفين، والصدف: أنف الجبل البارز، أي بلغ من ارتفاع ردم الحديد مستوى الجبلين، وسدّ ما بينهما، ولا يقوى على هذا العمل إلاّ من مكَّنه الله في الأرض بالقوة والعلم والجنود وسائر الإمكانات، فنفخوا في النار واشتد لهبها، فاحمر الحديد فصار مجموع الحديد والحطب نارًا، وهو ما تدل عليه العبارة البليغة {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا}، عندما حَمِيَ الحديد والتزقت زُبَرَه بعضها ببعض فصارت بنيانًا واحدًا، تتخلله أخاديدُ هي مواضع الحطب المشتعل، لذلك أمر بذائب النحاس وهو القطر، كان أُوقِد عليه في قدور راسيات عظيمة، فأُفرغت على الردم فملأت تلك الأخاديد، والتحم الحديد بالنحاس فصار أقوى ما يكون شدة وصلابة، وهو ما يقرره علماء المعادن والتصنيع، يقولون: "إن الحديد يشتد بمزجه بالنحاس"، وهذا ما علمه ذو القرنين منذ ستة وعشرين قرنًا، ولا يعلم إلاّ الله مقدار ما أوتي هذا الملك من الوسائل والتمكين حتى يقوى على إتمام هذا العمل العملاق في وسط هذا الجحيم من النار، فإذا بالردم العظيم يسد ما بين الصدفين والله يعلم ما بينهما من العرض والعلو، وكم يستهلك هذا السد السميك من الحديد والنحاس في هندسة دقيقة وعمل متقن، شهد له القرآن الحكيم بعبارات صادقة لَم تَحكِها خيالات القصاص ومبالغات الشعراء.

 

{فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَّظهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقبًا}

 

سدٌّ عظيم عالٍ سميك، لم يستطع الشَّعبَان الكبيران يأجوج ومأجوج أن يصعدوا عليه فيظهروه، ولم يستطيعوا أن يُحدِثوا فيه نقبًا يسلكون منه، وما ذلك إلاّ لضخامته ومتانته وعُلُوِّه ودقة صنعه، أتَمَّه هذا الملك الصالح بإعانة هؤلاء القوم، وبفضل ما مكَّنه الله فيه من مختلف العلوم والقوى، وحين أتَمَّه ورآه سامقًا بإذن الله لَم يغتَرَّ بقوته ولَم يتكبَّر ولم ينس فضل الله عليه، بل ازداد تواضعًا واعترافًا بفضل ربه وتمكينه إياه.

 

{قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكًّا وَّكَانَ وَعدُ رَبِّي حَقًّا}

 

كلمات تنبع من قلب أُفعِم إيمانًا ومحبة للرب المنعم، واعترافًا بفضله ورحمته، فقد جاءت فيها كلمة: "الرب"مكررة ثلاث مرات مضافة إلى ياء المتكلم إشعارًا بشدة تَمسُّك هذا الرجل بربه وحبه إياه وتوكله عليه، وأنه ملأ عليه وجدانه وكيانه، فلا يزال لسانه رطبًا بذكره لا يذكر غيره، {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي}: أي هذا المشروع الضخم العملاق لَم يكن من تفكيرنا، ولا من قوتنا، وإنما قيامه وتمامه برحمة ربنا، وسيكون فناؤه وانتهاؤه بأمر ربي، {فَإِذَا جَاءَ وَعدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكًّا}: أي دكَّه الله وسوَّاه بالأرض، كما تَندَكُّ الجبال عند قيام الساعة، فسيكون هدمه بيد الله لا بيد الإنس ولا بيد الجن، ولابد سيتحقق هذا الأمر عند أجله المعلوم؛ لأنه وعد الله، ووعد الله حق، وسيكون انهدامه من أشراط الساعة؛ لأن أمورًا تقع يومئذٍ عظامًا منها النفخ في الصور.

 

هكذا ينطق هذا الملك المؤمن بكلمات تدل على إيمانه بربه وبما جاءت به أنبياء الله ورسله، إن كل شيء في هذه الدنيا سيأتي موعد هلاكه وفنائه فلا يبقى إلاّ وجه الله الكريم، إنه لَم يَطغَ بملكه كما طغى من أغفل الله قلبه عن ذكره من الملوك والأغنياء أمثال النمرود وفرعون وهامان وقارون وصاحب الجنتين، لم يقل كما قال قارون: {إنما أوتيته على علم عندي} (القصص:78)، بل قال: {هذا رحمة من ربي}، كما قال العبد الصالح نبِيُّ الله سليمان، حين مَثُلَ بين يديه عرش بلقيس العظيم، {هذا من فضل ربي ليبلوني ءاشكر أمَ اَكفر} (النمل:40)، وهكذا يعلمنا الله في كتابه الكريم أن نقتدي بأمثال هؤلاء ممن أحبهم الله، وأنعم عليهم بنعمة الإيمان والهدى، {أولئك الذِّينَ هدى الله فبهداهمُ اقتده} (الأنعام:90).

 

ولننتقل إلى الكلام عن موضع هذا السد، فقد زعم كثير من المفسرين وأهل الأخبار أن موضعه في شمال شرقي آسيا في بعض سلاسل الجبال هناك، قال بعض: "في جبال أرمينيا وأذربيجان"، وقال آخرون: "في سلسلة جبال من البحر الأسود وبحر الخرز"، وقيل: "في ترمذ"، وقال بعض: "في جبال منغوليا"، ولا يزال الأمر غامضًا لَم نعلم أنهم اكتشفوا سدًّا من حديد ونحاس، فلا نستطيع أن نرجح قولا على قول.

 

أما يأجوج ومأجوج فمن هؤلاء الأقوام؟ وهل خرجوا واختلطوا بالناس؟

 

يزعم كثير من العلماء أنهم التتار الذِّينَ أغاروا في القرن السابع الهجري على بلاد الإسلام هجومًا عنيفًا اكتسحوا فيه البلاد، وأكثروا الفساد في الحرث والنسل، ذبحوا مذابح رهيبة أرهبت الناس وشردتهم، وهم أقوام من المغول، أطلقوا عليهم التتار؛ لأنهم أفواج كثيرة متتالية، قيل هؤلاء هم يأجوج ومأجوج تنطبق عليهم أوصافهم، فهم من كل حدبٍ ينسلون، وهل ظهروا السد ونقبوا أو خرجوا من أطراف الأرض وهل اندَكَّ هذا السد أم لا يزال قائمًا؟

 

أما حديث صحّ عن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ روته عنه أم المؤمنين زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ قالت: "أستيقظ النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ ذات ليلة ووجهه مُحمَرٌّ فقال: "ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقترب، فتح اليوم من سد يأجوج ومأجوج قدر هذا، وأدار السبابة مع الإبهام"، ولا نعلم شرًا أصاب العرب أعظم من هجوم التتار، فهل يكونون هم القوم؟ نرجح هذا ولا نجزم به، كان هجوم التتار ويلات متتابعة في مدة ستين سنة، اكتسحوا فيها البلاد، فكأنهم سيول من نار زاحفة تأتي على الأخضر واليابس، لا يرد سيلهم أحد، يقتلون الناس، ويهتكون الحرمات، ويتخذون المساجد مرابط لخيولهم وحيواناتهم، ويخربون خزائن الكتب تمزيقًا وتحريقًا وتغريقًا، ورُوِيَ أنهم اتخذوها معبرًا في نهر دجلة فضاعت بذلك ثروات لا تقدر من المخطوطات الفريدة التي أفنى العلماء أعمارهم في تصنيفها وتحقيقها.

 

وكانت بغداد يومئذٍ عاصمة الإسلام، فقضوا على خلافة العباسيين، ودمروا ملكهم العريض، وطَوَوا خلافتهم في البلاد طيَّ السجل للكتاب، فانهارت دولتُهم، وهجموا على بلاد الشام وفلسطين، وهددوا مصر بالهجوم عليها فبعثوا إلى ملكها "قطز" أن يستسلم ويدخل تحت طاعتهم وهددوه بأنواع التهديد، فأبى أن يستسلم واعتصم بالله واستنهض الناس لقتالهم وللدفاع عن الإسلام ضد هؤلاء الوثنيين الهمجيين وخرج هو بنفسه وخرج الناس معه لمقاومة هؤلاء الأعداء بعيدًا عن قصبة ملكه، فكان موضع الملاقاه بهم في فلسطين في موضع يسمى: "عين جالوت" حيث وقعت الوقعة المشهورة، التي انتصر فيها المسلمون على التتار لأول مرة بعد ستين سنة، وما كانوا يظنون أنهم يَغلِبُون، فخيب الله ظنَّهم وشتت شملهم وكسر حِدَّتَهم على يد الملك الأعجمي "قطز" كما هزم الله الصليبين على يد القائد العظيم "صلاح الدين الأيوبي"، لقد أبلى الملك "قطز" وقائده الأعلى "بيبرس" بلاءً حسنًا، وضربوا أروع مثال في الدفاع عن بيضة الإسلام، فأنزل الله عليهم نصره وهزم أعداء الإسلام على أيديهم، وقتل قائد التتار "هولاكو" فانهدَّ بنيانهم وتفرقت جموعهم فلولا، ثم إنّهم بعد هذه الهزيمة توزعوا في البلاد فابتلعهم الإسلام، فاعتنقوه وانتهى أمرهم، وكانت هذه الوقعة المشهورة التي انتصر فيها الإسلام في شهر رمضان المبارك من سنة:668هـ، بعد اثنتي عشرة سنة من احتلالهم بغداد عاصمة الخلافة العباسية.

 

فأُعجبوا لهذا الشهر المبارك شهر رمضان الذي تحققت فيه للإسلام منذ فجره انتصارات باهرة كانت السبب في قوته وانتشاره وبقائه، فغزوة بدر الكبرى وفتح مكة كانا في شهر رمضان، وكذلك وقعة الزلاّقة التي انتصر فيها "يوسف بن تاشفين" في الأندلس لما استغاث به "المعتمد بن عباد" كانت يوم الجمعة منتصف شهر رمضان، فلِلَّه ما أبرك هذا الشهر على المسلمين، كانت وقعة "عين جالوت" التي انتصر فيها المسلمون على التتار من أعظم الوقائع بعد انتصار القائد "صلاح الدين الأيوبي" على الصليبيين.

 

الكهف: الآيات ( 99 - 110 ) آخر السورة

وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)

------------------------------------

 

{وَتَرَكنَا بَعضَهُم يَومَئِذٍ يَّمُوجُ فِي بَعضٍ}

 

الموج: تدافع المياه الكثيرة في البحار، يقول الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ: وتركنا الناس يومئذ يموج بعضهم في بعض، إشارة إلى كثرتهم وابتعادهم عن الله، فهم متركون لحالهم، وذلك قرب قيام الساعة، بعدما يندك السد ويفيض هذا البحر من البشر على العالم، بحرُ يأجوج ومأجوج، وقد رأينا اليوم كيف يموج البشر في هذا العالم؛ لارتفاع الحواجز وكثرة وسائل المواصلات السريعة فيه، فالعالم اليوم كأنه دار واحدة تدار الأحداث فيه بأزرار، فإذا بالوسائل الجهنمية من وسائل التدمير تجول شرقًا وغربًا في لحظات، ولا يقوم لها مانع، كلٌّ يسعى في إهلاك الآخرين، مرجت أحوالهم، وارتفعت الثقة من بينهم، واحتل الخوف محل الأمن، والفزع محل الطمأنينة، وكثر الهرج، وتماوجت قوى الشرق وقوى الغرب، وهذا نراه من أشراط الساعة التي تدل على قرب نهاية العالم وفنائه، فتفسيرنا اليوم لهذا التماوج تفسير واقعي لا نظري كما فسره من قبلنا، فنحن اليوم نعيش في تأويل هذه الآية، ولا ندري ما سيقع بعد ولا يزداد الأمر إلاّ تفاقمًا.

 

{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعنَاهُم جَمْعًا}

 

بعد هذا التماوج البشري، ينفخ في الصور نفخة الفزع ونفخة الصعق، والأمر قريب ولا يزداد إلاّ قربًا، وقد رُوِيَ عن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ أنه قال: "كيف أنعم بالدنيا وقد التقم إسرافيل الصُّورَ؟!"، فهو قد التقم الصور وأحنى رأسه وأصغى سمعه ينتظر أمر ربه فينفخ، فالأمر قريب، ولا يقولَنَّ قائل كيف هذا القرب وقد مضى على الآية أربعة عشر قرنًا، نعم هو قريب وصدق الله العظيم: {اقتربت الساعة وانشق القمر} (القمر:01)، {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون} (الأنبياء:01)، {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} (النحل:01)، وأمثالها من الآيات التي تدل على قرب قيام الساعة، وفي الحديث الشريف عن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ: "بُعِثتُ أنا والساعة كهاتين، كادت أن تسبقني فسبقتها"، ولا يعلم مدى هذا القرب إلاّ الله: {وإنَّ يومًا عند ربك كألف سنة مما تعدون} (الحج:47)، فالأمور نسبيَّة، ولا نفهم قرب ما بقي إلاّ على ضوء معرفة ما مضى على هذه الدنيا، وليس المهم أن نعرف المقدار إنما المهم أن نعرف حقيقة القرب لنستعد ولا نغفل ولا نفرط، وقد عبّر الله هنا بصيغة الماضي لتحقق الوقوع وقربه، فكأنه قد وقع.

 

{فَجَمَعنَاهُم جَمعًا وَّعَرَضنَا جَهَنَّمَ يَومَئذٍ لِّلكَافِرِينَ عَرْضًا الذِّينَ كَانَتَ اَعيُنُهُم فِي غِطَاءٍ عَن ذِكرِي وَكَانُوا لاَ يَستَطِيعُونَ سَمْعًا}

 

بعد نفخة الصعق تأتي نفخة البعث، فيجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم، وكلمة الجمع هنا جاءت متمكنة في البلاغة بعد أن أماج بعض البشر في بعض، ما هي إلاّ زجرة واحدة، فإذا هم قيام ينظرون، لا يتكلمون إلاّ من أَذن له الرحمن وقال صوابًا، كلهم ينتظر أمر الله {يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذٍ لله} (الانفطار:19)، وجاءت كلمة العرض مرة مضافة إلى الكفار ومرة مضافة إلى النار {ويوم يعرض الذِّينَ كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا} (الأحقاف:34)، {وعرضنا جهنم يومئذٍ للكافرين عرضًا} (الكَهف:100)، وذلك لشدة اقترابهم منها وتحقق ورودهم لها، فيومئذٍ يؤمن الكافر ولا ينفعه إيمانه، وقد كان في الدنيا معرضًا، عينُه في غطاء، وفي أذنه وقر، فهو لا يستطيع سمعًا، ونفي الاستطاعة هنا ليس معناه عدم القدرة، إنما هو تعبير عن شدة الكراهية التي تَمَلَّكته وطغت على نفسه فكأنه لا يستطيع السماع.

 

وقد يرد هذا في تعبير العرب، وتستعمل الاستطاعة ويراد بها الإرادة، ورد هذا في سُورَة المائدة {إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مومنين} (المائدة:112)، أي هل يريد ربك ويشاء موافقتنا على طلبنا أن ينزل علينا مائدة من السماء؟، إنا عرضنا لهؤلاء المعرضين عن ذكرنا، المتصاممين عن سماع الآيات والنذر المتعامين عن النور، عرضنا لهؤلاء جهنم ليروا عَينَ اليقين مصيرهم الأخير الذي ينتظرهم، والذي سيدخلونه داخرين، وفي هذا التعبير الشديد الوقع ما فيه من روعة التخويف والإنذار لمن أراد الله هدايته فيقبل إلى حظيرة النجاة، وما يذَّكَّر إلاّ أولوا الألباب، أما الذِّينَ ختم الله على قلوبهم فهم يفرون منه، ويلغون فيه، ولا يزيدهم الوعظ إلاّ نفورًا واستكبارًا، أولئك قساة القلوب الذِّينَ قال نبي الله نوح ـ عليه السلام ـ في حقهم: {قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارًا فلم يزدهم دعائي إلاّ فرارًا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارًا} (نوح:05-07)، ويوجد هذا الصنف من الناس في كل زمان، وقد ظهرت هذه القساوة في زماننا، فأعرضت القلوب ومالت إلى الدنيا، فليحذر قساة القلوب من هذا المصير المشئوم وبئس المصير.

-------------------------------

 

{أَفَحَسِبَ الذِّينَ كَفَرُوا أَن يَّتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَولِيَاءَ انَّا أَعتَدنَا جَهَنَّمَ لِلكَافِرِينَ نُزُلاً (102)}

 

في الآية إظهارٌ عِوَض الإضمار، فقد ذكر الكافرين ومصيرهم قريبًا ثم صرح بالذِّينَ كفروا وبالكافرين تشنيعًا لهم على كفرهم بربهم ورسله واليوم الآخر، وتبيينًا لنا أن ذلك الجزاء السيئ والمصير المؤلِم إنما نالوه بسبب كفرهم فهم فيه مبلسون، لا يستحقون الرحمة ولا يقبل لهم عذر، أعَمِيَ الذِّينَ كفروا عن الحق فحسبوا أن يتخذوا من عباد الله أولياء من دون الله ثم ينفعونهم؟، كلا لن ينفعوهم إنهم اتخذوهم أولياء في الدنيا، والولايةُ هي: المحبة والنصرة، إنهم لن ينصروهم وسيكفرون بشركهم يوم القيامة، اتخذ الكفار أنواعًا من الأولياء منها الأصنام والأوثان والشمس والقمر والنجوم والشجر، ومنها الأحياء والأموات يعبدونهم، يخافونهم ويرجونهم، ومنهم من يتخذ من عباد الله أولياء يُشَرِّعُون لهم فيتبعون تشريعهم، ويعرضون عن تشريع الله؛ لأنهم يجدون في تشريعهم موافقة لأهوائهم، هؤلاء شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، {إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون} (الأعراف:30).

 

يحسبون أنهم على شيء يُستَمسَكُ به ويُعَوَّل عليه، إنهم ليسوا على شيء، بل زَيَّنَت لهم أهواؤُهم كفرَهم وضلالَهم، وقلَّدوا فيه آباءهم ورؤساءهم، فقد أعد الله لهم جميعًا جهنم تكون لهم نزلا ومقامًا، والإعداد هو: التهيئة، والنزل هو: ما يُهيَّأ للضيف النازل، من محل يقيم فيه، وطعام يأكله، وفراش وغطاء، وما يرتفق فيه، لقد هيّأ الله لهؤلاء الكافرين جهنم منزلا يقيمون فيه، وأعد الله لهم طعامًا من زقوم وغسلين وشرابًا من حميم آن، وعقارب وحيّات وفرشًا من نار وأغشية، {لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش} (الأعراف:41)، ذلك هو نزل الكافرين المعد لهم، شتان ما بينه وبين نزل المؤمنين الذِّينَ صدقوا في إيمانهم، وسيأتي قريبًا ذكره.

 

ثم بيّن الله تعالى عظيم خسارة هؤلاء الذِّينَ يحسبون الضلال هداية فهم في ضلالهم يعمهون.

------------------------------

 

{قُل هَل نُنَبِّئُكُم بِالاَخسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الذِّينَ ضَلَّ سَعيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا وَهُم يَحسِبُونَ أَنَّهُم يُحسِنُونَ صُنعًا (104) اوْلَئِكَ الذِّينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِم وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتَ اَعمَالُهُم فَلاَ نُقِيمُ لَهُم يَومَ القِيَامَةِ وَزنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُم جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا ءَايَاتِي وَرُسُلِي هُزُؤًا (106)}

 

قل لهم يا مُحَمَّد، الأمر موجه من الله منَزِّل القرآن لنبيه مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ أن يخاطب أمته بهذا الخطاب المهم والذِّينَ بعده، وإذا جاء الخطاب على هذا النمط من الأمر بالتبليغ دل على عِظَم أهميته، وهنا تستقبلنا ـ قبل ختام السُورَة ـ ثلاثة أوامر بالتبليغ مُصَدَّرة بـ: {قُلْ} فيها إلفات لنا إلى الحق، وهي خلاصة ما تقدم من أول السُورَة، فيها القرارات النهائية التي تستخلص من كل ما تقدم عرضه من القصص الخمس: قصة أصحاب الكَهف ومصيرهم، وقصة صاحب الجنتين وعاقبة كفره وطغيانه، وقصة خلق أبينا آدم وأمر الله الملائكة بالسجود له، وعصيان إبليس وتمرده على خالقه، ورجم الله إياه جزاء على كفره، وقصة موسى والخضر عليهما السلام، وبيان ما فيها من العلم بنوعيه: الظاهرُ والباطنُ، واستخلاص الحكمة من كل ذلك، وقصة ذي القرنين الملك الصالح، وما جرى على يديه تَحقيقُه من نفع العباد ودرء الفساد، هذه الآيات الثلاث المصدرة بـ: {قُلْ} الواردة في ختام هذه السُورَة،

 

{قُل هَل نُنَبِّئُكُم بِالاَخسَرِينَ أَعمَالاً}، {قُل لَّو كَانَ البَحرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحرُ قَبلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَو جِئنَا بِمِثلِهِ مَدَدًا}، {قُلِ اِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثلُكُم يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمُ إِلَهٌ وَّاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَليَعمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَّلاَ يُشرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}

 

في كلٍّ من هذه الآيات عرض لجانب كبير من المواضيع التي تناولتها السُورَة باستخلاص العبرة منها، وتقرير الخلاصة النهائية التي فيها الحقيقة الثابتة، وسيأتي بيان ذلك في تفسير معاني الآيات، فلنبدأ بالخطاب الأول منها: {قُل هَل نُنَبِّئُكُم بِالاَخسَرِينَ أَعمَالاً الذِّينَ ضَلَّ سَعيُهُم فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا وَهُم يَحسِبُونَ أَنَّهُم يُحسِنُونَ صُنعًا} أمرٌ بالقول من الله، يليه حرف استفهام يراد به التحضيض، والنبأ هو: الخبر الهام الذي يحمل المعنى العظيم الذي له خطره، هل نخبركم بخبر أشد الناس خسارة لأعمالهم؟، بعض المفسرين جعلوا ما بعد هذه الجملة هو الجواب والخبر، وهم: {الذِّينَ ضَلَّ سَعيُهُم فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا} إلى آخر خبرهم، وبعضٌ جعلوا الجواب والنبأ هو قوله تعالى: {اولَئِكَ الذِّينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِم وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتَ اَعمَالُهُم فَلاَ نُقِيمُ لَهُم يَومَ القِيَامَةِ وَزنًا...}إلخ، ويكون ما قبله نعتٌ لِلأخسَرِينَ أعمالا.

 

والذي نرجح أن يكون الخبر هو الأخير، وهو أروع في الدلالة على المعنى، والمصير الرهيب لهؤلاء الأخسرين الذِّينَ ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا؛ ذلك لأن أعمال الكفرة تكون هباءً منثورًا، فهي في ضلال، حتى الذي يبدو منها حسنًا ومفيدًا؛ لأنه لا ينفع مع الكفر عمل، ومن المعلوم أن هؤلاء الكفرة والمنافقين لهم صنفان من الأعمال: صنف منها قبيح وهو كل أنواع الشرك والمعاصي الظاهرة، والإجرام والقتل والظلم، وقد يحسبون أنها حسنة تزينها لهم أهواؤهم ويزينها لهم الشيطان، فهم يحسبون شركاءهم شفعاء عند الله، يقربونهم زلفى، وهم يحسبون الحروب والقتل والتدمير وطنيةً وانتصارًا للمبادئ التي يرونها صحيحة ومفيدة، ويحسبون الربا تجارة وبيعًا وتنمية للاقتصاد، ويحسبون السفور والغناء والرقص واختلاط النساء بالرجال ثقافة وفنًا ورياضةً وتقدمًا، ويحسبون الخداع والكيد ذكاء وعبقرية، إلى غير ذلك من مفاسد الأخلاق التي يحسبونها حريةً وحضارة، وهم ضالون في زعمهم هذا المخالف لما جاءت به كتب الله ورسله، فهم متورطون في الخسارة، باعوا آخرة باقية بِدُنيًا فانية، غلبت عليهم شهواتهم، وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.

 

والصنف الثاني من أعمال هؤلاء الكفرة حسن، ولكن ضيعه عليهم كفرهم بربهم، فهم يقومون بخدمات كبرى للإنسانية فيها رحمة للإنسان والحيوان، هم قد يكرمون اليتيم، ويطعمون المسكين، ويداوون الجرحى، ويعالجون المرضى، ويعطفون على المنكوبين، ولهم أعمال من هذا النوع يصرفون فيها أوقاتهم ويبذلون أموالهم، وقد يتركونها وقفًا بعد مماتهم، ولكنها لا تنفعهم لفساد نياتهم فهم لا يعملون لله، ولو عملوها لله فهم لا يفردونه بالعبادة، {وما يؤمن أكثرهم بالله إلاّ وهم مشركون} (يوسف:106)، ومن الشرك بالله إنكارُ بعض رسله، والكفر ببعض كتبه، أو هم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فقد ضرب الله المثل في القرآن بأعمال هؤلاء بسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، وبظلمات في بحرٍ لُجيٍّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض، وبرماد اشتدت به الريح في يومٍ عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء، ضاع كل شيء وخسروا كل شيء بكفرهم بآيات ربهم ولقائه.

 

{اولَئِكَ الذِّينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِم وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتَ اَعمَالُهُم فَلاَ نُقِيمُ لَهُم يَومَ القِيَامَةِ وَزنًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُم جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا ءَايَاتِي وَرُسُلِي هُزُؤًا}

 

أولئك الكفرة الذِّينَ ذهب نصيبُهم في الحياة الدنيا هباءً وحبطت أعمالهم فيها، والحَبَطُ: داء يصيب بطون الإبل فتهلك وهو معروف عند العرب، حبطت أعمالهم؛ لأنهم كفروا بأيات ربهم ولم يؤمنوا برسله، وكفروا بلقاء الله وظنوا أنهم لا يبعثون ولا يحاسبون فهلكت أعمالهم، فلا يقام لها ولا لهم وزنٌ عند الله، وربط هاتين الجملتين أفادنا أن ما قبلهما علة لما بعدهما كما هو ظاهر من كلام العرب، وفيه ما فيه من تحذير العباد من الكفر بربهم وآياته، وتحذيرهم من الشك في لقائه، وإخبارٌ من الله أن كل عمل خلا من الإيمان بالله ولقائه لا يزن عند الله ذرة، فما هو إلاّ هباءً منثورًا، ذلك جزاؤهم ومصيرهم جهنمُ؛ بكفرهم واتخاذهم آيات الله ورسله هزؤًا، إنهم كانوا في الدنيا لا يسمعون ولا يعقلون، إذا حدثتهم رسل الله يهزأون بهم وبحديثهم، وإذا مروا بآيات الله يمرون عليها صمًا وعميانًا، فجازاهم الله جزاءً وفاقًا فكما لم يقيموا لآيات الله ورسله وزنًا، كذلك لا يقيم الله لهم ولأعمالهم يوم القيامة وزنًا، ومن لا وزن له عند الله فجزاؤه جهنم خالدًا فيها ولعنه الله وغضب عليه وأعد له عذابًا عظيمًا، وأنواع الكفر بآيات الله ورسله كثيرة، منها الصريح ومنها كفر الأعمال المخالفة لآيات الله ورسله، فالألسنة تصف والأعمال تخالف، ومنها الشك والارتياب، والشاك في دينه وفي ربه ولقائه مشرك كما هو معلوم.

 

ومن الكفر ترك أركان الإسلام كالصلاة والصوم والزكاة ومنها كفر دون كفر، وهو كفر النعمة، وكل ذلك يورد النار، ومنها كفر الإصرار على الكبائر وعدم التوبة، وكل ذلك مخلد في نار جهنم والعياذ بالله، فلنحذر جميع أنواع الكفر، ولنحذر الاستهزاء بآيات الله ورسله، ولنحذر هؤلاء الكفار والمستهزئين الذِّينَ يدّعون العلم والتقدم ويكفرون بما وراء المادة، فقد انتشر هذا النوع من الكفر عند كثير من الذِّينَ اغتروا بعلمهم فهم يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} (غافر:83).

 

اغتروا بعلم ظاهر الحياة الدنيا، وأنكروا لقاء الله وجحدوا بالله وآياته وظنوا أنهم... وأنهم...، إنهم يوم القيامة لا وزن لهم عند الله ولا وزن لعلمهم الدنيوي ولا لأعمالهم.

 

إننا لا نُزهِّد في العلوم فكلُّها مفيد، ولكن نُحذِّر من الكفر بآيات الله ولقائه اغترارً بالدنيا وكفرا بالغيب الذي يؤمن به المؤمنون، ومن الناس من ينكر السُّنة ويتظاهر بمظهر التحقيق العلمي، ويقول إنه لا ثقة له فيما رُوِيَ من الأحاديث النبوية، وهذه فتنة حذر منها رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ أنه سيأتي على الناس زمان ينكر فيه الحديث، فلا نستغني عن سُنَّته، وقد قال الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ: {وأنزلنا إليك الذكر لتُبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون} (النحل:44)، وقد حقق أهل السنة ما رُوِيَ من الأحاديث ونقحوه تنقيحا، فما علينا إلا أن ندرس ونحقق المعنى ونتبع، فمن رد السنَّة دخل في الفتنة، وحق عليه قول الله تعالى: {وَاتَّخَذُوا ءَايَاتِي وَرُسُلِي هُزُؤًا}، وقد افتتن كثير من الناس برد السُّنَن وراحوا يُشكِّكون الناس في الأحاديث النبوية الشريفة، فلنحذر هؤلاء ولنتمسَّك بالسُّنَّة كما نتمسَّك بالقرآن، فهي مُكمِّلة لمعانيه مُبيِّنة لها، ونعوذ بالله من البدع والضلالات، ونعوذ بالله من أنواع الكفر كلِّها ومن مصير الكافرين.

 

ثُم إن الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ يعقِّب بذكر مصير أوليائه المؤمنين المحققين إيمانهم بالعمل الصالح، وبهذا التعقيب يتقابل المصيران، وشتان ما بينهما، وما أروع هذه المقابلات في القرآن بين مصير المؤمنين ومصير الكفار وبين الحق والباطل وبين التبشير والإنذار، فهي المثاني المذكورة في سُورَة الزمر، قال تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتابًا مثاني تقشعر منه جلود الذِّينَ يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فماله من هاد} (الزمر:23).

------------------------------

 

بعد ذكر مصير الكفرة المستهزئين بآيات الله ورسله يذكر الله مصير المؤمنين الصادقين في إيمانهم فيقول:

 

{إِنَّ الذِّينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَت لَهُم جَنَّاتُ الفِردَوْسِ نُزُلاً (107) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبغُونَ عَنهَا حِوَلاً (108)}

هنا تأتي المقابلة الرائعة بين النُّزلين: نُزل الكافرين ونُزل المؤمنين، ذلك فيه كل أنواع العقوبات المؤلمة: من نارٍ وضربٍ وإهانةٍ وطعامٍ ذي غصةٍ وشرابٍ يتجرعه ولا يكاد يسيغه، وهذا فيه كل أنواع الأطايب: من الأطعمة والأشربة في قصور وجنات وأنهار، ويزوجون بِحُورٍ عِين كأمثال اللؤلؤ المكنون، وهم مُعزَّزُون مُكرَّمون، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، ورضوان الله أكبر من كل ذلك النعيم، وهم فيها خالدون، لا يبغون عنها حولا.

 

وهذه نكتة لطيفة تختص هذه الآية بذكرها وهي أنَّهم لا يرغبون في التحول عما فيه من النعيم إلى حالة أخرى، ذلك لأنهم راضون به لا يتصورون نعيمًا أفضل منه، ثم إن طبع الإنسان في هذه الحياة الدنيا الملل والسأم من كل حالة يطول مكثه فيها ولو كانت حسنة، فهو يسأم الحياة الرتيبة التي هي على نمط واحد، ركب الله هذا الطبع في الإنسان في الحياة الدنيا ليرغب في البحث عما هو أفضل، فيظهر على يده ما أراد الله إظهاره من بركات الأرض وأسرار الكون، ولولا ذلك لجمدت حركات العلوم، وتوقفت الاختراعات والابتكارات، وذلك خلاف لحكمة جعل الله ابن آدم خليفة في الأرض وتسخير ما فيها له، أما في الآخرة فليس هناك بحث ولا سعي ولا نصب ولا كد، فالإنسان الْمُمَتَّع هناك راضٍ بما هو فيه من النعيم، مطمئن لما أعطاه الله، لا يبغي سواه، فهو في غاية الرضا والسرور والشعور بنعمة الله العظيمة، يلهج لسانه بالحمد والثناء لربه الكريم الولي الحميد، {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب} (فاطر:34-35).

 

هذا الجزاء الحسن للذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحات التي هي تحقيق لاستقرار الإيمان في قلوبهم وتصديق له لا للذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، ولا للذين يرتكبون من الذنوب والمآثم ما يخالف الإيمان ولا يتوبون ولا هم يذكرون، فالآية ترد على الذِّينَ يزعمون أن الإيمان يتم بدون العمل الصالح، وهو زعم باطل يعوِّل على الأماني الفارغة، وليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في الصدر وصدقه العمل، أولئك {كَانَت لَهُم جَنَّاتُ الفِرْدَوْسِ نُزُلاً}، جاء التعبير بكانت التي هي للماضي؛ لأنها أعدت لهم فهي لهم وهم لها مَلَّكها الله لهم بفضله ورحمته، والفردوس: هي معظم الجنة وأطيبها وأعلاها منزلة دخولها برحمة الله ورحمة الله قريب من المحسنين، واقتسموا درجاتها بأعمالهم فطوبى لهم وحسن مآب، فيا خيبة من لا يعمل الصالحات وينتظر مصير العاملين، ويا خيبة من يعمل ولا يؤمن بالله ورسله ولقائه، إن عمله لا ينفعه، إنما ينفع الإيمان والعمل الصالح أولئك لهم خير النزلين عند الله جعلنا الله منهم آمين.

--------------------------

 

{قُل لَّو كَانَ البَحرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَو جِئنَا بِمِثلِهِ مَدَدًا (109)}

 

يضرب الله ـ تَبَارك وتعالَى ـ لنا مثلا في سعة علمه ليقرب معنى ذلك إلى أفهامنا القاصرة، فكم من مثل قرَّب البعيد، ومهما تنوعت العبارات في وصف سعة علم الله وإحاطته فلن تبلغ في أفهامنا ما يبلغ هذا المثل الواضح الذي يدركه كل الناس، فالبحر يدرك كل الناس سعته وعظمته وكثرة ما فيه من المياه، وعلماء الطبيعة يذكرون أن مقدار البحر في هذه الأرض التي نعيش عليها ثلاثة أرباع اليابسة، فلو كان هذا الماء كله مدادًا لكلمات ربي، والكلمات عبارة عن سعة علم الله وسعة كونه علويّة وسفليّة، علم الغيب والشهادة، علم الدنيا والآخرة، علم الملك والملكوت، علم المبصرات وغير المبصرات، لو كان البحر مدادًا لكلمات الله لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات الله، ونحن نعلم مقدار ما يأخذ القلم من الحبر ليكتب كلمات كثيرة وقد جاء في سُورَة لقمان أعظم من هذا، {ولوَ اَنَّما في الارض من شجرة اَقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم} (لقمان:27).

 

هذه آية تبين عظمة سَعَة علم ربنا ـ تَبَارك وتعالَى ـ، وأنه لا يتناهى إذ ليس المقصود بعد السبعة الاقتصار على هذا العدد، إنما المقصود الكثرة كما يرد ذلك كثيرًا في كلام العرب، هذا ما نفهمه من الآية، وهي النداء الثاني من هذه الأوامر التي ختمت بها السُورَة وهي مناسبة لما جاء في أثناء السُورَة من قصة موسى والخضر ـ عليهما السلام ـ وما عِلمُهما في علم الله إلاَّ قطرة من بحر أو بحار، وفيها بيان ما جاء في الجواب عن سؤال الروح {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلاَّ قليلا} (الإسراء:85)، والآية رائعة حقًا في التعبير عن سعة علم الله، وكثرة كلماته التي لا تحد ولا تتناهى، وقد اعترف العلماء الكبار بقصورهم وتضاؤل علمهم أمام علم الله في هذا المحيط الذي نعيش فيه، وهو جزء ضئيل جدًا من هذا الكون الواسع، فهذا مخترعُ أو مكتشفُ نظام الجاذبية بين النجوم والكواكب، وإليها تشير الآية الكريمة في سُورَة الرعد {الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها} (الرعد:02.

 

هذا العالم الكبير "إسحق نيوتن" الذي اكتشف هذه القوة العظيمة في كون الله التي بها نتماسك أجرامه، وترتفع السموات وهي قوة لا ترى، وأطلقوا عليها اسم الجاذبية، وكم لله من قِوى في هذا الكون يجد الناس آثارها ولا يبصرونها، يقول "إسحق نيوتن" المكتشف لهذا السر العظيم، سر الجاذبية، يقول: "أنا لا أعرف قدر نفسى في هذا العالم الكبير، ولكن قدري وقيمتي عند نفسي كطفل صغير على شاطئ بحر خضم يجمع الحصى الناعم والصدف"، فهو يعترف في تواضع أنه عاجز عجز الصبي أمام بحر الحقيقة أمامه، لم يخض بعد فيه ولو بخطوة، إنما هو واقف على ساحله مندهش لما يشاهد من عظمته، كل ما عنده من حقائقه بعض الأصداف التي يرميها إليه بين الحين والآخر فيلتقطها، وفي بعض ما توصل إليه العلماء من نظريات ما ينقض نظريات من سبقوهم منذ قرون، كانوا يثقون بها ويعتبرونها مسلَّمات، ولسنا ندري ما يأتي به الغد، والعجب أن بعض المبتدئين في الفلسفة يلحدون في آيات الله ويغترون بنظرياتهم ظانين أنهم فهموا وأنهم علموا!، وهم لا يعلمون إلاّ ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ولهم في الغابرين أشكال من نظرائهم، قال الله تعالى فيهم: {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين، فلم يكُ ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سُنّة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون} (غافر:83-85)، أولئك الذِّينَ اغتروا بعلمهم، وردوا ما جاءتهم به الرسل من الآيات البينات، فلما عاينوا بأس الله ندموا على كفرهم، فلم يكن لينفعهم إيمانهم يومئذٍ، وكانت عاقبة الكافرين الخسارة الكبرى.

 

ولا يزال العلم يصدق ما جاء به القرآن، ويظهر معجزاته يومًا بعد يوم، فالعلم يكشف عن حقائق كانت رموزًا أشار إليها القرآن ولا يعرفها قدماء المفسرين ويردون العلم فيها إلى الله تعالى حتى آن أوانُها فظهرت، والحمد لله فلا يزال إعجاز كتاب ربنا يتجدد يومًا بعد يوم وصدق الله العظيم {سنريهم آياتنا في الافاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} (فصلت:53)، أما مبلِّغ القرآن فقد أمره الله في القرآن أن يقول:

--------------------------------------

 

{قُلِ اِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثلُكُم يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمُ إِلَهٌ وَّاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَليَعمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَّلاَ يُشرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)}

 

قل لهم يا مُحَمَّد ولمن يأتي من بعدهم حتى تقوم الساعة، قل لهم: لستُ إلاّ واحدًا من البشر، فأنا مماثل لكم في البشرية، لا فرق بيني وبينكم إلاّ الوحي الذي يأتيني من الله وبدون اكتساب مني، أما في البشرية فهو بشر مولود من أب وأم، تقلب في بطن أمه أطوارًا، وولد صغيرًا ثم تنقل في النمو أطوارًا، يمسه ما يمس غيره من البشر من حزن وسرور وتعب وراحة وجوع وظمأ وشبع وري وصحة وسقم، ويموت كما يموت الأحياء، ويدفن في الأرض كما يدفنون، فهو لا يمتاز عنهم إلاّ بعناية الله به وبأمه التي حملت به كرامة له، وتأديب الله له إعدادًا لما سيحمل من عبء الرسالة وتكاليفها، فهو لا يعلم من الغيب إلاّ علمه الله إياه وما علمه في علم الله إلاّ قطرة من بحر، هو بشر اختاره الله ليكون واسطة وبين عباده يبلغهم ما أوحى الله إليه بواسطة الملك أو بغير واسطة فهو وحي موهوب غير مكتسب {وما كنت ترجو أن يُلقى إليك الكتاب إلاّ رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرًا للكافرين} (القصص:86)، أوحى الله إليه أُسَّ الدين: وهو التوحيد الخالص، كما أوحى إليه فروع الشريعة، أوحى إلى نبيه مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ أن إلهكم إله واحد لا شريك له ولا شبيه ولا مثيل ولا ند ولا كفؤ، فهو إلهكم وهو ربكم الذي خلقكم والذي رزقكم والذي يميتكم والذي يحييكم والذي إليه ترجعون، فيجازيكم على أعمالكم التي يحصيها لكم، فأنى تؤفكون، وما لكم تجعلون له شركاء تعبدونهم من دونه، وتجعلون له أندادًا تحبونهم كحبّ الله، وتخرقون له بنين وبنات بغير علم، سبحان الله وتعالى عما تشركون:

 

{إنما إلهكم الله الذي لا إله إلاّ هو وسع كل شيء علمًا} (طه:98)، وكل هؤلاء الذِّينَ تعبدونهم من دون الله سيكفرون بشرككم يوم القيامة ويتبرأون من عبادتكم:

{فَمَن كَانَ يَرجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَليَعمَل عَمَلاً صَالِحًا وَّلاَ يُشرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}

 

هذه الآية من ربنا تطهير لعقيدة التوحيد في قلوب المؤمنين، وغسل لنواياهم من كل شائبة رياء، وتنقية لأعمالهم الصالحة من كل ما يدنسها أو يبطلها، وأنواع الشرك كثيرة منها الجلي ومنها الخفي، وإن من الشرك ما هو أخفى من دبيب النمل.

 

{فَمَن كَانَ يَرجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} فسَّر بعض العلماء الرجاء هنا بـ: "الخوف"حتى يناسب معنى الموضوع، وقد ورد في القرآن الكريم: {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا، إنا نخاف من ربنا يومًا عبوسًا قمطريرًا} (الإنسان:09-10)، ولقاءُ الله: فسروه بـ: "الوقوف بين يدي الله للعرض والسؤال"، فمن كان يخاف ذلك الموقف الرهيب الذي هو آتٍ لا ريب فيه:

 

{فَليَعمَل عَمَلاً صَالِحًا} فلابد من الأعمال الصالحة، وهذه من جملة الآيات الكثيرة التي تبيّن أن الإيمان وحده بدون عمل لا ينجي صاحبه يوم القيامة، فلا ينفع القول بدون عمل، بل هو من الأماني الفارغة التي من استمسك بها فقد استمسك بباطل من الوهم، والعمل الصالح هو جميع القربات التي شرعها الله في القرآن، أو سنَّها رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ بأقواله وأفعاله أو تقريراته، فهي قربات موافقة لشريعة الله يأتي بها الإنسان مؤمنًا بالله متبعًا لشريعته قاصدًا لوجهه الكريم وذلك هو الإخلاص الذي ترمز إليه الآية {وَّلاَ يُشرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} ففيها نفي لجميع أنواع الشرك، {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقد افترى إثمًا عظيمًا} (النساء:48)، إنه لا ينفع مع الشرك بالله عمل.

 

{فَمَن كَانَ يَرجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَليَعمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَّلاَ يُشرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}

 

من كان يحب ربَّه ويتمنى لقاءه، واللقاء هنا: الفوز بقربه ورضاه، والخلود في دار كرامته، هذا هو اللقاء لا الرؤية كما فسَّر البعض، تعالى الله عن ذلك فهو لا يُرى، ولن يراه مخلوق في الدنيا ولا في الآخرة وقد تمدح بذلك فقال: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} (الأنعام:103)، وقد ورد في الحديث الشريف: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه".

 

{فَليَعمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَّلاَ يُشرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}

 

فليعمل الأعمال الصالحة الموافقة للشريعة، وليعبد الله ربه عبادة خالصة لا يشرك فيها أحدًا غيره، من دعا مع الله أحدًا فقد أشرك، ومن سجد لغير الله فقد أشرك، ومن ذبح لغير الله فقد أشرك، ومن حلف بغير الله فقد أشرك، ومن أنكر وجود الله وأنكر نَبِيًّا من أنبيائه أو كتابًا أو آية من كتابه فقد أشرك، أو أنكر البعث والجزاء فقد أشرك، ومن اتبع في الشريعة سبيلا غير صراط الله فقد أشرك، ومن عمل عملا من أعمال الآخرة يريد به غير الله، يريد أن يراه الناس ويمدحوه فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك لا يقبل ما شورك فيه، لا يقبل إلاَّ عملا خالصًا لوجهه الكريم ليس فيه شائبة رياء.

 

الله الذي وسع كل شيء علمًا، تنفَدُ مياه البحار لو كانت مدادًا لكلماته ولا تنفَد كلماته، الله الذي وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهي العلي العظيم، الله ربنا وإلهنا وإله كل شيء، أمر أن لا تعبدوا إلاَّ إياه، ذلك الدين القيم.

 

تلك هي المعاني التي تقررها هذه الآية العظيمة التي ختمت بها هذه السُورَة العظيمة، وهي خلاصة ما تقدم في جو السُورَة منذ افتتاحها، وهي تسند الحمد كله لمنزل الكتاب، وتنذر بيوم لقاء الله الذي فيه البأس الشديد للذين أشركوا بربهم وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا، وتبشر الذِّينَ يؤمنون بالله ويعملون الصالحات أن لهم أجرًا حسنًا ماكثين فيه أبدًا.

 

كان هذا هو المعنى الذي طرقته بداية السُورَة، وهو المعنى الذي استمر خلالها، يبرز ما بين مشهد وآخر وتوضحه الأمثلة المضروبة في أثنائها، وهو المعنى الذي سيقت من أجله قصة: أصحاب الكَهف، وقصة: موسى والخضر ـ عليهما السلام ـ، وقصة: ذي القرنين الملك الصالح الذي سار في أرض الله ينشر فيها الدين ويدعو إلى الإيمان.

 

بعد كل تلك الحقائق الجلية المعروضة تختم السُورَة بهذه الآية البيّنة تقرر القرار الأخير الذي يبيّن مصير المؤمنين العاملين المخلصين عند الله يوم القيامة، فهم وحدهم الذِّينَ ينعمون بلقاء ربهم، وجاءت إضافة الرب إليهم مرتين إضافة تشريف وتقريب وتذكير وحفاوة وإكرام لمن اتبع الذكر.

 

{تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} (الرحمن:78).

 

نسأل الله ربنا ورب المؤمنين ورب كل شيء ومَلِيكه أن يجعلنا من الذِّينَ يسعدون بلقائه، وسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

والحمد لله ربّ العالمين..

 

تم تفسير سُورَة الكَهف