الفصل الثاني:

في بيان الأحكام الشرعية التي دلت عليها معاني هذه السورة الشريفة؛ التي هي فاتحة الكتاب:

البيان الأول: ما دلت عليه البسملة وهي الآية الأولى:

الحكم الأول: بالابتداء فيه دلالة على الأمر به، وفي ذلك دلالة على أنها آية من الفاتحة، وأنها تجب قراءتها معها في الصلاة المكتوبة؛ لأن معرفة الله هي أول ما يجب على المكلف متى-ما لزمه-التعبد بمعرفته، فلا يمكن أن يحمده العبد باسمه إلا بعد معرفته به، وقال صلى الله عليه وسلم: "كل أمر لم يُبدأ فيه باسم الله فهو أجذم"[1] والأجذم: المقطوع، فلا يصح الكمال بقراءة الفاتحة على أنها جذماء وصح أنها منها.

الحكم الثاني: دل ذلك على أنه بتركها فيها تنتقض الصلاة، إذ لا تُؤدى الصلاة بترك المأمور بإتيانه فيها إيجاباً، ودل على إيجابها فيها-أي في الصلاة-بما ذكرناه سابقاً.

الحكم الثالث: دلت بمعنى الاستعانة باء (بسم الله) على وجوب التبري من الحول والقوة إلا بالله في إتمام الصلاة وفي كل أمر كما ذُكِر.

الحكم الرابع: دلت على الابتداء باسم الله على تكبيرة الإحرام في الصلاة، إذ لم يَرِد إيجاب الابتداء باسم الله في عمل إلا في الصلاة.

الحكم الخامس: دل الأمر بالابتداء باسم الله تعالى في الذبح، وأن لا نذكر فيه غيره تعالى.

الحكم السادس: دل بالأمر بالابتداء باسم الله إيجاباً على أنها من الفاتحة، وعلى أن قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة المكتوبة، ولا تصح صلاة نفل إلا بها، إذ لا يجب الابتداء بالبسملة في شيء إلا في قراءتها في الصلاة دون غيرها من السور. 

 

البيان الثاني: الآية الثانية (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ):

الحكم السابع: دلت على وجوب الشكر، ودلت بدلالتها على ذلك وجوب أداء كل واجب على المكلف بكماله من صلاة وغيرها، فدلت بذلك في الصلاة على أن من ترك منها واجباً فلم يؤده لزمه إعادتها.

الحكم الثامن: دلت بدلالتها على الندب بأداء المندوب على ما أمكن، وعلى ترك المكروه وترك المحرمات؛ لأنه كذلك حقيقة الشاكر، إذا صدق شكره وصحت مروَّته.

البيان الثالث والبيان الرابع: الآية الثالثة والرابعة (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ):

الحكم التاسع: دلتا على وجوب الرجاء لرضاء الله تعالى، والخوف من سخطه، وأن يكون العبد متوسطاً بين ذلك.

الحكم العاشر: دلت الآية الثالثة بإقرانها ذكر يوم الدين وخاتمة ذكر العالمين والخلائق على أنه مما ينبغي إذا أحس العبد بنفسه الفراق للدنيا، وإقباله إلى يوم الدين أن يميل إلى الرجاء غير متجرد من الخوف، كذلك ذكر الغزالي، وذكر لي والدي رحمه الله ذلك في ميله إلى الرجاء حذراً من الشيطان أن يوسوس له بشدة الخوف، حتى يقول له: ولو خفت فإذا كنت سابقاً في علم الله أنك من أهل (النار)[2] فلا ينفعك هذا، فيسخط على الله في ذلك بجهله وبوسوسة الشيطان، فيضيف ذلك أنه من الله تعالى، ويوسوس عليه بما يهلكه به، وقد جرى على أحد قبل أن يخبر بمثل ما أخبرنا به عنهما، وذلك بدليل ذكر أسمائه تعالى (الرحمن الرحيم) كما ذكرنا.

البيان الخامس: الآية الخامسة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ):

الحكم الحادي عشر: دلت على أن العبادة من صلاة وغيرها لا تصح إلا بعد الإيمان، وأنه مأمور بها كل أحد من مشرك ومسلم، ولكن المشرك بعد إيمانه بما تقدم من الإقرار بمعرفته تعالى، وبالإقرار برسوله الذي تعبد الإقرار به واتباعه، والإيمان بجميع الرسل والأنبياء والكتب والملائكة واليوم الآخر؛ بدليل ما تقدم، وبدليل كون السورة على مثل ولي يخاطب الله تعالى، وهي التي جُعل قراءتها فرضاً في الصلاة، فهو يشاهد هل المخاطب بغفلة في كل قراءة قرأها، أي الفاتحة من فهم المعنى.

الحكم الثاني عشر: دلت على الأمر بالتعاون على البر والتقوى إيجاباً في موضع وجوبه، وندباً في موضع ندبه، ونفلاً في موضع نفله، ومباحاً في موضع مباحه، وحلالاً في موضع حله، ولا يكون الأمر بالتعاون على مكروه ولا على حرام، ولكن يكون دينونة في موضع وجوبه، ورأياً في محل الرأي، وهذا باب واسع، وذلك مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا أمكن التعاون ولزم، ومثل الجهاد على من لزمه، ومثل قتال الدفاع عن حُرَم البلد على من لزمه، ومثل أداء الشهادة على من لزمه، وقيل: كذلك إذا دُعِيَ للإشهاد إذ لم يوجد غيرهما، وفتوى العالم المستفتي فيما لزمه أداؤه، إلى غير ذلك مما هو واجب، ووراءه ما هو غير واجب، وذكر استقصاء ذلك يأتي على أبواب كثيرة من أحكام الشريعة، مما يحتاج إلى مجلدات كثيرة مطولات واسعة؛ لأن كل ذلك من العبادة لله تعالى.

الحكم الثالث عشر: دلالتها على صلاة الجماعة والحث إليها، وفي دلالة ذلك بيان فضلها على صلاة المنفرد، وأنها تكاد أن تكون فرضاً على غير الكفاية، وقيل: على الكفاية، وقيل أخف من هذا، وفي نوني نستعين بيان أيضاً على صلاة الجماعة وفضلها.

الحكم الرابع عشر: في الاستعانة دلالة على التبري من الحول والقوة إلا بالله تعالى.

الحكم الخامس عشر: دلت على الندب في الاجتهاد بالدعاء بعد الصلاة، والرغبة إلى الله به.

الحكم السادس عشر: دلت على استحباب الدعاء والسؤال إلى الله تعالى، ويدعوه بأسمائه بعد الصلاة، وعلى الابتداء في الدعاء بالتحميد والتسبيح والتهليل والتكبير والاستغفار، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله وأصحابه وجميع أوليائه، والتبري من الحول والقوة إلا بالله على ما تقدم من معاني الفاتحة، ثم السؤال لما يريده المرء، والأحسن أن يبتدئ في سؤاله أن يطلب من الله تعالى ما هو طالبه منه نحو: التوفيق في الطاعة، والعصمة من المعصية، وغفران ذنوبه، إلى غير ذلك، ثم ما يريده لنفسه، ثم الصلعمة وهي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الحوقلة وهي التبري من الحول والقوة إلا بالله.

 البيان السادس: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ):

الحكم السابع عشر: دلت على وجوب حبه لأهل محبة الله من أهل زمانه، وعلى استحباب الدعاء إذا دعا لنفسه أن يشركهم في دعائه بنون الجماعة، وفي الفاتحة ذلك واجب عليه فرضاً أن يشركهم كذلك في الصلاة المكتوبة؛ لأنه عليه أن يقرأها كذلك بفتح النون إذا فهم أو أخبر أن قراءتها كذلك، وبكسرة الهمزة إن أمكن.

البيان السابع: أول الآية السابعة (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ):

فعلى من ينكر أن البسملة ليست آية من الفاتحة كالحنفية يجعلون هذه الآية السادسة ، ومن بعدها الآية السابعة، ومن يعتقد أنها آية منها يجعل هذا أول السابعة، وآخرها إلى آخر السورة، والأصح ما عددناه.

الحكم الثامن عشر: دلت على وجوب المحبة لمن أطاع الله تعالى والولاية لهم.

الحكم التاسع عشر: دلت بوجوب الولاية لأولياء الله في المجمل على وجوه الولاية كلها؛ لأنها مرتبة على جزء الشيء على كلياته.

الحكم العشرون: دلت على ذم إعجاب المرء بنفسه في دينه، أي أعماله الصالحة، وذم الرضا عنها، وتزكيتها بالرضا عنها بالسؤال أن يكون على طريقتهم نظراً إلى تعظيم شأنهم على نفسه.

بيان عام: الآية السابعة (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)

الحكم الحادي والعشرون: دلت على وجوب البراءة لمن عصى الله تعالى من مشرك، ومن مؤمن فاسق.

الحكم الثاني والعشرون: دلت بدلالة وجوبها عليه فهم مجملاً على وجوه البراءة، وأبواب أحكام البراءة أبواب كثيرة طويلة جداً، لا تستقصى في مجلد واسع كثير كثير.

الحكم الثالث والعشرون: ودل مجملها على الاستحباب للمصلي أن يجتهد غاية الاجتهاد في حضور قلبه إلى الله تعالى، وأن غلبه حديث النفس وكثر عليه، ولم يتعمد إلى متابعته فلا يضره ذلك.

الحكم الرابع والعشرون: دلت على استحباب التأسي لمن قدر بأهل الفضل من واجب ومندوب ونفل ومباح وترك مكروه ومحرم، ففي الواجب والمحرم لازم حد القدرة، وفي غيرها غير لازم.

الحكم الخامس والعشرون: دل أخرياتها على ترك التأسي بأهل المعاصي المخالفين عن أهل الطاعة فيما هو واجب تركه وهو المحرم، وفيما هو مكروه، مكروه التأسي بهم في الصلاة وفيما هو محرم التأسي بهم ببعض الصلاة، وفيما هو مكروه محل رأي، فاعرف ذلك، وبالله التوفيق.

فصل:

وفي معنى ابتداء (بسم الله) بالبسملة، وفي معاني البسملة، وفي معنى الاستعانة بالله بذكرها، وفي معنى (الحمد لله)، وانتهاء إلى معنى (الرحمن الرحيم) معارف توحيدية، وفي معنى (ملك يوم الدين) اعتقادات إيمانية، وفي معنى (إياك نعبد وإياك نستعين* اهدنا الصراط المستقيم) معارف توحيدية، وفي معنى (صراط الذين أنعمت عليهم) اعتقادات إيمانية بدخول معنى الثواب هنالك، وفي معنى (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) اعتقادات إيمانية لدخول معنى العقاب هنالك، وكل ذلك ليس من الأحكام الشرعية، وإنما هي كما ذكرنا من أحكام الاعتقادات، وهذا كله من معانيها الجلية دون الخفية، وإن في معانيها أيضاً إلى علم الحقيقة، فهي كالأبواب لعلم الدين كله، فلست ترى من علم الدين شيئاً يفوت منها، فاعرف ذلك.

*( انتهى )*

----------------------------

[1] - جاء هذا الحديث بلفظ " كُلُّ كَلَامٍ أَوْ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُفْتَحُ بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ أَبْتَرُ أَوْ قَالَ أَقْطَعُ" رواه أحمد في مسنده، وعبدالرزاق في مصنفه، والنسائي في السنن الكبرى بألفاظ متقاربة.

 [2] - هذه الكلمة  زيادة ليست في الأصل ليتم المعنى.