تفسير سورة الفاتحة الشريقة

بيان بعض معانيها وأحكامها الشرعية

للشيخ ناصر بن أبي نبهان الخروصي

رحمه الله

تحقيق وتعليق: عبدالله بن سعيد القنوبي

مقدمة:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أنزل القرآن العظيم، هدى لكل ذي قلب سليم، على صراطه المستقيم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد النبي الأمي الشارع به وبإيضاح الدين القويم، وعلى آله وصحبه وأهل طاعته، وجميع أولياء الله أهل القرب والتكريم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

أما بعد:

فاعلم أن صاحب (الروضة والغدير)[1]، وصاحب (الثمرات)[2]، وصاحب (الانتقاد)[3] كل منهم لم يأخذ من الفاتحة آيات في الأحكام الشرعية، وإني لما تفكرت في معانيها وجدت في بعض آياتها أحكاما شرعية، فأحببت أن أبدأ بذكر آياتها في فصلين: الفصل الأول في بيان بعض معانيها، وهذا شروع الابتداء، والحمد لله أبداً.

الفصل الأول: في بيان بعض معانيها:

قوله تعالى (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (الفاتحة:1)

قال أهل التفسير: الباء هنا بمعنى ( أبدأُ باسم الله) أي باسم الله، فحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال طلباً للأخف، وقيل: يصح أيضاً أن يكون الباء بمعنى ( أستعين باسم الله )، وأن المعنى أستعين بالله؛ لأن الاسم يقصد به المسمى كما قال تعالى: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإكْرَامِ)(الرحمن:78) جازت القراءة في ذلك (ذو الجلال والإكرام) تبعاً لرفع (اسم)، وجازت (ذي) تبعاً لحركة الباء من (ربك) فيكون متوجهاً إلى المعنَيَيْن معاً[4]، ويكون معنى أستعين بسم الله أعم في الأمور؛ لأن معنى ذلك يعم الأمور كلها: من اعتقاد، ومن عمل، ومن ترك، من أمور الدنيا والدين جميعاً.

وأما على أنه معناه (أبدأ) وإن كان صحيحاً في التأويل ولكنه لا يعم أمور الاعتقادات، ولا أمور الترك، فصح أن المراد بذلك المعنيان، وأيضاً فإن الابتداء باسم الله بمعنى أبدأ بتلاوة هذه الآية لم يأتِ فيها نص إيجاب في شيء إلا في قراءتها في الفاتحة في الصلاة، وأما إن كان بمعنى الأمر الإيجابي لغير تلاوة الآية لغير مشاركة الباء، أي ابدءوا باسم الله فإيجاب ذلك في تكبيرة الإحرام، فيكون المعنى مشيراً إليها، وفي الذبح وفي مواضع أيضاً نُدِب، ولكن في غير ابتداء، فمعناه أستعين باسم أعم في الأمور، وبذلك يصح أن البسملة والباء من البسملة ضمنت جميع معاني القرآن العظيم؛ لأن الاستعانة تعم على جميع الأمور .

بيــان:

واعلم أن القرآن أنزل معاجزاً ومغالباً لشعراء العرب الفصحاء البلغاء في الفصاحة والبلاغة، العلماء بها منهم المنتهين غايتها فيما يعطي العباد منها، وإن كان كذلك مغالباً لفصحاء أهل النثر، لكنه إلى مغالبة أهل النظم أقرب، ولأنه ليس بنثر وإنما هو نظم، ولكنه غير موزون بموازين الشعر فلم يكن شعراً، والشعر نظم ولكنه موزون، وهذه إحدى المعجزات فيه؛ لأن نظم الشعر أسهل من نظم آيات؛ لأن الشعر يتبع فيه ميزان، فهو يمشي في طريق واضحة له، ونظم آيات يمشي وهو أعمى، إذ لا قائد له ولا سائق، ولما كان معاجزاً للشعراء، ولا يصح أن يغالبهم بما يخالف طرائقهم في أسلوب الشعر، إذ المتخالفان لا يصح التقابل بينهما، فلا غرو سلك به مسلكهم، وكأنه صحح مذهبهم فيه، وذلك أن لهم فيه شروط:

الأول: أنهم يبتدئون في القصيد بالتغزل والتشبيب بالنساء بالمدح، ويتغالون في المبالغة في ذلك، وفي حبهم وهيمانهم فيهن، وكأنهم يخاطبون في خلوات لا شاغل بينهما إلى غير ذلك إلى أن يخرجوا من ذلك إلى ما هم قاصدون ذكره.

والوجه الثاني: من الشروط في براعة المطلع أن تكون دالة على ما يريد أن يذكره في النظم في التغزل، أو فيما هو قاصد ذكره، فكذلك جعل الله الفاتحة هي كبراعة المطلع للقرآن، دالة على ما يريد أن يذكره في الكتاب كله، وكلما في الكتاب من المعاني هو في الفاتحة، وكلما في الفاتحة من المعاني هو في البسملة، وكلما في البسملة من المعاني هو في معنى الباء، وكلما في الباء من المعاني هو في نقطة الباء، بدليل أن كل ذلك في الباء إذا كان من معانيه في (بسم الله) أستعين باسم؛ لأن المعنى كذلك يعم جميع الأمور الدينية والدنياوية، الجائزة واللازمة، فعلاً وتركاً، والدليل على أن جميع ذلك في نقطة الباء؛ لأن نطق الباء فيه بالكسر، فهو ابتداء من أسفله، كأنه من النقطة بخلاف نطقه بالفتح والضم، وهذا من أعظم المعجزات فيه، أي القرآن العظيم، وجعل معنى الفاتحة على قياد طريقتهم، كأنه ولي لله تعالى يخاطب الله جل وعلا، ولم يعين اسمه، وبالغ في وصفه بالحكاية عنه في خطابه بها إلى ربه، إلى حد يعجز الواصفون أن يعرفوا حد كماله في الحب لله والخضوع والخشوع والتبتل إلى الله جل، والتذلل في التضرع إليه إلى حد يظن المرء أن المراد به النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ الغاية في الفضل في جميع المحدثات.

بيــان:

ولما كان التغزل في الشعر أن لو فعلوا ما يذكرونه لكان ضلالاً، ولو فعله غيرهم لكان ضلالاً أيضاً؛ لقوله جل وعلا: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) (الشعراء:224) أي حين يتلون أشعارهم، ويذكرون النساء تحركت الشهوة إلى الفعل، فإن فعلوا ضلوا، ولم يرد بذلك هنا ذمهم، وإنما يريد الاحتجاج بالقرآن للفرق بينهما أن طريقة الشعر لا يمكن فعلها، ولا يفعلها إلا الغاوون بدليل أنه نزههم عن فعلها فقال: (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ) (الشعراء:226)، وأما طريقة القرآن فمن اتبعها اهتدى ونال السعادة الأبدية، لذلك كان في مقابلة التغزل بالنساء مخاطبه هذا الولي لله بالفاتحة ليكون بخلافهم، وليكون دليلاً على ما سيذكره في الكتاب.

بيــان:

واسمه تعالى (الله) قيل: إنه اسم علم لا اشتقاق له، وقيل: إنه مشتق من اسمه تعالى الإله معرفاً بالألف واللام، وحذفت الهمزة للتخفيف فصار الله، فقصد به الذات فكان اسماً علماً للذات، لا يقصد به معنى صفة من صفاته تعالى، ثم فخمت لاماه فقيل: الله، إلا في اندراج الكلام إذا جاء قبله حرف مكسور بقي على التخفيف فقيل: بسمِ الله، والحمد لله، وجاء رجل لعله من أهل المغرب إلى نزوى في زمن الشيخ العالم سعيد بن بشير الصبحي[5] رحمه الله، يفخم لام اسمه تعالى الله مع كسر ما قبله، نحو: بسمِ الله، والحمد لله، فلما رُدَّ عليه قال: لأرقق نطق لام اسمه تعالى الله في كل موضع، فقال الشيخ سعيد بن بشير رحمه الله: لا تخطئوه عسى أنه نظر أنه الأصوب، هكذا حكي لي والدي[6] رحمه الله عنهما، ولأنه جعلها مسألة رأي، والأفضل الترقيق، مع تقدم حرف كسر أو جر عليه؛ لاتفاق القراء على ذلك بالشهرة.

واسمه تعالى (الرَّحْمَن الرَّحِيم) قيل: بمعنى واحد، وقيل: الرحمن أعم، أي رحمن الدنيا بالمؤمن وغيره، ورحيم الآخرة بالمؤمنين، والأول أصح.

بيــان:

ولا يصح أن يبدأ باسم الله مستعيناً به على أمر إلا وقد عرف عجز نفسه، وعرف صفات الذي يستعين به، وعرف الأمر الذي يستعين به عليه، فدل بذلك أنه قد كاشفه الله تعالى بصفاته، وجلال جمال كمالها، وكمال جمال جلالها، وجمال كمال جلالها، وأنه مع ذلك لولا عظم رحمته تعالى في كل شيء لتلاشى كونه في حين المشاهدة، فقال مستعظماً لكمال رحمته: الرحمن الرحيم، معناه كأنه يكرر ذلك على معنى من يقول معناهما واحد، أو على المعنى الآخر قال فلا يخالف قوله تعالى:

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة:2)، فالحمد: هو الثناء، والألف واللام للاستغراق، والثناء هو المدح، والمعنى: كل صفاته وأفعاله حمد، أي محمودة، ويدخل في معنى الحمد الشكر، أو المشكور هو المحمود فعله، المحمود في صفاته.

والحمد على ثلاثة أقسام:

الأول: حمد الله نفسه، أي هو محمود في صفاته وأفعاله حقيقة.

والثاني: حمد العبد ربه، أي ثناؤه على الله ومعرفته حقيقة أنه كذلك، وإقراره بذلك.

والوجه الثالث: شكر العبد لربه؛ لأنه إذا كان يعرف ويقر أن الله محمود في كل صفاته وأفعاله، فمن أفعاله أنه ألزمه أداء الطاعة له بكمال الطاعة، واجتناب معصيته، ويعرف من أفعاله إليه عظم إحسانه إليه، فلا يصح الشكر الذي حقيقته تحقيق الحمد إلا بأداء ذلك لله تعالى، وإلا صار مكذباً لحمده بعصيانه؛ لأن من حمد إنساناً على فعل الخيرية، وذكره مع الناس وأثنى عليه، قيل: فلان كثير الشكر والحمد والثناء على فلان فيما يفعل به من الخير، فإذا أراد منه فعل شيء يقدر عليه، ولا ضرر عليه في فعله فامتنع وقال: لا أفعله له، سُمِّيَ مع كل من عرف شكره عليه أولاً وامتناعه هذا أنه غير شاكر، وأنه قد كفر نعمة فلان، أي سترها أي دفنها، كأنه لم يفعل فيه ما كان يذكره به من الخير، فكذلك في الله تعالى، فكافر الشكر كافر كفر نعمة، وكافر الجحود في الله كافر كفر شرك.

بيــان:

وقوله تعالى ( لله ) ولم يقل ( له ) ضمير على ما تقدم من أسمائه، وذلك لما شاهد من جلال كمال حمده اندهش وصحا فالتزم إعادة الذكر لله تعالى؛ لشدة محبته، أنه أحب تكرار ذكر اسمه تعالى.

والرب هو المالك المصرف.

والعالمين جمع عَالَم وهو جمع لمن يعقل، والمراد بهم عباده من الملائكة والجِنَّة والناس أجمعين، لا جمع من لا يعقل (عوالم)، ولكن يصح أن يكون المراد رب الخلائق أجمعين، فجمعهم مع من يعقل بجمع من يعقل تفضيلاً لهم على جميع ذلك.

قوله (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (الفاتحة: الآية3) كررها وذلك أنه لما شاهد المخلوقات بمعرفته بالله، وشاهد الله بصفاته لا ذاته في كل شيء من مخلوقاته، وأن الله قد تجلى بالصفات في كل ذرة من ذرات الوجود تجلياً يندهش به، ويندكُّ به جسم كل شيء لولا رأفته ورحمته، كرر اسم الرحمن الرحيم.

وأيضاً فإنه لما انصرفت مشاهدة العقل من مشاهدة الدنيا، وانكشفت له مشاهدة الآخرة وعظيم أمورها قال مع ذلك: الرحمن الرحيم، كالذي يقول مع الشيء الذي يستعظمه: الله أكبر الله أكبر، فذكر هنا ما يوافق المطلوب اسم الله تعالى الرحمن الرحيم فقال:

( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) (الفاتحة:4) ولم يقل: ملك الدنيا ويوم الدين لمعانٍ:

أحدها: إنه قد ذكر الله تعالى أنه ملك الدنيا ويوم الدين بقوله (رب العالمين).

والثاني: أنه أراد هنا التعظيم ليوم الدين، كأنه لما شاهدها نسي الأولى أصلاً.

والثالث: تحقير للأولى وتصريف أهلها مع النظر إلى يوم الدين.

بيــان:

وإلى هذا الموضع هو خطاب وصف كأنه لغير حاضر، ومن بعد هذا انتقل إلى صفة خطاب الحاضر، ويسمون أهل البديع من أهل الفصاحة والبلاغة هذا الوجه بالالتفات، كما قال تعالى: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ )(يونس: 22) ولم يقل: وجرت بكم، وفي مواضع أخرى قال على معنى ذلك أيضاً.

 قوله تعالى حاكياً عن قول وليه جل وعلا:

( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) (الفاتحة:5) ولم يقل: نعبدك ونعبد إياك، وذلك للمبالغة في إرادة العبادة له، وللمبالغة في صرفها عن غيره؛ لأن قولك: "زيد ضربته" أبلغ من قولك "ضربت زيداً"؛ لأن بعد قولك "ضربت" يمكن أن تصرفها عن زيد فتقول: تميماً، وأما قولك: "زيد ضربته" فلا يمكنك صرف ضربته عن زيد إن قصدت الضرب بمعناه.

بيــان:

وقال صاحب المثل السائر[7]: "إن في هذا الالتفات ما يدل على الإيجاب"، وقال صاحب الكشاف[8]: "ليس من دلالة الإيجاب"، والأصح ما قاله صاحب المثل السائر، ومعي أنه أعلم بالفصاحة منه بدليل قولهما هذا، وذلك مع صاحب كتاب المثل السائر، أنه لما شاهد هذا العبد من معرفة الله تعالى بمشاهدته لمخلوقاته تعالى في الدنيا، وما شاهده بعقله في الآخرة ما يدله على معرفته بنفسه ومعرفته بربه، فكانت مشاهدته تعالى بصفاته في مشاهدته لخلقه مشتركة، فلما أراد العبادة لله نحو الصلاة المكتوبة أو الدعاء بالتضرع والابتهال وجب عليه ترك مشاهدة المخلوقات، والتجرد بحضور القلب إلى الله تعالى، ومثال ذلك: من قاده الفكر إلى قدرة الله في شجرة أنه يقسم ما تشربه من الماء في كل عود، ولا يمنع الآخر صاحبه، وكذلك كل ورقة وكل عرق صغير أو كبير من الورقة، إذ الورقة باطنها كلها عروق متداخلة متقاربة مع بعضها بعض، فإذا حضرت الصلاة وجب عليه ترك ذلك الفكر في تلك الشجرة، فافهم ذلك.

بيــان:

وفي نون "نعبد" معانٍ كثيرة الإشارات إلى كثرة أمور منها:

أنها نون المتكلم إذا كان معه غيره من واحد فصاعد، فهي تستعمل لجماعة، وقد تكون للتعظيم كقوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر:9)، والله تعالى هو الذي أنزله.

ومنها: تستعمل لتعظيم المذكور، كقول القائل للملك: نحن نطيعك، ولو لم يرد إلا نفسه، والمراد: أنت ممن لا يقدر أحد أن يعصيك، وكل ذلك يصح في حق الله تعالى، إذ لا يقدر أحد أن يعصيه إلا لمن أراد أن تظهر منه المعصية، وفي المعنى الأول أن يستعمله المتكلم إذا كان معه غيره، ففيه إشارة إلى التعاون على فعل الطاعة لله تعالى، وأنها في مواضع تكون أفضل، وفي مواضع تكون واجبة: كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا قدروا مع التعاون والجهاد إذا لزم، وقتال الدَّفْع إذا وجب، وأداء الشهادة، وفتوى العالم للمستفتي فيما لزم المستفتي ووجب، وهذا باب كثير يدخل فيه من الأحكام الشرعية يحتاج لإحصائه إلى مجلدات واسعة كثيرة.ٍ

بيــان:

وفي ذلك إشارة إلى صلاة الجماعة والحث عليها، وفي دلالة ذلك إشارة إلى لزوم قراءة الفاتحة في الصلاة، وأنها لا تتم إلا بها؛ لأن محل (نعبد) هي الصلاة، وكذلك الصوم والحج وأركان العبادة، ولكن الإشارة إلى صلاة الجماعة أقرب من غيرها؛ لأن الاجتماع لأدائها هي المندوبة، وأما الزكاة فيؤديها مفرداً بنفسه، وكذلك الصوم والحج، وكل ما ذكره في آية هو من الواجب على المكلف بأدائه، وإذا كان كذلك صح أن الابتداء بالبسملة لازم، ولا يلزم إلا في الصلاة، ولا تلزم إلا في قراءة الفاتحة فيها، فصح أنها آية منها، وأن الحكاية في (أبدأ) يُراد به الوجوب، إذ كل آية هي كذلك في الفاتحة، فلا يصح تخصيصها بعدم الوجوب دون غيرها، مع أنها قرنت بها في المصحف، وإن كان كذلك هي في كل سورة، ولكن كل سورة يصح أن يقرأ منها ما شاء المرء في الصلاة، ويترك منها ما شاء فبسملتها كذلك، وأما الفاتحة إنْ يترك شيء منها في الصلاة وهي الآية الأولى.

بيــان:

وفي نوني (نستعين) معانٍ إما في نفس الاستعانة فهي لازمة؛ لأن معناها التبري من الحول عن ترك شيء وعن معصية الله، ومن القوة أي القدرة على فعل شيء وعلى طاعة الله إلا بالله، وفي معناها دلالة على أن المستحب أن يكون السؤال لما يريد المرء بعد العبادة نحو بعد انقضاء الصلاة، وكذلك الدعاء إلى الله تعالى، فيشكر الله على ما أنعم عليه بإتمام أداء ما عليه، ويسبحه ويحمده ويُهلِّلُه ويكبره، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويتبرأ من الحول والقوة والطول إلا بالله، ويسأل الله ما أراد، والأحسن أولاً أن يطلب منه ما هو طالبه من التوفيق على طاعته، والعصمة من معاصيه، والاستغفار والتوبة من الذنوب، وقيل: على الكذب ينتقض الوضوء، ثم يختم بالصلعمة أي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وأولياء الله أجمعين، وبالحوقلة أي لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وذلك معنى قوله تعالى (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ)(الشرح:7) أي فاجتهد، (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)(الشرح:8) أي في الدعاء، فاعرف ذلك.

 بيــان:

وما في نوني (نستعين) يدل على أنه أشرك معه ذكر غيره، والاستعانة في الدعاء بعد الصلاة أو متى شاء المرء لا يشاركه فيه غيره غالباً، وإن أمكن فليس من المندوب إلا في مثل ما تحسن فيه الشركة كالدعاء في الاستسقاء عند عدم المطر، ولدفع بلاء عم الموضع وما أشبه ذلك، فيحسن أن تكون الإشارة إلى هذا المعنى.

والمعنى الثاني: أن ذلك بعده متعلق بصلاة الجماعة.

والمعنى الثالث: التبرك بأهل الله تعالى، وهم أهل رضاه عنهم من الملائكة والرسل والأنبياء والأولياء والصبيان، وفي ذلك تذلل وخشوع لله تعالى، ومحبة الله بمحبة أهل طاعته، وولاية منه لهم وتعظيم لشأنهم، ونظر إلى أنه أحقر منهم وأنزل رتبة، وتنزيهاً من الإعجاب بنفسه، ومن تزكية النفس بالنظر إليها بعين الرضا عنها، إلى غير ذلك ما يطول بذكره الباب، ولما نظر إلى مراتب الفضلاء بعظم شأنهم إلى نفسه بخلاف ذلك قال:

( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) (الفاتحة:6):

سأل لنفسه ولمن كان على طاعة الله محبة لله ومحبة لمن أحب الله فأطاعه ممن كان عبده في صلاة الجماعة، أو غيرهم على الإطلاق بأن يهديهم الصراط المستقيم، أي طريق الحق، والمراد بالهداية هدى البيان في كل أمر يعنيهم من أمر الدين، وأن يثبتهم على ذلك، وهو هدى السعادة والتوفيق للطاعة، والعصمة عن المعصية.

قوله ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) (الفاتحة:7):

أي طريقة الذين أنعمت عليهم بهدى البيان وهدى السعادة بالعلم والعمل والتمكين من الملائكة والرسل والأنبياء والمرسلين، والعلماء المتقين، والأولياء الصالحين، وصراط النبي محمد صلى الله عليه وسلم في حقنا نحن أيضاً، وأصحابه المرتضين، وأهل طاعته المتقين، وفي ذلك معانٍ كثيرة منها ما ذكرناه من النظر إلى تعظيم شأن أولياء الله على حقارة نفسه في نظره، ومنها التبرك بهم، ومنها الدلالة على ولايتهم، ومنها معرفته بهم أنهم أولياء الله تعالى، وأن الله تعالى وليهم، وفي ذلك دلالات على جميع أحكام وجوه الولاية، وفي ذلك دلالة على لزومها على من كلف بها في الجملة، أو في أحد مخصوص وما أشبه ذلك.

 

 

( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ) (الفاتحة:7):

اختلف الناس في تفسير (المغضوب عليهم) من هم؟ وفي (الضالين) من هم؟ فقال بعضهم: (المغضوب عليهم) اليهود، و(الضالين) النصارى، وقال بعضهم: (المغضوب عليهم) جميع فرق المشركين، والضالون أهل الضلال من مذاهب أهل الإسلام، أي ضالون في التأويل ضلالاً لا يسعهم الثبوت عليه ويهلكون به لا ما دون ذلك، وهذا هو الصحيح، والأول بعيد من الصواب لما سيأتي من الدلالة على باطله.

بيــان:

ومن قوله: ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) انتقل من الخطاب الذي كان صيغته خطاب الحاضر إلى صيغة خطاب الغائب، فلم يقل: غير الذين غضبت عليهم، فأضاف التوفيق للطاعة والعصمة عن المعصية من إنعامه هو على أهل طاعته، ولم يضف الغضب أي العقاب لأهل معاصيه إليه لهم؛ لأنه كان من سبقهم وإرادتهم واختيارهم لأنفسهم، بعدما نهاهم عنه وحذرهم منه، وإن كان الله تعالى هو الذي يوفقهم على فعل المعصية، ويخلقها عند فعلهم لها، فإنه لم يخلقها لهم ويوفقهم عليها إلا بعد أن يريدوها ويختاروها لأنفسهم، وهذا أيضاً من الالتفات كما ذكرنا.

بيــان:

وفي استثناء طريقتهم يدل على كراهته لها وبغضه لها وتحريمه سلوكها، وفي ذلك دلالة على البراءة من أهلها ومن معرفته بهم أنهم أعداء الله تعالى، وأن الله عدو لهم، وأن البراءة منهم واجبة على من كلف بها، والمراد المكلف بها هو من بلغته الحجة بمعرفة ذلك، وفهم المعنى أن لله عباداً طائعين وعباداً عاصين في الجملة، وفي بيان ذلك دليل على أن القول الآخر هو الأصح: أن المغضوب عليهم هم المشركون، وأن الضالين هم الضالون في التأويل من مذاهب أهل الإسلام، والمرتكبون المعاصي على معرفةٍ بها؛ لأنه يجب عليه البراءة من كل عاصٍ لله تعالى، من كل مشرك أو منافق شاقق، أو مؤمن فاسق مرتكب بما يدين بتحريمه، وطريقته ركوب المعاصي على علم بها، ومن كان من مؤمن فاسق عاصٍ لله بالتأويل الباطل متبع، مبتدعاً ضالاً، ومن كل مبتدع ضال فاسق من المؤمنين العاصين لله تعالى، فلا يمكن أن يتبرأ من المشركين فقط، ويترك ما وجب عليه من البراءة من فسقة المؤمنين أهل الكبائر، ولا يسأل النجاة من سلوك طريقتهم ولا يستثنيها، مع سؤاله أن يوفقه سلوك طريق الذين أنعم عليهم بالهداية والتوفيق إلى رضاه عنهم، فصح أن الصواب ما قلناه.

 

بيــان:

وفي ذلك دلالات على وجوه أحكام البراءة، وعلى أنها فرض، وعلى ما ذكرناه في الولاية، فاعرف ذلك، وبالله التوفيق.

--------------------------------

[1] - كتاب الروضـة والغدير للأمـير محـمد بن الهـادي عالم من علماء الزيدية (ت 720 هـ)، وكتابه هذا هو تفسير للقرآن الكريم، استمد منه صاحب ثمرات المعارف الآتي ذكره في الترجمة التي بعده.

[2] - الثمرات اليانعة والأحكام الواضحة القاطعة، مؤلفه: القاضي يوسف بن أحمد بن عثمان (الشهير بالفقيه يوسف) توفي عام 832هـ باليمن.، الكتاب طبعته: طبعته وزارة العدل بالجمهورية اليمنية الطبعة الأولى عام 1423هـ بتنفيذ مكتبة التراث الإسلامي بصعده، تحقيق عبد الله الحوثي وآخرون، ويقع الكتاب في خمسة مجلدات متوسطة الحجم .

[3] - كِتَابُ الِانْتِقَادِ لِلْآيَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الِاجْتِهَادِ هو أحد الأبواب المضمنة كتاب "البحر الزّخّار الجامع لمذاهب علماء الأمصار"، لمؤلفه احمد بن يحي بن المرتضى، الزيدي مذهباً، هو في الحقيقة كتاب جمع بين دفتيه علماً جمّاً، وبياناً شاملاً للأقوال العقدية، والأصولية، والفقهية المقارنة، وكان أكثرها استيعاباً وشمولاً لأقوال الفقهية، لأن الكتاب ألف لهذا خصوصاً، وما سبقه من أقوال عقدية وأصولية وفلسفية، كانت بمثابة التقدمة للكتاب.

[4] - قرأ ابن عامر (ذو الجلال) بواو بعد الذال نعتاً للرب وكذلك هو في مصاحفهم، وقرأ الباقون (ذي الجلال)، واتفقوا على الواو في الحرف الأول وهو قوله (ويبقى وجه ربك ذو الجلال) نعتاً للوجه إذ لا يجوز أن يكون مقحماً، وقد اتفقت المصاحف على ذلك.

 [5] - سعيد بن بشير بن محمد بن ثاني الصبحي  ( ت : 1150 هـ/ 1737 م ) فقيه مشهور وعالم جليل، عاش في آخر القرن الحادي عشر ، والنصف الأول من القرن الثاني عشر الهجري، له أجوبة كثيرة مبثوثة في كتب الفقه .

[6] - هو الشيخ الرباني جاعد بن خميس بن مبارك بن يحيى حفيد الإمام الصلت بن مالك الخروصي اليحمدي، ولد سنة 1147هـ في قرية العليا بولاية العوابي، ولقبه الرئيس المدقق، والد الشيخ ناصر بن أبي نبهان صاحب هذا التفسير.

 [7] - هو نصر اللَّه بن أثير الدّين محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيبانيّ. ولد في جزيرة ابن عمر، شمالي الموصل، يوم الخميس الموافق للعشرين من شعبان عام 558هـ، وتوفّي يوم الاثنين الموافق للتّاسع والعشرين من ربيع الآخر عام 637 هـ في بغداد. كُنّي بأبي الفتح، ولُقّب بضياء الدّين، واشتهر بابن الأثير الجَزَرِيّ نسبة إلى جزيرة ابن عمر، وكتابه المثل السّائر في أدب الكاتب والشّاعر:‏ هذا الكتاب أكثر مؤلّفات ضياء الدّين بن الأثير أهميّة، ألفّه في الموصل في السنوات العشرين الأخيرة من حياته، ولم يكتف بإذاعته في النّاس، بل استمر يقلّب النّظر فيه تعديلاً وإضافة، وهو كتاب ضخم، يضمّ مقدّمة ومقالتين، تدور المقدّمة حول البيان وأدواته وآلاته، وحول الشاعر والكاتب وما يجب أن يتحلّيا به، أمّا المقالتان فالأولى منهما في الصنّاعة اللّفظيّة، والثّانية في الصنّاعة المعنويّة، والكتاب مطبوع متداول.

[8] - تفسير الكشاف لأبي القاسم محمود بن عمر بن أحمد، الزمخشري جار الله