سورة الهمزة مكية وآياتها 9

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)

مبتدأ وخبره ولمزة نعت لهمزة أو لمنعوته أي هلاك لكل إنسان همزة لمزة نزلت عند ابن إسحاق صاحب السير في أبى بن خلف الجمحي وعند السدسي في أبى بن عمر الثقفي المعروف بالأَخنس بن شريق بن وهب وكان كثير الوقيعة في الناس على أنه مات كافراً وهو المشهور وصحح ابن حجر أنه أسلم وكان من المؤلفة قلوبهم وليس كونه من المؤلفة ما يمنع الوعيد فإن كثيراً من المؤلفة مات مشركاً إلاَّ أن الباقر من آل البيت قرأ بإسكان الميمين في همزة ولمرة ومعناهما في الإسكان الذي يأتي بالأَضاحيك فيضحك الناس منه ويهينونه بالهمز واللَّمز وليس الأَخنس يهان ولكن لا مانع من أن يكون كذلك ثم ترك أو دام ويلاعبه الناس بالهمز واللمز.

 

ونزلت في أُمية بن خلف من بني جمح عند السدي وكان يهمز النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعيبه وفي جميل بن عامر عند مجاهد وفي الوليد بن المغيرة عند بعض وكان يغتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من ورائه وينقصه في وجهه وفي العاصي بن وائل عند بعض ولعلها نزلت في هؤلاءِ كلهم فلعل هؤلاءِ القائلين أرادوا التمثيل لا الحصر ولا يقال لم عاب هؤلاء بالهمز والغمز والشرك أعظم منهما لأَنا نقول ذلك أظهر كالشمس ولكن نبهنا الله عز وجل عن هذين الفعلين زيادة عليه وفيهما إشراك إذ لا يهمز النبي - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ من كفر به - صلى الله عليه وسلم - وخصوص السبب لا ينافي عموم الحكم إلاَّ أنه قيل نزلت الآية عامة وهؤلاءِ سببها.

 

وقيل نزلت في هؤلاءِ خصوصاً وهم المرادون ولكن يلحق بهم غيرهم في الحكم والهمز الكسر واللمز الطعن في الأجسام حقيقة استعملا في الأغراض بمعنى الغيبة والذم على الاستعارة ثم صارا حقيقة عرفية خاصة والمراد في الآية من يعتاد ذلك كما هو شأن ما كان على وزن فعله بضم الفاءِ وفتح العين أو بضم الفاءِ وإسكان العين وفسر ابن عباس الهمزة بالمشاءِ بالنميمة المفرق بين الناس عموماً واللمزة في المغزى بين الأخوان خصوصاً وعن مجاهد الهمزة الطعان في الناس واللمزة الطعان في الأنساب وعن أبي العالية الهمزة في الحضرة والهمزة في الغيبة.

 

وعن ابن جريج الهمز بالعين أو الشدق أو باليد أو بالشفتين أو بالحاجب أو بالرأس والغمز باللسان وقيل الهمز أن يعيبك في الغيب واللمز أن يعيبك في الوجه، وقيل بالعكس وقيل الهمز باليد واللمز باللسان وهو ظاهر حسن، وقيل الهمز باللسان واللمز بالعين، وقيل الهمز إيذاء الجليس باللسان واللمز بالعين أو الرأس أو الحاجب.

 

الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)

{ الَّذِي جَمَعَ مَالاً } بدل من كل بدل كل لا نعت لأن كل نكرة والذي معرفة وقيل بدل بعض الرابط محذوف أي الذي جمع مالاً منهم ومنهم حال من الذي ونكر مالاً للتفخيم والتكثير وكان عند شريق أربعة آلاف دينار، وقيل عشرة آلاف ويناسب التكثير قراءَة الحسن وابن عامر وغيرهما بشد ميم جمع وقوله تعالى:

 

{ وَعَدَّدَهُ } عده مرة بعد أُخرى حبا له وفرحاً بكثرته، قيل جعله أنواعاً كدور وأجنة وخدم وماشية ومركب ومتاع أو جعله عدة لنوائب الدهر والتشديد على كل حال للمبالغة وذلك أنسب للتفخيم والتكثير، وقيل التنكير للتحقير والتقليل باعتبار أنه أقل شيء وأحقره عند الله وبالنسبة إلى ما أعد الله المؤمنين في الآخرة.

 

يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)

يظن أن ماله المعهود الذي عدده فماله كلمتان مال وهاءَ الضمير وهو المناسب لما قبل كما رأيت ويجوز أن يكون ثلاث كلمات ما الموصولة ولام الجر وهاءَ الضمير أي يظن أن الذي له من مال وجاه وولد ونحوهن أخلده وهذا أعم ومعنى أخلده أبقاه فيما مضى من حين كان له ذلك إلى وقته وإذا كان ذلك علة ترتب عليه ما بعد من الزمان ما دام له ذلك فالماضي على ظاهره وقيل إنه بمعنى المضارع وأن صيغة الماضي للمبالغة كأَن الاستقبال الخلودي حاضر أو بمعنى المضارع التجددي الاستمراري.

 

ومعنى الإخلاد إطالة العمر أو الدوام لفرط غروره ولتعليقه الحياة باستعداد أسباب أو أن من شأن المال الإخلاد أو المراد التمثيل بأَن رغبته في الدنيا وجمعها على حد ما مر عنه تشبه ظن إخلاد بالمال لصاحبه واقعاً فذلك استعارة تمثيلية بأن طول المال أمله وعلى أن ماله كلمتان يكون الإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير والجملة مستأنفة تأتى على جمع المال وتعديده ولو جعلت حالاً من ضمير عدد أو ضمير جمع لاحتاج الكلام إلى التقدير للآخر أو تقدير ما يعم أي ليفعل ذلك حاسباً أن ماله أخلده.

 

كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)

 

{ كَلاَّ } ردع عن الهمز واللمز وجمع المال وتعديده وحسبانه أن المال مخلده، وعن على بن أبى طالب مات أصحاب الأَموال وهم أحياء وبقى العلماء بعد موتهم ووجهه قول بعض إنه ردع للجميع والتعديد وحسبان الإخلاد أنهن سقن على طريق الحدوث والهمز واللمز سيقا على طريق الثبوت كأنهما طبيعتان لا تزولان.

 

{ لَيُنبَذَنَّ } والله ليطرحن.

 

{ فِي الحُطَمَةِ } النار التي تحطم ما يلقى فيها أي تكسره كسراً شديداً كما هو شأن هذا الوزن من المبالغة كما مر في الهمزة واللمزة ومما يدل على التعظيم أفعولة بضم الهمزة كأعجوبة وأضحوكة لكن هذا الوزن بمعنى مفعول وفسرها الضحاك بالطبقة الرابعة من جهنم والكلبي بالسادسة، وروى عنه أنها الثانية والحساب من فوق ويقال للطبقة من جهنم باب وقول أبى صالح من رواة ابن عباس أنها نار قبورهم ضعيف.

 

وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5)

تهويل لأَمرها كأَمثال ذلك من الأُمور التي لا تنالها العقول.

 

نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6)

{ نَارُ اللهِ } هي نار الله عز وجل أضيفت لله عز وجل إعظاماً لها.

 

{ الْمُوقَدَةُ } بأَمر الله عز وجل أوقد عليها ألف عام حتى احمرت وألفاً حتى ابيضت وألفاً حتى اسودت فهي سوداء مظلمة كما في الترمذي عن أبى هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

 

الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)

أي على أوساط القلوب أو تغشاها وخص القلوب لأَنها ألطف ما في الجسد وأشد تألما بأَدنى أذى يمسه ولأَنها محل الاعتقاد الزائغ من إشراك وما دونه وهي أخبث ما في الجسد إذا فسدت كما في الحديث وهي منشأ الأَعمال تأَكل الإنسان فإذا بلغت قلبه أكلته وابتدئ خلقه في الحين من لحظة وقيل لا تحرقه لأنه يموت بإحراقه ولا موت في الآخرة أو تحرق ظاهره ولا يموت أو لا تحرقه ولكنه يتوجع بإحراق البدن ولذلك قال تطلع أي تشرف، وقيل تطلع تعلم علماً حقيقياً بخلق الله تعالى لها حياة وتمييزاً أو تسلط عليه تسلط العالم على التجوز بمعنى أن لكل إنسان مقداراً من الذنب مبنياً على صفة قلبه فتطلع عليه فيجازيه بحسبه.

 

إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8)

{ إِنَّهَا عَلَيْهِم } قدم على متعلقة للفاصلة وبطريق الاهتمام بالمتقدم والتشويق للمتأخر أو هو خبر أول والأول أولى.

 

{ مُّؤْصَدَةٌ } مطبقة.

 

فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)

{ فِي عَمَدٍ } جمع عمود عند الفراءِ، وقال أبو عبيدة جمع عمد، وقيل اسم جمع وهو متعلق بمحذوف خبر لمحذوف أي هم في عمد والظرفية مجازية لشدة الوثوق حتى كأَنهم في داخل العمد وهي عمد كالجذوع من النار مثقبة تدخل أرجلهم أو عمد من حديد كذلك وبالأَول قال ابن عباس رضي الله عنهما أو بمحذوف حال من هاءِ عليهم أو متعلق بمؤصدة، وفي بمعنى الباء على هذا والإطباق عليهم تشديد وإياس وزيد في ذلك الربط على الأَبواب بالعمد.

 

{ مُّمَدَّدَةٍ } الأصل ممدودة وشد الفعل للمبالغة فكان اسم المفعول ممدودة أي مطولة جداً والله قادر على أن ينجينا من النار ورحمته واسعة وسابقة غضبه والله المستجار وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.