سورة الفلق مكية وآياتها 5

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)

 

{ قُلْ أعُوذُ } ألتجئ.

 

{ بِرَبِّ الْفَلَقِ } أل للاستغراق والفلق بمعنى مفلوق على الحذف والإيصال والمعنى المفلوق عنه ومن ذلك بلا حذف وإيصال قصص بمعنى مقصوص، أي رب المخلوقات كلها والعدم كالشيء المغطى لها شقه الله فأوجدهن في الماضي ويوجدهن في الحال والاستقبال أجساماً وأعراضاً وكل موجود فلقه الله من العدم حال خلقه فلق الله العرش أخرجه عن العدم وفلق الله السماوات والأَرضين أوجدهن من العدم ثم فلق الأَرض عن النبات والعيون وفلق الجبال عن الشجر والعيون وقد قيل الفلق الخلق أي أعوذ برب جميع المخلوقات وفلق الله الإنسان عن فعاله أي أصدرها منه أي خلقها وفلق الصباح عن الليل ويقال فلق الليل عن الصبح كما يقال سلخت الجلد عن الشاة والشاة عن الجلد.

 

وروي موقوفاً عن ابن عباس الفلق جب في جهنم، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً سجن في جهنم يحبس فيه المتكبرون والجبارون وإن جهنم لتعوذ منه بالله تعالى، وعن عمر بن عنبسة مرفوعاً أيضاً الفلق بئر في جهنم فإذا سعرت البئر منها سعرت جهنم وان جهنم تتأذي منه كما يتأَذي منه آدم بجهنم.

 

وعن كعب موقوفاً بيت في جهنم إذا فتح صاح أهل النار من شدة حره، وعن الكلبي واد في جهنم، وقيل هو جهنم قيل خص بالفلق على معنى البيت أو البئر في النار بالذكر لأنه مسكن اليهود رأي بعض الصحابة سعة عيش أهل الذمة في الشام فقال لا أُبالى أليس وراءَهم الفلق وفسر بأَحدهما وناسب سحر اليهود له - صلى الله عليه وسلم - في بئر دوران، والصحيح التفسير الأَول بالعموم.

 

مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)

 

{ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ } الشر هنا المضرة فهو اسم غير وصف وإضافته للاستغراق وما اسم موصوف والرابط محذوف أي ما خلقه ولا حاجة إلى جعلها مصدرية لأن هذا المصدر لا يبقى على حاله بل يؤول باسم مفعول هكذا من شر خلقه أي من شر مخلوقه ومخلوقه هو نفس ما خلقه فمصدريتها تكلف لا داعي إليه، وإن قيل الخلق يطلق على معنى المخلوق في كثير من العبارات هكذا لأَنه موضوع له بلا ملاحظة معنى أنه مصدر بمعنى مفعول كالمصادر التي تغلبت عليها الاسمية قلت المصدر الذي يدعى هنا يكون على أصله وإلاَّ لم يكن لكون ما مصدرية معنى وشر ما خلق مضرة الدنيا والدين ومضرة القبر والبعث والموقف والنار وشر النفس والإنس والجن والدواب والطير والذنوب والخسف والغرق والصاعقة وغير ذلك والحفرة ونار الدنيا مما جاءَ على يد الملائكة أو غيرهم وشر الليل وشر النفث وشر الحسد المذكورات بعد تخصيصاً بعد تعميم وقد أمرنا بقتل الدواب المؤذية.

 

ولا يجوز مسالمة الحية والعقرب ونحوهما برقية ولا بغيرها ولا سيما إن كانت الرقية بما لا يجوز، ومن يسترق مثلاً فيقبضها ولا تضره فقد فعل محرماً من جهة أنه سالم من أمر بقتله والواجب عليه قتلها، ومن جهة أنه استرقي بما لا يعرف معناه أو عرفه وليس اسماً لله عز وجل وأجاز بعض أن يكون شر اسم تفضيل ويراد إبليس لأَن السحر لا يتم إلاَّ به وبجنوده لأن كل مضرة دينية هو السبب لها وكذا كثير من من المضار الدنيوية.

 

وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3)

 

{ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ } ليل استعملت النكرة في العموم هنا بلا تقدم سلب وذكر شر غاسق بعد شر ما خلق تخصيص بعد تعميم لكثرة حضور الليالي وتلويح إلى أنه ينبغي التخصيص لما هو أهم في الدنيا بعد التعميم وذلك أدعى إلى الإجابة، والغلس السيلان أو الامتلاءِ كان زمان الليل ممتلئا ظلمة والظلمة تسيل وتنصب كما ينصب الماء على الاستعارة وغسقت العين امتلأَت دمعاً وأضاف الشر إلى الليل لوقوعه فيه وذلك مروى عن ابن عباس أن الغاسق الليل وهو قول مجاهد والحسن وكذا قال الزجاج إنه الليل إلاَّ أنه لم يقل من معنى الامتلاءِ أو السيلان بل من معنى البرودة والليل أبرد من النهار.

 

وقال محمد ابن كعب الغاسق النهار وقيل الليل إذا أقبل بظلمته من الشرق، وقيل القمر ليلة أربعة عشر لامتلائه نوراً من نور الشمس وأصله مظلم، وقيل القمر مطلقاً لسيلانه أي سيره سريعاً في قطع البروج لما طلع القمر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا الغاسق فإِنه هو الغاسق إذا وقب " كما في الترمذي وإذا صح الحديث لم يعدل عنه.

 

وقيل الغاسق الشمس لامتلائها نوراً، وقيل الغاسق الثريا، وقيل الحية ولكل من ذلك شر، أما الليل فلأَنه يصاب فيه بذوات السموم أو شوكة أو حفرة وغير ذلك، ومن أمثال العرب الليل أخفي للويل وأيضاً هو نحس عند المنجمين والسحر للمرض يوقع في محاقه والقمر أنسب سبب النزول وشر الشمس المضرة اللاحقة منها بحرارتها والأَسقام تكون عند سقوطها، وعنه - صلى الله عليه وسلم - " إذا طلع النجم ارتفعت الهامة " وفي رواية عن جزيرة العرب، وروي مرفوعاً إذا طلع النجم ارتفعت العاهات أو خفت وشر الحية اللدغ وهى ممتلئة سماً فالسم يسيل منها في الجسد.

 

{ إِذَا وَقَبَ } وقوب الليل دخول ظلامه في كل شيء ووقوب النهار دخوله في الليل ووقوب القمر دخوله في الخسوف وله ظلمة حينئذ أو في الغيوبة أو في المحاق آخر الشهر وفي ذلك الوقت يتم السحر المؤثر للمرض والسورة جاءَت فيه ووقوب الثريا سقوطها ووقوب الحية لدغها.

 

وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّاثَاتِ فِي ٱلْعُقَدِ (4)

 

النفوس النفاثات فيشمل نفوس الرجال والنساءِ وزعم بعض أن المراد بنات لبيد إِذ سحرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خصوصاً ويلحق بهن غيرهن وليس كذلك، والنفث يكون من الرجال والنساءِ فهو أولى لعمومه بخلاف من قدر النساءِ النفاثات فإِنه مختص بالنساءِ وأنه أنسب بالواقع فإن المشهور أنه سحره رجل ويقال أعانه بعض النساءِ ولأَن السحر من النفوس الخبيثة فتقدر النفس وإذا قدرنا النفس فلا تغليب كما زعم بعض أن المراد هنا العموم للرجال والنساءِ وأن النساء غلبن هنا على الرجال كما يغلب جمع الذكور على جمع الإناث في الصفات إلاَّ أن أراد قائله بالتغليب أنه أُريد النساء وأنه لم يذكر الرجل لأنهن أعظم سحراً.

 

والنفث النفخ على ريق قليل وقيل بلا ريق وأما مع ريق فثفل وذلك جائز في الصلاح كما كان - صلى الله عليه وسلم - ينفث على أهله إذا اشتكوا بالمعوذات فالجمهور من الصحابة وغيرهم على جواره وكره عكرمة النفث والمسح والعقد وأنكر جماعة الثفل والنفث وأجازوا النفخ بلا ريق، ويروى أن لبيد بن الأعصم وبناته لعنهم الله سحروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أنه ليخيل إليه أنه فعل شيئاً ولم يفعله وأنه أتى أهله ولم يأتهن ولا يقدح هذا في النبوة لأنه حال الوحي وإقامة الحجة والتبليغ حاضر العقل وهذا أمر حادث شاذ وما هو إلاَّ كمرض شديد ونوم، وتكلف بعض أنه كان التخيل على بصره لا على قلبه.

 

قال ابن عباس وعائشة كان غلام من اليهود يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تزل به اليهود حتى أخذ من مشاطة رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدة من أسنان مشطة فأَعطاها اليهود فسحروه فيها وتولى ذلك لبيد بن الأعصم فنزلت السورتان المعوذتان، ويروى أنه لبث ستة أشهر واشتد عليه ثلاث ليال فنزلت المعوذتان.

 

وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن جبريل عليه السلام أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال " يا محمد اشتكيت، قال: نعم، قال: قل بسم الله أرقيك من كل شيءٍ يؤذيك ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك " ، ويروى أنه أرسل عليا فجاءَ بذلك من البئر إليه - صلى الله عليه وسلم - فلم يحضر - صلى الله عليه وسلم - معه فإما أنه قصة أخرى غير التي ذكروا أنه حضر عند البئر وإما أنها واحدة والمعنى أنه جاءَه بذلك من أسفل البئر أي جانبه فوق.

 

وروي أنه دعا الله ثم دعا فجاءَه جبريل وميكائيل فكان أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال أحدهما للآخر: ما وجع الرجل قال مطبوب أي مسحور، قال من طبه، قال: لبيد بن الأَعصم، قال: في أي شيءٍ قال: في مشط أي آلة المشط ومشاطة أي ما يسقط بالمشط أو يتعلق بالآلة وجف طلعة ذكر في بئر دوران أو في بئر ذي أرواث.

 

ويروى في بئر بني زريق، فلما أصبح غدا مع على والزبير وعمار أو أرسلهم ثم تبعهم فدخل رجل فاستخرج جف طلعة من تحت الراعوفة وهى صخرة في قعر البئر فإذا فيها مشط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شمع وفيه إبر غرزت وإذا وتر أي خيط فيه إحدى عشرة عقدة فنزل جبريل بالمعوذتين فقال يا محمد قل أعوذ برب الفلق وحل عقدة ثم من شر ما خلق وحل عقدة حتى فرغ منهما وحل العقد وما نزع إبرة إلاَّ وجد لنزعها ألماً تعقبه راحة حتى فرغت السورتان والعقد فكأنما نشط من عقال وقال - صلى الله عليه وسلم - " كأن ماءها نقاعة الحناءِ وكأَن نخلها رءُوس الشياطين " ، وأمر بما استخرجوا فدفن وقالت عائشة يا رسول الله أفلا أحرقت لبيدا؟ قال: لا، قد عافاني الله ولا أثير شراً على الناس وما يراه من عذاب الله تعالى أشد.

 

وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)

 

{ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ } في قلبه.

 

{ إذَا حَسَدَ } أي إذا عمل بحسده كدعاء بسوء وشتم وضرب أو ضر من الأَضرار إذا عمله بقلبه أو جارحته وسحر كما سحر اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ حسدوه كما قال - صلى الله عليه وسلم - " إذا حسد فلا تبغ " ، ومن العمل أن ينظر إليه نظر سوء لبغض فقد يؤثر فيه نظره حتى يهلكه أو دون الإهلاك ولا تأثير لسحر أو فعل حاسد إِلاَّ بإذن الله تعالى وقد يؤثر النظر إلى بعض الحيات مضرة، وكذا العائن يضر بإذن الله تعالى وكلاهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من أراد ضره والعائن قد يعين من لا يحسده ويعين من حضر ومن غاب كالحاسد، وقيل يختص بالحاضر.

 

والحسد ضروري لا مؤاخذة عليه حتى يعمل به وهو تمنى الإنسان زوال النعمة على المنعم عليه بها بانتقالها إليه أو إلى غيره أو بلا انتقال وهذا حد غير جامع لأَنه يبقى ما إذا تمنى بقاءَ إنسان مثلاً على حاله التي فقد شيئاً من النعم كتمني دوام مرضه أو دوام فقره، ولا يدخل هذا في الحد المذكور إلاَّ بتكليف أراده عدم النعمة المترقبة التي رجاءها نعمة متوقعة بل لا يتم هذا جواب والسحر شيء له حقيقة ذكر في القرآن والحديث أنه تعلمه من تعلمه لا خيال كما زعم من نفاه والله خلقه وإنما يؤثر بإذن الله تعالى ولا يقدح في النبوة لأَن لها دلائل ومعجزات وليس يؤثر في نبي قبل المعجزة ولا في حال الوحي.

 

والرقى بالقرآن وألفاظ الحق جائزة ويجب اجتناب ما لا يعرف له معنى من ألفاظ أو نقوش لعل فيه كفراً، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود رضي الله عنه " اقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين حين تصبح وحين تمسي تكف كل شيء " ، وقال ما تعوذ الناس بأَفضل من المعوذتين، وفي الترمذي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ بقوله أعوذ بالله من الجان وعين الإنسان، ولما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سواهما، وفي حديث الربيع بن حبيب ومالك في الموطأ كانت عائشة رضي الله عنها ترقى النبي - صلى الله عليه وسلم - وتمسح جسده بيديه للبركة لا بيديها.

 

وفي الترمذي عن خزامة سأَلت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أرأيت رقى تسترقي بها ودواء نتداوى به وتقاة نتقى بها، هل ترد من قدر الله تعالى شيئاً قال - صلى الله عليه وسلم - هي من قدر الله تعالى " .

وختم ما في السورة من الإسواءِ بالحسد ليعلم أنه شرها وهو أول ذنب عصيي الله تعالى به في السماءِ من إبليس وفي الأَرض من هابيل.

اللهم باسمك الأعظم عندك استجب دعائي وتقبل منى هذا الكتاب والله الموفق وهو المستعان وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.