سورة المسد مكية وآياتها 5

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)

 

{ تَبَّتُ } خسرت أو هلكت يقال شابة لا تابة أو شابة تابة والتابة الهالكة أي الهرمة التي هلك شبابها أي ذهبت، أو تبت هلكت من كل خير والماصدق واحد وإسناد التباب إلى اليدين من إسناد ما للكل إلى الجزءَ فذلك مجاز عقلي أو اليدان بمعنى الكل أي تبت نفس أبى لهب أو ذات أبى لهب فالمجاز مرسل والإسناد حقيقة أو اليدان عبارة عن النفس والذات لما بينهما من اللزوم والوجه الذي ذكرت قبل هذا تفسير بالجزءَ عن الكل.

 

{ يَدَا أبِي لَهَبٍ } عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم وكنى بذلك لإشراق وجهه فذكره الله به تهكماً به إِذ كان يفتخر بذلك وليناسب أنه من أهل النار ذات اللهب ولكراهة ذكر عبد العزى ولشهرته بهذه الكنية دون اسمه عبد العزى وهو عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو من أشد الأَعداءِ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل أبى جهل قال طارق الصحاري:

 

بينما أنا في سوق ذي المجاز إِذا أنا برجل حديث السن يقول يا أيها الناس قولوا لا إله إلاَّ الله تفلحوا إِذا رجل خلفه يرميه وأدمى ساقيه وعرقوبية ويقول يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه فقلت من هذا فقالوا محمد يزعم أنه نبي وهذا عمه أو لهب يزعم إنه كذاب فلرميه بيده قال الله عز وجل تبت يدا أبى لهب ومعنى حديث السن إِنه لم يشب ولما نادى على الصفا بطون قريش يا بني عدي يا بني فهر وهكذا فاجتمعوا وأمرهم بالتوحيد قال أبو لهب لعنه الله تباً لك ألهذا جمعتنا فأًَخذ حجراً يريد رميه به فنزلت تبت يدا أبى لهب فلرميه بالحجر وإرادة رميه بيده وقوله تبا لك أسند التباب إلى اليدين والمراد بمضي تبابه قضاءِ الله به أو كونه على الضلال أو هلاكه في الآخرة وفي هذا الوجه صورة المضي للتحقق.

 

{ وَتَبَّ } على صورة الدعاءِ وجاز ذلك بعد الإخبار بالوقوع للتأكيد تقول فلان ملعون لعنه الله تريد بقولك لعنه الله الدعاءَ أو الأول لليدين فقط مراداً بهما أنفسهما فقط لا الذات وبالثاني ذاته وكلاهما إخبار على صورة الدعاءِ وقيل الأَول دعاءِ صورة والثاني إخبار بالوقوع كقوله:

 

جزى ربه عنى عدى بن حاتم           جزاءَ الكلاب العاويات وقد فعل

 

وهذا وجه حسن لم يسبقني إليه أحد وقد أجاز أنهما إِخباران وأنهما دعاءَان وأن أحدهما دعاء الآخر إخبار وجاز أن الدعاءَ حقيق على تقدير القول قل تبت يدا الخ، والواو عاطفة أو حالية على تقدير قد وإذا جعل تبت دعاء لم يجز تقدير قد لأَنها لا تدخل على الإنشاء لأَنه لا خارج له يحقق مثلا بقد ولا تكون الجملة حالاً إذ الإنشاءِ لا يكون حالاً لأَنه لا خارج له يكون تقييداً وقرأ ابن مسعود وقد تبت بقد فدلت قراءَته على أن تبت إخبار.

 

وروي أنه لعنه الله يحسن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحسن إلى قريش لتكون له يد عند الغالب منهما فتبت يدا أبى لهب إخبار ببطلان يده التي ادخرها عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعناده ويده التي عند قريش بهلاك قريش واليد على هذا الوجه بمعنى النعمة ويجوز بقاؤها على أصلها، وقيل الأَول إخبار عن هلاك عمله إذ لم ينفعه لأن غالب الأًعمال تعالج بالأَيدي والثاني إخبار عن هلاك نفسه رد الله عز وجل قوله أفتدى بمالي وولدي إن كان ما يقول محمد حقاً بقوله.

 

مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)

 

{ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ } الخ ما نافية والمفعول به محذوف أي ما أغنى عنه ماله شيئاً أي ما دفع عنه ضراً عند توجه الهلاك إليه أو استفهامية واقعة على الضر مفعول به مقدم أي ضر أغنى عنه أي دفع عنه أو واقعه على الإغناء مفعول أي أي إغناءِ أغنى عنه والمراد ماله الذي ورث.

 

{ وَمَا كَسَبَ } المال الذي اكتسبه بالتجر أو غيره أو ماله أصل ماله وما كسب من ربح أو ما أغنى عنه ماله الموروث وماله المكسوب هذا هو المراد بماله، وقوله وما كسب معناه ما كسب من الكيد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو من عمله الذي يظنه طاعة تنفعه، قال الله تعالى:{ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً }[الفرقان: 23] أو المراد ماله الموروث والمكسوب وما كسبه من الولد وكان يقول أفدي نفسي بمالي وولدي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن أفضل ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم " كما في الترمذي.

 

وكان له ثلاثة أولاد عتيبة بالتصغير مات كافراً وكان أصغرهم وعتبة أكبرهم ومتعب أوسطهم أسلما يوم الفتح وشهدا حنيناً والطائف وسر - صلى الله عليه وسلم - بإسلامهما ودعا لهما وكانت أم كلثوم بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند عتيبة بالتصغير وأختها رقية عند أخيه عتبة قبل تحريم نكاح المسلمة للمشرك ولما نزلت السورة في ذم أبى لهب وولده عتيبة على أنه المراد بما كسب عزم عليهما أن يطلقاهما ففعلا وقال عتيبة بالتصغير يا محمد إني كافر بالنجم إِذا هوى وبالذي دنا فتدلى وثقل إليه - صلى الله عليه وسلم - ولم تصبه فقال اللهم سلط عليه كلباً من كلابك وسافر مع أبيه إلى الشام فنزلوا منزلاً وقال لهم راهب هناك هذه أرض مسبعة، فقال أبو لهب:

 

يا معشر قريش أغيثوني خفت على ولدى دعاءَ محمد فجعلوه تحت جدار الراهب وأحاطوه بأنفسهم وإبلهم ليلاً فقتله سبع فما سمعوا منه إِلاَّ صياحه فهذا تباب ولده في الدنيا وأما تبابه هو فيها فإِن الله عز وجل رماه بالعدسة بعد بدر بسبع ليال فاجتنبه أهله وكانت تتقى كالطاعون وبقى ثلاثا بعد موته لم يدفن فأنتن وخافوا العار فاستأجروا بعض السودان فاحتملوه ودفنوه.

 

ويروى حفروا له حفرة فأَلقوه فيها بالخشب وقذفوه بالحجارة حتى واروه وقيل أسندوه لحائط وقذفوا عليه الحجارة من خلف حتى توارى ويجوز أن يكون ما كسب شاملاً للجاه والمال ويجوز أن تكون ما مصدرية والمراد كسب المال أو الولد ففي الحديث " أفضل ما يأكل الإنسان من كسبه وولده من كسبه " وأن تكون نافية أي وما كسب شيئاً ينفعه عند الله عز وجل أو استفهامية.

 

سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3)

 

{ سَيْصْلَى نَاراً } عظيمة والسين للاستقبال أخبرنا الله تعالى أنه يهلك في الدنيا ويهلك يوم القيامة بالنار وزعم بعض أن الاستقبال من المضارع وأن السين لتأكيد الوعيد.

 

{ ذَاتَ لَهَبٍ } اتقاد عظيم.

 

وَٱمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ ٱلْحَطَبِ (4)

 

{ وامْرَأتُهُ } عطف على ضمير يصلى لا مبتدأ مخبر عنه بحمالة أو منعوت به والخبر الجملة بعده وإن كان الذم بمجرد حمل الحطب أو النميمة بلا تصريح بدخول النار وهى أُم جميل بنت حرب ابن أُمية أُخت أبى سفيان عمة معاوية وكانت عوراء.

 

روى جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر وهما من أهل البيت أن عقيل بن أبى طالب وهو من أجداد ابن عقيل شارح الأُلفية دخل على معاوية فقال معاوية أين ترى عمك أبا لهب من النار فقال إذا دخلتها فهو عن يسارك مفترش عمتك حمالة الحطب والراكب خير من المركوب وكان معاوية حليماً جداً يتحمل فإن صح الخبر فلعل إذا بمعنى إن الشرطية لكن من أين له أن يعلم أنه على يساره وأنه فوقها وكأنه فرض كلام في سرعة جواب وانتقام في عجلة.

 

{ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } تحتطب سراً وخفاء عن الناس لئلا تعاب وكانت راغبة في المال شحيحة عن أن تشترى أو تاجر وإن اشترته حملته على ظهرها سراً وكانت أيضاً تضع شوك الحطب حزمة في طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيلينه الله فلا يضره فذلك تعيير لها بالبخل.

 

وعن ابن عباس حمل الحطب عبارة عن المشي بالنميمة بين الناس يقال للنمام يحمل الحطب بين الناس فالحطب استعارة للنار وقال الطبري الحطب الخطايا والذنوب ومنها عداوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله كما يقول المظلوم للظالم احمل حقي على ظهرك فالاستعارة تمثيلية أو مفردة باستعارة لفظ الحطب للخطايا والذنوب لأن كلا مبدأ للإحراق نار الدنيا بالحطب ونار الآخرة بالمعاصي.

 

فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)

 

{ فِي جِيِدَهَا } خبر مقدم أي في عنقها.

 

{ حَبْلٌ } مبتدأ مؤخر.

 

{ مِّن مَّسَدِ } نعت لحبل والجملة حال من ضمير حمالة والمسد ما مسد أي فتل فتلاً شديداً من ليف المقل أو من أي ليف كان وهو أصح أو من ليف شجر باليمن يسمى المسد وقد يكون من جلد أو شعر أو وبر وإنما حسن ذمها بحمل الحطب لأَنه علاوة على وقرى ذنوبها ويجوز أن يكون بالمعنى أنها في جهنم على صورة حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد إلاَّ أن حطبها من نار شجر الزقوم أو من الضريع وحبلها مما مسد من سلاسل النار كما يعذب الجاني من جنس جنايته فالحبل مستعار للسلسة تدخل السلسلة من فيها وتخرج من دبرها وهى سبعون ذراعاً ويلوى باقيها على عنقها.

 

ولم يقل في عنقها لكثرة استعمال الجيد في مقام الزينة فتهكم عليها بأن زينتها حبل من مسد وقال امرأته لا زوجة تحقيراً لها وبحث بذكر امرأة في نحو وامرأته قائمة وامرأة عمران ويجاب بأَن المقام للذم فناسب ذكر امرأة لا ذكر زوج.

 

وقيل في عنقها جوهرة من أنواع الجواهر حلفت لتنفقنها في عداوة محمد، وقيل قلادة من ودع وقيل خرزات ففي عنقها في النار قلادة من حديد ممسودة وتضمن ذلك ذمها بالبخل إذ كان لها هذا المال ولم تستغن عن حمل الحطب ومما يقال ماتت مخنوقة بحبل حزمة الحطب استراحت على حجر وفي جيدها حبل رابط لحزمة الحطب فجيده ملك من خلفها وتنكير مسد للتنويع أي من مسد من أنواع المسد والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.