سورة العاديات مكية وآياتها 11

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)

{ وَالْعَادِيَاتِ } والخيل العاديات الجاريات بسرعة والياءِ عن واو لانكسار ما قبلها.

 

{ ضَبْحاً } مفعول مطلق لحال محذوفة من المستتر في عاديات أي يضبحن ضبحاً أو ضابحات ضبحاً والضبح صوت أنفاس الفرس عند عدوها وقد فسره ابن عباس بقوله ا ح ح حكاية له أو يقدر ذات ضبح أو يؤول بضابحات، وعن على ضبح الخيل حمحمتها وضبح الإبل التنفس والضبح مختص بالخيل واستعماله في غيرها مجاز، وعن ابن عباس ليس يضبح من الحيوان غير الخيل والكلاب واعترض بأَن هذه الرواية عنه لا تصح وبأَن العرب استعملته في الإبل والخيل والأسود من الحيات والبوم والأرنب والثعلب ويجاب بأن استعمالها في غير الخيل مجاز وتوسع حتى استعملت في القوس قال:

 

حنانة من نشم أو تألب     تصبح في الكف ضباح الثعلب

 

وقيل أصله في الثعلب فاستعير للخيل، وعن أبى عبيدة اللغوي الضبح العدو الشديد فهو مفعول مطلق للعاديات.

فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)

المخرجات النار مع الحجارة وهذا مختص بذوات الحافر لا في الإبل إلاَّ ما شد وتسمى نار الحباحب والحباحب رجل من العرب شحيح لا يوقد النار إلاَّ ضعيفة مخافة الضيفان فضربوا بناره المثل، ومفعول الموريات محذوف أي الموريات ناراً وقدحاً مفعول مطلق لحال من ضمير موريات محذوفة أي يقدحن قدحاً أو قادحات قدحاً أو حال بتقدير مضاف أي ذوات قدح أو بمعنى اسم الفاعل أي قادحات أو هو تمييز محول عن الفاعل أي فالمورى قدحها.

 

وعن قتادة الموريات لنار الحرب القادحة لها مجاز وإنما المحارب أهل الخيل والواضح ما تقدم لأن ما قبل وما بعد جاء على ما هو حقيقة في الخيل لا مجاز إلا المغيرات فمجاز قريب من الحقيقة إذ المغير أصحابها وهم راكبون عليها بخلاف عقد الحرب وحضورها هكذا لا يوجب الحرب بل الإغارة عليها والإغارة الهجوم على العدو للقتل أو النهب أو الإسار، أو يقدر مضاف أي المغير أصحابها.

فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)

أي وقت الصبح وذلك هو المعتاد في الإغارة يعدون ليلا لئلا يشعر بهم ويهجمون صباحاً ليعلموا ما يفعلون وذلك في غير غزوة بدر فإن غزوة بدر أول الغزوات وما فيها إلاَّ فرسان فرس للزبير وفرس للمقدار بن الأسود.

فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)

{ فَأثَرْنَ بِهِ } أنهضن وهيجن بالصبح أي في الصبح أو أثرن بإغارهم أي بإغارتهم وقدرت المصدر بلا تاء مضافاً كإقام الصلاة ولو قدرت بإغارتهم لكان مؤنثاً والضمير مذكر فلا يصح بلى يصح بتأويل الإغارة بما ذكر أو بالجري، ويجوز أن تكون الباء للسببية وأن تكون للآلة أو للملابسة إذا لم يرد الضمير إلى الصبح وإن رددناه للصبح فبمعنى في وكذا إن رددناه للمكان المدلول عليه بمعنى في وكذا الوجوه إذا رددنا الضمير للعدو المدلول عليه بالعاديات جائزة على الظرفية.

 

{ نَقْعاً } أي غباراً وإنما يظهر النقع نهاراً كما أن الإيراءَ يظهر ليلاً للظلمة وفي إثارة النقع إشارة إلى شدة العدو، وقيل النقع رفع الصوت، مات خالد بن الوليد فاجتمعت النساء ليبكين عليه فقال عمر ابن الخطاب ما على نساء بني المغيرة أن يسكبن على أبى سليمان دموعهن وهن جلوس ما لم يكن نقع أو لقلقة أي ما لم يكن رفع صوت.

فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)

{ فَوَسَطْنَ } توسطن { بِهِ } أي بالصبح أي فيه أو بالعدو أو بإغارهم بتأويل ما ذكر أو بتأويل الجرى أو الموضع أو بالنقع أي ملابسات للنقع.

 

{ جَمْعاً } من جموع الأعداء والفاءَات للترتيب، وفي قوله فالموريات وقوله فأَثرن دلالة على السببية أيضاً وفي ذلك تنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الذوات فساغ العطف كأنه قيل وبالخيل التي عدون صبحاً فأورين قدحاً فأغرن صبحاً فأثرن به نقعاً فوسطن به جمعاً وفي ذلك عطف الجمل الفعلية على أسماءَ الفاعل وضمائرها ووسطن فعلية عطفت على فعليه فتوسط الجمع مترتب على الإثارة المترتبة على الإيراءَ المترتب على العدو.

 

بعث رسول الله - صلى لله عليه وسلم - إلى أناس من بني كنانة سرية واستعمل عليها المنذر بن عمرو الأَنصاري وكان أحد النقباءِ فأَبطأَ عنه - صلى الله عليه وسلم - خبرها شهراً فقال المنافقون إنهم قتلوا فأنزل الله عز وجل عكس قولهم رداً عليهم بأَن السرية أحياءَ وتعظيماً لشأن الغزو لما فيه من نفع الدين والدنيا أقسم أنهم أحياء وأنهم عدوا بخيلهم وأغاروا وتوسطوا عدوهم ولا يظهر من ذلك إلاَّ أنهم قتلوا من العدو وغنموا منهم وذلك بشارة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

 

والحديث مذكور عن ابن عباس إجمالاً وهذا تفصيله وأما ما ذكر عن ابن عمه الإمام علي بن أبى طالب من أنه رد عليه ذلك وأن العاديات الإبل من عرفة إلى مزدلفة وأنهم يورون النار في مزدلفة لمصالحهم أي والجماعات الموريات والجماعات المغيرات وأنه أقسم بالإنسان والإبل أي يغيرون من مزدلفة إلى منى فذلك جمع وأنه رجع إلى قول على فلا يصح بل موضوع.

 

وكذلك روي عن ابن مسعود أنها إبل الحجاج والمشهور في العدو ضبحا وقدح النار من الحجارة بالوطء عليها وإغارة الصبح وإثارة النقع هو الخيل لا الإبل، نعم يجوز أن المراد جنس الخيل التي تعدو في سبيل الله تعالى ولو كان سبب النزول خيل تلك السارية المعهودة، وروي عن ابن عباس أن العاديات الجماعات تمكر بالليل وهذا قريب مما مر عنه أو هو وعنه أيضاً أن المراد الغزاة تكثر نارها إرهاباً للعدو ليلاً، وعنه الجماعة توقد النار ليلاً لحاجتهم.

إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)

جواب القسم والكنود عن الجمهور الكفور النعم كما قال ابن عباس ورواه أبو إمامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أتدرون ما الكنود قالوا الله ورسوله أعلم، قال هو الكفور الذي يضرب عبده ويمنع رفده ويأكل وحده " ، رواه الطبراني، وللبخاري موقوفاً على أبى إمامة يضرب عبده وينزل وحده ويمنع رفده، وعن الحسن الكنود اللائم لربه عز وجل يعد المصيبات السيئات وينسى النعم الحسنات وهو راجع إلى التفسير بكفر النعم المذكور أولا.

 

وعن ابن عباس الكنود بلسان كندة وحضرموت العاصي وبلسان ربيعة ومضر الكفور وبلسان كنانة البخيل السيء المملكة، وقيل الكنود القليل الخير مأخوذ من الأرض الكنود التي لا تنبت شيئاً والتفسير بلغة مضر أليق لأن القرآن بلسانهم فهو الكفور للنعم كما مر ولفظ الكلبي بلسان كندة وبني مالك وهم أهل حضرموت.

 

والمراد بالناس المجموع لا الجميع إذ فيهم مشركون كفورون للنعم بل هم الأكثر والذي يظهر لي في مثل هذا من حين البلوغ كل الناس حاشى من يستثنى بمعنى أن ذلك كالطبيعة فيهم ألا ترى أن كل أحد يجزع مما أصابه وينسى عند الإصابة ما تقدم له من خير وما هو فيه منه إلاَّ أن من وفقه الله تعالى يتوب، وقيل المراد قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القريشي وأنت خبير بأن سبب النزول لا يكون مخصصاً ولا يعترض التعميم بقوله تعالى أفلا يعلم.. الخ.

 

كما قيل لأنه يوعظ المؤمن بما يوعظ الكافر كما تقول للموحد العاصي أو البخيل أفلا تعلم أنك تموت فتجازى وفي الآيات مدح للغزاة إذ خالفوا طبعهم بالغزو ولربه متعلق بكنود قدم للفاصلة وللحصر للمبالغة كأنه لم يكند إلاَّ ربه أو للحصر الإضافي أي إنما كند ربه لا نفسه فإنه راض عنها مادح لها وحامد وبطريق الاهتمام لأن الذم البليغ إنما هو كنوده الله أي نعمه ولام خبر إن لا صدر لهما واللام للتقوية وفي تعليقها قولان يقال كند النعمة أي كفرها.

وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)

{ وَإنَّهُ } أي الإنسان.

 

{ عَلَى ذَلِكَ } أي على كنوده بضم الكاف وهو متعلق بقوله بشهيد من قوله:

 

{ لَشَهِيدٌ } قدم بطريق الاهتمام وللفاصلة وكذا الذي بعد هذا أي يشهد على نفسه بالكنود شهادة حال لا شهادة قال وهى أبلغ لعدم احتمال الكذب في شهادة الحال في مثل هذا المقام وذلك في الدنيا فإن أفعاله شهادة عليه لأنها خلاف الشكر، وقيل شهادة القال يوم القيامة يقرأنه كفر النعم ويطلب الرجوع إلى الدنيا ليشكر أو معنى شهيد حاضر أي حاضر لكفره أي عالم به وبمحبته وعمل السوء مع العلم بأنه سوءَ أشد ذماً والأول أولى.

 

وعن ابن عباس الهاءِ لله تعالى أي هو تعالى شاهد على كنوده فذلك تهديد واختاره بعض لأَنه أقرب مذكور وليس كذلك لأن فيه تفكيك الضمائر وقرب الشيءَ لا يوجب رد الضمير إليه إذا عورض بشيءٍ كما هنا فإن الضمير قبل وبعد للإنسان فليكن هذا له.

وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)

{ وَإنَّهُ لِحُبِّ الْخْيرِ } أي في حب الخير وهو المال مطلقاً وقيل الكثير كما فسر به في قوله تعالى{ إنْ ترك خيراً }[البقرة: 180] وخيرية المال بحسب الطبع وإلاَّ فقد يضر في الآخرة أو في الدنيا أو فيهما متعلق بشهيد قوله تعالى:

 

{ لَشَدِيدٌ } أي قوى أي مبالغ في حب الخير، وزعم بعض أن اللام للتعليل وأن الشدة من معنى القبض على الشيء هو يشد يده على ماله لا ينفقه فمعناه بخيل لأَجل حب الخير وهو بمعنى فاعل فإنه ممسك عن الإنفاق أو بمعنى مفعول أي شده الله عن الإنفاق أو شده الشيطان أو شد نفسه، وقيل المعنى أنه مطيق لحب الخير وليست للتعليل في هذا القول كما زعم بعض،.و

 

فيه أن الحب غير اختياري فلا يوصف بأنه يطاق عليه أو لا يطاق عليه وقال الفراء المعنى أنه لحب الخير الشديد الحب أي يحب المال ويحب كونه محباً له، وحاصلة أنه يحبه ويحب هذا الحب فإن الإنسان قد يحب الشيءَ ويحب هذا الحب وقد يحبه وهو كاره لهذا الحب وحذف الثاني لدلالة الأول كقوله تعالى{ اشتدت به الرِّيحُ في يوم عاصف }[إبراهيم: 18] أي عاصف الرياح وقال قطرب إن شديد بمعنى شاد أي شد الحب واللام للتقوية، وأجيز أن الخير الطاعة أي منقبض عن الطاعة.

أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)

{ أفَلاَ يَعْلَمُ } إنكار للياقة أي أيفعل القبائح فلا يعلم أو ألا يلاحظ فلا يعلم أي فلا يعرف فهو متعد لواحد محذوف أي فلا يعرف الآن ماله من الجزاءِ إذا بعث كما قال.

 

{ إذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ } أي أخرج ما فيها من الموتى وإذا متعلق بالجزاءِ المقدر أو باستقرار لفظ له الذي قدرت وضمير يعلم للإنسان وإن رد الله تعالى جاز تعليق إذا بيعلم وهى في ذلك كله خارجة عن الصدر وإذا رد إلى الله عز وجل فليعلم مفعولان أي أفلا يعلمهم عاملين بما عملوا إذا بعثر أي أفلا يجازيهم وعبر بما لأن عقل العقلاء معتبر في الدنيا للتكليف لا يوم البعث أو هم قبل البعث من جنس غير العاقل أو للصفات منهم شقي وأشقى وسعيد وأسعد وصغير وكبير ومكلف وغير مكلف وإنس وجن وإنما لم نعلق إذا بخبير لأن معمول خبر إن لا يتقدم عليها وإنما لم نعلق إذا بيعلم لأن علمهم يومئذ غير مطلوب ويجوز أن يكون مفعول يعلم مع رد ضميره للإنسان هو قوله{ إنَّ ربهم بهم يومئذ لخبير }[العاديات: 11] سد مسد مفعولين علق عنهما على أنه متعد لاثنين فيكون جواب إذا محذوفاً أي كان ما كان أو جوزي والمجموع معترض وإذا لم يكن ذلك فقوله إن ربهم إلخ مستأنف.

وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)

أي جمع ما فيها من العقائد بالإظهار لا إبقاءِ شيءٍ أو تحصيله تمييز خيره وشره كما يحصل الحب من التبن والذهب من المعدن وخص القلب لأنه أصل لعمل الجوارح والأعمال بالنية.

إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)

{ إنَّ رَبَّهُم } رب ما في القبور وضمير العقلاءِ هنا بالنظر إلى إحيائهم وبالنظر إلى أصلهم قبل الموت ومر وجه آخر هو أنهم بعد الإحياءَ لا تعتبر قلوبهم وعليه فضمير العقلاءِ بالنظر إلى الأَصل وهو حياتهم في الدنيا.

 

{ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ } يوم إذ بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور أو يوم إذ فعل ذلك متعلقان بخبير من قوله:

 

{ لَّخَبِيرٌ } عالم ببواطنهم وظواهرهم أي مجاز لهم وإلاَّ فعلمه أزلي والله أعلم وهو الموفق الناصر.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.