سورة الزلزلة مدنية وآياتها 8

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)

{ إذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ } حركت تحريكاً عنيفاً متتابعاً متجدداً وتكسر ما عليها.

 

{ زِلْزَالَهَا } أي زلزالها المعهود لها عندنا بالقضاءِ أو زلزالها العجيب المخصوص بها الذي كل زلزال بالنسبة إليه كلا زلزال وهو تحركها بعنف مراراً من أسفل إلى أعلاها.

وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)

موتاها أو كنوزها وموتاها روايتان عن ابن عباس وذلك يوم البعث وهي كنوز باقية لم تخرج للدجال أو كنوز كنزت بعد وما سواها قبلها أخرج للدجال كله أو أخرج له بعضها وأخرج الباقي مع ما كنز بعده يوم القيامة أو الكنوز عند النفخة الأَولى والموتى تخرج عند النفخة الثانية ويعد زمان النفختين واحداً وأما ما قيل من إخراج الكنوز والموتى كليهما عند الأُولى فتبقى الموتى كالكنوز على وجه الأرض وينفخ فيها الروح عند الثانية فخلاف المعروف من أنها تخرج الموتى من القبور عند الثانية.

 

وقيل الكنوز عند الأُولى والموتى عند الثانية وعلى كل حال يرى أهل الموقف الكنوز فيشتد فرح المؤمن إذ لم تغره فيهلك بها وإذا أنفقها وانتفع بها لهذا اليوم الذي بارت فيه وكانت وبالاً لمن عصى فيها ويشتد تحسر العصاة فيها إذ سرقوها أو تملكوها كما لا يجوز أو لم يخرجوا حقوقها فهلكوا بها ولم تغن عنهم شيئاً قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلقى الأرض أفلاذ كبدها مثل الاسطوانات من الذهب والفضة أي وسائر الجواهر المكنوزة فيقول القاتل في هذا قتلت ويقول القاطع في هذا قطعت رحمي ويقول السارق في هذا قطعت يدي ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً.

 

ويروى فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمِي ويجيء السارق فيقول في هذا قطعت يدي....الخ بذكر المجيء كما في مسلم كأنهم يدعون إليها فيجيئون إليها ويقولون ذلك.

 

وقيل المعنى تخرج لتكوى بها جنوبهم وظهورهم قلنا لذلك كله والمفرد ثَقَل بفتح الثاءِ والقاف وهو كل نفيس مصون أو ثقل بكسر الثاءِ وسكون القاف وهو الجنين في البطن شبهت الأرض بالحبلى وما فيها من الكنوز بالجنين على الاستعارة التصريحية وأظهرت الأرض ولم يضمر لها هكذا وأخرجت أثقالها لزيادة تقرير الحكم عليها بالإخراج .

 

قيل أو لأَنها أرض أُخرى وفيه أن المزلزلة والمخرجة لأَثقالها واحدة وليس في الإظهار إيماء إلى تبديل الأرض غير الأَرض أو أظهرت الأرض ولم يضمر لها لأَن المزلزل هي كلها من أسفلها إلى أعلاها والمخرج لأَثقالها بعضها والمراد الإخبار عن حال الأرض أنها تزلزل وأنها تخرج الأثقال لا الإخبار بأن إخراج أثقالها وقول الإنسان مالها مسببان عن زلزلتها فضلاً عن أن يقال فأُخرجت بالغاء.

 

وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3)

{ وَقَالَ } لشدة زلزلتها.

 

{ الإِنسَانُ } كل إنسان.

 

{ مَالَهَا } ما للأرض زلزلت وأخرجت الأثقال أضمروا لها للعلم بها ومشاهدة تحركها، أو هم يقولون ما للأرض وقال الله تعالى عنهم مالها والمؤمن يقول ذلك استعظاماً أو نسياناً للبعث لطول العهد أو ذهولاً للحادث والكافر يقول بطريق التعجب، وقيل الإنسان الكافر لأَنه لم يؤمن بالبعث وأما المؤمن فيقول{ هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون }[يس: 52].

 

يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)

 

{ يَوْمَئِذٍ } يوم إذ زلزلت وأخرجت.

 

{ تُحَدِّثُ أخْبَارَهَا } جواب إذا وتحدث عامل في إذا وفي يوم لأَن يومئذ توكيد لقوله عز وجل إذا زلزلت الأرض.. الخ ومعنى تحدث الأرض الناس أخبارها أن يخلق الله فيها حياة وإدراكاً ونطقاً فتنطق لكل أحد بما عمل عليها من طاعة أو معصية كما قال ابن مسعود وإنما تبدل الأرض غير الأرض بعد هذا الإخبار.

 

وفي الترمذي قال أبو هريرة " قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ تحدث أخبارها ثم قال أتدرون ما أخبارها قالوا الله ورسوله أعلم فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها تقول عمل يوم كذا كذا فهذه أخبارها " ، وعن يحيى ابن سلام تحدث بما أخرجت من أثقالها تقول الأرض يوم القيامة يا رب هذا ما استودعتني كما رواه ابن ماجه.

 

وعن ابن مسعود تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان مالها تحدث أن أمر الدنيا قد انقضى وأمر الآخرة قد أتى فيكون ذلك جواباً لهم عند قولهم ما لها والأولى أن تقول تجمع ذلك كله بالتحديث أو التحديث حالي لا قالي مجاز بمعنى تدل ومن نظر إلى حالها علم لم زلزلت ولم أخرجت وأن هذا ما قالت الأنبياءَ.

 

والتحديث استعارة على أن تحديثها بأَن ربك أوحى لها تحديث بأَخبارها كما تقول نصحتني كل النصيحة بأن نصحتني في الدين فإخبارها هو أن ربك أوحى لها فالباء بعد للتجريد كقولك تلقى بزبد البحر أو تلقى به رجلاً متناهياً في الخير ولا يخفي بعده وأنه خلاف الأصل والمفعول الأول لتحدث محذوف أي تحدث الناس أخبارها لتضمن معنى تعرفهم أخبارها وهو متعد لواحد محذوف كما رأيت وأخبارها منصوب على تقدير الباء ولم يتعد إلى ثلاثة هنا وحذف الأول لعدم مقصد الكلام به وإنما المقصود نطقها بالأَخبار وسمع السامع مترتب عليه متفرع.

 

بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)

 

بسبب إيحاء ربك إليها بأن تحدث واللام بمعنى إِلى كقوله تعالى:{ وأوحى ربك إِلى النحل }[النحل: 68] واختيرت اللام عن إِلى مع أَن إِلى هي الأَصل في الإِيحاءَ للفاصلة وللإِشارة إِلى المنفعة أَو هي للمنفعة لأَن للأرض تغيظاً على من يعصى الله سبحانه عليها فتتشفي بفضيحتهم بذكر معاصيهم فإِن الإِنسان إِذا عصى الله تعالى قالت الأرض التي عصى فيها يا رب مرني أَن أخسف به ويقول مقابله من السماءِ يا رب مرني أسقط عليه، وقيل للتعليل وقد يرجع للنفع أي لأَجل أن تنتفع والإِيحاء حقيق بأَن يجعلها الله عاقلة أو وحى إِلهام كذلك أو وحى إِرسال بأَن يأتيها ملك بذلك، وقيل إِن ربك بدل من أخبارها والأَصل بأَخبارها بأَن ربك أي تحدث بأَن ربك أوحى لها.

 

يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)

{ يَوْمَئِذٍ } يوم إذ حدثت أخبارها متعلق بقوله تعالى.

 

{ يَصْدُرُ النَّاسُ } ينتقلون من قبورهم إلى الموقف للحساب والجزاءِ وهذا أولى من أن يقال يصدرون عن الموقف بعد ما وردوه من قبورهم إلى الجنة والنار فإنه كما يقال صدر عن الموضع بعد وروده يقال صدر عنه مطلقاً لا بقصد وروده وأيضاً قوله تعالى ليروا أعمالهم ظاهره المتبادر أن المعنى ليقرأوا صحفهم ويعرفوا أعمالهم وهذا حقيقة بلا حذف ولا تأويل أو ليروا جزاءَ أعمالهم ويعرفوه على حذف مضاف وكذا إن قلنا ليروا صحائف أعمالهم، ويجوز أن يكون أعمالهم عبارة عن لازمها ومسببها وهو الجزاءِ وقيل تجسم الأعمال فيروها بعيونهم وهذا عندنا لا يجوز ويجوز أن تكون الرؤية علمية..

 

{ أشْتَاتاً } متفرقين أهل الإيمان على حدة وأهل الشرك على حدة عند ابن عباس، وعنه أهل التوحيد على حدة واليهود على حدة والنصارى على حدة والمجوس على حدة وعبدة الأصنام على حدة أو أهل كل إقليم على حدة أو متفرقين بالوصف بيض الوجوه آمنين وسود الوجوه فزعين وراكبين وماشين ومجرورين على وجوههم ومقيدين وغير مقيدين، وعن بعض متفرقين إلى سعيد وأسعد وشقى وأشقى أو متفرقين كل إنسان وحده لا يصاحب أحد أحداً في الذهاب إلى المحشر أو كل واحد لا ناصر له.

 

{ لِّيُرَوْا أعْمَالَهُمْ } متعلق بيصدر قيل أو بأوحى وهو ضعيف للفصل ولأن ترتب رؤية الأعمال مبنى على الصدور بلا توسط وعلى الإيجاب يتوسط الصدور، وروى أن رجلا صحابياً لا يتصدق بالقليل ككسرة وتمرة وجوزة ولا يرى لذلك ثواباً ويقول إنما تثاب على ما هو عظيم نحبه وآخر يتهاون بالكذبة والنظرة ونحوهما ولا يرى لذلك عقاباً فنزل قوله تعالى:

 

{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } قدم الخير لأنه أشرف ومقصود بالأصالة.

 

وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)

مثقال الذرة ما يزل ثقلها والذرة النملة الصغيرة الحمراء تجرى بعد عام أو الجزء الدقيق الذي لا يرى إلاَّ في ضوء الشمس من مضيق أو ما يلصق باليد اليابسة من التراب اليابس بعد النفخ عليها كما روى عن ابن عباس وهو تفسير بالقلة لا بالمعنى الموضوع في اللغة والنصب على التمييز وأجيز على الإبدال من مثقال وفيه تعميم للقلة والكثرة بعد التقليل الذي هو مقصود الآية فهو ضعيف والمراد الجزاء القليل والكثير فرؤيته رؤية جزائه على حذف مضاف وذلك بحسب ما ختم عمله فالسعيد يرى ثواب عمله الصالح كله إذا لم يمت مصراً وسيئاته كلها محبطة، والشقي يرى عقاب سيئاته كلها مبطلة بإصراره كأنه قيل خيراً يره إن لم يحبط وشراً يره إن لم يكفر بدليل الآي الآخر قال الله تعالى: { وقدمنا إلى ما عملوا }[الفرقان: 23] وقال عز وجل:{ أُولئك الذين ليس لهم }[هود: 16] .

 

وقال الله تعالى:{ مثل الذين كفروا }[البقرة: 171، إبراهيم: 18] الآيات، قال الله عز وجل { فلا يخفف عنهم العذاب } ، وقال عز وجل:{ زدناهم عذاباً فوق العذاب... }[النحل: 88] إلخ وقال سبحانه وتعالى:{ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه.. }[النساء: 31] إلخ، وعبارة بعض من الأُولى للسعداءِ والثانية للأَشقياءِ وذلك تفصيل لصدور الناس أشتاتاً كقوله عز وجل:{ فريق في الجنة وفريق في السعير }[الشورى: 7].

 

وقيل بعموم من في الموضعين في الدنيا والآخرة فالمؤمن يرى جزاءَ خيره في الآخرة وجزاءَ شره في الدنيا في نفسه وماله وأهله والكافر يرى جزاءَ خيره في الدنيا في نفسه وأهله وماله وجزاءَ شره في الآخرة حتى يوافي المؤمن الآخرة وليس له فيها شر والكافر ليس له فيها خير.

 

وكذلك قال محمد بن كعب القرظي لما نزلت الآية وكان الصديق رضي الله عنه يأكل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمسك عن الأكل فقال يا رسول الله إني لراءِ ما عملت من مثقال ذرة من شر قال نعم أرأيت ما ترى في الدنيا مما تكره فبما قيل ذر الشر ويدخر لك مثاقيل ذر الخير حتى توفاه يوم القيامة من عمل منكم خيراً فجزاؤه في الآخرة ومن عمل منكم شراً يره في الدنيا مصيبات وأمراضاً ومن يكن فيه مثقال ذرة من خير، أي لم يحبطها دخل الجنة.

 

وعن ابن عباس المعنى يرى المؤمن يوم القيامة حسناته وسيئاته فتغفر له ويثاب بحسناته ويرى الكافر سيئاته وحسناته فترد عليه ويعاقب بسيئاته قال الله تعالى:{ وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفي بنا حاسبين }[الأنبياء: 47] ولا يخفي أن الظاهر عموم من ورؤية الجزاءِ وكون ذلك في الآخرة، وسمع الربيع بن خيتم الحسن يقرأ الآية فقال هذه نهاية الموعظة، وروى أن جد الفرزدق جاءَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليقرأه فأقرأه السورة ويروي الآية فقال حسبي ومعنى إحباط حسنات الكفار أنهم لا يدخلون بها الجنة ولا ينجون بها من النار.

 

وقوله تعالى: { لا يخفف عنهم العذاب }[البقرة: 162، آل عمران: 88] على عمومه وقال بعض قومنا يخفف عذاب ما ليس بشرك من المشرك ولا يخفف عذاب ما بشرك ويرده أن الشرك مبطل لحسناته فلا حسنة له في الآخرة، وكان الصحابة رضي الله عنهم يستحقرون التمرة ونحوها ويردون السائل إذ لم يجدوا ويستحقرون الكذبة والنظرة والغيبة ونحو ذلك فيفعلونها فنزلت الآية وأعطى - صلى الله عليه وسلم - سائلاً تمرة فقال نبي من الأنبياءِ يتصدق بتمرة فقال أما علمت فيها مثاقيل ذر كثيرة، وعنه - صلى الله عليه وسلم - " تصدق ولو بشق تمرة " ومر أن أمة تصدقت بشق تمرة فدخلت الجنة، وتصدقت عائشة رضي الله عنها بحبة عنب فقيل لها فقالت كم فيها من مثاقيل الذر.

 

وفي رواية هذه أثقل من ذر كثير، وروي مثل هذا عن عمر، ومرادهما الرغبة في الصدقة وتعليم غيرهما ولما نزلت الآيتان قال أبو سعيد يا رسول الله إني لراءِ عملي قال - صلى الله عليه وسلم - " نعم قال الكبار الكبار فقال نعم وقال الصغار الصغار قال نعم قال واثكل أمي قال أبشر يا أبا سعيد الحسنة بعشر " وهذا على أن السورة مدنية إلاَّ أن يقال جعلنا في سورة مكية وأبو سعيد لم يبلغ الحلم إلاَّ بعد أحد والله أعلم والله المستعان وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.