سورة البينة مكية وآياتها 8

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)

{ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهْلِ الْكِتَابِ } اليهود والنصارى عبر عنهم أهل الكتاب تشنيعا عليهم أن الله عز وجل أنعم عليهم بكتبه فخالفوها وكفروا بها تارة صراحاً وتارة ضمناً وبما فيها من ذكر رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وكتابه القرآن الكريم وأشركوا بقولهم عزير ابن الله والمسيح ابن الله وأنه إله، وألحدوا أيضاً في صفات الله وإيراد الصلة فعلاً وفاعلاً إذ لم يقل لم يكن الكافرون من أهل الكتاب باسم الفاعل الدال على الثبوت لأن كفرهم حادث بعد أنبيائهم ومن للتبعيض لأَن منهم من لم يكفر وعد منهم الملكانية من النصارى فقيل إنهم على الحق بعد بعثه سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ أن كفروا به - صلى الله عليه وسلم - .

 

قيل ولو جعلنا من للبيان أي لم يكن الذين كفروا وهم أهل الكتاب لزم أنهم مشركون قلنا هي للبيان وكلهم مشركون إذ كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فإن وجد شاذاً وحدث كعبد الله بن سلام فليس الكلام فيه، وعن ابن عباس المراد بأَهل الكتاب من أعمال المدينة قريظة والنضير وقينقاع.

 

{ وَالْمُشْرِكينَ } بعبادة الأصنام أو غيرها كالنجوم والبقر أو إنكار الله أو بعدم معرفته أو بإنكار نبي أو كتاب أو بعضه، وعن ابن عباس كفار مكة والمدينة ومن حولهما من العرب والعطف على أهل الكتاب ولو كانت من للتبعيض ولا يلزم التبعيض في المشركين لأن المعنى بعض أهل الكتاب وكل المشركين، وقيل المراد بهم أهل الكتاب تنزيلا لتغاير الصفات منزلة تغاير الذات كأنه قيل لم يكن الذين كفروا المتصفون بأنهم أهل كتاب وبأنهم مشركون قلنا هذا خلاف الأَصل إنما يرتكب لداع صحيح ولأن التأسيس المحض أولى من التكرير وما يلتحق به.

 

{ مُنفَكِينَ } عن الكفر مفارقين للكفر ومنفكين اسم فاعل انفك الذي لا خبر له ولا دليل ولا داعي إلى جعلها ذات خبر محذوف أي واعدين اتباع الحق والحذف خلاف الأصل وخبر باب كان لا يحذف في السعة.

 

{ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ } قيل متعلق بمنفكين والظاهر أن يتعلق بلم أي انتفي انفكاكهم إلى إتيان البينة والبينة الحجة سمى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبالغة كأَن ذاته نفس الحجة مع أن الحجة ما ينطق به لسانه عن الله تعالى، أو يقدر ذو البينة.

 

وقيل البينة وصف بمعنى المبين للحق ولا يعرف أن البينة بمعنى المبين ولو صح لكانت التاءِ للمبالغة وليس هذا مما تقاس فيه تاءَ المبالغة، أو البينة القرآن لأَنه مبين للحق ولأَنه كبينة المدعى أي شهوده فيكون رسول بدل اشتمال أو كل على حذف مضاف أي كتاب رسول الله أو بينة رسول أو موحى رسول أو خبراً لمحذوف أي هو رسول أي القرآن أي كتاب رسول أو بينة رسول أو موحى رسول أو معنى الآية أنهم لا يزالون عن الكفر ويتصل كفرهم بمجيء الرسول.

 

وليس المراد أن كفرهم ينتهي إذا جاءَتهم البينة ولما جاءَ كان الحق أن يزولوا عن الكفر ولم يزولوا بل ازدادوا كفراً وتفرقوا فيه فكل طائفة تكفر به نوع كفر وما تفرقوا هذا التفرق قبل مجيئه لأَن كفرهم قبل مجيئه ليس كفراً فيه - صلى الله عليه وسلم - وذلك شامل لقول اليهود المذكور وشامل لقول المشركين من قريش ومن يتصل بهم إنا ندوم على ما نحن عليه حتى يجيء نبي آخر الزمان كما تقول اليهود أنه يجيء وكما يقول ورقه وزيد ابن نفيل وغيرهما أنه يجيء من قريش بل من بني هاشم بل من بني عبد المطلب.

 

وكما سمى جماعة أبناءهم محمداً رجاءَ أن يكونوه وانتشر ذلك فيهم ولما جاءَ تفرقوا فيه بأنواع الكفر والحاصل أنه ما فرقهم عن الحق الذي انتظروه ولا أقرهم على الباطل والكفر إلاَّ مجيء الرسول الذي انتظروه أن يؤمنوا به وهذا لإفادته أولى من أن يقال طوى حال المشركين لعلمه بالأُولى من حال اليهود.

 

وأما حال النصارى وقد شملهم لفظ أوتوا الكتاب فهو مثل حال اليهود سواء فاجتماعهم وافتراقهم واحد، وقيل معنى الآية ما تفرق الذين أوتوا الكتاب فآمن بعض وعاند بعض مع علمه الحق إلاَّ من بعد ما جاءَتهم البينة.

 

رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)

{ رَسُولٌ مِّنَ اللهِ } بدل كل وهو سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وقيل الرسول جبريل والصحف صحف الملائكة المنسوخة من اللوح ومن الله متعلق برسول أي مرسل من الله أو نعت رسول.

 

{ يَتْلُوا } الرسول أو حال من ضمير الاستقرار أي يقرأ من رأسه من الله تعالى لا من كتابه لأنه لا يقرأ كتاباً ولا يكتب ولا ينطق كنطق من يقرأ من كتاب أو الصحف عبارة عما فيها لعلاقة الحلول فهو ينطق بما فيها من نفسه لا منها نظراً فيكون على هذا ها من فيها عائد على الصحف بالمعنى الحقيق على هذا المجاز فذلك استخدام.

 

{ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً } عن الباطل أو شبهت بإنسان صادق ورمز إليه بمطهرة عن الكذب أو المعنى محكوم عليها أنها لا يمسها إلاَّ المطهرون بالتجوز في الإسناد فإِن المراد هنا لا يمسها إلاَّ المطهرون وقوله:

 

{ فِيهَا كُتًُبٌ قَيِّمَةُ } نعت لصحفا أو حال من الضمير في مطهرة أو الحال أو الخبر فيها وكتب فاعل فيها لنيابته عن لفظ ثابت أو ثبت ومعنى كون كتب قيمة في صحف مطهرة أن فيها شرائع قيمة فكتب بمعنى أشياءَ مكتوبة وهي المسائل الشرعية أو المعنى إن كتب الأنبياء والقرآن في تلك الصحف إذا صدقتها الصحف فكأَنها في الصحف وكأنه يقرأ - صلى الله عليه وسلم - الصحف أو الصحف كتب الأَنبياء فقط والقرآن مصدق لها فكأنها فيه وذلك كلام شائع تقول في هذا الكتاب كتب أي مشتمل على معاني كتب أو ذكرت فيه والصحف جمع صحيفة وهي ما يكتب فيه وأصله المبسوط من الشيء إلا ترى أنه يطلق على ما صنع من العود أو غيره مبسوطاً للطعام ومعنى قيمة أنها ناطقة بالحق.

 

وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)

المذكورة اتفقوا على الكفر قبل مجيئها واختلفوا بعد مجيئها عاب الله عليهم ازدياد الكفر بأَنواعه بعد مجيئها الموجب لزوال الكفر وكان مقتضى شأنهم أن يتفرقوا قبلها في غير شأنها لا أن يتفرقوا في شأنها بعد مجيئها وهم ما تفرقوا إلاَّ بعد مجيئها مع أنها نور واضح وذكر غير واحد أن ذلك حكاية لقولهم لا نزال على ما نحن فيه من الدين مجتمعين عليه غير منفكين عنه حتى يجيءَ النبي الموعود به في التوراة والإنجيل فنجتمع على ما جاءَ به وقال تعالى ثم ما فرقهم عن الحق وأقرهم على الكفر إلاَّ مجيئه.

 

وقيل لم يكونوا منفكين عن الوعد بالإيمان بالرسول المبعوث آخر الزمان إلى أن أتاهم ما جعلوه ميقاتاً للاجتماع فجعلوه ميعاداً بالانفكاك وكانوا يدعون الله تعالى بالنبي المبعوث آخر الزمان أن ينصرهم على المشركين ويقولون ظل زمان يبعثه الله تعالى بتصديق ما عندنا نقتلكم معه قتل عاد وإرم ولكن أي دليل على قصد ذلك من الآية وما ذكرته هو الحق إن شاءَ الله تعالى.

 

وقيل لم يكونوا منفكين عن ذكر الرسول بالحق إلى أن أتاهم فتفرقوا فيه بأقوال الذم زوراً ولا دليل في الآية على أن الانفكاك عن ذكره بالحق، وقيل المعنى داموا على الكفر إلى أتى فآمن بعض وكفر بعض وفيه أن ظاهر قوله وما تفرق ذمهم لا ذم بعض ومن آمن لم يذم.

وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)

{ وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ } ما أمرهم الله بما في كتبهم من الشريعة إلاَّ ليعبدوا الله تعالى واللام للتعليل، وقال الفراء اللام مصدرية في مثل هذا بمعنى أن المصدرية على تقدير الباءَ أي وما أُمروا إلاَّ بأَن يعبدوا الله ويرده أنه لا تدخل الباءِ على اللام.

 

{ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } العبادة وهو مفعول به لمخلصين يجودون العبادة ولا يراءُون بعبادتهم ولا يسمعون بها ولا يأخذون بها عرضاً من الدنيا ولا يخلطونها بما ينقصها ويفسدها ويظهر لي أن يقول المكلف أعوذ بالله من الإهمال ومن الإبطال للأَعمال وأسألك اللهم أن تعاملنا بالإفضال فوق المعاملة على قدر الأفعال ولعل الله يجبر إهماله فيكون كمن نوى ولم يهمل النية ويكون كمن لم يبطل عمله برياء أو سمعة.

 

وقال بعض الإخلاص الإتيان بالعبادة لله تعالى كما يجب وبأَن يعملها إجلالاً لله تعالى لا طلباً للجنة بها أو هروباً من النار بها قلت لا يلزم هذا ولا يقدر عليه كل أحد والآيات والأَحاديث لا توجبه بل يجب رجاء الجنة والخوف من النار، وقد يقال المراد أنه يرجو ويطمع ولكن يعبد إجلالاً، وفي مسلم عن أبى هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أن الله تعالى لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم ".

 

{ حُنَفَآءَ } مائلين عما يخالف التوحيد والعمل الصالح وفسره بعض بحاجين وبعض بمختتنين وبعض بمختونين محرمين لنكاح المحارم وبعض بمستقبلين الكعبة وما ذلك إلاَّ أن أصل الحج والاختتان والاستقبال لإبراهيم وعلى التفسير بحاجين فإنما قدم الحج على الصلاة والزكاة لأَن فيه الصلاة وإنفاق المال والحق ما ذكرته من العموم وفسره بعض بجامعين كل الدين وفسره مجاهد بمتبعين دين إبراهيم وهذا كالذي قبله متابعة لقوله تعالى إبراهيم حنيفا، وعن أبى قلابة بمؤمنين بجميع الرسل والأَنبياء لا يفرقون بين أحد منهم.

 

{ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ } الصلاة والزكاة اللتين في شرعهم، ويجوز أن يراد من كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالمراد صلاتنا وزكاتنا معشر هذه الأُمة ومعنى أمرهم بهما في التوراة والإنجيل أمرهم بالإيمان به - صلى الله عليه وسلم - واتباعه فيهما.

 

{ وَذَلِكَ } المذكور العالي الشأن من عبادة الله تعالى وإخلاصها وإقام الصلاة وإيتاءِ الزكاة.

 

{ دِينُ الْقِيمَةِ } دين الملة القيمة كذا قيل وفيه أن الدين هو الملة القيمة فذلك من إضافة الشيء إلى نفسه فنحتاج أن نقول الإضافة للبيان أي دين هو الملة القيمة ويضعف ما قيل إن التاء للمبالغة والإضافة للبيان أي دين هو القيم لمخالفة الأصل من جهتين والشرع دين من حيث أنه يجازى به أو يعتاد وملة من حيث أنه يمل حفظاً وكتابة يقال أمللت الكتاب بمعنى أسمعته من يحفظه أو يكتبه أو دين الكتب القيمة المذكورة آنفاً أو دين الأُمة القيمة أي المستقيمة أو القيمة جمع قائم أو قيم أي دين القائمين لله بالقول والعمل أو دين الحجج القيمة، وفي الآية أن الإيمان قول وعمل.

 

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)

{ إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أشركوا.

 

{ مِنْ أهلِ الْكِتابِ وِالْمُشْرِكِينَ } الذين ليسوا بأهل كتاب.

 

{ في نَارِ جَهَنَّمَ } أي يثبتون في نار جهنم بمضارع الاستقبال أو ثابتون باسم الفاعل الذي للاستقبال أو ثبتوا بالماضي أو ثابتون باسم الفاعل الذي للماضي أو للحال لتحقق الوقوع فكأَنهم فيها الآن أو نار جهنم مجاز مرسل عن أعمالهم المحرمة واعتقادهم المحرم إِذ كان ذلك سبباً وملزوماً لجهنم التي هي مسبب ولازم أو شبهت أعمالهم بجهنم لجامع القبح والنفار الشرعي فهو استعارة تصريحية.

 

{ خَالِدِينَ فِيهَا } حال من ضمير الاستقرار ودركة المشركين تحت دركة أهل الكتاب المشركين لأَن شركهم أشد وكون شرك أهل الكتاب أشد لعلمهم بصفاته - صلى الله عليه وسلم - وبرسالته - صلى الله عليه وسلم - وردتهم عنها بعد الإقرار بها لا يوجب أن يكون عذابهم أشد ولا مساوياً لأن إنكار الله سبحانه وتعالى أو عبادة الأصنام وإنكار الكتب والرسل كلها أشد وإشراك أهل الكتاب يشبه التأويل الذي لا يجوز في الأُصول وأهل الكتاب الذين ليسوا بمشركين لكن ماتوا على كبيرة مثل فساق هذه الأُمة في الطبقة سواءَ وإنما قدم أهل الكتاب مع أن شركهم ومع أنه كالتأويل ومع أنه لم يعم الأَنبياءَ بخلاف المشركين لأَن جنايتهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم عليه لأَنهم آمنوا به قبل ولما عين لهم جحدوه وذلك كردة والمرتد أشد جرماً ولا كتابي بعد البعثة إلاَّ مشرك إذ لم يؤمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم.

 

{ أُولَئِكَ } البعداء في الشر.

 

{ هُمْ شَرٌّ الْبَرِيَّةِ } الخليقة أعمالاً كأنه قيل لماذا يخلدون أو قالوا هل إلى خروج من سبيل لماذا نخلد فقال الله تعالى بطريق الغيبة أولئك هم شر البرية أي لأنهم شر البرية أي شرها أعمالاً فهم شر الخليقة جزاء يترتب شر جزائهم على شر أعمالهم والاعتقاد عمل وقيل شر البرية ودركة والأَول أولى لموافقة قوله أولئك هم خير البريئة والبريئة بالهمز، مقابل للبريئة بعد بالهمز ولا بأس بتكرير الفاصلة لأَن القرآن نزل بموافقة الفواصل لشأَن القوافي وبمخالفتها شأن القوافي تلويحاً إلى أن بلاغته ظاهرة لا تتقيد بمثل السجع.

 

والمراد بالمشركين ما يشمل إبليس وجنوده والمنافق بإضمار الشرك فكلهم أسفل من غيرهم ولو تفاوتت منازلهم فإن الأسفل على الإطلاق إبليس ثم جنوده من الجن ثم المنافق بإضمار الشرك، والمراد بالبرية الأَشقياء الذين ليسوا مشركين والمشركون فقال إن المشركين منهم أشد سوءا.

 

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)

{ إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } العالون درجة بإيمانهم وأعمالهم { أولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } أفضل الخليقة وخير اسم تفضيل فمن هم الفاضلون الذين يكون المؤمنون العاملون أفضل منهم فيقال الملائكة ففي أثر أن المؤمن أفضل عند الله من جميع الملائكة واستثنى بعضهم خواص الملائكة كجبريل والكروبيين وكفر بعضهم من فضل المؤمنين على خواص الملائكة وليس كذلك وحكم الجن والإنس واحد ولكن لا أظن أن الجني أفضل من الملائكة ومالهم من الجنة إلاَّ صحاريها وفي الأَثر المؤمن من بني آدم أفضل من الملائكة.

 

وفي حديث أفضل من الملك وال للجنس أو للاستغراق وهو أولى ليوافق حديث أفضل من جميع الملائكة قالت عائشة رضي الله عنها يا رسول الله من أكرم الخلق على الله تعالى قال يا عائشة أما تقرئين إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية.

 

وعن أبى هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أتعجبون من منزلة الملائكة عند الله تعالى والذي نفسي بيده لمنزلة المؤمن عند الله تعالى يوم القيامة أعظم من منزلة الملك اقرأوا إنْ شئتم { إنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أُولئك هم خير البرية } " وذلك أن المؤمن يتلقى الموانع من الطاعات الداعيات إلى المعاصي من النفس والهوى والشياطين من الجن والإنس ويصعب عليه الوفاء بخلاف الملائكة فإن العبادة منهم كالتنفس كأَنهم طبعوا ولكن لهم اختيار، واختار أصحابنا أن الملائكة أفضل من المؤمنين.

 

جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)

{ جزَاؤُهُم } على الإيمان والعمل الصالح.

 

{ عِندَ رَبِهِّمْ } متعلق بجزاءِ لأن المعنى مجزيهم أي الذين يجزون به عند ربهم وذكر لفظ الرب تأكيد بإضافته إليهم لأَن مدلوله التربية والإنعام، { جَنَّاتُ عَدْنٍ } أي إقامة والجنات كلهن جنات إقامة والجملة خبر ثان لأُولئك أو لأَن.

 

{ تَجْرِي مِن تْحِتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ } حال من جاءَ جزاؤهم وهو حال مقدرة.

 

{ فِيْهَا أبَداً } موحد للخلود وفي ذلك زيادة تحسين.

 

{ رَّضِيَ اللهُ عَنهُمْ } خبر آخر بالمدح زيادة على ثواب أعمالهم وهو أفضل من ثوابهم وإن كانت الجملة دعائية على التجوز عن القبول كانت مستأنفة لكن يضعف الدعاء بقوله:

 

{ وَرَضُوا عَنهُ } فإن إِخبار لا إنشاء والرضا في الموضعين في الدنيا إلاَّ أن رضي الله أزلي مستمر على الدنيا وما بعدها ورضاهم العمل بما أمرهم به، ويجوز أن يكون الاستئناف بيانياً والجملة إخبار كأَنه قيل مالهم بعد هذا الجزاء لأَن العامل في الدنيا للناس قد يعطى أجرته فقط وقد يؤتى أجرته مع رفع درجة واتصال بعيد وإن كان رضاهم في الآخرة فمعناه قناعتهم بما أعطاهم واعتقادهم أنه لا شيءَ فوق ذلك مما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر والرضا بالله أن ترضي به رباً ومدبراً وبما أمر أو نهي والرضا عنه أن تعمل وقيل الرضا عنه أن ترضي بما قضى ودبر، قال السري السقطي إذا لم ترض عن الله فكيف تطمع أن يرضي عنك.

 

{ ذَلِكَ } العالي الرتبة من الجزاء والرضوان.

 

{ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ }.

 

خائفاً له خوف إجلال أو خوف عقاب أو كليهما، قال أبو خيثمة البدري لما نزلت لم يكن الذين كفروا.. الخ قال جبريل يا رسول الله إن ربك يأمرك أن تقرأها أبياً فأخبره - صلى الله عليه وسلم - تعالى عليه وسلم فقال أبى أو ذكرت ثم يا رسول الله قال نعم فبكى فقرأها - صلى الله عليه وسلم - وقرأ فيها لو أن ابن آدم سأَل وادياً من مال فأُعطيه لسأل ثانيا ولو سأل ثانياً فأُعطيه سأَل ثالثاً لا يملأُ جوف ابن آدم إلاَّ التراب ويتوب الله على من تاب وإن الدين عند الله الحنيفية غير الشرك ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يفعل ذلك فلن يكفره قال أبي بن كعب كنا نرى هذا من القرآن لو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلاَّ التراب ثم يتوب الله على من تاب، حتى نزلت ألهاكم التكاثر.

 

وبكاؤه رضي الله عنه استصغار لنفسه وسرور بهذه النعمة وهي تخصيصه بالقراءَة عن الصحابة مع أنه ذكر باسمه وقيل خوف التقصير في شكر هذه النعمة أو بكاؤه لذلك كله ويدل لفرحه بذكر اسمه قوله في رواية هل ذكرني الله تعالى باسمي قال نعم فبكى وخصت السورة لأنها مع وجازتها جامعة لقواعد مهمة.

 

وحكمة الأَمر بالقراءَة تعليم التواضع للناس أن لا يتكبر أحد أن يقرأ عمن دونه وأيضاً أبى أسرع أخذا وحفظاً وضبطاً وتعليماً لغيره كما سمع فيؤدى مواضع الوقف والنغم وأيضاً يسن عرض القرآن على العالم الأَعلم ولو كان القراءَة هنا من الأَعلم وفي ذلك تفضيله في الأداء كما فضل زيدا في علم الإرث ولفظ البخاري أن ربى أمرني أن أقرئك القرآن والله المستعان وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وشفعه فينا.