سورة العلق مكية وآياتها 19

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)

{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } إلى قوله تعالى{ ما لم يعلم }[العلق: 5] وتأَخر ما بعد ذلك وذلك خمس آيات هن أول ما نزل وهن بمرة وشهر أنه غطه في غار حراءِ حتى بلغ الجهد فقال اقرأ فقال ما أنا بقارئ ثم غطه كذلك وفي الثالثة غطه وشهر أنه بلغ الجهد في الثالثة.

 

وفي البخاري ومسلم أنه بلغ الجهد في الثلاثة وقال اقرأ ولو كان أول ما نزل فاتحة الكتاب كما قيل لكان قوله ما أنا بقارئ كذباً وعناداً حاشاه عنهما ولو صح لقلنا إن الفاتحة أول ما نزل جملة أو أول ما نزل متتابعاً لم يفصله غيره أو أول ما نزل في رسالته المتأخرة عن نبوته بثلاث سنين كما قال جابر بن زيد رضي الله عنه أول ما نزل اقرأ ثم يا أيها المزمل ثم يا أيها المدثر ثم الفاتحة وقيل يا أيها المدثر قبل يا أيها المزمل.

 

وأول ما بدأ من الوحي الرؤيا الصادقة كفلق الصبح وحبب إليه الخلاء بغار حراءِ يتزود إليه لأَيام وأوحى إليه فيه فرجع إلى خديجة رضي الله عنها يرجف فقال إني خشيت على نفسي فقالت كلا إنك تصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الدهر.

 

فأَتت به ابن عمها ورقة بن نوفل بن أسد ابن عبد العزى كان كبير السن وعمى وتنصر وكتب من التوراة والإنجيل فقالت يا ابن عمى انظر ما يقول ابن أخيك فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما رأي فقال هذا مثل ما أوحى إلى موسى يا ليتني كنت شاباً إذا أخرجك قومك، قال: أو مخرجي هم قال نعم ما أتى أحد بمثلما أتيته إلاَّ عودي وإن أدركتني لأَنصرك نصراً شديداً.

 

وفتر الوحي حتى حزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يذهب إلى الجبل ليلقى نفسه وكلما فعل قال له جبريل وهو في صورته التي رآه عليها أنت رسول الله حقاً فيرجع، ومعنى يكسب المعدوم بضم الياءِ التحتية وضم الدال بعدها واو يجعل من لم يكن عنده شيءٍ كاسباً بأَن يعطيه، وانظر كيف يلقي نفسه من الجبل الجواب إنه يصير بصورة من يلقي نفسه في العاقبة بحسب الظن لشدَّة ولهه ولما مضت ثلاث سنين بعد قصة حراء جاءَه جبريل بها فمجيئه " فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءَني بحراء جالس على كرسي بين السماءِ والأرض فرعبت فقلت زملوني " فأَنزل الله تعالى{ يا أيها المدثر قم فأَنذر }[المدثر: 1 -2] إلى{ فاهجر }[المدثر: 5].

 

فالتزمل والتدثر في قصة واحدة أعنى أنه تلقيت واحد المفعول محذوف أي اقرأ ما يوحى إليك من القرآن وباسم ربك متعلق بكون خاص محذوف أي مقترناً باسم ربك أو مستعيناً باسمِ ربك على تلقى الوحي أو مبتدئا باسم ربك أو ملتبسا باسم ربك وذلك عموم في التذكير بأسماء الله بأَن يستصحبها وقيل المراد البسملة يقرأها أول كل سورة غير التوبة فعلى هذا نزلت هذه بلا بسملة ثم أنزلت أولها وأول كل سورة وقيل الباء صلة أي اقرأ باسم ربك.

 

وعن عكرمة والحسن وأول ما نزل بسم الله الرحمن الرحيم وأول سورة اقرأ وليس قول جبريل في حراء اقرأ تكليفاً بالمحال الذي لا يطاقَ لأَن المراد بقوله اقرأ استعد للقراءَة لما سأَلقيه عليك وهو قوله اقرأ باسم ربك والمراد اقرأ بلسانك لا ما قيل اقرأ هذا المكتوب مشيراً إلى كتابة في نمط من ديباج فيه اقرأ باسم إلى ما لم يعلم كما قيل وإن صح فليس المراد اقرأ من الكتابة بل من لسانك وكذا لا دليل فيه على تأخير البيان عن وقت الخطاب المعبر عنه بوقت الحاجة لما علمت أن المراد استعد للقراءَة.

 

{ الَّذِي خَلَقَ } نبهه بأَول النعم على قدرته تعالى على تعليم القرآن بأَلطف وجه أو باسم ربك الذي خلق لا بأسماءِ أرباب في زعم أصحابها التي لا تخلق وهي الأصنام فإنهم يسمونها أرباباً لكن يعتقدون أنها تخلق ولا مفعول له لأن المعنى الذي قدر على الخلق أو الذي له الخلق أو الذي من شأنه الخلق أو له مفعول خاص أي خلق الإنسان أو عام أي خلق كل شيءٍ ويكون قوله:

 

{ خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } ذكر للخاص لمزيته وشرفه بعد التعليق للقدرة والإمكان أو بعد الإبهام إن قدرنا خلق الإنسان أو بعد العموم الصالح بكل ما يمكن فإنه أشرف المخلوقات مع أن التنزيل إليه وفيه من بدائع الصنع ما ليس في غيره من الحيوانات ولا يخفي أن البيان بعد الإبهام أو الإجمال أدخل في النفس وفي الآية تلويح بأَن الإنسان خلق للقراءة والدراية إذ ذكر مع الأَمر بهما كما ذكر بذلك في قوله عز وجل{ الرحمن علم القرآن خلق الإنسان }[الرحمن: 1 - 3] وإن كل ما سوى الله وصفاته مخلوق حتى القرآن، والإنسان دون القرآن ولا مانع من ذكر خاص بعد إجمال أو إبهام شامل لخاص مثله أو أفضل نحو مات المؤمنون حتى أبو بكر فإن في الناس من هو فوق أبى بكر.

 

والعلق الدم الجامد خص هذا الطور دون النطفة والمضغة وما بعدها للفاصلة وإلاَّ فالخلق من التراب والنطفة أدل على القدرة لأنهما أبعد من الإنسانية ولا يقال لم يذكر مادة الأَصل الذي هو آدم وهي التراب لأن خلقه من ذلك لم يكن متقرراً عند الكفار فذكر مادة الفرع وهي العلقة تقريباً لإفهامهم لأَنا نقول قد ذكر في غير موضع أنكم خلقتم من تراب أي بواسطة خلق أبيكم منه إلاَّ أن يقال خلقتم مما هو من تراب وهو الطعام وأيضاً قد يقال بإذا لم يقرب إلى أفهامهم خلقه من نطفة أو مضغة وقد يقال العلقة أقرب إلى اللحم وتوجد في اللحم فهي أولى من النطفة وأسبق من المضغة فبدأ بها للبيان أو خص ذكر العلقة تذكيراً للعلقة التي أخرجت منه عند شق صدره - صلى الله عليه وسلم - ليتهيأَ لهذه القراءَة وتوابعها علماً وعملاً.

 

اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)

{ اقرَأْ } توكيد للأَول أي افعل ما أُمرت به من القراءَة وتمهيد لقوله:

 

{ ورَبُّكَ الأَكْرَمُ } وقيل اقرأ الأول أمر بالقراءة لنفسه والثاني أمر بالتبليغ أو بالقراءَة في الصلاة لذكره بعد، وقيل بسم الله متعلق باقرأ بالأول وباسم ربك متعلق بالثاني والتقديم فيهما للتخصيص، وقيل اقرأ الأول لا يتعلق به شيء معناه إحداث القراءَة والثاني يتعلق به باسم ربك، وتقدير الفعل هنا أولى لأَن القراءَة لهم لأَن السورة أول ما نزل على ما مر وأيضاً إذا كان المعنى كما قال قتادة اقرأ مفتتحاً باسم ربك أي قل بسم الله الرحمن الرحيم ثم اقرأ لم يخف أن تقديم الفعل أولى ولو لم تكن السورة أول ما نزل وأجاب من علق باسم ربك بالثاني بأَن الأَمر بالقراءَة قد مر ويبحث بأن المقام مقام التأكيد القراءَة فينبغي تقديمها مرتين.

 

وجملة ربك الأَكرم حال من ضمير اقرأ أو معطوفة عطف اسمية خبرية على فعلية إنشائية أي ربك أعظم كرماً من غيره أو هو الكريم دون غيره بالنسبة لكرمه ومن كرمه أن يجازى بالحسنة عشراً فصاعداً وأن يقدرك على القراءَة من اللسان ولو كنت أُمياً، وقلت لجبريل ما أنا بقارئ، ويقال الكريم يعطى بلا عوض وطاعة المطيع ليست عوضاً لأَن الله لا يحتاج إليها بل هي بكرم الله تعالى إذ وفقه إليها وقبلها ويقال الأكرم الذي له الابتداء في كل يوم، وقيل الحليم عن جهل العباد.

 

الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)

{ الَّذِي عَلَّمَ } الناس والملائكة ومن شاءَ الله ما شاء تعليمه فحذف المفعولين للتعميم في علومه ومن يتعلم إلاَّ أن علم المخلوقات كلها أقل من نقطة من البحر وهو تعالى يعلم نبيه.. صلى الله عليه وسلم - مالا تحيط به العقول.

 

{ بِالْقَلَمِ } بواسطة القلم والمعلم هو لا غيره فإن قوله ربك الأَكرم إلخ حصر وكما علم غيرك بالقلم يعلمك بلا قلم وقدر بعضهم ثاني مفعولي علم متعلقاً للباء أي علم الناس والجن والملائكة الخط بالقلم وما تقدم أولى وهو تعليقها بعلم لكن قراءَة عبد الله بن الزبير علم الخط بالقلم يدل على تعليقها بالخط المحذوف سواء قرأ بذلك قراءَة تلاوة وهو الواضح أو قراءَة تفسير وأمر الدنيا والدين والآخرة مبنى على القلم تكتب به كتب الله والأخبار والديون وكل ما يراد أن لا ينسى وهو نائب عن اللسان والقلب ولا ينوبان عنه وقدر بعض هنا علم بالقلم كل نبي غيرك يا محمد، وعن الضحاك علم إدريس بالقلم وأنه أول من كتب، وقال كعب: علم آدم بالقلم والله أعلم.

 

عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)

{ عَلَّمَ } متعد لاثنين فقط لأَنه بمعنى عرف بشد الراءِ { الإنسَانَ } بالقلم وبغير القلم.

 

{ مَا لَمْ يَعْلَمْ } من الجزئيات والكليات من العلم والهدى والبيان، ويقال علم آدم الأَسماءَ كلها وقيل محمداً - صلى الله عليه وسلم - على أن لا قصد للعلم في علم الثاني إلاَّ بقصد كتابة إسرافيل من اللوح المحفوظ، والجملة بدل اشتمال من علم بالقلم.

 

كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6)

{ كلاَّ } ردع عن المحرمات مطلقاً وهكذا إذا لم تجد ما يردع عنه في المقام أو قل كلا بمعنى حقاً أي حق ما ذكر أو ما يذكر بعد وإن شئت فقدر علم الإنسان ما لم يعلم ليتوصل بالتعليم إلى العمل ويشكر نعمة التعليم وغيره فخالف ذلك كلا عن تلك المخالفة، وقد يصح الردع عن كفر النعم بدون هذا التقدير لتقدم ذكر النعم من أول السورة إلى ما لم يعلم، ويجوز أن يكون الردع عما بعد.

 

{ إنَّ الإنْسَانَ } الكافر مطلقاً ولو كان بسبب نزول هذا وما بعده إلى آخر السورة أبا جهل لعنه الله، وقيل هو المقصود في الآية وغيره يلحق به إلحاقاً.

 

{ ليَطْغَى } يجاوز الحد في المعصية واتباع المستلذات للنفس، وقال الكلبي ليرتفع عن منزلة إلى منزلة في اللباس والطعام وغيرهما ويبحث بأن المتبادر أن تفسير الطغيان بالمعاصي أو بها مع ما ذكر من الإسراف في اللذات.

أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7)

{ أن رَآهُ اسْتَغْنَى } لأَن رأي نفسه استغنى وهذا من عمل الفعل في ضميرين متصلين لمسمى واحد لجوازه في فقد وعدم ورأي الحلمية ورأي البصرية وباب ظن وعلم وباب أعلم وأرى ولا يجوز في غير ذلك، وهكذا أطلقوا وليس كذلك فإنه إِذا كان أحدهما بحرف جر يجوز قياساً مطلقاً نحو فصرهنَّ إليك واضمم إليك ويدنين عليهن وهو في القرآن كثير والتقدير لأَن رآه استغنى فحذف حرف التعليل ولا نعرف أنه يقال في مثل هذا أنه مفعول من أجله اصطلاحاً بل في تأويل مصدر مجرور أو منصوب على نزع الجار بتعليق الطغيان بالاستغناء كقوله تعالى{ ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض }[الشورى: 27] لكن علقه برؤية الاستغناءِ لأَن مدار طغيانه اعتقاده الفاسد على أن الرؤية علمية ومجرد رؤيته ظاهر حاله من غير تأَمل على أنها علمية.

 

والمراد بالاستغناءِ بالمال كالآية المذكورة وقيل استغناؤه عن الله بماله وجاهه وقومه وليس كذلك ولا سيما أنه ينافيه ما روى أن أبا جهل قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتزعم أن من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة ذهباً وفضة لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك فنزل جبريل عليه السلام فقال إن شئت فعلنا ذلك ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأَصحاب المائدة فكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدعاءِ عليهم.

إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهي (9)

{ إنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى } للحساب الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالخطاب قبل وبعد، وقيل للإِنسان بعد الغيبة تشديداً عليه والمراد على القولين جميعاً تهديد الطاغي والتقديم للفاصلة والحصر أي أن إلى ربك وحده لا لغيره ولا له مع غيره الرجوع للجزاءِ، فترى ما يفعل بمن طغى وذلك متضمن أيضاً للتسلية وفي ضمنه التحذير عن حب المال بل قيل ذمه في الآيات قبلها ومدح العلم وذكر بعض طغيانه في قوله تعالى:

 

{ أرَأيْت الَّذِي يَنْهي } عن الصلاة ودخل في ذلك كل من ينهي عن العبادة كمن ينهي عن الصلاة والسلام على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - عند سماعه في مجلس قراءَة القرآن ولو بصوت خفي وذلك في النهي الباطل وأما النهي الحق فلا دخل في ذلك كالنهي عن الصلاة في الأَوقات المكروهة ونهي الزوج زوجه عن صلاتها النفل وصوم النفل ونهي السيد عبده عن ذلك فإن ذلك مشروع.

عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)

{ عَبْداً } التنكير للتعظيم أي من هو عظيم العبودية لله تعالى منقاد له تعالى انقياد عظيماً.

 

{ إذَا صَلَّى } الناهي أبو جهل والعبد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلف باللات والعزى لئن رأيت محمداً يصلى بين أظهركم- هذا لفظ مسلم ولفظ البخاري- عند البيت، ليطأَن رقبته وليعفرن وجهه فجاءَ لذلك ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى فرجع ينكص ويتقى بيديه فقيل له فقال إن بيني وبينه خندقاً من نار وهولا وأجنحة وفحلا فاغراً فاه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو دنا منى لاختطفته الملائكة عضواً عضواً فنزلت: كلا إن للإنسان ليطغى إلى آخر السورة.

 

والصلاة المذكورة في الآية مطلقة لأن المراد بنهيه لعنه الله النهي عن الصلاة صراحاً بلسان وضمناً كهذه القصة فالنهي بمعنى مطلق المنع ثم رأيت عن ابن عباس كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلى فجاءَ أبو جهل لعنه الله فقال ألم أنهك عن هذا أي عن هذا الأَمر أو عن هذا الفعل وهو الصلاة فقد تكرر النهي كما هو ظاهر قوله تعالى { ينهي عبداً إذا صلى } بصيغة التجدد وهو ينهي ولا سيما مع إذا.

 

وقيل الصلاة صلاة الظهر وأنها المراد والمراد نهيه عنها كما في غير موضع من القرآن يكون الفعل مرة واحدة قد مضى ويعبر عنه بمضارع أو ماض مع إذا كأَنه لما فتح باب الفعل كان مكرراً له ولو فعله مرة أو يكون التعبير بما يفيد الاستقبال لاستحضار الصورة الماضية لنوع عرابة كذا قيل وحاصله أن المضارع لصورة الحال بالتأويل وليس كذلك، فإن استقبال إذا ينافي الحال وقد قيل إن الصلاة صلاة الظهر كانت بجماعة وهي أول جماعة أقيمت في الإسلام ومعه أبو بكر وعلى ومر أبو طالب وابنه جعفر فقال لجعفر صل جناح ابن عمك وانصرف مسروراً قائلاً:

 

إن عليا وجعفرا ثقتي     عند ملم الزمان والكرب

والله لا أخذل النبي ولا     يخذله من كان في حسبي

 لا تخذلا وانصرا ابن عمكما     أخي لأمي من بينهم وأبى

 

ولعل هذا موضوع كيف يقول أبو طالب إن محمداً نبي إلاَّ أنه يمكن أن ينطق بذلك ولا يعتمده ويفعل بأَمر الشرك وأيضاً فرضت الصلوات الخمس في الإسراءِ وهو قبل الهجرة بسنة أو بسنة وثلاثة أشهر وخمسة أشهر وموت أبى طالب قبلها بثلاث سنين وقبل موت خديجة بثلاثة أيام وقيل بخمسة وموتها بعد البعثة بعشر سنين إلاَّ أنه روي عن الزهري أن الهجرة بعد البعثة بخمس سنين فيكون أبو طالب مدركاً لذلك إلاّ أن ما روي عن الزهري غير مسلم.

 

ولما نهى أبو جهل النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله عن الصلاة نهره النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أتنهرني فوالله لأَملأَن عليك الوادي إن شئت خيلا جرداً ورجالاً مردا والله إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، وقال الحسن الناهي هو أمية بن خلف والعبد سلمان وفيه أن السورة مكية على الصحيح وإسلام سلمان بعد الهجرة.

 

وإذا كان الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - فالأصل أرأيت الذي ينهاك إذا صليت لكن عبر بالعبد تعظيماً له - صلى الله عليه وسلم - بأنه حقق نفسه لله تعالى اعتقاداً وعملاً ولم يقل بدله نبياً مجتبى إرخاء للعنان والضمائر في ينهي وكذب وتولى وما بعد ذلك للناهي والرؤية علمية ومعنى أرأيت أخبرني وقيل الخطاب لمن يصلح له عموماً بدلياً وقيل للإنسان كالخطاب في إلى ربك والمفعول الثاني محذوف أي أرأيت الذي ينهي عبداً إذا صلى ألم يعلم بأَن الله يرى وقيل هذه الرؤية بصرية لها مفعول واحد.

 

أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11)

{ أَرَأْيتَ إنْ كَانَ } العبد المصلى { عَلى الْهُدَى } ذلك العبد المصلى الناس.

 

أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)

{ أوْ أمَرَ بِالْتَّقوَى } الحذر عن المعاصي { أرَأيْتَ إنْ كَذَّبَ } ذلك الناهي الحق.

 

{ وَتَوَّلَّى } أعرض عنه { ألَمْ يَعْلَم } ذلك الناهي.

 

{ بَأَنَّ اللهَ يَرَى } يعلم أفعاله وما في قلبه والمفعول الأَول لرأيت في الموضعين محذوف أي أرأيته عائد إلى الناهي والمفعول الثاني لرأيت الثاني محذوف أي أرأيته ألم يعلم بأن الله يرى، وقوله ألم يعلم بأن الله يرى مفعول ثان لرأيت الثالث وليس ذلك تنازعاً في ألم يعلم لأَنه لا يقع في الجمل بل من باب الحذف لدليل بل من باب الاستغناءِ بالقصد عن تقدير لفظ ولما كانت الرؤية البصرية سبباً للعلم عبر بها عن العلم فأجرى الاستفهام عنها مجرى الاستفهام عن متعلقها وجواب أن محذوف في الموضعين لدلالة ألم يعلم أو يدل عليه أرأيت كأنه قيل أرأيت الذي ينهي العبد المصلى والمنهي عن الهدى وأمر بالتقوى والناهي مكذب متول فما أعجب من ذا وقوله وما أعجب من ذا جواب واو تقسيمية بمعنى الواو.

 

وذكر بعض أن أرأيت الثاني للكافر والثالث للنبي أو كلاهما للإنسان وقدر بعض أرأيت الذي ينهي عبداً إذا صلى أو أمر بالتقوى لدلالة ما بعده ولم يعكس لأَن الأَمر بالتقوى دعوة قولية والصلاة دعوى فعليه والفعل أقوى من القول لأَنه إِنفاذ فهو قول وفعل والقول إنما هو ليفعل المقول ولو كان القول أقوى في الاقتداء، وقيل أرأيت إن كان الناهي عن الصلاة إن كان على الهدى بأن يؤمن ويترك النهي عن الصلاة أو أمر ذلك الناهي الناس بالتقوى أي بترك الشرك أرأيت أيها الإنسان أو النبي إن كذب ذلك الناهي وتولى.

 

وقيل أرأيت الذي ينهي عبداً إذا صلى إما بمعنى ينهي عن الصلاة أو عنها وعن غيرها مما يناسب الصلاة أو عن غيرها في حال صلاة العبد، ورأي عليُّ قوماً يصلون صلاة العيد فقيل له ألاَ تنهاهم فقال لا لئلا أدخل في قوله تعالى{ أرأيت الذي ينهي عبداً إذا صلى }[العلق: 9 - 10] ولكن أحدثهم بما رأيت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد التأدب ولو كان يقول لا تصلوا قبل صلاة العيد بزيادة ذكر قبل صلاة العيد وقيل إن كان لي طريقة سديدة فيما ينهي عنه من عبادة الله تعالى أو كان قد أمر بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأَوثان كما يزعم وإن كان مكذباً للحق متولياً عن الصواب كما نقول.

 

كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15)

{ كَلاَّ } ردع للناهي { لَئِن لَّمْ يَنتَهِ } عما هو عليه.

 

{ لَنَسْفَعاً } لنأَخذن أخذاً عنيفاً.

 

{ بِالنَّاصِيَةِ } شعر مقدم رأسه ويطلق أيضاً على مقدم الرأس بلا قيد شعر وال للعهد لأن ذكر الناهي لجميع أجزائه حتى كأَنه عهد حضور أو يقدر بالناصية منه ومنه حال أو ال عوض عن الضمير يجيد ويسحب إلى النار يوم القيامة أو يجيد من مصرعه إلى حيث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بدر كما روي أنه لما نزلت سورة الرحمن قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يقرأها على رؤساء قريش؟

 

فقال ابن مسعود رضي الله عنه أنا فلم يأذن له وقال أيضاً فقال ابن مسعود أنا وقال فقال أنا فقرأها عليهم حول الكعبة فلطمه أبو جهل وشق أذنه وأدماه لضعفه وصغر جثته فرجع وعيناه تدمعان فنزل جبريل عليه السلام ضاحكاً فقال - صلى الله عليه وسلم - لم الضحك فقال ستعلم فلما كان بدر قال - صلى الله عليه وسلم - التمسوا أبا جهل فوجده ابن مسعود يخور فارتقى على صدره ففتح عينيه فعرفه فقال لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم.

 

فقال ابن مسعود الإسلام يعلو ولا يعلى عليه فعالج قطع رأسه فقال اقطعه بسيفي وقطعه ولم يقدر على حمله فثقب أذنه وجره بخيط فيه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءَ جبريل يضحك ويقول يا رسول الله أذن بأذن والرأس زيادة.

 

وذكر ضعف ابن مسعود وصغر جثته ليس غيبة لأَنا لم نرد به نقصاً ولا مسلم ينقصه بذلك بل لنا الأَجر لأَن قصدنا حكاية ما في العلم ولعله ازداد ضعفاً لهول الحرب والجوع والعطش وغلظ رأس اللعين ولمغفر عليه وخص الله تعالى السحب بالناصية لزيادة الإهانة إذ يفعل ذلك بالبهيمة وهو غاية الإذلال عند العرب ولأنه كان شديد الاهتمام بترجيلها وتطييبها والألف في الخط بدل من نون التوكيد الخفيفة فيه لأَنه يوقف عليها بإبدالها ألفً والباءِ للإلصاق أو لمعنى نجره بها.

نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)

{ نَاصِيةٍ } بدل من الناصية لجواز إبدال النكرة المخصصة بنعت كما هنا أو بإضافة لنكرة أو بتعليق ظرف فيها من المعرفة.

 

{ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } أسند الكذب إليها تجوزا بإسناد ما للكل للجزءِ حتى كان كل جزءِ منه يكذب ويخطأُ.

فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17)

أي أهل مجلسه من قرابته وأعوانه وعشيرته ممن ينتصر به والنادي المجلس بشرط أن يكون أهله فيه.

سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)

{ سَنَدْعُ } حذف الواو في الخط كما حذف في النطق وهكذا في القرآن مواضع تراعى فيها المناسبة والوقف عليه بإسكان العين وبذا أخذت ومنهم من يقول برد الواو وزعم بعض أنه مجزوم في جواب الأمر بحذف الواو وهو باطل إذ لم يوجد مضارع مجزوم بعد السين أو سوف.

 

{ الزَّبَانِيَةَ } ملائكة عذاب النار يدعوهم الله ليجروه إلى النار قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله " لو دعا ناديه لاختطفته زبانية الله عز وجل " ، رواه الترمذي عن ابن عباس، والمراد بالترمذي عند الإطلاق صاحب الصحيح المعروف وإذا أريد الآخر قيل الترمذي الحكيم وأصله أعوان الولاة وأصله الزاي والباء والنون، والزبن الدفع والمفرد زبني بكسر الزاي ينسب إلى الزبن بفتحها أي الدفع والأصل زباني بشد الياءِ خفف بحذف الأخيرة وعوض عنها التاءِ والملائكة تدفع الكفار إلى النار وفي النار وقيل المفرد زابن على خلاف القياس، وقيل لا مفرد له كعباديد وقيل واحدة زبنيت كعفريت.

 

كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)

{ كَلاَّ } ردع آخر للناهي أو نهي له - صلى الله عليه وسلم - ولكل من يصلح عن اتباعه.

 

{ لاَ تُطِعْهُ } في ترك الصلاة أو غيرها من الحق بل دُم على ما أنت عليه وزد.

 

{ وَاسْجُدْ } دم على السجود وزد سجود صلاة وعبادة وتلاوة أو صل وزد فذكر الصلاة بجزئها الأَعظم وجاءَ أن " أقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجداً " وجاءَ " عليك بكثرة السجود فإنك لا تسجد لله تعالى سجدة إلاَّ رفعك الله درجة وحط بها عنك خطيئة " ، وفي البخاري ومسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - سجد في سورة الانشقاق وسورة اقرأ وهما من عزائم السجود عند الإمام على وكان مالك يسجد هنا ولا يأمر به.

 

{ وَاقْتَرِبَ } إلى رضا ربك بالسجود ومداومته فإنه أقرب ما يكون العبد، وعن على الخواص عنه - صلى الله عليه وسلم - أقرب ما يكون أحدكم منى إذا ذكرني وصلى علي قال رويته عن بعض العارفين عن الخضر عليه السلام عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الخواص هو في أعلى درجات الصحة وإن لم يثبته المحدثون على اصطلاحهم.

 

وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام يا موسى أتريد أن أكون أقرب إليك من كلامك إلى لسانك ومن وسواس قلبك إلى قلبك ومن روحك إلى بدنك ومن نور بصرك إلى عينيك قال نعم يا رب قال أكثر الصلاة على محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وقد صلى الله عليه هو وملائكته وأمر المؤمنين بالصلاة والتسليم عليه - صلى الله عليه وسلم - فوجبت محبة محبوب الله تعالى والتقرب إلى الله تعالى بمحبته وتعظيمه والصلاة والسلام والاقتداء بالله تعالى وملائكته ولفظ مسلم " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاءِ " والله الموفق وصلى الله عليه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.