بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3)

 

{ هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ } أي قصتها وهل للاستفهام التعجيبي التشويقي إلى جوابه كما إذا أردت إخبار أحد بأَمر عجيب فقلت هل علمت ما وقع ليقول لا فتخبره به ومر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة تقرأ هل أتاك حديث الغاشية فأَقام يستمع لها ويقول نعم قد جاءَني وذلك أنه استمع لها بعد نزول ما بعد هذا وفي قوله نعم إخبار بأن هل استفهام لا بمعنى قد كما قال قطرب وذلك كما يقول الرجل هل قام زيد فتقول نعم قام وفي الحديث جواز استماع كلام المرأة الأجنبية إذا لم تكن الريبة.

 

والغاشية القيامة تغشى الناس بأَهوالها كثوب غطى أحداً لا النار كما قال محمد بن كعب، وقوله عز وجل ومن فوقهم غواش وإنما قلت ذلك لاشتمال جواب هذا الاستفهام على أحوال أهل الجنة أيضاً اللهم إلا أن يقال هذا من الأَجوبة المشتملة على الزيادة على السؤال كقوله تعالى { هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها.. }[طه: 18] الخ إلاَّ أن الأصل عدم الزيادة وكأنه - صلى الله عليه وسلم - قال لم يأتني كما قال ابن عباس أو اعتبر أنه سكت فأَخبره الله تعالى بحديثها في قوله:

 

{ وُجُوهٌ } الخ وقدم ذكر أهل النار لأَنه أدخل في تهويل الغاشية ولأَن ذكر حسن أهل الجنة بعد سواد أهل النار يزيد حسناً وبهجة ويقدر مضاف أي أصحاب وجوه لأَن العامل الناصب هو الكافر لا خصوص وجهه أو سمى الكل باسم الجزءِ أو ترد الضمائر كلها للوجوه ومثل هذا الاستفهام التعجبي وجوابه يقع ولو مع علم المسئول إلهابا له على التعجب وليسمع ما لم يعلم وهو مبتدأ للتنويع وخاشعة وعاملة وناصبة أخبار ثلاثة.

 

أو خاشعة نعت وما بعده خبران أو خاشعة عاملة نعتان وناصبة خبر أو كلها نعوت وتصلى ناراً خبر { يَوْمَئِذٍ } يوم إذ غشيت متعلق بقوله { خَاشِعَةٌ } لا نعت لأَنه لا يخبر عن الذات ولا توصف بالزمان إلاَّ إن أفاد وكذا الحال به والخشوع ذل القلب لكن وصفت به الوجوه لظهور أثره عليها وكذا وصف الإنسان به كما قيل التقدير أصحاب وجوه قال الله تعالى { خاشعين من الذل }[الشورى: 45].

 

وقيل وصف الإنسان بالذل حقيقة وفي التعبير بالخشوع والعمل والنصب تلويح بأَنها لم تخشع لله تعالى في الدنيا ولم تعمل له ولم تتعب وقت ينفع الخشوع والعمل والنصب { عَامِلَةٌ } تجر السلاسل والأَغلال وتصعد في جبالها من حديد وتهبط جزاء على التكبر في الدنيا عن عمل الطاعة لله عز وجل { نَّاصِبَةٌ } تعبة بتلك الأعمال عقاباً على عملها ونصبها في الدنيا لما هو معصية وذلك كعبادة الأَصنام وعبادة أهل الكتاب رهبانهم واشتغالهم عن الفرض وصدهم عن الدين.

 

وعن زيد بن أسلم الخشوع يوم القيامة والعمل والنصب في الدنيا أي عملت ونصبت في الدنيا بما لا ينفعها في الآخرة بل بما يهلكها، وهو رواية عن ابن عباس وكأَنه قيل خاشعة يوم القيامة عاملة في الدنيا ناصبة فيها وهو بعيد وأبعد منه قول عكرمة خاشعة يوم القيامة عاملة في الدنيا ناصبة يوم القيامة لجعل دنيوي بين أخرويين، والصواب جعل الكل في الآخر كما قال يومئذ فيومئذ منسحب على الثلاثة كأنه قيل خاشعة يومئذ عاملة يومئذ ناصبة يومئذ فحذف لدليل.

 

وقيل الثلاثة في الدنيا على معنى ظهر لهم يوم القيامة خشوعهم في الدنيا وعملهم فيها ونصبهم فيها على وجه غير نافع بل ضار وقد كانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعاً وهذا أبعد من القولين قبله وهؤلاء عباد اليهود والنصارى والعباد من أهل الضلال المماثلون لهم وفي الحديث " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " ، ويروى " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ".

 

تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً (4)

 

أي بالغة نهاية الحر لأَن مطلق الحر معلوم من لفظ نار وأيضاً يقال حميت النار اشتد حرها وازداد.

 

تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)

 

بلغت الأَني أي الغاية في الحرارة أوقدت عليها من حين خلقت أو وقعت قطرة منها على جبل لأَذابته يوردون عليها عطاشاً يظنون أنها ماءَ بعد أن يعطشوا ألف سنة كما قال الله تعالى { وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءَهم }[محمد: 15] وكقوله تعالى { وبين حميم آن }[الرحمن: 44] كما قال ابن عباس والحسن ومجاهد والجمهور وقيل حاضرة كقولك أنى الشيءَ أي حضر.

 

لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ (6)

 

الشبرق اليابس أو شجرة ذات شوك لاطئه بالأَرض أو نوع من الشوك ترعاه الإبل رطباً وإذا يبس صار سماً قاتلا تجتنبه أو ييبس العرفج إذا انحطم أو نبت كالعوسج أو نبت أخضر منتن الريح يرمى به الريح ينبت الله تعالى ذلك في النار كما جعل النار في الشجر الأَخضر لكمال قدرته أو ينبت الله عز وجل شجرة نارية على صورة ذلك ومضرته فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الضريع شيءٍ في النار شبه الشوك أمر من الصبر وانتن من الجيفة وأشد حراً من النار أو طعام يضرعون عنده ويذلون ويتضرعون إلى الله عز وجل أن يخلصهم منه فهو شجر أو غيره أو هو الزقوم كما روي عن الحسن.

 

أو حجارة في النار كما روي عن سعيد بن جبير أو واد فيها لا طعام لهم إلاَّ منه كما قال عز وجل { ولا طعام إلاَّ من غسلين }[الحاقة: 36] يسيل إليه صديد أهل النار يرسل الجوع عليهم حتى يعدل ما هم فيه من العذاب ثم يطعمون ذلك أو الضريع مجاز أو كناية عن طعام مكروه حتى لنحو الإبل الراعية للشوك أو المراد لإطعام البتة لأَن الضريع غير طعام كقولك ليس لفلان ظل إلا الشمس أي لا ظل له وكذا في قوله عز وجل { ولا طعام إلاَّ من غسلين }[الحاقة: 36] أي لا طعام لهم.

 

وقوله تعالى { إن شجرة الزقوم طعام الأَثيم }[الدخان: 43 - 44] أي لا طعام لهم فيجمع بهذا بين الآي فلا مخالفة بالحصر وعلى فرض التخالف فالمراد منهم أكلة الزقوم فقط ومنهم أكلة الغسلين فقط ومنهم أكلة الضريع فقط وقيل هن شيءٍ واحد له أسماءِ شجرة الزقوم وغسلين وضريع.

 

لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ (7)

 

{ لاَّ يُسْمِنُ } لا يجعل الإنسان سميناً { وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ } لا يكفي في دفع شيءٍ من جوع ما، أو لا يدفع شيئاً من جوع والجملة نعت لضريع والمستثنى محذوف أي ليس لهم طعام من شيءٍ إلاَّ من ضريع فالاستثناء مفرغ أو نعت لطعام محذوف منعوت بقوله تعالى من ضريع فالمستثنى منه مذكور والاستثناءِ غير مفرغ أي ليس لهم طعام إلاَّ طعام من ضريع والأَول أولى ولا يحسن جعلها مستأنفة اللهم إلاَّ أن يقال استئنافاً بيانياً كأَنه قيل فهل ينتفعون بذلك الضريع فقال لا منفعة فيه من منفعتي الغداءِ إماطة الجوع وإفادة القوة والسمن بل هو طعام يتضرع إلى الله تعالى في زواله لما سمع الكفار صدر الآية قالوا إن الضريع تسمن عليه إبلنا فنزل لا يسمن..الخ إما أن يقصدوا الكذب فإن الضريع سم، قال أبو ذؤيب

 

رعى الشبرق الريان حتى إذا دوى     وصار ضريعاً بأَن عنه النمائص

 

وقال رجل من هذيل يذكر سوءً المرعى:

 

وحبسن في هزم الضريع فكلها     جدباءِ دامية اليدين حرود

 

وإِما أن يصدقوا ويريدوا الضريع باعتباره قبل اليبس فيرد الله تعالى عليهم بأَن ضريع النار ليس كضريعكم ثم إن التخلي قبل التحلي فلم أخر نفي الجوع مع أنه تخل، الجواب أنه قدم السمن لأَنهم قالوا تسمن عليه الإِبل وأخر الجوع للفاصلة أو قدم السمن نفياً فيظنوا أنها تغنى من جوع فيزول هذا الظن بقوله ولا يغنى من جوع وذلك أشد لأَنه إزالة طمع بعد التوجه إليه والآية تدل أن لأَهل النار اشتياقاً للشراب والطعام فعذبوا بالعطش والجوع كما عذبوا بالنار والضرب والزمهرير، والقرآن والحديث يدلان على ذلك ويصرحان به لا كما قيل أنهم يطلبون الطعام والشراب ليزيلوا به ما في بطونهم من النار كما اعتادوا في الدنيا إزالة الغصة بالماءِ.

 

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ (8) لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)

 

{ وُجُوهٌ } مبتدأ خبره ناعمة أو ناعمة نعت والخبر راضية أو راضية نعت والخبر في جنة على حد ما مر في وجوه يؤمئذ خاشعة ولم تعطف هذه الجملة على مقابلتها المذكورة لكمال التباين بينهما معنى.

 

{ يَوْمَئِذٍ } يوم إذ غشيت الغاشية متعلق بناعمة ويقدر مثله لما بعد { نَّاعِمةٌ } وضيئة مبتهجة عليها أثر سرور القلب وهو من النعومة تعرف وجوههم نضرة النعيم أو متنعمة وهو من النعيم { لِّسَعْيِهَا } بالعمل الصالح في الدنيا { رَاضِيةٌ } اللام للتقوية لضعف اسم الفاعل عن العمل بالنسبة للفعل ولضعفه بتقديم المعمول وقدم للفاصلة ولطريق الاهتمام وهو مفعول لراضية وراضية اسم فاعل أو اللام بمعنى الباءِ أو للتعليل كأَنه قيل راضية لا ساخطة لحسن سعيها وهو باق على المصدرية أو بمعنى مفعول.

 

قال سفيان الثوري رضيت عملها فجعلها مفعولاً به مضاها لسعيها كناية عن أنه محمود العاقبة مجازى بخير أو مجاز وأظهر من ذلك أنه على ظاهره من أنها أحبته ولم تكره كما يكره الكافر سعيه إِذا بعث وبعض قدر مضافاً أي لثواب سعيها والوجه لا يرضى بل صاحبه فيقدر مضاف أي أصحاب وجوه أو وجوه عبارة عن الناس تسمية للكل باسم الجزءَ أو ترد الضمائر في راضية وسعيها وتسمع لوجوه بمعنى أصحابها على الاستخدام وذلك في تسمع أن جعل غير خطاب.

 

فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10)

 

علواً حسياً إذ كانت تحت العرش أو علو شأن لعلوها الحسي وما فيها من غاية النعيم الدائم، ومن أجاز الجمع بين الحقيقة والمجاز أجازهما معاً.

 

لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً (11)

 

الجملة خبر ثان لجنة جار على غير ما هو له والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو لمن يصلح له أو في تسمع ضمير الوجوه والتاء للتأنيث والغيبة والضمير فيه للوجوه وأسند السمع المنفي للوجوه على التجوز أو لضمير الوجوه بمعنى أصحابها على الاستخدام - والجملة على هذين الوجهين نعت جنة كما علمت والرابط في ذلك هاءَ فيها ويضعف كونه نعتاً آخر لوجوه فيكون الرابط ضمير تسمع ضمير الغيبة ولاغية نفساً لاغية تنطق باللغو وهو ما يضر ولا نفع فيه أو لاغية للنسب أي نفساً تنسب للغو والتقدير على الوجهين لا تسمع فيها كلام لاغية أو لغو لاغية لانتفائها كقولك لا ترى في القرية ضبا ينحجر أو لا ترى فيها جحر ضب أي لا ضب فيها أو هو مصدر على وزن فاعلة كالعافية والعاقبة.

 

فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ (13)

 

{ فِيهَا عَيْنٌ } عظيمة تأتى على الأَجنة كلها أو عين كثيرة كما قيل في علمت نفس المراد عيون { جَارِيَةٌ } جار ماؤها وأسند الجرى إليها مبالغة واسم الفاعل هنا للاستمرار فلا ينقطع الجريان أو مطلق الجرى مأخوذ من لفظ عين فما زيد جارية إلا ليفيد الزيادة وهى عدم الانقطاع كما أنه لما أفاد لفظ نار الحرارة حمل حامية على معنى زائد هو بلوغ أنى الحرارة وهو غايتها أو جارية في غير أخدود أو جارية حيث شاءُوا { فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ } أي عالية في جهة الجو ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد فإِذا أراد أولى الله طلوعها اتضعت وتتضع أيضاً وهم فيها إذا شاءُوا وترتفع إذا شاءُوا أو عالية الشأن أو كل ذلك على حد ما مر أو مخبوءة لمن هي له كما تقول أكلوا ورفعت سهم زيد.

 

وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ (14)

 

{ وَأكْوَابٌ } قداح لا عروة لها ولا أذن { مَّوْضُوعَةٌ } بين أيديهم أو على حافات العين، قيل أو موضوعة عن حد الكبر إلى الوسط كما في قوله تعالى:{ قدَّروها تقديراً }[الإنسان: 16].

 

 وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)

 

{ وَنَمَارِقُ } وسائد جمع نمرقة أو نمرق بضم النون والراءِ فيهما أو بكسر النون والراءَ أو فتحهما والميم ساكنة { مَصْفُوفَةٌ } صف بعضها إلى بعض ليستند إليها أو يتكىء أو يجلس على واحدة ويستند أو يتكىء على الأُخرى وعلى رأسه وصائف كأَنهن الياقوت والمرجان.

 

وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)

 

{ وَزَرَابِيُّ } بسط فاخرة لها خمل رقيق مزينة ولا نسلم أن أصله ثياب محبرة واستعيرت للبسط والمفرد زريبة بصيغة النسب، وقيل نسب إلى موضع { مَبْثُوثَةٌ } مفرقة مبسوطة تلذيذ إلا عن أذى في أرض الجنة إذ لا أذى في الجنة والغاشية وما بعده إخبار بما يكون بالبعث فقرره الله تعالى رداً على منكريه بقوله تعالى:

 

{ أَفَلا يَنظُرٌونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } الخ وردَّ الاستغراب الكفار ما في السورة وذلك نظر تدبر واعتبار يتوصلون به إلى تصديق ما ذكر فالهمزة لإنكار لياقة تعجبهم والتوبيخ على إنكارهم ذلك والعطف بالفاءِ على محذوف أي أيهملون أنفسهم فلا ينظرون وجملة كيف خلقت مفعول لينظر علق عنها بالاستفهام وكيف حال من المستتر في خلقت.

 

وقيل الجملة بدل من الإبل إبدال جملة من مفرد نحو عرفت زيدا أبو من هو ولو كانت إلى لا تدخل على كيف ولا على الجملة لأَنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع لكن سماعاً لا قياساً لا حملاً على ما ورد من دخول إلى على كيف تبيع الأَحمرين.

 

ووجه التعجب من الإبل قدرة الله تعالى على خلقها في عظم جثتها وقوتها بحيث تحمل الأَشياء الثقيلة وتبرك بها وتقوم بها ولا يتوصل إلى إلقائها على ظهرها إذا كانت قائمة وتوصلها إلى الأَماكن البعيدة وهى سفن البر وتصبر على الجوع والعطش حتى أنها قد تبقى ثمانية أيام لا تشرب وقد تظمأ عشرا ويؤكل لحمها ويشرب لبنها ويلبس من وبرها وتتخذ منه فرش وما يشاءَ وهى زينة ومنفعة وترعى من أعلى الشجر وترعى ما تيسر من شوك وغيره ما لا ترعاه سائر البهائم وتنقاد للصغير والكبير في القطار والإنفراد ولها إصغاء إلى الصوت الحسن مع أن أكبادها غير رقيقة وتأكل النوى والقت.

 

والفيل ولو كان أعظم منها لكنه غير مألوف للعرب ولا فيه منافع الإبل ولا هو كثير ولا خير فيه ولا يحلب ولا يستعمل للركوب والحمل إلاَّ شاذاً أو بمشقة في تعليمه بخلاف الإبل فقد يسافر بها الواحد من العرب فإذا نظر إليها فكأَنه نظر إلى السماءِ وقد تكون سحابات فيها تشبه الإبل وتزجى كما تزجى الإبل وإذا رأي يميناً وشمالاً رأي الجبال وهى شبيهة بالإبل وإذا نظر أسفل رأي الأرض وأيضاً الإبل نفيس أموالهم ومدار السقي لهم على السماء ورعيهم في الأرض وحفظ مالهم بالجبال فذكر الإبل في ذلك والسماء والجبال والأرض في قوله تعالى:

 

{ وَإلَى السَّمَاءِ } يشاهدونها بمشاهدة نجومها وشمسها وقمرها ليلا ونهاراً أينما كانوا فهي فوقهم { كَيْفَ رُفِعَتُ } رفعاً بعيداً بلا عماد من تحتها ولا علاقة من فوقها، وقوله تعالى { بغير عمد }[الرعد: 2، لقمان: 10] يشمل العلاقة.

 

وَإِلَىٰ ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى ٱلأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)

 

{ وَإلَى الجِبَالِ } التي يشاهدونها في السفر وغيره وينتفعون بمائها وشجرها ويلتجئون إليها إذا خافوا { كَيْفَ نُصِبَتْ } وضعتَ على بعض انبساط ليمكن الارتقاءِ عليها ولا تميد { وَإِلَى الأَرْضِ } التي هم عليها مع مالهم وأحوالهم { كَيْفَ سُطِحَتْ } مهدت بتسوية كما ينتفعون بها ولو كانت كرية أوسعها.

 

قال ابن عباس يقول الله عز وجل هل يقدر أحد أن يخلق مثل الإبل أو يرفع مثل السماءِ أو ينصب مثل الجبال أو يسطح مثل الأرض غير الله عز وجل القادر على كل شيءٍ فهو قادر على البعث لقدرته على ذلك ويجوز أن يكون المعنى أن الإبل تطأ فيركبها راكب أو يحمل عليها فكذا سرر الجنة تتضع فيطلع عليها ونجوم السماءِ المرفوعة لا تدخل في الحساب فكذا أكواب الجنة والجبال منتصبة راسخة لا تميل فكذا النمارق والأَرض مبسوطة فكذا زرابى الجنة.

 

فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ (21)

 

{ فَذَكِّرْ } من أمكنك تذكيره أي اقتصر على التذكير بسبب أنهم لا ينظرون في ذلك نظر تدبر ولا يهمنك أمرهم فتلح عليهم { إنَّمَا أنتَ مُذَكِّرٌ } لأَنك ما أنتَ إلاَّ مذكر ما أرسلت إلاَّ بمجرد التذكير.

 

لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22)

 

{ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } برقيب تجبرهم على الإيمان وما أنت عليهم بجبار وعليهم متعلق بمصيطر، قدم بطريق الاهتمام وللفاصلة وصطر عليه سلط ووزنه مفيعل فالزائد الميم والياءِ.

 

إِلاَّ مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ ٱللَّهُ ٱلْعَذَابَ ٱلأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ (25)

 

{ إِلاَّ مَن تَوَلَّى } أعرض عن التدبر ولم يستعمله أي دام على التولي والكفر كما قال تعالى { وَكَفَرَ } لأَنه لم يتدبر فيؤمن والاستثناء منقطع ويدل على الانقطاع قراءَة ابن عباس وزيد بن على إِلاَّ بفتح الهمزة وتخفيف اللام وهي حرف استفتاح ومن في محل نصب على الاستثناءِ لا مبتدأ خبره قوله:

 

{ فَيُعُذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ } لأَن إِلاَّ في غير التفريغ لا تدخل على الجمل بل فيعذبه تقرير للاستثناءِ وقيل إِلاَّ قد تدخل على الجملة فتكون من موصولة مبتدأ خبره يعذبه الله... الخ ولشبهه باسم الشرط فالعموم قرن خبره بالفاءِ وليست شرطية وإِلاَّ سقطت الفاءِ وجزم لأَنه يصلح أن يكون شرطاً إِلاَّ أن يقدر فهو يعذبه أو فقد يعذبه كما في قوله تعالى { فينتقم الله منه }[المائدة: 95] والمحذوف ولو كان خلاف الأَصل لكن يقابل بأَن الأَصل عدم زيادة الفاءِ وعدم التشبيه مع إِمكان المشبه به.

 

ويجوز أن يكون الاستثناءِ متصلاً من هاءِ عليهم أي ليست عليهم بمصيطر إِلاَّ من دام على توليه وكفر فإِنك مسلط عليهم بالقتل والسبي والأسر وهذا عذاب في الدنيا وهو أصغر ولهم العذاب الأَكبر في الآخرة بالنار وفيه أن السورة مكية الجواب أن ذلك يكون لك بعد.

 

وقيل العذاب الأَكبر القتل والأَصغر ما دونه في الدنيا فهو تهديد لهم وأما عذاب الآخرة ففي الآي الآخر والصحيح أن العذاب الأكبر عذاب الآخرة والأَصغر كل عذاب في الدنيا ويدل له التعليل بقوله تعالى:

 

{ إِنَّ إِلَيْنَا } لا إِلى غيرنا ولا مع غيرنا { إِيَابَهُمْ } رجوعهم بالإِحياءِ بعد الموت للحساب وضمير الجماعة نظر إِلى معنى من والإِفراد قبل نظر إلى لفظه والأَصل إِوابهم قلبت الواو ياءَ للكسر قبلها والوقف على كفر جائز وأخطأَ من منعه وهلك من حكم بكفر الواقف عليه لأَن الوقف عليه لا يوهم محرماً وأي تحريم في أنه مسلط عليهم بالقتل وغيره قبل القيامة ثم إِن وهم ما لا يجوز يهمه الجاهل وقف عليه أو لم يقف أو سمع الوصل أو الوقف.

 

ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)

 

{ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم } أي حساباً أكيداً لا بد منه ولذلك عبر بصورة الوجوب وهى على وثم لتراخى الرتبة فإِن العذاب المعبر عنه بالحساب أشد من العذاب أو الحساب على ظاهره من إِحضار أعمالهم وعددها للتوبيخ أشد من البعث، اللهم باسم الأَعظم عندك حاسبنا حساباً يسيراً وصل وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه.