بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ (1)

 

الأثنى عشر المعروفة في فن الفلك المشبهة بالقصور لظهورها ولنزول النجوم فيها كما ينزل الإنسان في قصره وأصل البرج الظهور كما سميت التي تظهر زينتها متبرجة فالبروج في الآية استعارة تصريحية ولا مكنية معها أو شبه السماءِ بالمدينة أو سورها ورمز إلى ذلك بذكر لازم المدينة أو السور وهو البروج فذلك استعارة مكنية وإثبات البروج تخييل باق على أصله أو لفظ البروج استعارة وتلك البروج منازل القمر إذ قسمت إلى ثمانٍ وعشرين منزلة والبروج الاثنا عشر:

 

الحمل وهو الكبش والثور والجوزاءِ والسرطان والأَسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت كل برج ثلاثون درجة والدرجة ستون دقيقة والدقيقة ستون ثانية والثانية ستون ثالثة وكذا إلى العاشرة ولكل برج منزلتان وثلث وأيامه ثلاثون وعشر ساعات ونصف؛ وفلك البروج هو الثامن وعليه الكواكب الثوابت وهو فلك الأفلاك السبعة تحته فلك زحل ثم فلك المشترى ثم فلك القمر ثم فلك الشمس ثم فلك الزهرة ثم فلك عطارد ثم فلك القمر وكل ما كان فوق الشمس فهو أبطأ من الشمس وكل ما تحتها أسرع منها وهى الوسطى فوقها ثلاثة وتحتها ثلاثة.

 

وأسرع الكواكب القمر وأسرع سير زحل تسع دقائق في كل يوم وليلة وأوسطه خمس وأقله أربع ويكون مستقيم السير ثمانية أشهر وثمانية أيام يقطع في هذه المدة تسع عشرة درجة ويكون راجعاً أربعة أشهر وثمانية وعشرين يوماً، ويقطع في كل رجوعه سبع درجات يقيم في برج ثلاثين شهراً وقيل أحداً وثلاثين.

 

وأسرع سير المشترى في اليوم والليلة ثلاث عشرة دقيقة وأوسطه إحدى عشرة دقيقة وأقله تسع ويكون مستقيم السر سبعة أشهر ويومين ويقطع في استقامته عشر درجات ويسير راجعاً أربعة أشهر يقطع فيها درجتين يقيم في كل برج سنة.

 

وأسرع سير المريخ ثلاث وعشرون دقيقة وأوسطه خمس عشرة دقيقة وأقله عشر دقائق ويكون مستقيم السير أحد عشر شهراً يقطع فيها ثلاث عشرة درجة ثم يسير راجعاً شهرين ونصفاً ويقطع في رجوعه ثمانى عشرة درجة يقيم في كل برج خمسة عشر يوماً وأسرع سير الشمس درجة وأربع دقائق وأوسطها تسع عشرة دقيقة وأقله سبع عشرة دقيقة ولا رجوع لها ولا استقامة ويقال رجعت بمعنى انتقالها من الجنوب إلى الشمال وبالعكس، وليس ذلك رجوعاً وتقيم في كل برج شهراً.

 

وأسرع سير الزهرة درجة وأربع دقائق وأوسطه درجة ودقيقتان والأَقل درجة وتكون مستقيمة سنة ونصف سنة وتقطع من الدرج ثلاثاً وسيرها راجعة يومان وتقطع فيه خمس عشرة درجة وتقيم في كل برج سبعة عشر يوماً مستقيمة وإذا رجعت أقامت في البرج الذي رجعت إليه خمسة أشهر وإذا ظهرت في المغرب فهي مستقيمة وإذا ظهرت في المشرق فراجعة وأسرع سير عطارد درجة وخمس عشرة دقيقة وأوسطه درجة ونصف وربع وأقله درجة ونصف ويستقيم ثمانية أشهر ويقطع فيها ثلاثين درجة وإن كان سيره بطيئاً كان مائة وعشرين درجة ويقيم في كل برج تسعة أيام.

 

وأسرع سير القمر خمس عشرة درجة أو عشرا ونصفا ويقيم في كل برج يومين والأَقل إحدى عشرة درجة أو عشرا ونصفا ويقيم في كل برج يومين وثلثا.

 

وعن جابر بن عبدالله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البروج الكواكب أي كلها ولو تفاوت الظهور كما قال مجاهد وقتادة والحسن وعكرمة وعن أبى صالح النجوم العظيمة الضوءِ وقيل البروج أبواب السماءِ لأن النوازل تخرج مع الملائكة كقصور العظماءِ النازلة أوامرهم بها، أو لأنها مبدأ الظهور والأَفلاك غير السماوات وغير العرش والكرسي.

 

وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ (2)

 

يوم موت الناس وذوات الأرواح كلهم أو يوم البعث الذي أنكره المشركون ويدل له قوله تعالى:{ يوم يخرجون من الأجداث سراعاً }[المعارج: 43]. إِلى قوله عز وجل:{ ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون }[المعارج: 44] أو يوم طي السماءِ كطي السجل للكتاب، كما قال: كما بدأنا أول خلق نعيده وقيل يوم شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في المقام المحمود الموعود له - صلى الله عليه وسلم - وذلك كله في يوم القيامة إلا أنه إما تفسر الآية به إجمالاً أو تفسر بوقت مخصوص كما رأيت.

 

وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ (4)

 

{ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } أي ومن شهد ذلك اليوم أي يحضره وما يشهد فيه من الأَهوال أقسم الله تعالى بيوم القيامة وما فيه إرهاباً لمنكريه والتنكير للتعظيم أو للتكثير ومن أجاز استعمال الكلمة في معنييها أجازهما ولكن لا تظهر فائدة في تكثير الشاهد بل في كلتيه بمعنى أن كل من يمكنه الحضور يحضره لا يبقى أحد غير مبعوث فإِذا أريد التكثير المستغرق صح وكذلك ليس كل من يحضره عظيم الشأن ولا كل من هو محضور فيه عظيمة وإنما التعظيم في قول من قال الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة كما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - وعن جماعة من الصحابة منهم علي ونسب للجمهور وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - الشاهد يوم عرفة ويوم الجمعة والمشهود يوم القيامة وفيه إطلاق الشاهد على اثنين كإرادة الجنس الصادق بشيئين.

 

وعن علي الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النحر وبه قال عبد الله بن عمر وابن الزبير وعن سعيد بن المسيب الشاهد يوم الترويه والمشهود يوم عرفة وقيل يوم الاثنين ويوم الجمعة وفي هذا ونحوه وقوع الزمان في الزمان أجازة بعض وذلك على أن الشهادة قالية لا حالية، وعن الحسن بن علي الشاهد جدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال الله تعالى{ وجئنا بك على هؤلاءِ شهيداً }[النساء: 41] والمشهود يوم القيامة كما قال الله تعالى:{ ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود }[هود: 103] وكذا روى عن ابن عباس، وقيل الشاهد الله والمشهود يوم القيامة.

 

وعن عطاءَ بن يسار وعكرمة ومجاهد الشاهد آدم وذريته على إرادة الجنس إذ جمعته الشاهدية والمشهود يوم القيامة، وكذا في رواية الترمذي الشاهد الحفظة والمشهود الناس أي المشهود عليه بإرادة الجنس فيهما، وقيل الشاهد الأنبياءِ والمشهود أي له النبي - صلى الله عليه وسلم - تشهد له الأَنبياء بالرسالة في الدنيا والآخرة، وقيل الشاهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمشهود أي عليه أُمته على إرادة الجنس في الثاني وقيل الأَنبياء وأممهم على إرادة الجنس في الثاني والمراد مشهود عليهم.

 

وكذا قول سعيد بن جبير الشاهد الجوارح والمشهود أصحابها بإِرادة الجنس فيها يوم تشهد عليهم ألسنتهم وكذا من قال الليالي والأَيام وبنو آدم كل يوم يقول أنا يوم جديد على ما يعمل في شهيد فاغتنمني فلو غابت شمسي لم تدركني، وقيل الشاهد الملائكة المتعاقبون على إرادة الجنس والمشهود قرآن الفجر كان مشهوداً، وقيل النجم والليل والنهار وقيل الحجر الأسود يشهد لمن صافحه والحجيج، وقيل أُمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر الأُمم لأنهم يشهدون على سائر الأُمم والشهادة في بعض الأَقوال الحضور وفي بعضها الشهادة بالشيء أو عليه وجواب الشرط قوله تعالى:

 

{ قُتِلَ أصْحَابُ الأُخُدُودِ } على الإخبار على حذف اللام وقد، لأَنه لا يجاب بالماضي المثبت المتصرف الذي لم يثبت معموله بدونها إلا أنه يجوز حذفهما للفصل أي والسماءِ ذات البروج لقد قتل أصحاب الأخدود بالإٍحراق رضي الله عنهم ولم يردهم إرادة الإحراق عن إيمانهم، فكيف لا تصبرون أيها المؤمنون على أذى الكفار بما هو أهون من ذلك لكن الحق والصواب الذي لا يخالف أن أصحاب الأخدود الكفار لا المؤمنون فالقتل اللعن وكالنص على هذا قوله تعالى إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود.

 

وقيل الجواب أن الذين فتنوا وقال المبرد إن بطش ربك لشديد وهو قول ابن مسعود وقيل الجواب محذوف أي إن الكافرين بك يا محمد لمقتولون أو ليقتلن الكافرون بك فيكون يوم بدر تصديقاً لذلك ومعجزة؛ واستظهر بعض أن الجملة دعائية وعلى صورة الدعاءِ وأن أصحاب الأخدود هم الذين أحرقوا من آمن لا المؤمنون وأن القتل بمعنى اللعن وأن التقدير أن كفار قريش الملعونون إحقاء أن يقال فهم بطريق الدعاءِ قتلوا أي لعنوا ودل عليه قوله تعالى: قتل أصحاب الأخدود أي لعنوا وقدر بعض لتبعثن مناسبة لقوله تعالى:{ فبشرهم بعذاب أليم }[آل عمران: 21، التوبة: 34، الانشقاق: 24].

 

وقدر بعض ليقتلن كما قتل أصحاب الأَخدود فيه أنه لا يتضح أن يقال يقتل الكافرون بك كما قتل المؤمنون في الأخدود إلا أن يريد كما قتل الله الذين أحرقوا المؤمنين على أن معنى الآية قتل الله أصحاب الأخدود القاتلين للمؤمنين وما قاله الربيع بن أنس والكلبي وأبو العالية وأبو إسحاق من أن الله بعث على المؤمنين ريحاً ماتوا بها فانقلبت النار على الكفار الذين حول النار فأَحرقتهم لا صحة له، وهو مخالف للأَخبار التي عليها الجمهور، وإنما يتم لو روي أن النار أحرقت المؤمنين في الأخدود وخرجت وأحرقت هؤلاءٍ الكفرة ويرده أيضاً قوله يفعلون وتأويل يفعلون بإرادة الفعل خلاف الظاهر وخلاف الأخبار الواردة من وقوع الفعل والأخدود حفير مطلقاً والواقع في الآية أربعون ذراعاً عمقاً واثنا عشر في عرض.

 

كان لملك من الملوك كاهن قال له: انظر لي غلاماً فهما أعلمه علمي لئلا يضيع ففعلوا فكان الغلام واسمه عبد الله بن تامر يسأل راهباً في طريقه إلى الكاهن فشكا الكاهن بطئه فزجره عن البطءِ فقال له الراهب إذا سأَلك فقل كنت عند أهلي وإذا سأَلوك فقل كنت عند الكاهن، ومر بجماعة حبسهم أسد فأَخذ حجراً فقال اللهم إن كان قول الراهب حقاً فاقتله فرماه فقتله وقال له أعمى إن رددت بصرى فلك كذا فقال لا بل آمن بالله تعالى فشفاه الله تعالى فآمن فنشر الملك الراهب وقتل الأَعمى وقال ألقوا الغلام من فوق جبل كذا فصعدوا به فتساقطوا وماتوا، فقال أغرقوه فغرقوا ونجا فقال لا تصل إلى قتلى إلا أن تصلبني وتقول باسم رب هذا الغلام وترميني ففعل فمات فآمن الناس به فحفر الأخدود وملأه ناراً فكل من آمن ألقاه فيه.

 

وروي أن هذا الغلام وجد في خلافة عمر وإصبعه على صدغه كما وضعها حين رمى على صدغة وجاءَت امرأة قهراً بابن لم يتكلم ورقت له فقال ادخلي النار ولا تكفري، وروي أن الله بعث نبياً من الحبشة فجعل الملك يلقى من آمن به في الأخدود بعد أن قتل أصحابه بلا نار وأوثقه فانفلت.

 

وروي أن المجوس كانوا أهل كتاب وحل لهم الخمر فسكر ملكهم ووطىءَ بنته أو أُخته فندم فقالت أخطب الناس بأَن الله عز وجل أحل البنت أو الأُخت فلم يقبل الناس عنه فأَمرته بالسوط ثم السيف ولم يقبلوا وأمرته بالأخدود والنار يلقى فيه من لم يقبل ولما هزم أهل اسفنديار سأَل عمر علياً ما الحكم فيهم وهم مجوس ليسوا بأَهل كتاب فأَخبره علي بأَنهم أهل كتاب، وذكر له قصة شرب الخمر المذكورة.

 

وعن علي: نبي أصحاب الأخدود حبشي بعث من الحبشة إلى قومه وقرأ: { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك... }[غافر: 78] الآية، وقيل دخل رجل ممن كان على دين عيسى عليه السلام نجران فأجابوه فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير فخيرهم بين النار واليهودية فأَحرق في الأخاديد اثنى عشر ألفاً وقيل سبعين ألفاً فالأخدود بأَرض الحبشة أو في نجران.

 

وقيل إنه في مذارع اليمن لكن نجران من اليمن فقيل إن أصحاب الأخدود الذين قتلوا من آمن من الثبط وقيل من الحبشة وقيل من بني إسرائيل ويقال الأَخاديد ثلاثة واحد بنجران في اليمن لذي نواس يوسف اليهودي وأنه الذي نزل به القرآن لأَنه قصته هي المعروفة عند أهل مكة والآخر بالشام لبلطموس الرومي والآخر بفارس لبختصر زعم بعض أنه في أصحاب دانيال، ويقال ذو نواس ملك من ملوك حمير وأنه ابن شرحبيل بن شراحيل في الفترة قبل مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبعين سنة، ويجوز حمل الآية على ذلك كله فتكون أل في الأخدود للجنس فيشمل تلك الأخاديد كلها.

 

ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ (5)

 

{ النَّارِ } بدل اشتمال والرابط محذوف أي النار فيه أوله وفيه أوله حال أو نابت عنه أي ناره والهاء للأخدود لأَنه مفرد وهذا أولى من جعله بدل كل على حذف مضاف أي أخدود النار { ذَاتِ الْوَقُودِ } صاحبة الوقود أي ما به ارتفاع اللهب وهو الحطب لا تفارقه وهذه مبالغة في اتقادها أو مالكة الوقود كناية عن زيادته زيادة مفرطة لقوة حطبها وكثرته والوقود نفس الحطب لأَنه بفتح الواو ولو ضم كما هو قراءة لكان مصدر أو ال فيه للاستغراق مجازاً أو للاستغراق العادي ولا يخفي ما في جعلها مالكة للحطب الكلى من المبالغة في الاتقاد وهكذا تقول في ذي كذا وذات كذا إذا صلح المقام لذلك لا في كل موضع فذو أبلغ من صاحب وليس من ذلك ذو النون.

 

إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)

 

{ إذْ } متعلق بقتل أي لعن وقتل على أن النار خرجت عليهم من الأَخدود فأَحرقتهم لكن هذا ضعيف كما مر { هُمُ } أصحاب الأخدود الكفرة الموقدون { عَلَيْهَا قُعُودٌ } على حذف مضاف أي على حافاتها أو جوانبها أو سمى ما حولها ناراً مجازاً للجوار أو القعود على النار كناية عن ملك أمرها ولا يصح أن يقال أصحاب الأخدود والمؤمنون الذين ألقوا في النار وأن القتل على ظاهره وأن القعود على النار هو كونهم فيها وهى من تحتهم سمى كونهم فيها قعود عليها مجازاً لأن ذلك تكلف وأيضاً يرده قوله تعالى:

 

{ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ } بالإضمار وإظهار المؤمنين فإن الضمير لا يرجع إلى المؤمنين بل للكفار الذين هم أصحاب الأخدود ودعوى أن الضمير عائد إلى الكفار المعلومين من المقام وأن أصحاب الأخدود هم المؤمنون تكلف بارد وقول صاحب العقيدة - رحمه الله - أن أصحاب الأخدود من أهل الجنة وأنهم المؤمنون المقتولون بالنار أخذ من الآية لا تفسير لها وشهادة على ما يفعلون بالمؤمنين من الدعاء إلى الكفر وإلقاء من أبى في النار شهادة بعض لبعض عند الملك أنهم قد أنفدوا ما أمرهم به من إحراق من أبى الكفر أو سيشهد بعض على بعض يوم القيامة بذلك الإحراق أو يشهدون بذلك على أنفسهم بنطق جوارحهم به.

 

وقيل على بمعنى مع أي هم مع ما يفعلون حضور لا ترق قلوبهم ويرده أنه لا يحتاج الكلام إلى ذكر حضورهم مع قوله يفعلون ولو قيل أنا فعلت كذا مع حضوري لكان كلاماً فاسداً ولم يستحق أن يستحضر مع كلام العقلاءِ، والمراد بالمؤمنين ما يشمل المؤمنات.

 

وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ (8) ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)

 

{ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ } من المؤمنين ومن بمعنى على أو لابتداءِ على حد ما قالوا في رأيته من ذلك الجبل والرائي ليس في الجبل؛ بل فيه المرئي أي تحصلت رؤيته من الجبل إِذ لو لم يكن فيه لم أره فيه متعلقة بنقم أو متعلقة بمحذوف أي شيئاً ثابتاً عنهم أو بشيءِ ثابت منهم يقال نقمت عليه بشيءِ ونقمت عليه شيئاً أي عبته عليه أو أنكرته عليه.

 

{ إِلاَّ أنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزيزِ الْحَمِيدِ } إلا إيمانهم الذي استقبلوه وأصروا عليه ولو يحرقون وجملة ما نقموا...الخ فعلية عطفت على الاسمية قبلها وهى قوله تعالى هم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وهو جائز كثير ولا سيما أن الفعلية ماضوية والاسمية وقعت في حيز إذ لأَنها عطفت على مدخول إذ الماضوية أو عطفت جملة ما نقموا منهم على مدخول إذ وكأَن الاسمية فعلية ماضوية لوقوعها بعد إذ وأجيز أن يقدر وهم ما نقموا.. الخ فيكون عطف اسمية على اسمية وإنما لم يقل عز وجل إلا أن آمنوا لأن انتقامهم على استمرار المؤمنين على الإيمان لا على الإيمان الماضي والانتقام هو الإنكار بالعقوبة ولو كفروا لم يعذبوهم على الإيمان الماضي وليست الآية من تأكيد المدح بما يشبه الذم لأَن الإيمان ليس حسناً عند الكفار كما أن فلول السيوف من ضرب العداء بها مستحسن في قوله:

 

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم     بهن فلول من قراع الكتائب

 

وكون الإيمان حسناً عند الله لا ينزل منزلة حسنة عندهم لو كان حسناً عندهم، والمراد إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد وحده ولو آمنوا به وبمعبوداتهم لم ينكروا عليهم ويحتمل أن يراد الانتقام على الإيمان بالله العزيز الحميد ولو آمنوا بغيره معه والأَول أظهر وذكر الله عز جل عزته وحمده وملكه السماوات والأرض ذماً لهم على اجترائهم على من هو غالب على كل شيءٍ يخاف عقابه ومن يرجى ثوابه وإنعامه ومن له ملك كل شيءٍ لا مالك معه كما قال:

 

{ الَّذِي لَهُ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ومدحاً للمؤمنين بمعرفتهم عزته وحمده وملكه.

 

{ وَالله عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ } وعيد لأَصحاب الأخدود ووعد بخير للمؤمنين وشهادته تعالى علمه وعلمه شامل لصفات الجلال والجمال فهو يجزى كلا بما يستحقه.

سورة البروج: الآيات (10-22)

إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ (10)

 

{ إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمؤْمِنينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } ضروهم على الإيمان وقهروهم على الكفر وهذا على عمومه ويشمل أصحاب الأخدود بالأَولى وهذا أولى من أن يراد أصحاب الأخدود وقيل المراد كفار قريش الذين عذبوا من آمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجحه بعض بقوله تعالى:

 

{ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا } لأَن أصحاب الأخدود مضوا لا تمكن توبتهم وهو ظاهر في قوم تمكن توبتهم وقد يجاب بأَن أصحاب الأخدود في زمانهم يستحقون أن يقال فيهم إن لم تتوبوا فلكم عذاب جهنم.. الخ قيل وأيضاً لو أريد كفار قريش لقيل ولم يتوبوا بالواو ولا بثم وهو فيهم لأَن الخصم يقول أنها فيمن لم يؤمن منهم والمراد ثم لم يتوبوا من كفرهم عموماً وفتنتهم خصوصاً لأَنه لو كان المراد من فتنتهم لاستحقوا أن لا يعذبوا إن لم يفتنوا ولو كانوا مشركين وقد يقال المراد أنهم إن لم يفتنوا عذبوا عذاباً واحداً وإن ماتوا وهم فاتنون عذبوا عذاباً آخر أيضاً.

 

{ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ } بالنار والزمهرير والفاء في خبر إن لشبه اسمها باسم الشرط في العموم فهي ترجح أنه ليس المراد خصوص كفار الأَخدود { وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } عذاب النار فقط وهو عطف خاص على عام أخر الحريق للفاصلة.

 

ويجوز أن يكون المراد لهم عذاب جهنم لكفرهم وعذاب آخر منها لفتنتهم أو عذاب جهنم لفتنتهم وعذاب آخر لعدم توبتهم وقيل عذاب واحد وصف بأَنه في موضع بعيد كما يقال للبئر البعيدة القعر جهنم وبأنه عذاب وهو الحريق والإضافة بيانية وقيل على ما مر عذابان عذاب جهنم في الآخرة وعذاب نار الأخدود انقلبت إليهم والمؤمنون بريح من الله عز وجل وهو بعيد كما مر ولو قيل أحرقت النار المؤمنين كما هو ظاهر الآية والإخبار أو انقلبت إلى الكفار فأَحرقتهم أيضاً لكان قريباً لكن لا سبيل إلى القول بلا حجة.

 

إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْكَبِيرُ (11)

 

{ إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } عموماً فدخل فيه من أحرقوا في الأخدود بالأَولى { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } على حذف مضاف أي من تحت أشجارها والجنة أرض الشجر مع الشجر وإن أريد بالجنة الشجر فلا حذف.

 

{ ذَلِك } أي ثبوت الجنات لهم وقيل الإشارة إلى الجنات والإفراد والتذكير إذ لم يقل هؤلاءِ لتأويل ما ذكر، { الفَوزُ } مصدر بمعنى اسم المفعول أي المفوز به أو بولغ بأَن الجنات نفس الفوز وإن جعلنا الإشارة إلى الحوز أو النيل مصدر نال فالفوز باق على المصدرية بمعنى الظفر ومن خصائص الجنة أن أهلها لا يكرهون من طعامها كله شيئاً ولا يملون منه شيئاً وكذا شرابها وسائر نعمها { الْكَبِيرُ } الذي لا فوز إلاَّ وهو دونه وإن شئت قال في الموضعين الكمال والإشارة البعدية على كل حال للشرف والعلو.

 

إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)

 

أخذه عز وجل قومك الكافرين بك يا محمد بالعقاب بطش شديد والبطش الأخذ بشدة ووصفه بالإِخبار عنه بأَنه شديد فقد تركبت شدته يصيب قومك كما أصاب من قبلهم.

 

إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ (13)

 

الهاء لله أو للشأن والأول أولى وقوله هو عائد إلى الله تعالى ويبدىءُ يخلق ويعيد يحيى الموتى أو يبدىء كل ما أراد ويعيد كل ما أراد لاحظَّ لأحدٍ معه في ذلك ومن كان كذلك يشتد بطشه في الانتقام من العاصي أو يبدىءِ البطش بالكفرة في الدنيا ويعيده في الآخرة أو تأكلهم النار حتى يصيروا فحماً ثم يعيدهم وهكذا وعلى كل حال الجملة تعليل لشدة البطش يشتد بطشه لأنه هو يبدىء ويعيده ويقال بدأه وابتدأه بمعنى واحد وقرىءَ شاذاً بفتح الباءِ من الثلاثي والرباعي أنسب بيعيد ولم يسمع يبدىءِ ويعيد إلا في الآية أو لما كانت الإعادة للجزاءِ تضمنت البطش.

 

وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلْوَدُودُ (14)

 

{ وَهُوَ الْغَفُورُ } لأن المصر معاند لا يتأَهل للمغفرة إنه لغفار لمن تاب وكل من غفور وغفار صفة مبالغة وكل من غفر الله تعالى له من أكبر أهل المعاصي أو أدناهم في المعصية فالله غفور غفار في شأنه ومغفرته كلها عظيمة كثيرة ولو في أعظم الناس عبادة وولاية لله تعالى { الْوَدُودُ } كثير الحب أو عظيمه للمطيع والمراد للازم الحب وهو الإحسان والإنعام وهو صفة مبالغة كغفور كما رأيت وقيل بمعنى مودود يحبه عباده الصالحون لجلاله أو لغفرانه وإحسانه وزعم بعض أنه بمعنى لا ولد له وهو مذهب عقيم لا يلد وكأنه لم يجر على سمعه قط أن الود الحب ولا مناسبة له بغفور وأنشد الودود بمعنى لا ولد له قائل:

 

وأركب في الروع عريانة     دلول الجماع لقاحاً ودوداً

 

وفسره بأَنه لا ولد لها تحن إليه وفيه أن الشطر الثاني لا يعرف وعلى صحته لعل المراد أن لها حنة إلى الولد إذا رأته والصواب ما مر وكون ودود صفة مبالغة أولى من كونه بمعنى مودود لأَن اسم الفاعل أصل لاسم مفعول وصفة المبالغة من باب اسم الفاعل ولأَنه يناسب غفور وما قبل وما بعد في أنه من الله تعالى خلاف مودود فإِن الحب فيه من غير الله تعالى له.

 

ذُو ٱلْعَرْشِ ٱلْمَجِيدُ (15)

 

{ ذُو الْعَرْشِ } خالقه ومالكه وهو أعظم المخلوقات أوسع من الجنة وقد مر لك أنه لو مسحت الجنة بماء البحور كلها لم يعمها، ويروى عن على بن أبى طالب لو جمعت مياه الدنيا ومسح بها سطح العرش الذي يلينا ما استوعبت منه إلا قليلاً وهو أحسن ما خلق صفة وتركيباً فلم يخلق جسماً أبهر منه وأجمل ويليه الكرسي أو العرش الملك بطريق الكناية أولاً والعرش الملك بكسر اللام لأَن العرش لا يكون إِلاَّ للملك ولأَن الملك لا يكون إلاَّ ذا عرش.

 

{ المجِيد } العظيم صفة وفعلاً.

 

فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16)

 

لا يتخلف ما أراده عن إرادته كائناً ما كان من أفعاله وأفعال عباده والتروي وما للعموم وعصيان العاصي مراد له لا يتخلف عن الوقوع وزعم المعتزلة أن عصيان العاصي وطاعة المطيع مُراد أن له ويتخلفان وأخطأَوا وإنما ذلك أمره ونهيه يأمر بشيءٍ ولا يفعله المأْمور وينهى عن الشيء ويفعله المنهي لا إرادته ومشيئته وتلك المرفوعات كلها أخبار متعددة ولا دليل على تقدير المبتدآت وأجيز أن يكون الودود نعتاً واللام تقوية.

 

هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْجُنُودِ (17)

 

خبر هلاكهم لكفرهم وتكذيبهم فلقومك هلاك لكفرهم وتكذيبهم فهذه تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتهديد لمن كفر به فذكرهم بأَيام الله والجند يطلق على صنف من الخلق تقول الجراد جند من جنود الله والريح جند له ويطلق على كل مجتمع فيطلق على العسكر لاجتماعه للقتال والجنود هنا الجماعات الذين تحزبوا على أنبياءِ الله تعالى بالتكذيب ويطلق على الأَعوان وهم متعاونون على التكذيب.

 

فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)

 

أي جنود فرعون أو فرعون اسم على أتباعه وعليه كما أن ثمود علم قبيلة وعلى من هو اسم له في الأَصل وفرعون بدل كل من الجنود باعتبار ما عطف عليه وزعم بعض أن البدل المجموع ولا وجه له في الصناعة وإن أراد المعنى صح.

 

بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ (19)

 

{ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا } من قومك أو على العموم { فِي تَكْذِيبٍ } إضراب انتقالي عما أفاده من قبله من التهديد أي لا ينفعهم التهديد بمن قبلهم فإنهم مكذبون بهذا التهديد وقيل إضراب انتقال عن مماثلتهم لهم وبيان أنهم أشد ممن قبلهم كما هو ظاهر من قوله في تكذيب بدل يكذبون لأَن في تدل على الرسوخ والمظروفية للتكذيب وكونهم مغمورين فيه أنه لا نسلم أن هؤلاءِ الكفرة أشد كفراً من فرعون وثمود بل فرعون وثمود أشد فالتفسير الأول هو أصح.

 

اللهم إِلاَّ أن يقال إن التكذيب بالقرآن الذي هو أفضل الكتب وأظهرها حجة وبأَفضل الأنبياء الذي هو نبي الأَنبياءِ ورسول إليهم وكتابه قاض على كتبهم أعظم من التكذيب بما دونهما فهو أعظم وأن التكذيب بما هو تكذيب بهما وتكذيب بالأَنبياءِ والكتب قبلهما لاشتمالهما على كل ما قبلهما، وقيل المراد أنه ليس جنايتهم مجرد عدم التذكر والاتعاظ بما سمعوا من حديثهم بل هم مع ذلك في تكذيب عظيم للقرآن الناطق بذلك وبكونه قرآنا من الله تعالى مع ظهور أمره.

 

وَٱللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ (20)

 

لا يجدون مسلكاً إلى النجاة من العذاب لا يعجزون الله تعالى ولا يفوتونه وذلك استعارة تمثيلية أو شبه توجيه العذاب إليهم بحيث لا يتخلف بالإحاطة على شيءٍ بالبناء أو نحوه مما لا يطاق.

 

بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21)

 

ما يجيئكم به محمد - صلى الله عليه وسلم - من الآيات المتلوة كلام يقرأ شريف عند الله تعالى على كتب الله عز وجل لا يحق أن يكذب وبل إبطال لتكذيبهم أو إضراب أو انتقال عن الإخبار بشدة كفرهم إلى وصف القرآن لا ريب فيه وقيل الإضراب الأول عن قصة فرعون وثمود إلى جميع الكفار أي جميع الكفار في تكذيب ولا نبي إلا مُكَذَّبٌ ولا يهمل الله مُكَذَباً فهذه تسلية له - صلى الله عليه وسلم - وتهديد لقومه وعليه فإردافه بهذا الإضراب الأَخير بمنزلة قوله إنك صادق وكتابك حق كُذِّب الأَنبياءِ الأَولون أوْ لَم يكذبوا.

 

فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22)

 

{ فِي لَوُحٍ } نعت آخر أو خبر آخر ولا بأس بتقديم النعت الظرفي والجملي على الإفرادي { مَّحْفُوظٍ } من أن تصله الشياطين وهو لوح من درة بيضاء تحت العرش معقود بالعرش وقيل عن يمين العرش سعته أكثر من السماوات ويقال طوله ما بين السماءِ والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب ويقال دفتاه ياقوته حمراء ويقال قلمه نور ويقال أصله من حجر ملك يقال له ساطريون.

 

ويقال لله عز وجل كل يوم ثلثمائة وستون لحظة يحيى ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء وكتب في أوله لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له دينه الإسلام ومحمد عبده من آمن بالله عز وجل وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الله الجنة والله أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.