بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)

 

{ وَيْلٌ } هلاك أو شدة الشر أو العذاب الأَليم أو تحسر، وعن الإمام عثمان عنه - صلى الله عليه وسلم - جبل في جهنم وعن أبى سعيد الخدري واد في جهنم يهوى فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره وظاهر ذلك أنه اسم للوادي أو للجبل بعينه تسمية للخاص باسم العام كما - يسمى الرجل حارثاً على العلمية لأنه يحرث وكل ما يحرث يستحق هذا الاسم لكن بلا علمية ويجوز أن يكون المراد هلاك أو نحوه مما مر يكون في ذلك الجبل أو في لك الوادي وكذا من قال قيوح.

 

{ لِّلْمُطَفِفِين } الذين يأَخذون مال الناس بالكيل إِذا اكتالوا أو وزنوا من مال الناس لأَنفسهم أو لمن نابوا عنه زادوا في الكيل وإذا كالوا أو وزنوا من مالهم أو مال من نابوا عنه نقصوا فهذا الذي نقصوه مال الناس أمسكوه ولم يعطوهم إياه وإمساكه أخذ له فأَنت خبير بأَن التطفيف البخس في الكيل والوزن والطفيف الشيء الحقير ومع أن التطفيف يقع بالشيء الحقير يكون لفاعله العقاب الكبير فالتشديد للمبالغة بكثرة الكيل والوزن مع بخس ذلك لا لكثرة المأَخوذ من حق الغير.

 

الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)

صفة كاشفة لكيفية التطفيف الذي استحقوا به الويل أو صفة مخصصة للمطففين الذين نزلت فيهم الآية وهم أهل المدينة قبل الإِسلام، كانوا من أخبت الناس كيلاً ووزناً ولما نزلت الآية وأسلموا أحسنوا الكيل والوزن واختيار اكتالوا على كالوا وعلى بدل من لتأكيد ذم من نزلت فيهم من أهل المدينة قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وفيها رجل يقال له أبو جهينة له صاعان يكيل من ماله بالناقص ويكيل من مال الناس بالأَكمل ولما نزلت الآية تاب وعدل.

 

ومعلوم أن من يبخس الكيل والوزن أقل من بخسهم مذموم أيضا ولكن ذمهم زاد بشدة كيلهم في البخل كما هو شأن افتعل وبعلى الدالة على الضر وعلى الإطلاق وعدم خصوص من نزلت فيه فالبخس ولو أقل قليل معصية شديدة ومضرة، بقى أنه لا عيب على من أخذ حقه وافياً فكيف ذمهم على الاستيفاء؟ الجواب أنهم يبالغون في الاستيفاء حتى يأخذوا بعضا من حق غيرهم أو الذم منصب على قوله وإذا كالوهم...إلخ.

 

كما يقال في الذم فلان يأخذ حقه وافياً ويعطى حق غيره ناقصا وذلك يتضمن الردع عن أن يختار نفسه مطلقاً فإنه لو قيل يشتد في حق نفسه ولا يشتد في حق غيره لكان ذماً ولو لم يأخذ من حق غيره شيئاً وعلى متعلق باكتالوا ويجوز تعليقها بيستوفون فقدم للفاصلة لا للحصر لأَنه لا يتصور أن يضروا غير الناس فضلا عن أن يحصر الضر فيهم نعم يصح الحصر بأَنهم يضرون الناس خاصة بالزيادة من أموالهم ولا يضرون أنفسهم بأَخذ أقل من حقهم والهاءان مفعول به فإن الكيل والوزن يتعديان بأَنفسهما وبالحرف يقال كاله وكال له.

 

وقيل كاله نصب على نزع الخافض ولا خلاف في تعديهما بلا حرف إلى المكيل والموزون يقال كال الحب ووزن الدرهم وقد يقال الهاءان ضمير رفع مؤكد للواو وعليهم فلم تكتب الأَلف على طريق شدود خط المصحف وكان عيسى بن عمر وحمزة يقفان وقفة خفيفة على الواو بياناً لذلك إلا أن الأَصل عدم مخالفة خط المصحف لقاعدة الخط إلا ما تبين أنه خالفها فالهاء مفعول به ضمير نصب متصل لا ضمير رفع منفصل تأكيد للواو بدليل عدم الألف.

 

ولم يذكر الوزن في الاكتيال على الناس لأَن من نزلت فيهم الآية لا يزيدون على حقهم في الوزن من أموال الناس لأَنفسهم أو لأَنهم يكتالون ما يوزن كما يكتالون ما يكال يتمكنوا من أخذ الزائد وإذا أعطوا من مالهم كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في الكيل والوزن جميعا كذا قيل وفيه أن الأَمر سواء إذا حضر من له الحق، ومن عليه لا يكون في أحدهما يصل إلى الأَخذ أكثر مما يصل في الآخر وكذا إن غاب أحدهما وقيل لأَنه يتوصل إلى شيء كثير بأَدنى حيلة في الوزن.

 

والتطفيف في الكيل يكون بقليل لا يعبأَ به غالبا وهو لا يعبأَ به ولا يدفع الإشكال ويقال ما يوزن أكثر قيمة مما يكال فإذا كانوا يبخسون في القليل بالكيل فأَولى أن يبخسوا في الكثير بالوزن وقيل التقدير إذا اكتالوا أو اتزنوا على الناس...الخ فحذف الاتزان بدليل ذكره في القرينة وقيل كانوا يشترون بالكيل فقط وبعد ذلك يبيعون للناس شيئا فشيئا ويزنون والكيل والوزن حق على من عليه المكيل والموزون إلا إن رضي أن يكيل أو يزن من له الحق وسواء في الآيتين البيع والشراء والقرض وغيرهما.

 

أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)

{ ألاَ يَظُنُّ أُوْلَئِكَ } الهمزة لإنكار لياقة انتفاء الظن وللتعجيب ولا نافية والظن على بابه والإشارة لبعد مرتبتهم في الشر ولتعليق الحكم باستيفائهم وإخسارهم فإن الإشارة إلى المشتق كالتعبير بالمشتق تؤذن بالعلة كأَنه قيل ألا يظن المستوفون المخسرون فالتخطئة لاستيفائهم وإخسارهم ولو أضمر لهم لم يفد الضمير ذلك بنفسه بل بمرجعه.

 

{ أنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ } للجزاء ولو ظنوا لارتدعوا بعض ارتداع عن الاستيفاء والإِخسار فكيف لو زادوا على الظن إلى العلم وقيل الظن بمعنى العلم هنا والأَول أولى لزيادة أن الترجيح كاف في الارتداع وهم أسوأ من الكفار لأَنه سبحانه وتعالى أثبت للكفار ظناً إذ قال إن نظن إلا ظنا ويوم القيامة لوزن الأَعمال وزن بيان لا وزناً بآلة وانتفوا منه في الدنيا ظلما للعباد وضموا الإشراك إلى ذلك الظلم وقد صح أنه لا خير أفضل من الإيمان ونفع عباد الله تعالى ولا شر من الإشراك وضر العباد وإن كان فيهم ظن فبمنزلة العدم وكونه كالشك فصح الإنكار.

 

لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)

لعظم ما فيه من الحساب واللام للتوقيت أو بمعنى في ويجوز أن تكون للتعليل على حذف مضاف أي لحساب يوم عظيم والميزان قانون العدل الذي قامت به السماوات والأرض، وفي الطبراني عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " " خمس بخمس " قيل يا رسول الله ما خمس بخمس قال " ما نقض قوم العهد إلاَّ سلط الله عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل الله تعالى إلاَّ فشا فيهم الفقر وما ظهرت فيهم الفاحشة إلاَّ فشا فيهم الموت وما طففوا الكيل إلاَّ منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلاَّ حبس الله عنهم القطر " " ، وكان ابن عمر يمر بالبائع فيقول اتق الله تعالى وأوف الكيل فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى العرق يلجمهم إلى أنصاف آذانهم.

 

وفي مسلم عن المقداد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " تدنو الشمس يوم القيامة من رءوس الخلائق حتى تكون كمقدار ميل " وكذا في الترمذي إلا أنه زاد أو ميلين قال سالم بن عامر من رواة الحديث لا أدرى ميل الأَرض أو ميل الاكتحال " فيكون الناس على قدر أعمالهم فمنهم من عرقه إلى كعبه ومنهم من عرقه إلى ركبته ومن عرقه إلى حقوه ومن عرقه إلى فيه يلجمه " .

 

وعن عكرمة أشهد أن كل كيال أو وزان في النار فقيل إن ابنك كيال ووازن فقال أشهد أنه في النار يعنى أن كل كيال ووزان في عمل يكون سبباً للنار إلا إن عصمه الله وليس المراد المبالغة وأن الغالب فيهم التطفيف كما قيل لأَنه قد عين ابنه منهم، وعن أبى لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رءُوس المكاييل والموازين، وكان قتادة يقول أوف يا ابن آدم كما تحب أن يوفي لك واعدل كما تحب أن يعدل لك، وعن الفضيل بخس الميزان سواد يوم القيامة والله تعالى أعلم.

 

يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)

أي يقومون من قبورهم أو يذعنون لحكمه تعالى أو يقفون على أرجلهم في الموقف ويوم بدل من يوم في محل جر بني لإضافته للجملة على ما مر عن الكوفيين ويدل له قراءة أبى معاذ بالجر قيل أو هو معرب منصوب متعلق بمبعوثون وهو معارض بقوله تعالى ليوم عظيم ويجوز نصبه باذكر على المفعولية وكونه مرفوعاً مبنياً خبر لمحذوف أي ذلك اليوم والعظيم هو يوم يقوم الناس لرب العالمين ويدل له قراءة زيد بن على من آل البيت برفعه.

 

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)

{ كَلاَّ } ارتدعوا عن التطفيف وإنكار البعث والحساب، { إنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ } أي مكتوب الفجار وهو غير ظاهر لأن أعمالهم ليست في سجين بل في صحفهم لكن ورد في الحديث ما يدل على ظاهره، روى صخرة بن حبيب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أن الملائكة يكثرون عمل العبد ويزكونه حتى إذا بلغوا موضعاً أوحى الله عز وجل إليهم أنا الحافظ على ما في قلب عبدي لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين ويستقلون عمل العبد فيوحي الله تعالى إليهم أنا الحافظ على ما في قلب عبدي قد أخلص له عمله فاجعلوه في عليين " .

 

وقيل كتابة الفجار أي كتابة عمل الفجار وهو غير ظاهر لأَنه الكتابة ليست تقع في سجين بل في أوراقهم في الدنيا أو في السماء ولعل معنى الآية أن شأنهم في سجين وأنهم مكتوبون من أهل سجين وكذا الكلام في قوله إن كتاب الأَبرار لفي عليين والفجار المشركون والموحدون الفساق الذين ماتوا غير تائبين كالموحد المطفف { لَفِي سِجِّينٍ } صفة ككسير أو علم لديوان جامع لأعمال الفجرة من الجن والإنس كما يدل له قوله تعالى:

 

{ ومَا أدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } أي هو كتاب مرقوم فكتاب مرقوم خبر لمحذوف وليس بدلا من سجين إذ لا يقال ما أدراك ما كتاب مرقوم مع أنه لم يتقدم كتاب مرقوم وعادة القرآن أن يذكر شيئا ثم يقال ما الشيء مثل الحاقة ما الحاقة وهو كما مر وصف من السَّجن بفتح السين بالمعنى المصدري لقب به الكتاب لأَنه سبب السجن ومعناه فاعل أي ساجن أو مفعول ألقى تحت الأَرض كالمسجون ولا يلزم من جعله علما لما ذكر كون الكتاب ظرفاً للكتاب على أن كتاب الفجار بمعنى ما يكتب من أعمالهم أو بمعنى كتابتها على ما مر.

 

ولا إشكال على ما ذكرت أيضا من تفسير كتاب الفجار بأَنهم من أهلها فإِن كونهم من أهلها كتاب أي ذو كتاب مرقوم أي هو مما تضمنه الكتاب المرقوم أو هو كتاب مرقوم أي كتاب مكتوب بالتكرير للتأكيد أو كتاب معلم عليه أنه كتاب فلان أو أنه كتاب سوء أو مبين الكتابة موضحها، وقيل مطوي، وقيل هو بلغة حمير بمعنى مختوم وليس مستحيلاً أن يكون كتاب في كتاب تحقيقاً أو يكتب ما في أحدهما في الآخر أو ذلك من ظرفية الكل للجزاء، وبعض قدر وما أدراك ما سجين موضع كتاب مرقوم فسجين موضع لا كتاب، وعن البراء بن عازب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " سجين أسفل سبع أرضين وعلِيُّون في السماء السابعة تحت العرش ".

 

وعن ابن عمر سجين هي الأرض السابعة السفلى وفيها أرواح الكفار، ويقال سجين صخرة تحت الأَرض السابعة خضراء خضرة السماء بها تجعل كتب الفجار تحتها قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - " إِن الفلق جب في جهنم مغطى وسجين جب فيها مفتوح فهو شر موضع في جهنم تحت الأرض السابعة " وجهنم تحت الأرض السابعة في قول.

 

قال كعب الأحبار رضي الله عنه إذا قبضت روح الكافر رفعت إلى السماء فلا تفتح لها فدفعت إلى ملائكة العذاب أروه ما شاء الله أن يروه من الشر ثم يهبطون به إلى الأرض السفلى وهي آخر سلطان إبليس فأَثبتوا كتابه فيها وهو صريح في أن الأرض السابعة هي سجين وأن الكتاب يوضع فيها.

 

ولا يبعد أن يكون سجين علما للكتاب وعلما للموضع أيضاً وفيه جمع بين الآية والحديث أو علما للموضع ويقدر مضاف أي وما أدراك ما كتاب سجين وعليه فكتاب خبر ثان لأَن أو خبر لمحذوف أي هو أي كتاب الفجار كتاب مرقوم، ويجوز أن يكون سجين عبارة عن الخسار، كما تقول فلان تحت الأرض أو مدفون أو في موضع متسفل بمعنى الخمول وقيل النون بدل من اللام وأصله سجيل فليس من السجن.

 

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10)

{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ } يوم إِذ يقوم الناس لرب العالمين { لّلْمُكَذِّبِينَ } باليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين.

 

الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)

يوم الجزاء وهو يوم يقول الناس لرب العالمين وهو نعت أو بدل وهو كاشف لما قبل أو المراد ويل يومئذ للمكذبين بالحق.

 

وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)

{ وَمَا يُكذِّبُ بِهِ } بيوم الدين { إلاَّ كُلُّ مَعْتَدٍ } مجاوز للنظر الصحيح معرض عنه إلى الغلو في التقليد حتى نسب الله سبحانه وتعالى إلى العجز عن إحياء الموتى وعن علم الأجزاء المتفرقة وجمعها.

 

{ أثِيمٍ } كثير الذنوب وعظيمها قاسى القلب بالشهوات المشغلة له عن اللذات التامة الدائمة وقوله عز وجل:

 

{ إذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أسَاطِير الأَوَّلِينَ } نعت آخر لمعتد أو لمنعوته المحذوف أي كل إنسان معتد أثيم قائل أساطير الأولين إذا تتلى عليه آياتنا وأساطير جمع أُسطورة بضم الهمزة أو جمع أسطار الذي هو جمع سطر وهو خبر لمحذوف أي هي أساطير الأَولين أي أُمور كتبها الأَولون وآمنوا بها ولا حجة لنا على صدقها فلا نؤمن بها ودعاهم إلى هذا أنهم يسمعون مثلها من أهل الكتاب وغيرهم وأُمور كتبها الأَولون فلم يؤمن بها آباؤنا فلا نؤمن بها كما لم يؤمنوا بها فلسنا أول مكذب بها ولا عجلنا في التكذيب إذ سبقنا آباؤنا إليه وسبب النزول النضر بن الحارث والوليد بن المغيرة وغيرهما ممن قال أو رضي.

 

كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)

{ كَلاَّ } ارتدعوا عن التكذيب { بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ } ليس في آياتنا ما يقبل التكذيب ولا ريبة بل تغلب عليهم ما كانوا يكسبونه من المعاصي وصار كوسخ متركب على شيء ومثل الصدى على المرآة بين لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحق فكذبوا وما زال تكذيبهم ينمو حتى كان حجاباً قوياً ولو كذبوا أولا ثم تابوا وتفكروا لم يكن ذلك.

 

والران في الأَصل الصدأ وأيضا الغلبة في المعقولات، يقال ران عليه النوم وران الخمر على عقله وران الغشي على عقل المريض وران الرجل إذا وقع في أمر لا يستطيع التخلص منه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن العبد إذا أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب ونزع، واستغفر صقل قلبه وإنْ عاد زادت حتى تغلق قلبه فذلك الران الذي ذكره الله تعالى في القرآن { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } " ، رواه الترمذي وابن ماجه عن أبى هريرة.

 

وذكر مجاهد أن الرين عندهم الطبع وأسبابه في قوله - صلى الله عليه وسلم - " أربع خصال مفسدة للقلوب مجاراة الأحمق فإنْ جاريته كُنت مثله وإنْ سكت عنه سلمت منه وكثرة الذنوب مفسدة للقلوب وقد قال الله تعالى { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } والخلو بالنساء والتمتع بهن والعمل برأيهن ومجالسة الموتى قيل يا رسول الله من هم قال كل قد أبطره عتاه ".

 

كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)

{ كَلاَّ } ارتدعوا عما يرين على القلب أو حق ما أقول لكم، { إنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ } أي يوم يبعثون والظرفان متعلقان بقوله: { لَّمَحْجُوبُونَ } قدم للفاصلة أي ممنوعون عن رحمته وليس منها رؤيته تعالى لاستحالتها وأياً ما كانت رؤيته في جميع وجوه مثبتها فهي موجبه لانكشافه وإِثبات انكشافه تشبيه محض وفيه تحيز وحلول وغيبة عن المواضع الأُخرى.

 

ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)

داخلوها أو مقاسو حرها والأصل صاليو بكسر اللام نقلت ضمة الياء إليها لثقلها فحذفت الياء للساكن بعدها وهو الواو ثم الواو للساكن بعدها وهو اللام وثبتت في الخط وثم للتراخي في الزمان أو في الرتبة فان عذاب النار أمر عظيم أشد من مجرد انتفاء الرحمة ومن أجاز استعمال الكلمة في حقيقتها ومجازها أجاز حملها على التراخي.

 

ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)

{ ثُمَّ يُقَالُ } يقول الملائكة خزنة النار أو أهل الجنة توبيخا لهم قبل دخول النار وثم للترتيب الذكرى أو بعده فهيّ لترتيب الزمان وقد يدعى المدعى أن توبيخ أعدائهم وهم أهل الجنة أشد عليهم من العذاب وليس كذلك إلا أن يشاء الله أن يجعله كذلك وعلى أن ذلك بعد الدخول والبعد فيها يكشف الله تعالى بينهم ويصلهم الخطاب من أهل الجنة { هَذَا } أي هذا العذاب { الَّذِي كُنْتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ } في الدنيا حضر لكم الآن فذوقوه.

سورة المطففين: الآيات (18-36)

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)

{ كلاّ } ارتدعوا الآن في الدنيا عن التكذيب به لتنجو منه أو تكرير لكلا قبله أو للتي في قوله كلا إن كتاب الفجار ليعقب وعد الأَبرار كما عقب وعيد الفجار إيذانا بأن التطفيف فجور أو بمعنى حق وعد الله حقاً.

 

{ إنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلَّيِينَ } ديوان كتبت فيه أعمال الملائكة والمؤمنين من الإِنس والجن وهو مفرد سمى لأَنه سبب الارتفاع إلى أعالي الجنة أو لأَنه فوق السماء السابعة أو فيها أو عند قائمة العرش اليمنى مع الملائكة المقربين تعظيما له منقول من جمع على بوزن فعيل من العلو كسجين من السجن.

 

وقيل عليين المواضع العلية جمع على بشد اللام والياء أصله عليه حذفت التاء وعوض عنها الجمع بالواو والنون رفعا والياء والنون جراً ونصباً جمع المؤنث وغير العاقل بذلك شذوذاً قياساً مع الفصاحة استعمالاً وقيل هم الملائكة على القياس جمع على بلا تاء، وعن ابن عباس عليون لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش كتبت فيها أعمالهم وقيل قائمة العرش اليمنى، وعن ابن عباس عليون الجنة وقيل سدرة المنتهي وقيل علو بعد علو وشرف بعد شرف وقيل مراتب عالية محفوفة بالجلالة، وقال الفواء هو اسم مفرد موضوع على صيغة الجمع نحو عشرين وثلاثين.

 

وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)

نعت آخر لكتاب ويشهد يحضره، والمقربون الملائكة وحضوره كناية عن تعظيمه وحفظه، أو يشهده يشهد به يوم القيامة المقربون وحذفت الباء، وعن كعب الأحبار رضي الله عنه إذا قبضت روح المؤمن دفعت الملائكة الرحمة فأَروه ما شاء الله تعالى أن يروه من الخير ثم عرجوا بروحه إلى السماء فيشيعه من كل سماء مقربوها حتى ينتهوا إلى السماء السابعة فيضعونه بين أيديهم ولا ينتظرون به صلاتكم عليه فيقولون اللهم هذا عبدك فلان قبضنا نفسه ويدعون له بما شاء الله تعالى أن يدعو له فنحن نحب أن تشهدنا اليوم كتابه فينشر كتابه من تحت العرش فيثبتون اسمه فيه وهم شهود على ذلك فذلك قوله تعالى يشهده المقربون.

 

إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)

{ إنَّ الأَبْرَرَ لَفِي نَعِيمِ } أي لفي دار نعيم عظيم أو في بمعنى مع وفي العبارة مبالغة كأنهم مظروفون للنعيم والنعيم ظرف لهم والنعيم ما يتنعم به ومن شأن ما يتنعم به أن تكون فيه نعومة ووضاءة وهو مقابل لقوله إنهم لصالو الجحيم وقد لهج بعض بالاستئناف البياني فكأَنه في كل موضع أمكن ولو لم يتبادر ولم تدع إليه حاجة فيقول هنا كأَنه قيل هذا حال كتابهم فما حالهم فأُجيب بأَن الأَبرار لفي نعيم.

 

عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23)

{ عَلَى الأَرَائِكِ } الأَسرة في بيوت مزخرفة أو الأَسرة التي عليها ستور زينة { يَنظُرُونَ } في ملكهم الواسع ولو ألف عام لا يردهم البعد عن النظر فيه ولا الستور والبيوت وفي ما شاء الله تعالى من الجنة المباحة لا عن النظر وإلى أعدائهم في النار والتشفي من العدو لذة عظيمة وإلى أحبابهم في الجنة ولما ذكرت من اللذة في التشفي ذكره مرتين هنا إِجمالا وفي آخر السورة تخصيصاً وقد يقال ما هنا لا يشمله لكون ما في آخر السورة تأسيساً وما ذكرته أولى وعلى الأَرائك في الموضعين متعلق بما بعده أو حال من واو ما بعده أو خبر ثان لأَن هنا وللمبتدأ فيما يأتي أو متعلق بما قبله.

 

تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)

{ تَعْرِفُ } يا محمد أو يا من يصلح للمعرفة وهو أولى إن لم يتعين { فِي وجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ } بهجته ومن العجيب تفسير النظر بأَنهم لا ينامون ونضرة الوجوه بأَنها لا تتغير بالنوم لانتفائه في الجنة.

 

يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)

{ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ } خمر أجود أو شراب مطلق لا غش فيه خمر أو لبن أو ماء أو غيره لا صداع فيه ولا سكر ولا وسخ يبقى أسفل الإناء ولا وجع به ولا فضلة.

 

{ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ } مغطى أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين وطين الجنة مسك لا يتغير بالمشي عليه ولا بقدمه وكأَنه كل يوم جديد وذلك تلذيذ لهم بمشاهدة ما ألف في الدنيا وإلا فلا غبار في الجنة ولا ذباب ولا شيء مما يغير الشراب أو الطعام فقد يقال ليس ذلك على الحقيقة بل كناية عن خلوصه عن كل مغير.

 

وقيل المعنى نهايته رائحة المسك يستغرقون في التلذذ في الشرب حتى لا شعور لهم بالرائحة الموجودة وإذا تم عقبه لذة الرائحة وفيه أن الأولى أن يتلذذوا دفعة بشراب ورائحته إلا أنه يناسبه قراءة عن الكسائي خاتمته بأَلف وكسر التاء وهو بمعنى آخره رائحة المسك إلا أن له قراءة خاتمة بألف وفتح التاء كقالب وطابع وهو ما يربط به على الشيء وهو المعنى المفسر به أولا والجملة نعت لرحيق.

 

{ وَفِي ذَلِكَ } المذكور البعيد المرتبة في الشر ومن الكون في الجنة ومن الرحيق وما ذكر من النعم إِجمالا وتفصيلاً قدم على متعلقة بطريق الاهتمام وللحصر والفاصلة أي في ذلك لا في غيره من لذات الدنيا المكدرة المباحة والمحرمة.

 

{ فَلْيَتَنَافَس } الفاء صلة لا تمنع تعلق ما قبلها بما بعدها، وقيل في مثل ذلك إن الفاء في جواب شرط قدم معموله عن الفاء ليكون عوضا عنه كما قدم معمول جواب أما عليه نحو أما زيداً فأَكرم لئلا يتصل أداة الشرط بفاء الجواب والأصل وإن أُريد التنافس فليتنافس في ذلك.

 

{ المُتَنَافِسَونَ } التنافس المغالبة عن الشيء النفيس والمراد هنا طريق الرغبة والغبطة لا الحسد وأصله من نفس الإنسان مثلا لعزة نفسه عليه وهي روحه أو جسده حتى قبل إن المعنى يبذل نفسه في تحصيل ذلك المرغوب فيه وذلك التنافس في الدنيا بالتوحيد والعمل الصالح كقوله تعالى:{ لمثل هذا فليعمل العاملون }[الصافات: 61].

 

وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)

نعت آخر لرحيق بواسطة عطف وتسنيم عين في الجنة كما روى عن ابن مسعود وزاد حذيفة أنها من عدن وسميت لأَن ماءها لا يزال يموج إلى فوق وسنم الشيء رفعه ومنه سنام البعير أو لأَن شرابها أرفع شراب في الجنة وعليه فالرفعة عقلية أو لأَنها تأتيهم من فوق أو لأَنها تجرى في الهواء متسنمة فتنصب في أوانيهم وسميت لرفعة من يشرب بها وليس تسميتها عيناً واجبة أو أولى من غيرها لأَن حاصله ماء أو سائل، أو جاد أو واد أو موضع فلا يقال لم صرف مع العلمية والتأنيث ولا سيما أن تأنيث العين غير واجب ومن للبيان أو للتبعيض أو للابتداء والمزاج ما يخلط بالشيء، وسئل ابن عباس عن تسنيم فقال هو من قول الله تعالى فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين.

 

عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)

{ عَيْناً } حال من تسنيم ولو كان جامدا لنعته بجملة فعلية والفعل مشتق كقوله تعالى{ إنا أنزلناه قرآناً عربياً }[يوسف: 2] بنصب قرآنا على الحال ولو كان جامدا لنعته بما هو كالمشتق وهو الاسم المنسوب إلى قرآنا بمعنى مقروءاً كما يؤول عين بجارية ولا تتساهل في اشتقاق الحال بلا تأويل بوجه ما وجدت وقيل نصب عيناً على المدح.

 

{ يَشْرَبُ بِهَا } الباء صلة في المفعول به أي يشرب ماءها أو بمعنى من الابتدائية أو باقية على أصلها لتضمن يشرب معنى يروى أو يلتذ أو يقدر هذا المضمن أي يشرب المقربون راوين بها أو ملتذين بها أو تعلق بحال محذوف أي يشرب الرحيق ممتزجاً بها المقربون أو يشرب المقربون مكتفين بها لكن في بعض هذه الأَوجه بقاء يشرب بلا مفعول به.

 

{ المُقَرَّبُونَ } قيل الأَبرار والمقربون في هذه السورة بمعنى واحد وهم كل من في الجنة وإلا فعن ابن مسعود وابن عباس يشرب بها المقربون صرفا وتمزج للأَبرار وهذا لا يناسب تقدير يشرب الرحيق ممتزجا بها المقربون والجمهور على أن الأبرار أصحاب اليمين وهم دون المقربين والمقربين هم السابقون كان شرابهم نفس التسنيم لا ما يمزج بالتسنيم.

 

إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)

{ إنَّ الَّذِينَ أجْرَمُوا } كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص ابن وائل { كَانُوا } في الدنيا أي يقال يوم القيامة بمسمع الكفار المذكورين إن الذين أجرموا، كانوا إلى قوله يفعلون ويدل لذلك قوله{ فاليوم الذين آمنوا }[المطففين: 34] { مِنَ الَّذِينَ آمنُوا يَضْحَكُونَ } استهزاء بهم لإيمانهم وفقرهم كعمار وصهيب وبلال، وذكر أبو حيان أن الإمام علياً مر هو وجماعة من المؤمنين بجماعة من الكفار فضحكوا استهزاء فنزل إن الذين أجرموا إلى آخر السورة قبل أن يصل عليّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك في مكة.

 

وقيل المراد المنافقون في المدينة وقالوا ربنا اليوم الأَصلع أي سيدنا الرجل الأَصلع يعنون علياً وقد قيل إِن السورة مكية إلا ثماني آيات في آخرها إِن الذين أجرموا وقيل إنها مدنية إلا ست آيات من أولها والمشهور أن ما نزل الهجرة وقبل الوصول إلى المدينة مدني فقيل نزلت السورة بعد ونحوه قبل الوصول ووصلتهم السورة قبل وصوله ولا يلزم من أنهم أخبث الناس كيلاً ووزناً أنها نزلت بعد وصوله، وفي البيهقي أول ما نزل بالمدينة سورة التطفيف وقدم الجار والمجرور للفاصلة وطريق الاهتمام وبهم قيل وللحصر أي لا يستخفون إلا بالمؤمنين وهم أهل لأَن يعظموا.

 

وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)

{ وَإِذَا مَرُّوا } أي الذين أجرموا كما أن الضمائر قبل وبعد لهم. { بِهِمْ } بالذين آمنوا أو واو مروا بالمؤمنين وهاء بهم للذين أجرموا ويقويه سبب النزول { يَتَغَامَزُونَ } يغمز بعض الذين أجرموا بعضاً بأعينهم وأيديهم استهزاء بالمؤمنين.

 

وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)

{ وَإِذَا انقَلَبُوا } أي الذين أجرموا من مجالسهم أي التبسوا بالانقلاب في الطريق { إِلَى أهْلِهِمُ انقَلَبُوا } قبل الوصول { فَكِهِينَ } متلذذين بذكر المؤمنين مستهزئين بهم بعد تفكههم أيضاً قبل الانقلاب في مجالسهم وذلك صراح في الانقلاب وبالتغامز في حضرة المؤمنين أو مرورهم أو مرور المجرمين ولا يظهر ما قيل من أن المراد الإشارة إلى أنهم يعدون صنيعهم ذلك من أحسن ما اكتسبوا في غيبتهم عن أهلهم أو إلى أن له وقعاً في قلوبهم ولم يفعلوه مراعاة لأَحد بل لحظ أنفسهم.

 

وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32)

{ وَإِذَا رَأوْهُمْ } أي رأوا المؤمنين حيثما أمكن { قَالُوا إنَّ هؤُلاَءِ } المؤمنين مطلقا لا خصوص من رأوهم أو المراد خصوصهم في العبارة وعلة الإيمان شاملة لغيرهم واقصدهم { لَضَالُّونَ } عن الحق الذي نحن عليه من عبادة الأَصنام وسائر ما نفعل ونقول مما يظهر لعقولهم أنه لا بأس به.

 

وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)

{ وَمَا أُرْسِلُوا } الواو للحال من واو قالوا. { عَلَيْهِمْ } على المؤمنين { حَافِظِينَ } يحفظون أحوالهم ويشهدون عليهم بضلال أو رشد وذلك من وظائف رسل الله تعالى ثم ليسوا برسله وذلك تهكم بهم أي إن كنتم يا كفار رسلاً فالله لا يرسلكم بذلك ويجوز أن تكون الواو عاطفة على أن هؤلاء لضالون أي قال المجرمون إن المؤمنين لضالون وإن المؤمنين لم يرسلوا حافظين علينا بَأن نؤمن بالله تعالى وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - وجعل عليهم بدل علينا فيكون واو أُرسلوا للمؤمنين وعليهم للمجرمين كما تقول قال زيد ليفعلن كذا إِن شاء الله تريد قال لأَفعلن كذا إِن شاء الله عز وجل.

 

فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)

الفاء عاطفة واليوم متعلق بيضحك وكذا من الذين كفروا وقدما للفاصلة لا للحصر إذ لا يصح أن يقال الذين آمنوا لا يضحكون من الكفار إلا اليوم ولا يضحكون إلا من الكفار وأيضا لا يحصر على شيئين بلا عطف.

 

وقول بعضهم هم اليوم من الكفار يضحكون إلا الكفار منهم حصر ليس في الآية وإنما حصر وهو غير مراد اللهم إلا أن يراد يضحكون من الكفار فقط لا على غيرهم كما كانوا يضحكون في الدنيا على غير الكفار لأَمر أو يراد لا يضحكون الضحكَ التام أو الضحك المتأَهيل إلا على الكفار وذلك جزاء على ضحكهم في الدنيا من المؤمنين ويقال بفتح باب لا هاء النار إلى الجنة فيقال هلموا فإذا جاءُوا انغلق دونهم وذلك مرارا حتى يقال هلموا فلا يجيئون والمؤمنون يضحكون عليهم في وجوههم وهذا إن صح فقبل دخولهم النار لأَنهم بعد دخولهم لا يخرجون وأيضا يحتاج إلى صحة دخول المؤمنين الجنة قبل الكفار النار.

 

عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35)

{ عَلَى الأَرَائِكِ } مر إعرابه. { يَنظُرُونَ } حال من واو يضحكون أو خبر آخر.

 

هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)

{ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ } مفعول به لينظر معلقا عنه بالاستفهام ومعنى ثوب أُثيب أي جوزي. وهما في الخير والشَّر وغلب في الخير وهو هنا له على التهكم كقوله تعالى:{ فبشره بعذاب أليم }[لقمان: 7، الجاثية: 8]. وقوله تعالى:{ ذق إنك أنت العزيز الكريم }[الدخان: 49] إلا أن التهكم هنا ليس مواجهة وفائدة استخفاف المؤمنين بأَعدائهم فالأَولى أن الإِثابة في الآية على الشر.

 

{ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } ما اسم مفعول ثان لثوب كما يقال جازاه خيرا أو جازاه شراً. وقدر بعض ينظرون قائلين: هل ثوب وبعض هل ثوب الكفار بما كانوا، ولا بد من مضاف أي جزاء ما كانوا يفعلون والله أعلم - وصلى اله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.