بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتْ (1)

 

{ إذَا السَّمَاءُ } السماوات كلها فالإفراد بعد بتأويل الجماعة أو السماء الدنيا { انَفَطَرَتْ } مطاوع فطرها أي شقها فانشقت نزول الملائكة يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا.

 

وَإِذَا ٱلْكَوَاكِبُ ٱنتَثَرَتْ (2)

 

تساقطت على الأرض متفرقة وتسعها الأرض لصغرها لا كما زعموا أن النجم الواحد أكبر من الأرض وتفنى أو ذلك عبارة عن زوالها وفنائها بلا وصول إلى الأَرض ولما كانت الكواكب أشياء حسنة مضيئة مركبة في أماكنها صح أن ندعى أنها شبهت بجواهر قطع سلكها فتفرقت ورمز إلى ذلك بلازم الجواهر وهو الانتثار ففي ذلك استعارة بالكناية واثبات الانتشار تخييل أو ندعى أنه عبر عن إزالتها بالنثر أو عن زوالها بالانتشار ففي انتثرت استعارة تبعية.

 

وَإِذَا ٱلْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)

 

فتحت كتفجير العين العين بعضها إلى بعض ملحها وعذبها فصارت الأَرض كلها بحراً واحداً ثم تنشفها الأَرض فتصير بلا ماء وتسوى مع أرض البحور بدفنها وبرفع أرضها أو بخفض الأرض حتى تستوي مع قعر البحور حتى لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً وذلك مناف لما يقال إن البحور نار يوم القيامة إلا أن يقال تغلي كالنار ثم تزول.

 

وَإِذَا ٱلْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)

 

قلب ترابها لتخرج الموتى والبعثرة تبديد التراب ليخرج ما تحته فهو تبديد وإخراج معاً ويستعمل أيضاً بمعنى الإخراج فقط كقوله تعالى{ إذا بعثر ما في القبور }[العاديات: 9] أي أخرج وقيل وضع للنبش وهو التبديد المذكور ووضع للإخراج ومنه البعث وعليه فالآية من استعمال المشترك في معنييه ولكن لا مانع من كون بعثرت بمعنى أخرجت فقط فالمعنى على حذف مضاف أي بعثر موتاها أو على المجاز العقلي بالتجوز في الإسناد إلى الظرف أو بمعنى نبشت وبددت كناية عن إخراج موتاه.

 

وقد قيل إن الكلمة من باب النحت وهى تركيب كلمة من بعض حروف كلمتين أو ثلاث أو بعض كلمة وكلمة تامة وهو سماعي وتكون بوزن مقبول عربي وقد خرج عن ذلك قليل أو معرب ومن ذلك بسمل وحمدل وحوقل أو حقول ودمعز بمعنى قال بسم الله الرحمن الرحيم وقال الحمد لله فهذا من حمد ولام الجر وهى كلمة تامة وقال لا حول ولا قوة إلا بالله وقال أدام الله عزك وذلك بوزن فعلل كدحرج.

 

عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)

 

{ عَلِمَتْ نَفْسٌ } علمت كل نفس وهذه نكرة مفردة عمت في الآية عموما استغراقياً لا عموماً بدلياً أي علمت النفوس ومر كلام في ذلك والمراد علمت على حصول تلك الأُمور لا عند كل واحد وذلك وقت واحد أوله من قبل نفخة الموت أو أوله نفخة الموت كما في السورة قبل هذه، وإنما كره إذا للتهويل بكل ما بعد كل واحدة.

 

{ مَّا قَدَّمَتْ } من خير أو شر { وَأخَّرَتْ } من خير أوصت به أو سنته أن يعمل به بعدها كعلم وكتاب ووقف أو من شر كذلك كأصحاب البدع أو ما قدمت من طاعة وأخرت من معصية تركها زجراً لهواه وهذا مدح فقط.

 

وعن ابن عباس قدم من معصية وأخر من طاعة وهذا والأَول مرويان عن ابن عباس وقيل ما عمل مما كلف به وما لم يعمل فيه وهذا في معنى القول الآخر وفي معنى القول الأَول وقيل ما قدم من ماله لوجه الله تعالى وما أخر لورثته ولو نوى أن يكون ماله صدقة لورثته كان له أجر ما ترك إن أخرج الحقوق في حياته وكسب من حلال والدرهم في الحياة أفضل من سبعين بعد موته وما عمل بنفسه من خير أو شر وما خلف بعده من خير أو شر جار بعده له وعليه كقوله - صلى الله عليه وسلم -:

 

" من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من دون أن ينقص عمن عمل به " وكما حض على الصدقة الجارية وقيل أول عمله وآخره ومعنى علمه به علمه تفصيلا على حد ما مر وما منسحبة على الجملتين كأَنه قيل علمت كل ما علمت مقدماً أو مؤخراً أو يقدر موصول للثانية أي ما أخرت.

 

يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ (6)

 

{ يَا أيُّهَا الإِنسَانُ } خطاب في الدنيا للكافر على العموم وعن عكرمة أنه أُبى بن خلف وعليه فيحمل غيره عليه حملاً وليس من باب خصوص السبب وعموم الحكم لأَنه كأَنه قيل يا فلان نعم إن قيل هي عامة سبب نزولها أُبى بن خلف كان من ذلك، والعموم من أول بلا حمل أولى لأَن الكلام قل وبعد على العموم ووقع بين المجمل وهو علمت نفس وتفصيله بأَن الأَبرار وأن الفجار وقيل نزلت في الوليد ابن المغيرة وقيل في أبى الشريق وهو أسيد بن كلدة وقيل اسمه كلدة.

 

{ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } الباء للبدلية والمعنى ما غرك بدلا من ربك الكريم أو بمعنى عن وضمن غرك معنى صرفك عن طاعته إلى معصيته ومقتضى الظاهر ما غرك بربك القاهر والشديد العقاب ولكن جعل بدله الكريم تلويحاً بأَنه لا يليق لعاقل ما أن يعصى من شأنه الكرم ومن أنعم بالنعم العظام قال بعض أقول غرني عفوك وكرمك وسترك،وعن الفضيل بن عياض إن سأَلني قلت غرني سترك المرخى وستورك المرخاة، وعن يحيى بن معاذ غرني برك سالفاً وآنفاً.

 

وقال أبو بكر الوراق غرني كرم الكريم وقال قتادة غره عدوه المسلط عليه وعن الحسن غره شيطانه وعن عمر غره حمقه وقرأها - صلى الله عليه وسلم - فقال غره الجهل وقرأها عمر فقال إنه كان ظلوماً جهولاً وكل ذلك صحيح لا يتناقض إلا أن بعضا راعى سعة الرحمة وتمناها وجرى على ذلك حتى قيل على سبيل الانبساط هذا تعليم من الله الجواب لنا في الدنيا ويقال يعرف حسن الخلق والإِحسان من قلة الأدب في الغلمان وبعضا راعى الإِجلال وعن ابن مسعود يخلو الله بكل أحد ويقول يا ابن آدم ما غرك بي ماذا عملت فيما علمت يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين.

 

ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)

 

{ الَّذِي خَلَقَكَ } أنشأَك من النطفة ثم من علقة إلخ { فَسَوَّاكَ } جعلك مستوى الأَعضاء تامها تصل بها إلى منافعها من قبض وبسط ونطق وسمع وشم وأكل وسائر الأَعمال والتسوية يطلق على إكمال الشيء بحيث يحصل المقصود حتى أنه يقال سوى الطعام بمعنى طبخه على وجه مطلوب وعلى جعل الأشياء على سواء قيل وهو الأصل فالأعضاء سوية سليمة معدة لمنافعها { فَعَدَلَكَ } جعل أعضاءك معتدلة متماثلة ليس يد أطول من أخرى أو عين أوسع من أخرى وهكذا أو يد إنسان ورجل بعير أو نحو ذلك أو عدلك صرفك عن الخلقة التي لا تليق وجعلك منتصباً لا منكباً كالبهيمة والعدل عن كذا الصرف عنه والتشديد للتأكيد وقد قرأ الجمهور بالتخفيف.

 

فِيۤ أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ (8)

 

{ فِي أيِّ صُورَةٍ } متعلق بركبك أو حال من الكاف الاسمية { مَّا } صلة للتأكيد أو للتعميم وهى حرف أو نكرة غير موصوفة وهى نعت بمعنى عجيبة { شاءَ رَكَّبَكَ } أي ركبك في أي صورة شاء تركيبك عليها من طول وقصر ورقة وغلظ وحمرة وبياض والحسن والقبح والذكورة والأُنوثة وشبه أب أو أم أو خال أو عمة أو خالة وإن شاء خلقك على صورة بعير أو بقرة أو ظبي ونحو ذلك.

 

وأي بمعنى الصفة ولم تعطف الجملة لأنها بيان لعدلك وقال بعض أي موصولة صلتها شاء أي شاءها وما صلة وذلك قول ابن عصفور بجواز إضافة أي الموصولة إلى النكرة وأجاز بعض أنها شرطية كما تقول بمن تمْر أمر وركبك بمعنى المستقبل وأجيز تعليق في بعدلك وما مفعول مطلق اسم شرط أي أي تركيب شاء ركبك.

 

كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِٱلدِّينِ (9)

 

{ كَلاَّ } ردع عن الاغترار بكرمه تعالى فيجعل كرمه ذريعة إلى المعاصي قبح الله قائلا:

 

تكثر ما استطعت من الخطايا .... ستلقى في غد رباً غفوراً

تعض ندامة كفيك مما ........ تركت مخافة الذنب السرورا

 

والسرور مفعول لتركت ومخافة تعليل { بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ } ترشيح قيل لقوة اغترارهم بإيهام أن اغترارهم أسوأ حالاً من التكذيب أو الخطاب في يا أيها الإنسان... الخ للعموم كما هو الصحيح فيكون قد خوطب الكل بما في بعضهم والإضراب انتقالي والكلام من الله حق كله أو إبطالي أي لا مقتضى هنا لغرورهم بل حملهم تكذيبهم على ما هم عليه أو لا تستقيمون على ما يوجبه إنعامي عليكم من الشكر بل تكذبون أو ليس الأمر كما تزعمون من انتفاء البعث لكن لا تقرون بذلك بل تكذبون لا ترتدعون بهذا الردع بل تكذبون والدين دين الإسلام إجمالاً أو الجزاء.

 

وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)

 

ملائكة حافظين لأعمالكم لتجازوا عليها.

 

كِرَاماً كَاتِبِينَ (11)

 

{ كِرَاماً } ذوى شرف عندنا.

 

{ كَاتِبينَ } لأعمالكم.

 

يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)

 

أيها الكفرة والمؤمنون ولا يكتبون عمل المجنون إلا إذا عقل ويكتبون حسنات الطفل على الصحيح وهو الحق وقيل لا يكتبونها لأَنه لا يعاقب وفيه أن الله يمن بالرحمة ولا يضيع عملاً وقيل لا يكتبونها لأَنه يبعث ويصير ترابا وهو خطأ ومخالفة للقرآن والحديث ولا يفارقون الإنسان إلا عند قضاء الحاجة والجماع والعرى للاغتسال أو غيره ومع ذلك لهم خبرة بإذن الله تعالى بما فعل في تلك الأحوال من طاعة أو معصية ويجعل الله علامة لما يفعل الإنسان في قلبه فيكتبونه وقيل لا ويكتبون حتى أنين المريض وصراخ الصارخ فزعاً ولا يكتبون ما لا ثواب ولا عقاب فيه وقيل يكتبونه ويسقط يوم القيامة،

 

ويقومون على قبر من وكلوا عليه يستغفرون له ويسبحون ويهللون ويكبرون إلى يوم القيامة وله ثواب ذلك إن كان مؤمنا ويلعنونه إن كان كافراً، لكل أحد ملكان ملك الحسنات على العاتق الأيمن وهو أمير على ملك السيئات وغيرها ولا يكتب إلى أن تمضى سبع ساعات وقيل ست ولم يتب ولم يكفرها بشيء وذلك أنه يمكن أن يعصى، ولم ينو الإصرار ويعمل كفرا لها ولم يستحضر التوبة هذا وجه وعن الإمام عثمان مرفوعاً أن لكل أحد عشرين ملكا ويقال أربعمائة ملك من حيث كان نطفة إلى أن يموت ولا يتبدل ملائكة الكتابة وقيل كاتب الحسنات يتبدل وهؤلاء الكاتبون غير المعقبات وغير الحفظة عن الجن وما شاء الله تعالى من الأسواء.

 

إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)

 

{ إنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } عظيمة.

 

{ وإنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } عظيمة أي دار العقاب الشاملة للزمهرير.

 

يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ ٱلدِّينِ (15)

 

{ يَصْلَونَهَا } نعت جحيم أو حال من ضمير الاستقرار أي مقاسين لحرها { يَوْمَ الدِّينِ } يوم الجزاء الذين يكذبون به استقلالا ولو لم يكن لهم إلا تكذيبهم وقيل يصلونها لشركهم ومعاصيهم كلها وهو الصحيح.

 

 وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ (16)

 

ولو لحظة عين وذهابهم إلى الزمهرير غير خروج وغير غيوبة عن الدار المسماة الجحيم ومعنى يصلونها يصلون نارها أو حرها وصلى حرها لا ينافي عذاب زمهريرها، قال الله عز وجل{ وما هم بخارجين منها }[المائدة: 37]، وقيل وما هم عنها بغائبين إنهم فيها من حين ماتوا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

 

" القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار " تعذب روح الكافر في النار أو يؤتى إليه منها بما يحرق في قبره بقدر مَا لاَ يضر غيره والجملة الاسمية هذه معطوفة على الفعلية قبلها أو حال، وغائبين للاستقبال وهى مقارنة لأنهم حال صليها غير غائبين عنها وإن أُريد بنفي الغيبة عنها الإخبار بأنهم أبداً لا يغيبون فهي مقدرة أي ناوين أنهم لا يغيبون عنها وإن أُريد نفي غيبتهم عنها حين كانوا في قبورهم فمحكية.

 

قال سليمان بن عبد الملك لأبى حازم المزني ليت شعري ما لنا عند الله تعالى فقال اعرض عملك على كتاب الله تعالى فإنك تعلم ما عند الله تعالى فقال أين أجد ذلك في كتاب الله تعالى قال عند قوله تعالى{ إنَّ الأبرار لفي نعيم وإنَّ الفجار لفي جحيم }[الانفطار: 13 - 14] فقال فأين رحمة الله قال فإن رحمة الله قريب من المحسنين.

 

وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ (17) ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ (18)

 

استفهام تعجيز وأكده بقوله عز وجل:

 

{ ثُمَّ مَا أدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدَّينِ } ولا سيما مع ثم الدالة على تراخى الرتبة أخبر بعظمته ثم أخبر أن له عظمة أكبر، وعن ابن عباس كل ما في القرآن من ما أدراك فقد أدراه به وكل ما فيه مما يدريك فإنه لم يخبره به ولم يقل وما أدراك ما هو ثم ما أدراك ما هو أو ما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما هو بل أظهر للتفخيم والخطاب لكل من يصلح له وقيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل للكافر زجراً له.

 

يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)

 

{ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفسٍ شَيْئاً } ما من الأشياء أو من الأعمال الصالحة أو من الأعمال النافعة كإزالة ضر أو جلب نفع والمراد ما عدا الشفاعة لأهلها والنصب باذكر محذوف كما إذا علمت الناس علماً ثم صرفتهم بالوعظ إلى العمل بما علمتهم وهذا أولى من أن يجعل ظرفاً لمحذوف أي يدنون إليها أي يدخلونها لأن يصلونها يغنى عنه وكذا تقدير يشتد الهول يوم لا تملك وأولى من ظرفيته لمحذوف جعله بدلاً من يوم أو خبراً لمحذوف أي هو يوم مبنياً على الفتح على قول الكوفيين وقد مر ذكره.

 

{ وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ } والأمر يوم إذ بعثوا لله تعالى والأَمر واحد الأُمور أو ضد النهى لا يكون لغير الله ولا لغيره معه بل له وحده لمن الملك اليوم لله الواحد القهار، اللهم ببركة هذه السورة المختومة بلفظ الجلالة اغفر لنا ذنوبنا واقض حوائجنا وسهل لنا يوم البعث والبرزخ والحشر والموقف - وصلى الله عليه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.