بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)

 

لفت ولفها عبارة عن إِفنائها أو إِفناء ضوئها كما روي عن ابن عباس تفسيره بأَظلمت وذلك كما يخسف القمر وقيل ألقيت عن فلكها يقال كورته بضربة أي طرحته على الأَرض مجتمعا وقيل تلف وتلقى في جهنم يعذب بها عبادها وفيه خبر يروى ويروى أنها تلقى في البحر مع القمر والنجوم وتضربه ريح الدبور فيصير ناراً يوسع الله البحر حتى يسعها أو يصغرها كذلك والله قادر كما روى أنها تدنو من أهل المحشر حتى تكون قدر ميل فيلجمهم العرق فإِما أن تدنو بلا نور مع بقاء حرارتها أو مع نورها ويزول بعد ذلك فتلقى في النار لتعذيب عابديها ولا يلزم أن لا بحر ألا ترى إِلى قول من قال تلقى في البحر فيكون ناراً لكن لا حجة لذلك صحيحة، وعن أبى صالح كورت نكست.

 

وعن ابن عباس تكويرها إِدخالها في العرش وقيل تلف كما يلف الثوب حقيقة واعترض بأَنها كرية مستديرة فلا تقبل اللف لحصوله معها وأُجيب بأَنه لا مانع من كونها غير كرية قيل وبأَنها كرية تبسط ثم تكور وفيه تكلف وبأَنه يزاد في ضمها وتكويرها حتى تكون أصغر عما كانت عليه وقد قال الله تعالى{ يوم نطوي السماء }[الأنبياء: 104] وهو على ظاهره أو عبارة عن إِفناء السماء قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم " من سره أن ينظر إِلى يوم القيامة رأي عين فليقرأ إِذا الشمس كورت وإِذا السماء انفطرت وإِذا السماء انشقت يعني السور الثلاث ووجه السور أن يرى أمراً غريباً أخروياً وهو في الدنيا ".

 

وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتْ (2)

 

سقطت عن الأَرض ونزلت كما يقال انكدر البازي إِذا نزل بسرعة على ما يأَخذ وعن الكلبي وعطاء تمطر السماء يومئذ النجوم فلا يبقى فيها نجم وتسعها الأَرض مع كثرتها وعظمها بأَن يصغرها الله تعالى أو ليست كبيرة كما في علم الهيئة بل هي كما ترى أو أكبر بقليل وهذا هو الصواب ألا ترى إِلى تقاربهم وإِدراك العين لما لا يحصيه إِلا الله عز وجل ويجمعها مقدار من الأَرض تحيط به العين وقد قيل إِنها بأَيدي الملائكة تحت السماء الدنيا كالقناديل وإِذا ماتوا سقطت وليست في أفلاك

 

وقيل انكدرت تغيرت بزوال نورها كتغير الماء فاستعار الانكدار لزوال الضوء ويقال تسقط وتلقى في النار مع الشمس والقمر لتعذيب عبادها بها لحرارتها، وقيل هي شاملة للشمس والقمر فذكر الشمس تخصيص قبل تعميم لمزيتها.

 

وَإِذَا ٱلْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)

 

أُزيلت عند النفخة عن أماكنها شبهت الإِزالة عن أماكنها بالتسيير لجامع التحويل أو سيرت تحقيقاً بعد رفعها في الهواء كما قال وهي تمر مر السحاب ثم صيرت هباء منبثاً.

 

وَإِذَا ٱلْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)

 

{ وَإِذَا الْعِشَارُ } النوق اللاتي أتى عليهن عشرة أشهر من حين حملن ويعلم ذلك بحين إِرسال الفحل عليها وذلك اسمها حتى تضع والمفرد عشراء بضم ففتح كنفاس جمع لنفساء، { عُطِّلَتْ } تركت مهملة بلا طلب لها ولا رعى وهي أعز مال عند أهلها قبل هذا الوقت المذكور، وقيل العشار مطلق النوق ولو لم تحمل فتكون عطلت عن إِرسال الفحل فيما قيل ذلك عند قرب الساعة جداً لما يرون من الهول كنفخة الفزع وفيه أن الكلام قبل وبعد في يوم القيامة فهذا التعطيل فيه بل تبعث الحيوانات كلها وفيها العشار ولا يعبأون بها لما هم فيه من الهول ولعدم الحاجة إِليها حينئذ.

 

وقيل تمثيل لشدة الهول بأنَه لو كانت هناك عشار لم يعبأ بها وقيل العشار السحابات تشبه النوق الحوامل يرجى إِمطارها كما يرجى ولادة النوق وتعطيلها منعها عن الإِمطار أو مجاز عن عدم ارتقاب أمطارها لأَنهم في شغل عنه وفيه أنه يحتاج إِلى ثبوت السحاب يوم القيامة وقيل الدور تعطل عن السكنى وفيه أنه لا تبقى دار مبنية يوم القيامة لأَن الأَرض تسوى وقيل الأَرض التي يؤخذ عشر زرعها وتعطيلها ترك زرعها ولا يخفي بعده وأيضا السورة مكية قبل أن تفرض الزكاة ولو فرضت لم تحقق إِلا في المدينة قريبا من الهجرة ولا عهد للجاهلية في أخذ عشر زرع الأَرض.

 

وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)

 

{ وَإِذَا الْوُحُوشُ } الحيوانات التي لا تأنس ببني آدم وإِذا كانت تحشر فالحيوانات الإِنسية أولى بالبعث، وقيل المراد ما يشملها على التجوز للإِطلاق والتقييد.

 

{ حُشِرَتْ } جمعت من كل موضع فيحشر كل حي حتى الذباب وانظر الحوت هل يحشر في البر بلا ماء والله قادر كما أحيا الناس بلا طعام ولا شراب وهو الظاهر فتقتص الحيوانات بعض من بعض حتى الجماء من القرناء والذرة من الذرة كما جاء في الحديث " لتؤدى الحقوق لأَهلها حتى تقتص الجماء من القرناء والذرة من الذرة ثم تكون تراباً " والحوت بعضه مع بعض في الضر كذلك يؤذى بعض بعضا وقيل ذلك كناية عن العدل التام وقيل ذلك قبل النفخة الأُولى تخرج نار يفر الناس منها والحيوانات حتى تجتمع في الموقف وتموت فيه وتبعث ولا حجة لهذا وكذا القول بأَنها تجمع إِليه وأنه لا يبعث إِلا الثقلان وهو إن ثبت ابعد كما قيل عن ابن عباس حشرها جمعها بالموت ولا تبعث هي ولا ما مات منها في قبل منها.

 

وَإِذَا ٱلْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)

 

أُزيل ماؤها وأُحميت بالنار وصارت دار العذاب كما في الخبر أن البحر غطاء جهنم، وقيل ملئت بأَن خلط بعضها ببعض حتى الماء العذب وجعلت بحراً واحداً والحشر في لغة خثعم الجمع.

 

وقيل ملئت ناراً لتعذيب أهلها وقيل ملئت ناراً لتستوي مع ارض الموقف وقيل منعت من الفيض على الأَرض لشدة الهول كما يمنع الكلب بالساجور ويقال تقول الجن للإِنس نحن نأتيكم بالخبر فينطلقون إِلى البحر فإِذا هو نار تتأَجج ثم تنصدع الأَرض صدعة واحدة إِلى الأَرض السابعة وإِلى السماء السابعة ثم تجئ ريح تميتهم فنقول كيف يهمل نفخ إِسرافيل فهذا لا يصح إِلا أن يقال تميتهم مع نفخة قال أبو العالية ست في الدنيا والناس في أسواقهم ينظرون إِذا الشمس كورت إِلى سجرت وست في الآخرة وإِذا النفوس زوجت إِلى أُزلفت وقيل الست الأولى بين النفختين نفخة الموت ونفخة البعث وقيل قبل النفخة الأُولى إِلى الثانية ومرادي بالنفخة الأُولى نفخة الموت.

 

وعن أُبى بن كعب ست آيات في الدنيا بينما الناس في أسواقهم إِذ ذهب ضوء الشمس ثم انكدرت النجوم ثم وقعت الجبال على وجه الأَرض فتحركت الأَرض واضطربت واختلط الجن والإِنس والوحش والطير والدواب فتقول الجن نأتيكم بالخبر فذهبوا إِلى البحر فإِذا هو نار ثم انشقت الأَرض فجاءت ريح فماتوا.

 

وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)

 

قرنت كل نفس بشكلها، الرجل الصالح بالصالح في الجنة والطالح بالطالح في النار كما جاء عن عمر موقوفا وعن النعمان مرفوعا وقيل تقرن الأَنبياء في المحشر بعض مع بعض والرسل مع الرسل والعباد مع العباد والعلماء مع العلماء والأَولياء مع الأَولياء والغزاة مع الغزاة وهكذا في أهل الشر، وعن مقاتل يقرن المؤمنون بأَزواجهم في الجنة والكفار بالشياطين في النار، وقيل كل عامل يصاحب عمله في الخير والشر العالم بالعالم والزاني بالزاني وهكذا، وقيل اليهود باليهود والنصارى بالنصارى، وقيل كل نفس بكتابها وقيل بعملها، وقيل كل نفس بخصمها إِن كان لها خصم، وقيل الأَرواح تقرن بأَجسادها عند البعث.

 

وَإِذَا ٱلْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بأيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9)

 

{ وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ } البنت المثقلة بالتراب بدفنها حية حتى تموت يقال وأده بتقديم الواو على الهمزة أثقله وأوده بتقديم الهمزة على الواو بمعنى أعوجه أو ثقله والمثقل بالحمل يعوج لثقل ما حمل عليه سبحانه وتعالى عن صفات الخلق وكان الجاهلية يدفنون بناتهم خوف الفقر أو لوجوده كما قال الله عز وجل{ خشية إِملاق }[الإسراء: 31] وقال{ من إِملاق }[الأنعام: 151]، والمراد فقرهم وهو الأَظهر أو فقرهن أيضا بعدهم فيلممن بعيب.

 

كما روي أنهم يدفنونهن لخوف صدور عيب منهن كزنى وسرقة وقيادة ولقبح خلقتهن وكانوا يقولون الملائكة بنات الله سبحانه فمن كره بنتا قتلها إِلحاقا به وكانت المرأة تلد على حفرة فإِن ولدت بنتاً دفنتها فيها بأَمر أبيها أو برضاه وإِن لم يفعل بها ذلك تركت حتى إِذا كانت سداسية حفر لها في صحراء وقال لأُمها زينيها نزر بها أحماءها ويقول لها انظري في الحفيرة فيدفعها فيها من خلفها ويدفنها ويسوى الأَرض وإِن أراد حياتها ألبسها جبة صوف أو شعر واسترعاها الإِبل والغنم.

 

{ سُئِلَتْ. بأَي ذَنبٍ قُتِلَتْ } استفهام إِنكار للياقة قتلها وتهديد لقاتلها بلا خطاب له لشدة الغضب عليه وحطه عن درجة الخطاب وبعث لها على القيام بحق نفسها ونصرة لها، ومثل ذلك قوله أأنت قلت للناس الخ، وعن عمر رضي الله عنه " جاء قيس بن عاصم التميمي إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال وأدت ثمانى بنات فقال - صلى الله عليه وسلم - أعتق عن كل واحدة رقبة قال إِني صاحب إِبل فقال اهد عن كل واحدة بدنة " وذلك ندب لا إِيجاب لأَن الإِسلام يجب ما قبله.

 

ومن العرب من يستقبح ذلك كجد الفرزدق صعصعة ابن ناجية قال يا رسول الله عملت أعمالاً في الجاهلية هل لي أجر أحييت ثلثمائة وستين من الموؤدة كل بناقتين عشراوين وجمل فقال - صلى الله عليه وسلم - " لك أجر إِذ مَن الله عليك بالإِسلام " وافتخر به الفرزدق وحق له أن يفتخر إِذ قال:

 

وجدي الذي منع الوائدات     فأَحي الوئيد فلم تؤد

 

فتقول لهذا الحديث حسنات المشرك حال شركه تقبل وسيئاته تغفر إِذا أسلم وأجاز ابن عمر وابن عباس وأبو سعيد الخدري وجابر ابن عبد الله العزل وهو أن يصب النطفة خارج الفرج لئلا تحمل وكذا ابن مسعود واستدلوا بقوله تعالى:{ فأتوا حرثكم أنَّى شئتم }[البقرة: 223]، ولا دليل فيه لأَن معناه في القبل من جهة البطن أو الظهر ومعنى قدموا لأَنفسكم الخ اتخاذ الولد من النكاح وعن جابر بن عبد الله كنا نعزل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقرآن ينزل ولم ينهنا قيل كان اليهود يكرهون العزل ويقولون إِنه الوأد الصغير فنزلت الآية: { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنَّى شئتم }[البقرة: 223]. ولا يصح ذلك والصحيح تحريم العزل لأَن فيه قطع النسل إِلا لموجب مثل تلاحق حمل على حمل فتضرر هي والجنين أو أحدهما.

 

وجاء الحديث أن العزل وأد خفي وهو حرام مطلقا لأَنه قطع للنسل ومشبه بالقتل ولو كانت المرأة حرة ورضيت، وقال الشافعي لا يحرم العزل في السرية أو الزوجة الأَمة ولو لم ترض بل يكره ولو رضيت لأَنه يمنع من بيعها إِن ولدت وذلك في مذهبهم وولده من زوجة الأَمة عبد والحق أن الزوجة الأَمة لا يعزل عنها بمجرد إِذن مالكها لأَن لها حق الزوجية فيحتاج إِلى إِذنها وإِذن مالكها وقالوا إِن أذنت الحرة لم يحرم وإِلا فالأَصح أن لا يحرم ولا يعارض ما مر من تشبيه الوأد بالقتل بالرئاء من حيث أنه شبه بالشرك مع أنه ليس له حكمه لأَنا نقول للمرائي حكم المشرك في العقاب والاستمناء باليد كالوأد وإِباحة بعض لمن خاف الزنى لكن إِذا كان يستحضر في قلبه من ليست زوجة له ولا سرية حرم والآية دليل على أن الكافر مخاطب بفروع الشرع وأولاد الأَشقياء وولد الزنى والبالغ مجنونا من الكفولية إِلى أن مات وأبوه مشرك في الجنة خدماً لأَهلها.

 

وحديث الوائدة والموؤدة في النار موضوع فإِن صح فالمراد أن الموؤدة في النار بلا ألم تعذب من وأدها كالزبانية وكذا حديث سؤال خديجة عن ولدين ماتا في الجاهلية فقال في النار موضوع، أو أرادت بالغين قريبي العهد بالطفولية إِذ لا يستحق النار بلا عمل ذنب ولا ذنب لهم إِذ لم يكلفوا وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ولا نسلم أن قوله - صلى الله عليه وسلم - الله أعلم بما كانوا عاملين لو كانوا عاملين بمعنى أنهم من أهل النار لأَنه ليس المعنى الله يعلم أنهم لو بلغوا لكفروا بل معناه الوقف ولما جاءه أن الله أعطاه إِياهم علم أنهم من أهل الجنة سأَلت ربى في اللاهين فأَعطانيهم خدماً لأَهل الجنة وهم أطفال المشركين والمنافقين.

 

وفي حديث الإِسراء رأي صلى الله عليه وسلم أولاد الناس وأولاد المشركين حول إِبراهيم عليه السلام ولا يصح ما قيل أنهم بين الجنة والنار ولا يصح ما قيل توضع لهم نار من لم يقتحمها جر للنار ومن اقتحمها دخل الجنة لأَن الآخرة ليست دار تكليف وأخطأَ من قال يصيرون تراباً وأطفال من آمنوا يكونون مع آبائهم في الجنة إِكراماً لهم وأما زجره - صلى الله عليه وسلم - عائشة عن جزمها في صبى من الأَنصار أنه من أهل الجنة وقوله الله أعلم بما كانوا عاملين لو كانوا يعملون فقبل أن يعلم أن ولد المؤمن تبع له في الجنة وأن أولاد الأَشقياء في الجنة خدم لأَهلها.

 

وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)

 

{ وَإِذَا الصُّحُفُ } ، صحف الأَعمال.

 

{ نُشِرَتْ } لتقرأ فيحاسب بما فيها وقد كانت قبل ذلك وبعد موت أصحابها منشورة جاء الحديث بذلك والمشهور أنها بعد الموت تطوى وقيل نشرت بين أصحابها كما قال مرتد بن وداعة إِذا كانوا يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش فتقع صحيفة المؤمن في يمناه مكتوباً عليها في جنة عالية وصحيفة الكافر في يسراه مكتوباً عليها في سموم وحميم وهي غير صحف الأَعمال.

 

وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا ٱلْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12)

 

{ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ } أُزيلت استعارة من كشط الجلد عن الشاة أي سلخه.

 

{ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ } أوقدت إِيقاداً شديداً والتشديد للمبالغة كما يقال من الثلاثي مسعورة وسعير وقد قرأها الإِمام على بالتخفيف قال قتادة سعرها غضب الله وخطايا بني آدم.

 

وَإِذَا ٱلْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13)

 

قربت من المتقين قال الله تعالى وأُزلفت الجنة للمتقين غير بعيد كررت إِذا لأَن كل واحدة ما بعدها حجة كافية وجاء التكرير في كلام العرب للتأكيد وللحكم الأُخرى ومضى كلام في ذلك في سورة المرسلات ومن ذلك قول مهلل يرثى كليبا بعد أبيات:

 

على أن ليس عدلا من كليب ................ إِذا ما ضيم جيران المجير

على أن ليس عدلاً من كليب .............. إِذا رجف العضاة من الدبور

على أن ليس عدلاً من كليب ................. إِذا خرجت مخبأَة الخدور

 

على أن ليس عدلاً من كليب ................ إِذا ما أعلنت نجوى الأُمور

 

على أن ليس عدلاً من كليب .............. إِذا خيف المخوف من الثغور

على أن ليس عدلاً من كليب ..................... غداة تأَثل الأَمر الكبير

على أن ليس عدلاً من كليب ................ إِذا ما خار جأَش المستجير

 

 

ومن ذلك قول بعض العرب المولدين ممن لو احتج به لجاز من عرب حضرموت في درجة أبى نواس أو المتنبي:

 

أبا الفضل إِني لم أقم لرياسة .............. وفخر ولا والله شأن المفاخر

أبا الفضل إِن الفضل أفضله الذي ........ يكون لوجه الله فانصر ووازر

أبا الفضل مات الدين وانطمس الهدى..وصارت بيوت الله مأوى المزامر

أبا الفضل شهر الصوم صار نهاره ...... لشرب خمور واعتناق شواطر

 

أبا الفضل أركان الجحيم تعطلت .......... وعطل ذكر الله عند المشاعر

أبا الفضل رايات الأَخاير نكست ... وأضحت سلاطين الوغى في المقابر

أبا الفضل من تروى من النوم عينه ... وقد أحدث الغاوون سبى الحرائر

 

 

وقول ذلك البعض:

 

طوبى لساكنها إِذا صار مغتبطاً ....... فيها بها وبما فيها من الخير

طوبى لساكنها إِذا صار مغتبطاً ....... فيها بمقعد صدق عند مقتدر

طوبى لساكنها إِذا صار مغتبطاً ....... بالخلد في نعم تبقى بلا كدر

 

طوبى لساكنها إِذا صار مغتبطاً ... فوق الرفارف ذا ملك وذا خطر

طوبى لساكنها طابت له سكنا ...... طوبى له وله الطوبى مع البشر

طوبى لساكنها طوبى لقاطنها ......... طوبى لواطنها طوباه بالظفر

 

 

وقول ذلك البعض:

 

ذاك الذي جلى عمانا بعد ما ............ واراهم غيم الطغى بديول

ذاك الذي يخطو خطا من صار في ...... وادي القرا واسك ونخيل

ذاك الذي أبدى لنا ما قد مضى .... من راشد والصلت وابن رحيل

 

ذاك الذي لما يزل مستلئما ................ لله في المستلئمين عدول

يا خير خل في الإِله أجب أجب ........... ناداك إِخوان بوجه قبول

يا خير خل خربت أوطاننا ................. واستبعد السفاه كل نبيل

 

يا خير خل لم نطق الأَذى .............. عن أخذ مكنون وجذ نخيل

يا خير خل لو ترى من نحونا ....... من شقشقات البغى بعد صهيل

يا خير خل هل لنا من راحة ............... مما لدينا من دناة غفول

 

يا خير خل من بقى من بعدنا .. أضحى لدى المحراب ضرب طبول

يا خير خل غالنا ما غالكم ............... فيما مضى من ديلم وعقيل

يا خير خل أصبحت أسواقنا ........... أسواق سحت واعتدا ومحول

يا خير خل حسبنا أن الفتى ........... يجزى الفتى كيلا بصاع مكيل

 

وقول ذلك البعض:

 

والسيف والله الذي لولاه ما ............. قامت قناة الدين والإِسلام

والسيف والله الذي عزت به ........... أعناق أهل الدين والأَحكام

والسيف والله الذي في حده ............ وعظ غداة الهرج والغمغام

 

والسيف والله الذي لا خير في ............ من لا يراه سيرة الحكام

والسيف يغنى الهام عن أجسادها .... والعز في الدارين قطف الهام

والسيف دين مستقيم قيم ............... والسيف يجلو كربة الهمهام

 

والسيف أنس المرء في أيامه .......... أدنى من الأَخوال والأَعمام

والسيف سيف باطل إِلا إِذا ................ وافاه كفُّ الفاتك المقدام

والسيف مهر الحور في إِلقائه ........... فوق الطلا في قسطل قتام

 

أين الأَبي اليوم أو أين الذي .............. لم يختطم بالذل والإِرغام

أين الذي لا يلتوي في أنفه ................ قسراً زمام الذل كالإِنعام

أين الذي يحمى حمى دين الهدى ...... أين الذي يحمى حمى الأَيتام

 

أين الذي لو قيل يوما في الوغى ...... من للنزال انقض كالضرغام

أين الذي يصبو إِلى صوت الندى .......... جوداً بلا حقر ولا إِلزام

أين الذي تعلو على لذاته .................. هماته أين الكمى الحامي

 

أين الذي يختار ما دامت له ............ الخيرات فيها ارجح الأَقسام

أين الذي يبغى شرا شئ بلا .................  شئ قبيل الموت والإِعدام

أين الذي يزورُّ عن دار الفنا ........... والبؤس والتنقيص والأَسقام

 

من لي بقوم عاهدوني أنهم ............... يَصِلون حبلى فتية الأَقوام

مَنْ لي بقوم واعدوني أنهم .............. يجلون غماء الوغى القدامى

من لي يقوم أهل آداب بها .............. ناظرتهم في مجلس الأَعلام

 

من لي بقوم قد ناءت أنسابهم ........... ما حضتهم في الواحد العلام

من لي بقوم لم أقم حتى جرت ................. مني إِليهم بيعة الكتام

من لي بقوم فارقوني خيفة ......... من غير بغض من ذوى الأَرحام

 

من لي بقوم همهم همي وقد ............... كنا معاً في مكتب الأَقلام

من لي بقوم جاورتني دارهم ............... مالي لهم أصبحت كاللوام

من لي بقوم أبصروا في الدهر ما ............ أبصرته في ديننا القوام

 

عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ (14)

 

{ عَلِمَتْ نَفْسٌ } أي كل نفس فالعموم من المضاف المحذوف لدلالة المقام لا من النكرة في الإِثبات أو أفادت لتضمن علمت معنى النفي أي ما جهلت نفس أو لم تجهل نفس لأَن الحكم بالعلم يستلزم نفي الجهل وهكذا الحكم بالشيء يوجب نفي ضده كذا قيل وفيه إِن كان هذا على إِطلاقه في النكرات كانت النكرات في الإِثبات للعموم وإِن كانت على التخصيص فأي دليل على التخصيص في بعض ولا يوجد إِلا المقام وما أفيد بالمقام لم تفده النكرة بل المقام ويجوز أن يجعل العموم بدلياً تبعاً للشرط على معنى إِذا الشمس كورت على نفس وكذا فيما بعد فقد قصدت كل نفس على حدة،

 

وقيل النكرة تستعمل للعموم الشمولي مع الإِثبات في بعض المواضع وهذا منها وللعموم وجه آخر هو أن يفرض نفس من النفوس تعلم وكل من سمع هذا يخطر له أنه لا يخرج عن هذا النفس بل يقصد فيها أو يخطر أنه المراد فيصلح عمله ولا سيما أنه قد اتضح أنه لا مزية لواحدة على الأُخرى في التخلص من ذلك بل عمهن الكلام بالمعنى{ مَّا أَحْضَرَتْ } من عمل خير وشر تعلمه بقراءته في صحيفته وبنطق جوارحه تعلم ذلك تفصيلا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إِلا أحصاها .

 

وأجاز قومنا أن يكون المعنى يعلمها مشخصة مجسمة تصور الحسنات بصورة حسنة عكس ما في الدنيا إِذ كانت بمشقة وكراهة في الجملة والسيئات بصورة قبيحة عكس ما في الدنيا إِذ كانت فيها مزينة لموافقة الهوى وهو كلام لا يتبادر، بقى أن الشيء إِذا أحضر فلا بد لمحضره أنه عالم به لأَن إِحضاره علم به الجواب أن معنى إِحضاره التسبب في إِحضاره ولزوم إِحضاره بعلمه في الدنيا إِياه والمحضر الله تعالى، قال الله تعالى:{ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً }[آل عمران: 30]. الخ.

 

وجملة علمت جواب إِذا الأُولى كاف للثانية ومنا بعدها لمكان العطف عليها وذلك زمان ممتد يقع في بعضه كذا وفي بعضه كذا مبدأه قبل النفخة الأُولى ومنتهاه فصل القضاء وليس المراد علمت ما أحضرت إِذا كورت الشمس وتعلمه إِذا انكدرت النجوم وهكذا بل المراد إِذا تم ذلك علمت.

سورة التكوير: الآيات (15-29)

فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ (15)

 

{ فَلاَ أُقْسِمُ } إِذا كان الأَمر كذلك فلا تتهاونوا أو فلا تكفروا أو فلا تعملوا سوءاً يحضركم واستأنف أقسم أو لأَنا أقسم أو لا أقسم لظهور الأَمر أو نحو ذلك مما مر وإِذا قيل لا أقسم لظهور الأَمر أشكل بأنَه قد أجاب بأَنه لقول رسول كريم فقد اقسم، الجواب أن المراد لا يليق بكم ألا تؤمنوا إِلا إِن أقسمت.

 

{ بِالْخُنَّس } الكواكب كلها فذلك من عموم السلب مع تقدم أداة السلب على أداة العموم وهي أل أو المراد الجنس خنس إِذا انقاد.

 

ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ (16)

 

{ الْجَوارِ } المارات بسرعة ولا نسلم أن أصله للماء وما يجرى به.

 

{ الْكُنَّسِ } من كنس الوحش إِذا دخل كناسه وهو بيت يتخذه من أغصان الشجر والمفرد كانس كذلك الكواكب تخنس نهاراً تغيب عن العيون لا تبدو للعيون فكأنها دليت وخفيت للعيون إِذا طلعت الشمس وإِذا غابت النجوم كنست أي دخلت كناسها واختفت في الضوء وأيضا يغيب عنها ليلا وعن علي تكنس تطلع في أماكنها بمعنى نهاراً كالظبي الغائب عن كناسه وإِذا جاء الليل وجدت في أماكنها وأحست كما يثبت الظبي في كناسه وعنه المراد خمسة أنجم زحل وعطارد والمشترى وبهرام أي المريخ والزهرة .

 

ونقول تجب معرفة هؤلاء الخمسة على من يختبر الليل بالنجوم للصوم لئلا يوافق تأَخرهن فيأَكل أو يشرب أو يفعل ما ينقض الصوم وقد طلع الفجر والخنس الرواجع من خنس إِذا تأخر تجرى مع الشمس وترجع حتى تخفي تحت ضوء الشمس فخنوسها رجوعها بحسب الرؤية وكنوسها اختفاؤها تحت ضوئها وتسمى المتحيرة لاختلاف أحوالها في سيرها في رأي العين ولها استقامة ورجعة وإِقامة فبينما هي تجرى إِلى جهة إِذا هي راجعة إِلى خلاف تلك الجهة وبينما تجرى إِذا هي مقيمة وذلك أنها في حوامل تدور مختلفة الحركة وهن مع الشمس والقمر من السيارات السبع وسيرهن بالحركة الخاصة بخلاف النجوم الثوابت ولا خنوس ولا كنوس للشمس والقمر، وعن ابن مسعود وابن عباس أنها بقر الوحش وعن ابن عباس أنها الظباء.

 

وَٱللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)

 

أدبر ظلامه أو أقبل روايتان عن ابن عباس وذلك من الأَضداد أو المشترك المعنوي قولان وذلك في طرف الليل وقيل هو هنا بمعنى أقبل وأدبر معاً في مبدأ الليل ومنتهاه وأصله عسس أُبدلت السين الثانية من جنس فاء الكلمة وهي العين كنظائره إِلحاقاً بنحو دحرج للتأَكيد ويناسب التفسير بالإِقبال ذكر الصبح بعده بالإِقبال معبراً عنه بالتنفس فيطابقه بالأَولية ورجح بعض تفسيره بالإِدبار بأَن فيه الجوار بإِدبار الليل وإِقبال النهار.

 

وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)

 

ظهر ضوؤه شبه ظهوره بعد العدم بالتنفس بعد كونه في البطن ففيه استعارة تبعية اختار بعض المتأَخرين أن التبع في التشبيه لا في استعارة المصدر لأَنه لم يتلفظ به وقد يرجح مذهب الجمهور بأَنه يكفي في ذلك قصدها ولو لم يتلفظ به كما أن التشبيه لم يلفظ به أو شبه الصبح بإِنسان تعب بالسعي بحيث يخرج له التنفس ورمز إِلى ذلك باللازم وهو التنفس فإِثباته أو هو نفسه تخييل أو استعارة أيضا أو شبه الريح الرقيق الحاصل صبحا بتنفس الإِنسان على الاستعارة.

 

وإِسناده للصبح مجاز عقلي للجوار أو النهار بتغلب الليل كالمكروب يتنفس من كربته فالنهار يتنفس بالصبح أو كالمقتول فذكر التنفس دلالة على الحياة أو تنفس توسع وذلك تحرز عن المستطيل الذي يكون أعلاه أضوأ كما أن المنجس إِذا خرج بشدة يكون أوله أقوى ويقال ثم يعدم وتعقبه ظلمة ويقال يتناقص حتى ينغمس في الثاني ويقال يختلف حاله تارة وتارة بحسب الأَزمنة والعروض ويقال إِن ذلك الضوء لضعفه يبطل بالأَقوى وهو الفجر المستطير.

 

كما سمى عارضاً لأَنه يعرض للمستطيل وأطلق بعضهم العارض على المستطيل وقال إِنه يعرض للصادق وهو الموجود في حديث لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا العارض لعمود الصبح حتى يستطير والتنفس إِنما هو بقرب الشمس إِلى الأُفق الشرقي بثمانية عشر جزءاً والتقدير لا أُقسم بعظمة الليل إِذا عسعس وبعظمة الصبح إِذا تنفس قيل أو أقسم بالليل كائناً إِذا عسعس فإِن جعل الظرف معمولاً لفعل القسم فسد المعنى لأَن التقييد بالزمان غير مراد حالاً ولا استقبالاً ومر كلام يتخرج به عن الإِشكال وفي وجه الحالية تقييد القسم بالزمان.

 

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)

 

{ إِنَّهُ } أي القرآن الناطق بتلك الدواهي والحشر والنشر وقيل الهاء للإِخبار بها بمعنى إِنه إِخبار بحق من الله تعالى لا من مجرد نفسي واختاروا الأَول.

 

{ لَقَوْلُ رَسُولٍ } هو جبريل عليه السلام عند الجمهور نسب إِليه لأَنه أتى به عن الله عز وجل ونطق به وقوته حسية كما روى إِنه رفع مدائن قوم لوط وقلبها كما يأتي إِن شاء الله تعالى وقيل المراد سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وقوته قوة شرف كما هو المراد بالصاحب وبحث بأَنه خلاف الظاهر ولو أُريد - صلى الله عليه وسلم - لقيل وما هو بمجنون.

 

{ كَرِيمٍ } ذي شرف عند الله وقيل ذي جود على المؤمنين منعطف عليهم.

 

ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ (20)

 

{ ذِي قُوَّةٍ } في جسمه رفع مدائن قوم لوط الأَربع وفي كل واحدة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري من الأَرض السفلى حتى سمع أهل السماء صوت الدجاج والكلاب وقلبها، وقيل ذي قوة بالطاعة وتبليغ الوحي من أول الدنيا إِلى آخرها وقيل قوة الحفظ لا ينسى ولا يخلط فقوته على القولين عقلية.

 

{ عِندَ ذِي الْعَرْشِ } سبحانه وتعالى متعلق بقوله { مَكِينٍ } أو بمحذوف نعت لرسول أي كائن عنده كينونة رتبة والأَول أولى والمكانة الرفعة، أي رفيع عند ذي العرش والميم زائد والياء بدل من الواو لأَن اللفظ من الكون وأصله مكون بإِسكان الكاف وكسر الواو نقل كسرها إِلى الكاف وقلبت الواو ياء للكسر قبلها وكثر استعماله حتى ظن أن الميم أصل والياء زائدة وأن وزنه فعيل وهو مصدر بمعنى الوصف أو المراد بالكون الوجود أي ذي الوجود ولكماله صار كأَنه نفس الوجود.

 

مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)

 

{ مُّطَاعٍ } يصدر الملائكة عن رأيه { ثَّمَّ } أي عن الملائكة المقربين متعلق بمطاع وهو أولى من تعليقه بقوله.

 

{ أَمِينٍ } أي مأَمون على الوحي سأَله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الأَمانة فقال أمانتي أنى لم أُومر بشيء فعدوته إِلى غيره وكذا أمانة رسول الله صلى الله عليه وسلم - حتى أنه - صلى الله عليه وسلم - روى أنه يدخل الحجب بلا إِذن.

 

وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)

 

{ وَمَا صَاحِبُكُم } محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { بِمَجْنُونٍ } كما تكذبون عليه وتبهتونه وقد مر أن الوليد بن المغيرة قال لا تقولوا مجنون فهل رأيتموه يخنق وفي لفظ صاحب إِيماء إِلى ذلك بأَنه بين أظهركم نشأَ وصاحبتموه في الحضر والسفر ولو كان مجنونا لظهر لكم جنونه وقد علمتم أنه أكملكم عقلاً ومن الخطأ إِدعاء الزمخشري فضل جبريل عليه السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمدح جبريل دونه ووجه الخطأَ أن مدح أحد دون أحد لا يدل على فضل من لم يمدح بل يحتمل العكس والمساواة وأن المقام ليس مقام مدح له - صلى الله عليه وسلم - ومن أن المقام ليس لمدحه هو مدح له إِذا أرسل إِليه من هو أعز عليه فالمرسل إِليه أفضل من المرسل ولا ينقص ذلك بأَن الأُمة ليست أفضل من الرسول لأَن الكلام فيما لم يتبين والأُمة قد تبين أنها دون نبيها بل مؤمنوها ونبيها أفضل من جبريل عليه السلام.

 

وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ (23)

 

{ وَلَقَدْ رَآهُ } رأي صاحبكم محمد جبريل عليه السلام بعينيه على كرسي بين السماء والأَرض بصورة صغيرة أو بالصورة التي خلقه الله تعالى عليها له ستمائة جناح وأقدره الله تعالى على إِحاطة عينيه به كله أو صغر الله تعالى جسمه كما أنه يتضاءل إِذا شاء الله تعالى.

 

وعن ابن عباس سأَل رسول الله -صلى الله عليه وسلم جبريل أن يراه على صورته فقال أتقدر فقال بلى فقال في أي موضع قال في الأَبطح قال لا يسعني قال في منى قال لا يسعني قال فبعرفات قال لا يسعني قال بحراء قال إن يسعني فواعده فخرج للموعد فإِذا جبريل أقبل من عرفات وجبالها بخشخشة ملأَ ما بين السماء والأَرض ورأسه بالسماء فغشي عليه فتحول عن صورته وضمه إِلى صدره فقال يا محمد لا تخف فكيف لو رأيت إِسرافيل ورأسه تحت العرش ورجلاه تحت الأَرض السابعة والعرش على كاهله وإِنه ليتضاءل أحياناً حتى يصير كالوضع أي العصفور حتى ما يحمل العرش إِلا عظمة ربك.

 

{ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ } هو الأُفق الأَعلى من ناحية المشرق نحو أجياد كما رواه مجاهد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأجياد مشرق مكة وذلك مطلع رأس السرطان على مطالع أهل مكة وقيل أُفق المغرب وهو قول ضعيف، وعن ابن عباس الأُفق الأَعلى جهة سدرة المنتهي.

 

وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)

 

{ وَمَا هُوَ } صاحبكم محمد - صلى الله عليه وسلم - { عَلَى الْغَيْبِ } الوحي وغيره.

 

{ بِضَنِينٍ } ببخيل فيقصر في التبليغ حاشاه مطلقاً أو حتى يأخذ أجراً كالكاهن ومن أبدل الضاد بالظاء أو الظاء بالضاد أو كان ينطق بهما بلفظ واحد فسدت صلاته إِن تعمد وقدر على التمييز تهاوناً كما شاهدنا وإِن لم يتعمد فقولان وإِن لم يقدر فلا بأَس كأَكثر النساء وقد اسلم بربر وفرس وغيرهم من العجم زمان الصحابة والتابعين فنقول علموهم فمن لم يتعلم لعدم القدرة فلا بأَس وأما أن نقول لما لم ينقل التعليم علمنا أنه لا يلزم والفرق بينهما فخطأَ والضاد شبيهة بالزاي المفخمة ولذلك بدلو خطأَ ضاد مضاب بالزاي اسم رجل سميت به بلادنا هذه، سمعوا من يقرأ مضاب من أصل حافة الأَسنان وما يليها من الأَضراس يميناً أو يساراً أو منهما فتوهموه زاياً وذلك مخرجها ومخرج الظاء طرف الأَسنان وأُصول الثنايا العليا وقد اجتمعنا في قوله تعالى{ أنقض ظهرك }[الشرح: 3] .

 

وقيل هو في الموضعين بعد له - صلى الله عليه وسلم - ليوافق هذا أي وما هو ملتبس بقول شيطان ومضاب بلادنا هذه وقد ذكره ابن خلدون وفي أواخر المغرب الأَوسط قرية تسمى مضابة قريبة من قرية تسمى سعيدة وسأَلهم بعض أهل بريش فقالوا نحن بنو مضاب وبريش في لغة قديمة هو باريز.

 

وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (25)

 

{ وَمَا هُوَ } أي القرآن.

 

{ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } يرجم عند مجيئه ليسترق السمع فيلقيه على الكهنة وليس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كاهناً ولا متكهناً كما نسبوه ولا يأخذ عن شيطان، قال الله عز وجل{ وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم }[الشعراء: 210 - 211].. الخ.

 

فَأيْنَ تَذْهَبُونَ (26)

 

سمى الاعتقاد والقول دهاباً أنكر عليهم اعتقادهم وقولهم في القرآن بغير الحق فقال إِنكم ضالون كمن ضل عن طريق الأَرض قال الجنيد أين تذهبون عنا وقيل أين تسلكون.

 

إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27)

 

{ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ } تذكير.

 

{ لِّلْعَالَمِينَ } كلهم من حضر ومن غاب ومن سيجئ إِلى قيام الساعة.

 

لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28)

 

{ لِمَن شَاءَ مِنْكُمْ } الجار والمجرور بدل من للعالمين الجار والمجرور قبله بدل بعض ولعل من يدخل في الإِبدال حرف الجر فيقول هنا من شاء بدلا من العالمين، راعى أن حرف الجر توكيد لفظي للحرف الآخر قبله الذي في معناه وليس كذلك لتقييد كل بمدخوله ولو قيل جاء أخوك الكريم لقيل أخوك الثاني بدل من الأَول لا توكيد لفظي تقييده بمدخوله.

 

{ أَن يَسْتَقِيمَ } بالإِيمان والعمل الصالح.

 

 وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ (29)

 

{ وَمَا تَشَاءُونَ } الاستقامة النافعة.

 

{ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } أي إِلا أن يشاء الله استقامتكم النافعة أو يشاء مشيئتكم أن تستقيموا فمشيئتهم مترتبة على مشيئته تعالى والياء مقدرة سببية أي إِلاَّ بأَن يشاء الله تعالى قيل أو تقدر للمصاحبة ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً فلا تقدر الباء أي لكن مشيئته والله الموفق - وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.