بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)

{ وَالنَّازِعَاتِ } الخ طوائف من الملائكة عملها واحد فالعطف فيها تنزيل لتغاير الصفات منزل تغاير الذوات تلويحاً بأَن كل واحدة تكفي في الإِعظام تنزع الأَرواح من أجساد الكفرة والمؤمنين والحيوانات، وعن على وابن مسعود المراد نزع أرواح الكفرة بشدة وهو رواية ابن عباس كما قال.

 

{ غَرْقاً } أي نزعا شديداً فهو مفعول مطلق وهو اسم مصدر هو إِغراق أي إِغراقا في النزع من أقاصي الجسد كنزع السفود من الصوف المبتل مع كثرة شعب السفود فهو نزع شديد أليق بالكفرة، وعن على وابن مسعود تنزع روح الكافر من تحت كل شعرة ومن تحت الأَظافر وأُصول القدمين ثم تغرقها في جسده وتنزعها حتى تكاد تخرج ويردها في جسده مرارا حتى تخرج من أفواههم بالكرب.

 

وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2)

تخرج الروح من الأَجساد كنشط الدلو من البئر أي إِخراجها بسهولة وهذا أنسب بروح المؤمن والنشط حل العقدة برفق مثل عقدة التكة، قال بعض السلف يسلون روح المؤمن سلاً رفيقا ويتركونها تستريح ثم يستخرجونها بلطف، وعلى العموم للكافر والمؤمن فالسهولة للملك لا يصعب عليه إِخراجها، وقيل أرواح المؤمنين تخرج فرحة ناشطة لما رأت من السعادة.

 

وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3)

يسبحون في إِخراجها سبح الذي يخرج من البحر شيئا برفق لئلا يغرق وذلك لطف ورفق بالمؤمن لئلا يشتد ألمه فهذا في المؤمن وعلى تعميم النشط والسبح للكافر أيضا يكون معناهما أنه ليس في إِخراجها عمل شديد في حق الملك محسوس كتحرك شديد منه وصراخ ومع ذلك يشتد في حق الكافر وقيل السبح نزول الملائكة من السماء سرعة وقيل أرواح المؤمنين تسبح في الملكوت.

 

فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4)

 

يشتدون في المشي بأَرواح المؤمنين إِلى الجنة وبأَرواح الكفرة إِلى النار وقيل تسبق المؤمنين بالعمل الصالح وقيل أرواح المؤمنين تسبق إِلى حضرة القدس.

 

فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)

عظيماً للتنكير تهيئ للمؤمن ماله وللكافر ما عليه وأمراً مفعول به وقيل منصوب على حذف الباء أي بأَمر من الله تعالى والفاء في الموضعين للاتصال بلا مهلة والملائكة في تلك الحالات خارجة عن البدن كما هو ظاهر وكما روي أنها ترى الملك من بعيد فتشرع في الخروج ولعل الأَحوال تختلف إِلا السبح فظاهر في دخول الملائكة البدن الجواب أنها تسبح في داخل البدن بعملها من خارج ولا يخفي أن السبح مجاز وإِذا جعلنا النزع لملائكة العذاب والنشط لملائكة الرحمة فالعطف لتغاير الذات كما هو الأَصل وجواب القسم محذوف يقدر بعد أمرا أي لتبعثن أو ذلك إِقسام لقوله { ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا }[النبأ: 40].

 

وقيل جواب القسم إِن في ذلك لعبرة وقيل هل أتاك حديث موسى لأَن المعنى قد أتاك، وقيل تتبعها الرادفة ويوم متعلق به ولم يؤكد باللام والنون للفصل بيوم لأَنه يقدر اللام قبل يوم، وقيل ليأتين يوم ترجف الراجفة على أن يوم فاعل ليأْتي مبنى لإِضافته لجملة فعلية ولو كان فعلها معرباً ويجوز أن يراد بالسابحات والسابقات والمدبرات طوائف من الملائكة عملها واحد وما قبل هو على السابق فهي تسبح في مضيها وتسرع أو فيما أمرت به من أمر الدنيا والآخرة أو تدبر أمره من كيفية وما لا بد منه والعطف لتغاير الصفات أيضا أي والملائكة الجامعين بين السبح والسبق والتدبير وسواء ملائكة الرحمة وملائكة العذاب.

 

ولا تتوهم أن العطف في هذا التغاير الذوات بل لا يتصور السبح من طائفة والسبق من أُخرى في أمر واحد وإِن أُريد أن طائفة تسبح فيما أمرت وأُخرى تسرع فيما أمرت فمن تغاير الذات والصفة وقيل هؤلاء الآيات في الشمس والنجوم السيارة التي تنزع أي تسير من المشرق إِلى المغرب غرقاً في السير أي جداً فيه كما يقال نزع الفرس أي جرى ونشط من برج إِلى برج كما يقال نشط الثور خرج من مكان إِلى مكان وتسبح في الفلك فسبق بعض بعضاً لكونه أسرع فتدبر أمراً علق بها كالفصول والأَزمنة ومواقيت العبادة والمعاملة المؤجلة وإِسناد التدبير إِلى هؤلاء النيرات مجاز والأَول نزع لأَنه يقهر الفلك لها بشدة والثاني نشط لأَنه بسهولة وقيل ذلك الليالي والنهارات والشمس والقمر والمدبرات على ذلك كله.

 

وقيل الغزاة تنزع بالقسي وترمى بالسهام وتمد أعنة الخيل مداً قويا حتى تلصق بالأَعناق من غير ارتخاء كأَنها انغمست فيها وتخرج من دار الإِسلام إِلى دار الكفر وتسبح في جريه فتسبق العدو فتدبر أمر الظفر، وقيل خيل الغزاة تنزع في أعنتها وتغرق في عرقها وتنشط إِلى ميدانها بسرعة وتسبح في جريها وتسبق إِلى الغاية، وقيل النازعات الغزاة والناشطات السهام والسابقات الخيل والإِبل إِلى الغزو.

 

وقيل النازعات ملك الموت وأعوانه ينزعون الأَرواح والناشطات النفوس تنشط من القدمين والسابحات السفن والسابقات نفوس المؤمنين إِلى الطاعة والمدبرات الملائكة يأمرهم الله تعالى بأَمور يعملون فيها وفسر بعضهم السابقات بالمنايا تسبق الآمال وفسر بعضهم المدبرات بجبريل يدبر الرياح والجنود والوحي وميكائيل القطر والنبات وعزرائيل أمر الأَرواح وإِسرافيل أمر المنزل عليهم والنفخ كل ذلك بإِذن الله تعالى ولم يختلف أن المدبرات الملائكة كذا قيل وفيه أنه قيل بإِسناد التدبير إِلى النيرات كما مر.

 

يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)

{ يَوْمَ } متعلق بنبعث المقدر جوابا للقسم أو مفعول به لأَذكر والمعنى اذكر لهم يوم النفختين فإِنه وقت بعثهم.

 

{ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ } تقع الواقعة التي تتحرك أي تحصل أو النفخة التي ترجف الأَجرام عنها وأسند الرجف إِلى النفخة لأَن النفخة سببها أو الراجفة المحركة وهي النفخة الأُولى ورجف يتعدى ويلزم وقيل المراد الأَجرام الساكنة تشتد حركتها حينئذ كالأَرض والجبال كما قال الله جل وعلا:{ يوم ترجف الأَرض والجبال }[المزمل: 14] وسميت راجفة على اعتبار الأَول.

 

تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)

واقعة ثانية أو نفخة ثانية أو الأَجرام التابعة وهي السماء والكواكب تنشق وتنثر وبين النفختين أربعون عاماً أو أربعون يوما.

 

قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)

{ قُلُوبٌ } مبتدأ ولو نكرة لأَنها للتنويع أو للتنكير.

 

{ يَوْمَئِذٍ } متعلق بقوله { وَاجِفَةٌ } أي مضطربة لشدة الفزع اضطرابا مسرعا كقوله تعالى فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب وقيل زائلة عن مكانها وهو كالأَول لأَن زوالها عنه لاضطرابها لشدة الفزع، وعن ابن عباس خائفة بلغة همدان وذلك كقوله تعالى{ وجوه يومئذ ناضرة إِلى ربها ناظرة }[القيامة: 22 - 23].

 

أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)

ذليلة من الخوف والمراد إِبصار الوجوه أُضيف الإِبصار إِلى ضمير الوجوه لأَنها فيها قدر إِبصار أهلها والذل لأَهلها وأسند للإِبصار لظهور أثره عليها وأُجيز أن الإِبصار البصائر أي بصائر القلوب ذليلة لا تدرك شيئا فعبر بذلها عن عدم إِدراكها، وعزة البصيرة إِنما هي بالإِدراك وهي لا تدرك يوم القيامة إِدراكاً تاماً لشدة الذهول والتحير والجملة خبر ثان لقلوب.

 

يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10)

{ يَقُولُونَ } في حياتهم الآن إِنكاراً للبعث { أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ } مردودون إِلى الحياة بعد الموت كما يرد الماشي فيما حفرت قدماه بالمشي إِذا رد إِلى ورائه والاستفهام للإِنكار هذا هو الظاهر وقيل يقولون ذلك إِذا بعثوا وشاهدوا فيكون الاستفهام للتعجب والاستغراب والحافرة الطريقة التي جاء فيها فحفرها بمشيه فاعلة بمعنى مفعولة كما هو وجه في ماء دافق أو للنسب أي ذات حفر أو إِسناد الحفر إِليها مجاز عقلي والعلاقة المحلية والحافرة حقيقة القدم ثم إِن تأْثير القدم ليس حفراً بل شبيه به.

 

ويجوز جعل الحافرة القدم على حذف مضاف أي في أثر القدم الحافرة وال للجنس لا كما قيل الحافرة جمع حافر وذلك على معنى ما مر وقيل على معنى لمردودون أحياء نمشى على أقدامنا وهذا لا يظهر من الآية، وعن مجاهد الحافرة القبور المحفورة أي لمردودون أحياء في قبورنا على أن فاعلا بمعنى مفعول أو للنسب، وعن زيد بن أسلم: الحافرة النار وهو ضعيف.

 

أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)

بالية وهو صفة متعلق بمردودون خارج عن الشرط والصدر وإِذا هذه تعين أن قولهم أئِنا لمردودون في الحافرة صدر عنهم في الدنيا وليس هذا آخر الآية لعدم التأسيس فيه وما قبل وما بعد مؤسس وآخرها حاسرة ومن قرأ ناخرة بالأَلف كان عنده آخر الآية لأَن فيه تأَسيسا ولفظ ناخرة وهو اسم فاعل حروفه أكثر من حروف نخرة بإِسقاط الأَلف ومعناه أقل وقولهم زيادة الحروف تدل على زيادة المعنى أغلبى لا لازم أو يخص بما إِذا اتحد النوع وهنا مختلف فإِنه بدون الأَلف صفة مبالغة وبها اسم فاعل ونقول مفعال وفعال بالشد وفعول أبلغ من فعل بفتح فكسر وفرح بالشد للمبالغة لا للتعدية أزيد معنى من فرح بالكسر والتخفيف.

 

وقال ابن العلاء: النخرة التي بليت والناخرة التي لما تنخر وقال الفراء هما سواء في المعنى فلعله أراد أنهما جميعا لما وقع بلاه لا يكون ناخرة بالأَلف لما سينخر كما قال ابن العلاء أو اراد أنه بالأَلف اسم فاعل وبدونه صفة مشبهة فلم يتحدا نوعا وقيل كلاهما من معنى الصوت يقال نخر العظم أي بلى وجاف إِذا مرت به الريح سمع له نخير أي صوت.

 

{ قَالُوا } استئناف في ذكر كفر آخر لهم متفرع على السابق. { تِلْكَ } الكرة أو الرجفة. { إِذاً } إِذ كان الأَمر ما ذكر من كون العظام نخرة { كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } فاعلة للنسب أي ذات خسر أو على حذف مضاف أي خاسر أصحابها أي فنحن خاسرون لتكذيبنا بها والعبارة عبارة ظن وهم جازمون في قصدهم وذلك استهزاء، وعن الحسن ضائعة أي لا تكون.

 

{ فَإِنَّمَا هِيَ } أي الكرة وقيل الراجفة. { زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } أي كذبوا وأخطأُوا في إِنكارهم لأَن تلك الكرة صيحة واحدة أي موجبها صيحة واحدة سهلة لا علاج لنا فيها يصيحها إِسرافيل فتحصل بصيحته وهي النفخة الثانية، أخبر بها عن الكرة كأَن تلك الكرة هي نفس الصيحة مبالغة في كمال الاتصال والترتب عليها.

 

أحياء على وجه الأَرض بعد أن كانوا أمواتا في بطنها والساهرة وجه الأَرض المستوية لا نبت بها لأَن السراب يسهر فيها أي يجرى وعين ساهرة جارية الماء والجريان للسراب مجاز وأسند لمحله تجوزاً آخر أو لأَن سالكها لا ينام خوف الهلكة على التجوز في الإِسناد.

 

وقيل أصل الساهرة الأَرض يكثر المشي فيها حتى كانت كحيوان منع من النوم للعمل عليه لا ينام وهو لا يعمل عليه وقيل أرض القيامة وهي أرض من فضة لم يعص الله تعالى فيها، وقيل أرض مكة وقيل الأَرض السابعة تبدل بها هذه الأَرض فيحاسبون عليها، وعن وهب بن منبه جبل بالشام يمده الله تعالى، وقيل أرض قرب بيت المقدس وقيل صحراء على شفير جهنم، وعن قتادة: جهنم إِذ لا نوم فيها وسلى الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهدد قومه بتكذيب موسى عليه السلام وإِهلاك فرعون في قوله.

 

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21)

{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } اللفظ استفهام والمراد التحقيق أي قد أتاك حديث موسى قبل هذا فتذكره فقد اهلك مكذبيك كما أهلكت مكذبي موسى أو المراد الاستفهام التقريري أي أليس قد أتاك حديث موسى فما لك يضيق صدرك وإِن لم يأْته حديثه قبل هذه الآية قيل وهو خلاف المتبادر قلت هو وجه حسن يستعمل في مقام التحقق إِذا أمر عند صاحبه قال ألم يكن كذا يخاطب به من لا علم له به كقوله:

 

ألم ترياني كلما جئت زائراً ...   ...........................

     

الخ فالاستفهام ترغيب له في استماعه وتوسيع لقلبه بأُحدوثة طريفة يمال إِليها ويستراح بها أي هل أتاك حديث أخبرك به وكأَنه قال: بلى أخبرني.

 

{ إِذْ } مفعول به لأَذكر بل متعلق بحديث لتضمنه معنى التحدث. { نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ } المحترم المطهر وحذفت ياء الوادي لالتقاء الساكنين وحذفت من الحط تبعاً للفظ. { طُوىً } اسم للوادي فهو عطف بيان ومنع الصرف للعملية وتأنيث البقعة أو للعلمية والعدل عن فاعل أي طاوية بمعنى أنه مشتمل على خير.

 

{ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ } محكى بنادى مفعول به له كأَنه قيل إِذ قال له ربه اذهب إِلى فرعون أو يقدر القول أي إِذ ناداه ربه يا موسى قائلا اذهب إِلخ. ويجوز تقدير أن التفسيرية لتقدم معنى القول وهو النداء لمعونة قراءة أن اذهب بأَن وهي تفسيرية لا مصدرية لأَن ما بعدها أمر لا إِخبار. { إِنَّهُ طَغَى } لأَنه طغى.

 

{ فَقُلْ } له إِذا أتيته. { هَلْ لَّكَ إِلَى أن تَزَكَّى } هل لك ميل إِلى التزكي أي التطهر من الشرك والمعاصي فلك خبر وقيل مبتدأ لا فاعل لك لأَن الفاعل لا يحذف إِلا في مواضع مخصوصة كالتقاء الساكنين والأَصل تتزكى أُبدلت التاء زايا وأُدغمت في الزاي وفي الاستفهام جلب وتنزيل عن العتو كما قال الله عز وجل: { فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى }[طه: 44] وقدم التزكي لأَنه تخلية والهداية تحلية.

 

{ وَأهْدِيكَ } أرشدك. { إِلَى رَبِّكَ } إِلى معرفة ربك سبحانه ولا إِله إِلاَّ هو { فَتَخْشَى } فتخشاه ولا خشية بالشيء إِلا بعد المعرفة به إِنما يخشى الله من عباده العلماء وهي خوف مع إِجلال وهي عمدة الأَمر من خشي الله تعالى أتى منه كل خير ومن لم يخش اجترأ عن كل شر، وعن أبى هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ".

 

عطف على محذوف أي فذهب إِليه فأَمره بالتوحيد فعاند فطلب الآية فأَراه الآية الكبرى وهي العصا أي أظهرها له واحتج بها عليه أو صيره عارفاً بأَنها حق من الله تعالى فجحدوها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً قال بلسانه إِنها سحر إِظهاراً للتجلد وعدم العجز والانقياد والعصا أصل آي موسى وأكبرها وغيرها تبع له.

 

وعن مجاهد الآية الكبرى العصا واليد البيضاء هما كالآية الواحدة وعبر عنهما بصيغة الجمع في قوله تعالى:{ اذهب أنت وأخوك بآياتي }[طه: 42]، وقيل يجوز أن يراد بالآية الكبرى الجنس فتشمل آياته كلها أعنى التي قبل انفلاق البحر المغرق لتعقيب أولها أو مجموعها باعتبار أولها والتفضيل باعتبار آيات الرسل قبله أو الكبرى خارج عن التفضيل أي فأراه الآية الكبيرة ويرده قوله تعالى: { فحشر } فإِن حشره السحرة إِنما كان بعد العصا واليد وأما باقي الآيات التسع فإِنما هي بعد ما غلب السحرة على طول في نحو عشرين سنة.

 

{ فَكَذَّبَ } موسى وسمى العصا واليد سحراً. { وَعَصَى } عصى الله تعالى دام على العصيان وادعاء الألوهية وإِنكار الله عز وجل وما ذكرته أولى من قول بعض فكذب موسى وعصاه لأَنه أشد ذماً ولو كان عصيانه موسى عصيانا لله عز وجل.

 

ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)

زاد إِدباراً أعظم كما دل عليه ثم فإِن حشره ونداءه فيه العصيان المذكور وزيادة السعي والعلاج في إِبطال الحق وليس لفظ ثم كما قيل يفيد أنَّ تَقَضّى الأَبطال يستدعى زمانا طويلا وذلك إِدبار عقلي ويجوز أن يكون حسياً بأَن أدبر عن المجلس ساعياً في إِبطال أمر موسى أو هارباً عن الثعبان إِذ ألقى عصاه فصارت ثعباناً أشعر أفغر فاه بين لحييه ثمانون ذراعاً لحيه الأَسفل في الأَرض أو على سور القصر وأحدث فرعون في ذلك اليوم سبعين مرة ومات من قومه في هروبهم خمسة وعشرون ألفا أو انقلبت حية وارتفعت في الهواء قدر ميل وانحطت نحو فرعون تقول مرني يا موسى بما شئت وفرعون يقول أنشدك يا موسى الذي أرسلك إِلا أخذتها فأَخذ الثعبان أو الحية فصار عصا.

 

وبحث بعض بأَنه إِن كان هذا بعد حشر السحرة للمعارضة فلا تصح إِرادته هنا إِن أريد بالحشر في قوله تعالى { فحشر } حشر السحرة وإِن كان بعد التكذيب وقيل حشرهم فلا يظهر تراخيه عن ألأَولين إِلا إِن قيل ثم لاستبعاد إِدباره مرعوباً مع دعوى الأُلوهية، وقيل أدبر أقبل من قولهم أقبل يفعل أي أنشأَ يفعل لكن جعل الإِدبار في موضع الإِقبال لأَن إِقباله في ذلك إِدبار له وتدمير كما تقول شرع فلان يخزى نفسه إِذا شرع في فعل يدعيه خيراً له وهو هلاك له.

 

{ فَحَشَرَ } جمع السحرة كقوله تعالى:{ فأَرسل فرعون في المدائن حاشرين }[الشعراء: 53] وقوله تعالى:{ فجمع كيده ثم أتى }[طه: 60]، أي ما يكيد به من السحرة وآلاتهم أو جمع جنوده أو أهل مملكته. { فَنَادَى } بلسانه كما هو الأَصل والمتبادر وكما يدل له قوله عنه.

 

{ فَقَالَ } أي في الحاضرين ليعلموا وينشروا قوله. { أنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى } إِذ لو نادى غيره لقال يقول فرعون أنا ربكم الأَعلى فيكون قد قام فيهم خطيبا، فقال ذلك في جملة خطبته وإِن قال غيره فقد قال يقول فرعون أنا ربكم الأَعلى والأَرباب كلها دوني ومربوبة لي مثل الأَصنام يدعيها آلهة تحته أو يقول كل كبير إِله على من تحته حتى الأَب إِنه إِله لولده أو أراد تفضيل نفسه على غيره.

 

{ فَأَخَذَهُ اللهُ } أهلكه أو عذبه. { نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى } الدنيا عذابا ينكل بسماعه أي يتأَخر عن موجبه وهو مفعول مطلق لمحذوف مؤكد أي نكل الله به نكال الآخرة والأُولى أو مفعول مطلق لأَخذه والمراد بالأَخذ النكال ونكال الدنيا الإِغراق والإِذلال ونكال الآخرة عذاب النار، وقيل العذاب الذي تستحقه الكلمة الآخرة التي هي أنا ربكم الأَعلى والعذاب الذي تستحقه الكلمة الأُولى ما علمت لكم من إِله غيري أو بالعكس وبين الأُولى والآخرة أربعون سنة، وقيل الأُولى كفره وعصيانه والآخرة أنا ربكم الأَعلى، وقيل أولى معاصيه وآخرها.

 

{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } المذكور من قصة فرعون وما فعل ومن فعل به. { لَعِبْرَةً } عظيمة. { لِّمَن يَخْشَى } من شأنه الخشية أو كتب الله أن يخشى.

أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهي النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)

{ أأنْتُمْ أشَدُ خَلْقاً } أيها المقسم عليك بالنازعات لتبعثن. { أمِ السَّمَاءُ } عطف على أنتم مقدم في التقدير على أشد لا بد أن يقولوا السماء أشد لعظم وسعها وغلظها وانطوائها على بدائع لا يدركها العقل قدر على خلقها فكيف لا يقدر على بعثكم وقد كنتم من قبل ولا يصعب عليه تعالى شيء وفصل خلقها بقوله. { بَنَاهَا } إِلى ضحاها وأضمر في بنى ورفع وسوى وأغطش وأخرج تعظيماً له بأَنه معلوم بهذه الأَفعال لا يشارك فيها ولا يتوهم غيره.

 

{ رَفَعَ سَمْكَهَا } رفع رفعها وذلك مبالغة في ارتفاعها حتى أن بينها وبينكم خمسمائة عام لو كان ذلك الجو مبسوطا على الأَرض أو يعد قطع المسافة بالطيران كقوله أظل الله ظلك ورفع ارتفاع درجتك في المبالغة أو رفع السطح الذي يلي السماء الثانية على السطح الذي يلى الأَرض، وذلك غلظها خمسمائة عام.

 

{ فَسَوَّاهَا } لم يجعل فيها نتوءً ولا عوجا ولا زاوية ولا خشونة ولا حفيرة ولا تختلف بذلك، وقيل تسويتها إِكمال خلقتها على وجه حسن، وقيل تزيينها بالكواكب والقمرين وهي بسيطة وشهر أنها كرية وهل التسوية من أول قيل نعم وقيل بعد وهو الوارد في الخبر.

 

{ وَأغْطَشَ لَيْلَهَا } أظلمه الله من غطش الليل بالرفع والفعل لازم تعدى بالهمزة ويقال أيضاً غطشه الله بتعد بنفسه. { وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } أبرز نهارها سمى النهار باسم جزئه الأَعظم وهو الضحى وهو وقت انبساط الشمس وهو شباب النهار ويدل على إِرادة النهار كله به مقابلة الليل به وقيل الضحى الضوء فيقدر مضاف أي ضحى شمسها.

 

ولا شك أن الضوء ولا سيما شباب الزمان أطيب لامتعاش الأَرواح في الدنيا فناسب الاحتجاج به رد الأَرواح إِلى الأَجساد بالبعث وأَضاف الليل والضحى إِلى السماء لأَنهما يحدثان بطلوع الشمس وغروبها وهي سماوية أو لأَنهما يحصلان بسبب حركتها على القول باتحادها مع الفلك أو لأَنهما يحصلان بحركة الشمس في فلكها فيها على تغاير الفلك والسماء، وأن المتحرك إِنما هو الكواكب كما في قوله تعالى:{ وكل في فلك يسبحون }[يس: 40] ولأَنهما أول ما يظهران منها فإِن أول الليل بإقبال الظلام من المشرق وأول النهار بطلوع الفجر.

 

{ وَالأَرْضَ } منصوب على الاشتغال وقيل منصوب بتذكر أو تدبر أو اذكر محذوفا، { بَعْدَ ذَلِكَ } المذكور من خلق السماء وإِغطاش الليل وإِخراج النهار.

 

{ دَحَاهَا } بسطها للسكنى والانتفاع بها من الدحو أو الدحي فأَلفه عن واو أو عن ياء وقيل دحاها سواها والأَكثر على الأَول ودحيها أو تسويتها بعد خلقها أو معه قولان والأَول عن ابن عباس قال الحسن كانت يوم خلقت على هيئة الفهر وحصل الجمع بين هذه الآية وقوله تعالى:{ ثم استوى إِلى السماء }[البقرة: 29] بأَن خلق الأَرض متقدم عن خلق السماء ودحوها متأَخر عن خلق السماء.

 

وقيل بعد بمعنى مع كما قيل في قوله تعالى:{ عتل بعد ذلك زنيم }[القلم: 13] أي مع ذلك والذي يظهر لي أن المراد بالبعدية في الآية بعدية الإِخبار كما تقول أكل زيد رطل لحم صبحاً وأكل بعده في ليلته رطلين أي أخبرك بكذا بعد ما سمعت كذا.

 

قال ابن عباس خلق الله تعالى الأَرض ثم السماء ثم دحا الأَرض واعترض بأَنه يستحيل الجسم العظيم أن يكون بلا دحو لظاهره وأُجيب بأَن خلق الأَرض السابق خلق مادتها واعترض كون الأَرض يوم خلقت كالفهر بقوله تعالى:{ خلق لكم ما في الأَرض جميعاً ثم استوى إِلى السماء }[البقرة: 29] وخلق ما فيها إِنما هو بعد الدحو وأُجيب بأَن خلق بمعنى قدر أو أراد الخلق وقيل ثم للتراخي الرتبي وخلق السماء أعجب من خلق الأَرض.

 

ويروى أن الله تعالى خلق جرم الأَرض يوم الأَحد ويوم الاثنين ودحاها وخلق ما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأَربعاء وخلق السماوات وما فيها في يوم الخميس والجمعة وفي آخر يوم الجمعة كمل خلق آدم واختار قوم تقدم خلق السماء على الأَرض وخلق ما فيها بعد خلق الأَرض.

 

{ أخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا } المخزون فيها بتفجيره عيونا. { وَمَرْعَاهَا } رعيها بكسر الراء أي ما يرعى من نباتها وأصله مصدر ميمي بمعنى مفعول أطلق على ما يعم ما يأكل الآدمي تجوزا لعلاقة الإِطلاق والتقييد وهو أعم فائدة بأَن يفسر بما ترعى الحيوانات خاصة وهو حقيقة ومن أن يراد ما يأكل الآدمي خاصة بذلك التجوز المذكور أو الاستعارة وحكمتها تشبيه منكري البعث بالبهائم التي لا يهمها إِلا الأَكل.

 

{ وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا } أثبتها والنصب على الاشتغال أو اذكروا أو تذكروا أو تدبروا.

 

{ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } النصب على التعليل ومتاعاً بمعنى تمتيعا والناصب محذوف أي فعلنا ذلك تمتيعاً لكم ولو نصب بأَرسى أو بأَخرج أو بغير ذلك وهما أقرب لبقى غير ذلك بلا تعليل فنحتاج إِلى التقدير أو نقول تعليل لإِخراج الماء والمرعى وفيه كفاية وتعليل غيره معلوم وفي إِرساء الجبال تمتيع إِذ لو تركها تميد لم يستقم قرار الحيوان والإِنسان عليها وِإلا ظهر تعليل لإِخراج الماء والمرعى ولا يعارض بالفصل ولا سيما إِن جعلنا الواو للحال أي وقد أرسينا الجبال والخطاب لمنكري البعث يعظهم بما نعته منه تعالى عليهم وحجة على البعث.

 

{ فَإِذَا جَاءَتِ } الفاء للترتيب على ما قبل. { الطَّامَّةُ } الداهية العظمى من طم على الشيء وطمه غلبه واستولى عليه.

 

{ الْكُبْرَى } تأكيد في المعنى لأَن الأَكبرية من معنى الطامة وليس تفسيره بكونها غالبة على الخلائق لا يقدرون على دفعها مخرجاً لها عن الأَعظمية فيكون وصفها بالكبرى مخصصاً كما قيل وقيل كونها طامة أكبر من كل طامة إِنما هو باعتبار ما عرفوه من الدواهي وكونها أكبر هو على الإِطلاق ويؤخذ من لفظ الكبرى فيكون مخصصاً أو جرد عن بعض معناه فيكون معناه الكبيرة فيوصف باسم التفضيل بعد وهو الكبرى تأنيث الأَكبر فهو مخصص ولا يخفي أنها يوم القيامة وهو معدود في أسمائه يوم القيامة وهو أعظم الدواهي لما فيه.

 

وقيل النفخة الأُولى وهو رواية عن ابن عباس والحسن وأخرج ابن أبى شيبة أنها الساعة التي يساق فيها أهل الجنة للجنة وأهل النار للنار وعن مجاهد أنها الساعة التي يساق فيها أهل النار للنار.

 

{ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ مَا سَعَىٰ } يوم بدل من إِذا بدل كل على اعتبار أن وقت المجيء ووقت التذكر مراد به وقت واحد لا مختلف وإِن أُريد يتذكر وقت التذكر الذي هو بعض من يوم القيامة فبدل بعض وظهور المعنى مغن عن الرابط أو بدل من الطامة مبنى في محل رفع بنى لإِضافته للجملة ولو كانت فعلية فعلها معرب ولا نحتاج إِلى تفسير الطامة بالمذكر والبروز كما قيل بالاحتياج لأَن التذكر والبروز غير زمان ويوم يتذكر زمان ويجوز تعليقه بجاءت على أن الطامة دخول النار أو الجنة على ما مر.

 

والتذكر يتصور بالنسيان فالإنسان ينسى ما عمل لكثرته ولعدم الاعتناء ولطول العهد وشدة الهول قال الله تعالى:{ أحصاه الله ونسوه }[المجادلة: 6] فإِذا رآه في صحيفته تذكره أو يحضره الله تعالى بقدرته في قلبه زيادة على النظر في صحيفته والمراد الخير والشر وما اسم أي ما سعاه أو مصدرية أي سعيه ولا يجوز أن يقدر يوم يتذكر الإِنسان فيه سعيه لأَنه لا يرجع الضمير إِلى الظرف في الجملة التي أُضيف إِليها الظرف.

 

{ وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ } عطف على جاءت وقيل على يتذكر وبرزت أظهرت إِظهاراً بيناً لكل ذي بصر وخصه بعض بالكافر وهو ضعيف.

 

{ فَأَمَّا مَن طَغَىٰ } الخ جواب إِذا كقولك إِذا جاء القوم فمن أحسن منهم فأكرمه ومن أساء فعاقبه وإِذا جاء زيد فإِن أذعن فأَكرمه وإِلا فأَهنه وغير ذلك مما فيه جواب للشرط شرط آخر وجوابه ولا إِشكال في ذلك وقيل جواب إِذا محذوف أي وقع مالا يضبطه كلام بتفصيل وأشار إِليه بإِجماله بقوله فأَما من طغى وقيل تقديره ظهرت الأَعمال بالصحف ولا حاجة إِلى تقديره انقسموا قسمين فأَما من طغى لأَن قوله فأَما من طغى إِلخ. يغنى عنه ومعنى طغى تمرد وجاوز الحد.

 

{ وَآثَرَ } اختار { الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } القريبة الزوال أو الخسيسة فاطمأَن إِليها كأَنها حسنة تدوم فلم يستعد للحياة الدائمة الحسنة بالطاعة وترك المعصية.

 

{ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ } لا غيرها فهذا حصر. { الْمَأْوَى } مأَواه أو هي المأَوى له حذف الرابط أو ناب عنه ال للفاصلة.

 

{ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } المقام للإِنسان لا لله تعالى أي خاف قيامه عند الله للحساب وهو مصدر أو مكان أو زمان أو مقام لله تعالى بمعنى شأَنه تعالى مستعار من اسم المكان أو مكان مقحم للتفخيم ومرجع هذا إِلى الذي قبله.

 

{ وَنَهَى النَّفْسَ } نفسه أو النفس له وال في الأَول عوض وفي الثاني للعهد وهكذا قل في المأوى وكذا في قوله. { عَنِ الْهَوَى } وما أشبه ذلك زجرها فلم يغلبها الهوى والهوى ما تهواه أي تحبه وتميل إِليه لزهوته وزينته علما منه بأَن السم في الدسم فإِذا دعته إِلى المعصية تذكر الحساب عند الله تعالى فيتركها وسمى لأَنه يهوى بصاحبه إِلى النار فهو يؤدى في الدنيا إِلى كل واهية وفي الآخرة إِلى الهاوية ويطلق الهوى على الميل إِلى مباح وإِلى طاعة أيضا فإِن أصله مطلق الميل.

 

{ فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } مأواه أو المأوى له والآيتان على العموم ولو خص سبب النزول قيل عن ابن عباس نزل فأَما من طغى في أبى جهل وقيل في النضر وابنه الحارث ونزل وأما من خاف في مصعب ابن عمير رضي الله عنه وقيل هذه الآية فيه وأما من طغى في أخيه أبى عزيز بن عمير وفي مصعب بن عمير رضي الله عنه - رسول الله صلى الله عليه وسلم - يوم أحد يوم تفرق الناس عنه حتى نفذت السهام في بطنه فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متشحطا في دمه قال أحتسبك عند الله تعالى وقال لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتها وأن شراك نعليه من ذهب وأسر أخوه أبو عزيز ولم يشد وثاقه إِكراماً لمصعب فقال ما هو لي بأَخ شدوا أسيركم فإِن أُمه أكثر أهل البطحاء حلياً ومالاً، وروي أن مصعباً قتل أخاه المذكور.

 

{ يَسْأَلُونَكَ عَن السَّاعَةِ } سؤال إِنكار وتعجيز. { أيَّانَ } اسم استفهام بمعنى متى مقدم. { مُرْسَاهَا } مبتدأ مصدر ميمي أي إِرساءها أي إِثباتها يرسيها هو الله عز وجل كما قال والجبال أرساها ومن الثلاثي الجبال الرواسي أي الثوابت والجملة مفعول به ليسأل علق هو عنها بالاستفهام ويجوز أن يكون أيان ظرف مكان مجازاً ومرساها اسم مكان مجازاً أي أين موضع انتهائها بأَن ينزل يوم القيامة كشخص سائر لا يوصل إِليه ما لم يستقر في موضع.

 

{ فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَٰهَا } يا محمد بالتعيين والتفصيل إِنما لك إِثباتها والإِخبار بقربها وإِمارتها لست تعلمها لا يعلمها إِلا الله تعالى يسأَلونك كأَنك حفي عنها أي لا شيء لك من ذكرها لهم لأَنك لا تعلمها متى هي والاستفهام إِنكار للياقة سؤالهم إِياه عنها وفيم خبر وأنت مبتدأ ومن متعلق بمتعلق في فيما قيل ويقدر مضاف أي من ذكرى وقتها ولا يصح ذلك إِذ لا معنى لذلك التعليق.

 

ولعلها تعلق بمحذوف نعت لاسم الاستفهام كما تقول أي راكب جاءك برفع راكب نعتا لأي وتنوين أي وتكون لبيان واسم الاستفهام بمعنى شيء أي في أي شيء هو ذكراها أنت أو فيم خبر لمحذوف أي فيم سؤالهم وأنت من ذكراها مبتدأ وخبر أي أنت من علاماتها لأَنك آخر الأَنبياء ويقال كان يكثر ذكرها ويسأَل عنها حتى نزلت الآية على صورة التعجب من كثرة ذكرها وكان يكثر ذكرها للحرص على جوابهم إِذا سأَلوه عنها ويجوز أن يكون فيم أنت من ذكراها بدلاً من قوله أيان مرساها أي يسأَلونك في أي مرتبة أنت من علمها.

 

{ إِلَى رَبِّكَ } لا إِلى غيره. { مُنْتَهَاهَا } انتهاء علمها بالتوقيت والتفصيل ولا علم لأَحد إِلا بأَمارة وهذا معنى صحيح على التفسيرين في قوله تعالى فيم أنت من ذكراها ولا يختص بالثاني كما قيل.

 

{ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَٰهَا } يؤثر إِنذارك فيمن يخشاها بإِثباتها وذكر أمارتها وقربها وقد قال الله عز وجل:{ اقتربت الساعة وانشق القمر }[القمر: 1] وقال - صلى الله عليه وسلم - " بعثت أنا والساعة كهاتين " والحصر إِضافي حصر موصوف في صفة وصح مع أنه ينذر بها المؤمن والكافر لأَن الإِنذار هنا بمعنى تأثير الإِنذار كقوله تعالى:{ إِنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب }[يس: 11] ومعنى كون الحصر إِضافياً أنه باعتبار أنه لا شيء له في بيان وقتها أي لك الإِنذار بها لا تعيينها.

 

{ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا } يشاهدونها متعلق بمحذوف حال من الهاء وصح الحال الزماني من اسم الجنة لأَنه أفاد هنا كما قال الأَندلسي في الخبر وإِن يمد فأَخبر وصح مما هو مبتدأ في الأَصل لأَن في كأَن حدثاً قوياً وهو التشبيه البليغ كأَنه قيل أشبههم حال كونهم في يوم يرونها بمن لم يلبث إِلا ساعة.

 

{ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أوْ ضُحَاهَا } أي لم يلبثوا بعد الإِنذار بها أو بعد الوعيد إِلا قليلاً وأضاف ضحى لضمير العشية لأَنهما يجمعهما يوم واحد وكان - صلى الله عليه وسلم - يكثر السؤال عن الساعة خوفاً منها وحرصا على جواب قومه المكثرين للسؤال عنها تعنتاً حتى نزل فيم أنت من ذكراها إِلى ربك منتهاها فانتهى عن السؤال وقد قيل قوله عز وجل فيم أنت من ذكراها تعجيب من كثرة سؤاله - صلى الله عليه وسلم - عنها والله أعلم وهو المستعان وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.