طباعة
المجموعة: مع حفظة القرآن
الزيارات: 3036

سلسلة مقالات(1):

عناية الإباضية بحفظ القرآن وتلاوته

بقــلم

فهد بن علي بن هاشل بن علي السعــدي

كتب بتأريخ: 24 محرم 1423هـ / 7 من إبريل 2002م

 ----------------------------------------

1- قواعد الحفظ الأولى إلى السادسة: الإخلاص، الغاية، الصبر، الجد والاجتهاد، التعلم في الصغر، الرغبة:

لم يكن السلف الصالح من الأصحاب – رضوان الله عليهم – يسيرون في حفظ القرآن خبط عشواء ، بل إن المتأمل في سيرهم يجد قواعد رصينة ، قد ساروا عليهــــــا في حفظهم لكتاب الله – جل جلا له - .

 

ولقد أشرنا في الدراستين الماضيتين (1) إلى اهتمامهم بالمدارس القرآنيــة ، التــي كفلت بتخريج جيل قرآني ، وذكرنا شيئا من سيرهم ، التي تبين لنا عنايتهم الفائقة بكتاب الله العزيز .

وفي هذه الدراسة نضع أمامك – أخي الكريم – بعض القواعـــــد التي سار عليها أصحابنا في حفظهم لكتاب الله ، ولقد استنبطنا هذه القواعد من التأمل في سيرهم ، وما فاتنـا منها كثير :

 

فلم يكن الأصحاب يعملون عملا من الأعمال ، إلا ويخلصـون لله فيه ، فهم عندما يحفظون كتاب الله لا يريدون بذلك سمعة ولا رياء ؛ لأنهم يعلمون تمـام العلــم أن الرياء يحبط العمل كما يحبطه الشرك . (2)

 

ومتى ما أخلص المرء في حفظ كتاب الله كان حفظه راسخا ثابتا ، وإذا كان قصـده مفاخرة ونحوها كان الحفظ متزعزعا لينا ؛ إذ كل ما كان لغير الله فهو لغير الله ، لا يقوم على أساس متين .

 

فلقد كان أصحابنا - رضي الله عنهم – يحفظون القرآن لنيـــل رضى الله تعالى وثوابه ، فهم يدركون ما جعل الله لحافظ القرآن من الثواب العظيـم .(3)

 

وعندما يدرك المرء هذه الغاية فإنه تهون عليه ما يلقاه في طريقه من عقبــات ، ( ومن خطب الحسناء لم يغله المهر ).

 

قد أدرك سلفنا الصالح أن معالي الأمور لا تنال إلا بالصبـر و تحمل أشواك الطريق الموصلة إليها .

 

وتعالوا بنا إلى القرن السابع الهجري ؛ ليحدثنا الدرجيني عن مثابرة قاصري الفهم وصبرهم لحفظ القرآن .

 

يقول الدرجيني : " ... دخلت حلقة وارجلان – حرسها الله - ، وذلك في ربيـع الأخير سنة 616 ست عشرة وستمائة ، في أول ما وجب علي الصوم والبال خال مــن الهم ، وكنت أعجب ممن ينفرد فلا يجتهد ،[ و] ممن يمكنه الورود فلا يرد ، ومن يخلـو بالمفيد ، كيف لا يستفيد ؟!

وكان لي إذ ذاك فهم بزة إلى أن اشتغل البال ، وتحولت الأحوال ، وكنت أزدري بأكثر أولئك – أي قاصري الفهم - ، وذلك لسني ، فأستغفر الله من ذلك ، فمنهم رجــل يسمى أبو دوناس من بعض قراء نفزاوة ، سبقني إلى الحلقة – أي حلقـة تحفيـظ القرآن بالعزابة – بأعوام ، والغالب على ظني أني وجدت لوحه في سورة الفيل ، ومات في سنة سبع عشرة ولم يستكمل سورة أخرى ، ولم يدع من قدرته شيئا .

 

وهل سمعتم بأبي يزمر المصعبي ؟! كنت أسمـع به قبل دخولي وارجلان ، وما رزق من الاجتهاد مع فهم غير قليل ، فوجدته في وارجلان ، وفي لوحه  أو أمر بالتقوى  يكررها أياما كثيرة ، حينئذ ترسخ في صـدره آية أو لا ترسـخ ، فيعيدهـا ، وأقمـت بوارجلان – حرسها الله – حولين كاملين وشهـرين ثم انفصـلت وتركـت لوحـه في  والضحى و الليل إذا سجى وهو في ذلك لم يأل جهدا ، وقد سبقني إلى الحلقة بستة أعوام ، أو بثمانية أعوام لشك مني .

 

وهل سمعت بسليمان بن حريز ؟! لم يزل يكرر ويعيد سورة الأنبياء طول إقامتي بوارجلان ، وخرجت وتركت لوحه فيها ، وبلغني أنه لم يـزل كذلك يكررهـا منذ ثمان وعشرين سنة قبل ذلك " (4) ا هـ

 

فجميل بالمرء أن يتحلى بالصبر في حفظ كتاب الله ، إذ هو أمنية كل مســلم .

 

إن سيرة الأصحاب تطفح بالحياة الجدية ، فكل حياتـهم _ رحمهم الله _جد واجتهاد ، وهم عندما أدركوا أهمية كـتاب الله ، جعلـوه نصـب أعينهم ، يواظــبون على حفظه ليل نهار مهما كانت الشواغل .

 

فهذه السيدة مامة بنت يحيى (ق ) ، كانت تكتب لوحـها من القرآن ، فتضـعه بجانب نولها ، فتحفظ وتنسج .(5)

و هكذا من طلب معالي الأمور جد واجتهد، (ولا تيأس و تشكو سوء حفظ ، فإن لكل مجتهد منالا ) .

 

فقد أدرك سلفنـا الصالــح أهميــة ذلك الوقت للحفظ ،فالفكر سليم ، و القلب خال من الهموم و الشواغل ، والنفس مستعدة لـتـقـبل ما يلقى إليها .

 

وهؤلاء علماؤنا _ رحمهم الله _ ختموا القرآن قبل بلوغهـم الحلم ، فمـنهم من ختمه في العاشرة ، و منهم في الثامنة ، بل منهم من ختم القرآن في الخامسة0

 

و أصحابنا بذلك يطبقون حد يث النبي _صـلى الله عليه و آله وسلم _ القائل : " علموا أولادكم القرآن فإنه أول ما ينبغي أن يتعلم من علم الله هو "0(6)

 

( أراني أنسى ما تعلمت في الكبر *** ولست بناس ما تعلمت في الصغر )

( و ما العلم إلا بالتعلم في الصبا *** و ما الحلم إلا بالتحلم في الكبر(7) )

 

ونحن _ إذ نقول هذا الكلام _ لا نرمي أمل الكـبـير في حفظ الـقـرآن بسهم قاتل ، يميته ، فهنالك من بلغ في الكبر عتيا ، وحفظ القرآن عندها 0

 

فقد كان الصبي من سلفنا الصالح _ رحمهم الله _ قد يتقدم وحده ليدخل الكتاب ، فيطلب من المعلم أن يعلمه كتاب الله _ جل جلاله _ ، و يقول له بصوت ملهـوف إلى العلم ، و في إجلال كبير للمقام ، و شدة حبه له : يرحم الله والديكم ، علموني القرآن ، فيرد المعلم ، بعد أن يمسح رأس الصبي و يرتب على كتفيه : "نعم سنعلمك يا بني "0 (8)

 

فما أجدرنا نحن بتلك الرغبة ؛حتى نتمكن من حفظ كتاب المولى عزوجل .

 

2- القاعدة السابعة إلى الثانية عشرة: الارتباط بالمعلم ، الزمان والمكان المناسبان ، الهيئة ، مقدار الحفظ ، المواظبة:

إن المتأمل لسيرة الأصحـاب يلاحـظ أن الواحد منهم كان يحفظ كتاب الله على يد شيخ مقـرئ ، ذلك أنهم يدركـون أهميـة ذلك في تصحيــح الأخطاء ، و تقويم الألسن ، فمعلم القرآن هو المرشـد إلى حفظ القرآن و ضبطه ضبطا سليما ، وهو المتابع و المحفز لمواصلة طريقنا في حفظ كتاب المولى 0 (9 )

 

فما على المرء إلا أن يرتبط بمن يسـدد طريقه ، و يبارك له حفظه ، و يشد من عزيمته ، والله الموفق بعد كل ذلك 0

 

لقد فهم الأصحاب _ رضوان الله عليهم _ معنى هذه العبارة ، فحرصوا على البحث عن أفضل أوقات الحفظ ، ومن ثم استغلاله 0

 

وإن المتأمل في نظام حفظهم لكتاب الله يجد أنهم حرصـوا على استغـلال وقت السحر ، ووقت ما بعد صـلاة الفجـر ، ووقـت الضحـى ، ووقـت ما بعد صـلاة العصـر. (10)

 

ونحن إذا ما جئنا نتمعن في هذه الأوقات نجد أنها من أفضل الفترات للحفظ0

 

والجامع لكلها أنها جاءت بعد نوم سابق ، فتكون النفس بعده مطمئنة هادئة ، مقبلة نشطة 0

 

فالجدير بنا إذا أن نحرص على هذه الأوقات ، وأن لا نضيعها في لهو ولعب ، أو في سبات عميق كما يفعل كثير من الناس 0

 

إن للمكان دوره في التأثير في الحفـظ سلبا أو إيجـابا ، ولقـد عـــرف سلفنا الصالح ذلك ، فأقاموا المدارس مع الكتاتيب ، وبنوا المعاهد و المحاضر 000الخ 0(11)

 

فهم _ رحمهم الله _ يدركون جلالة كتـاب اللـه ، فاختـاروا له مكانا لائقا به ، يتمكنون فيه من حفظه ، دون أن يشغلهم عنه شاغل ما 0

 

فمن الخطأ إذا أن نحفظ في الطرقات أو تحت الأشجار أو نحوهما ؛ لأن كل ذلك شاغل للفؤاد عما هو فيه من حفظ كتاب المولى _ عظم سلطانه _ 0

 

وقد يستغرب أحـد ما ويقول : اختيار الهيئة !! ...فلا داعي للاستغــراب، فإن الهيئة لها دورها في التأثير في حفظ القرآن _ كالمكان _ بالسلـب والإيجاب 0

 

صحيح أن الله أذن بذكره قياما وقعودا و على الجنب ، ولكــن الهيئـات تختلف الواحدة منهن عن الأخرى 0

 

فالهيئـة الداعيـة إلى النوم _ كالإضطجـاع أو الإتكـاء _ لا خير فيهـا لحفظ القرآن 0

 

وها هو الدرجيني (ت0 67هجرية ) يحدثنـا عن الهيئـة التي ارتضـاها سلفنـا الصالح ، يقول : " ... وصفة هيئتهم حينئذ أن يشتملـوا ، فلا يظهـروا مـن أجسادهم شيئا ، و يسنـدوا ألواحهـم إلى الأساطيـن ، و يقابلونهـا غير مستندين و لا مكثرين من الالتفات ... " (12) اهـ

فهذه _ إذا _ الهيئة المناسبة لحفظ القرآن ، مع مراعاة ما يناسـب كـل شخـص لحفظه 0

 

وإن سيرة الأصحـاب ـ رحمهم الله ـ تبيـن لنــا أهمية تحديد القدر ، الذي يناسب كل فرد الأفراد 0

 

فمنهم من سار على الخمس ، ومنهم على العشر ، كل حسب طاقته وقدرته0

 

فعليك ـ أخي الكريم ـ أن تحدد لنفسك قدرا من القرآن الكريـم ، و إيـاك أن تخادع نفسك عند تحديد ذلك القدر ، فلا تكلف نفسـك ما لا تسطيـع ولا تـرخ لهـا الحبل مع ذلك ، بل كن وسطا صادقا معها .

 

عندما يحدد أحـد أصحـابنا ـ رحمهم الله ـ الـقـدر الـذي يسير عليـه في حـفظ القـرآن ، فإنه يظـل محافظـا على ذلك القـدر مــــن النقصان ، بل هو قابل للزيادة عند الاستطاعة .

 

وهؤلاء أصحابنا كانوا في أول الأمر يحفظون سورة من السور القصار كالفيل والقارعة ، ثم صاروا بعدها يحفظون الحزب والحزبين .

 

فالمهم ـ إذا ـ ألا يقل ما نحفظه عن القدر الذي حددناه لأنفسنا ، مهما كان الأمر .

 

3- القاعدة الثالثة عشرة إلى الثامنة عشرة: التكرار ، الاستعانة بالكتابة ، المراجعة ، حصص الحفظ ، الربط ، مصحف واحد:

أدرك سلفنا الصالـح ـ رضوان الله عليهم ـ ما للتكرار من دور بالغ في ترسيخ الحفظ ، فصاروا يكررون مــا يحفظونه العديد مـن المرات ، فمنهم من يكرر عشر مرات ، ومنهم العشرين ، بل منهـم من يكرر المئة 0

 

والعجب ممن يمل التكرار ، مع علمه أنه إذا لم يكرر ما يحفظــه كان حفظــه ركيكا ، سرعان ما يذهب على مر الأيام .

 

كان الأوائل من أصحابنا ، بل إلى عهــد قريب ، يكتبون حصتهم اليومية من القرآن الكريم في ألواح خاصة ، حتى يتمكنوا من حفظها .

 

ولا يخفى أن تلك الكتابة معينة أيما إعانة في ترسيـخ الحفظ ، ثم أنها تعلم الطالب رسم القرآن العثماني ، الذي لا يكاد يحفظه كل الحفظ إلا القلة القليلة في هذا الوقت .

 

والكتابة تعين الطالب على استحضار الآيات ، فيقرأ وكأنها مرسومة أمامه .

 

فعلى المرء أن يقيد حفظه بحبال الكتابة الواثقة ، التي تقف أمــام الزمن كالجبال الراسخة 0

 

فهذا المعلم من سلفنا الصالح يطلب من التلميـذ أن يسمعه ما حفظه بالأمس ، وفي ذلك من الفائدة ما لا يخفى ، فحفظ الأمس ما زال طـريا لينا ، فهو بحاجة إلى مراجعته حتى يغلظ ويستوي على سوقه 0(13)

 

فخليق بالمرء أن يرعى وليده الجديد ، حتى يكبر و يصبح قويا شديدا 0

 

فقد كان السلف الصالح من أصحابنا على استذكـار السابـق يوميا ، فمنهم من جعل حصته من المراجعة جزئين يوميا، ومنهم خمسة يوميـا ، منهم الشيخ أبو إسحاق (ت 1385هجرية ) والشيخ أبي اليقظان (ت 1393هجرية ) مــن المغاربة (14) ، والشيخ خميس بن سليمان الحارثي من المشارقة 0(15)

 

أفلا تريد ـ أخي الكريم ـ أن تسير في طريقهم ، فتفوز كما فازوا ؟!

 

تعترض الواحد منا عند حفظه للقرآن آيات متشابهــات ،فتختلط عليه ، فلا يستطيع ضبطها ، فما الحل ؟ !

 

الحل بسيط ، فأصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا يربطون المتشابهـات بحبل يجمعها من أن تتشتت عليهم 0

 

فسورة الأعراف ـ مثلا ـ ورد فيها قصص الأنبياء مع أقوامهم ، فما الرابــط بينها ؟ ! هو قوله تعالى : " قال يقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره " (16)

 

هذه واحدة ، ثم هنالك رابط آخر بين قصة نوح وقصة هود ـ عليهما السـلام ـ فكلاهما قال لقومه : " أبلغكم رسالات ربي " (17 )

 

وهنالك رابط ثالث بين القصتين ـ أيضا ـ ، فنوح ـ عليه السلام ـ قال لقومـه : " قال يـقوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين " (18) ، على حين قـال هود ـ عليه السلام ـ لقومه : " قال يـقوم ليس بي سفاهة ولكني رسـول مـن رب العالمين " (19) 0

 

وهنالك رابط رابع بين القصتين ـ كذلك ـ ، فسيدنا نوح ـ عليه الســلام يقول لقومه : " أو عجبتم أ ن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم " (20) ، وكـذلك قال هود ـ عليه السلام ـ لقومه 0

 

هذا مثال واحد لقصتين قد تتشابه على الواحد منا عند حفظها ، و لكــن متى ما حددنا الجامع بينها سهل أمر الباقي ، فالاختلاف ـ بعدها ـ يسير بينهما 0

 

وهذا شيخنا الحاج صالح بن عمر (ت 1347هـ) كان أحفظ الناس للقرآن ، عليما بالفاء والواو فيه ، يرجع إليه القراء إذا اختلفوا . (21)

 

فهيا بنا نحفظ القرآن كحفظهم ، وإنه ليسير على من يسره الله له .

( ليسوا رجالا لا نطيق فعلهم * * * لكنهم جدوا وقصرنا الخطى )

 

فقد كان الواحد من أسلافنا الصالحـيـن ـ عندما يدخـل الكتّاب ـ يلازم لوحا واحدا خاصا به ، فلا ينتقل من لوح لآخر .

 

وفي هذا من الحكمة شيء كثير ، فإن تعوّد العين ، ومن بعدهـا الذهن على صورة واحدة يرسخ المحفوظ دون أن يختلط بغيره ، أمّا إذا حفظ من مصاحف متعددة تختلف شكلا ولونا وخطا ، فإن حفظه يهتز بينها ، وتختلط عليه الألوان والأشكال والخطوط .

فلازم ـ أخي الكريم ـ مصحفا واحدا تحفظ منه دائما،وتحمله معك باستمرار0

 

4- القاعدة: التاسعة عشرة إلى الرابعة والعشرين: فهم المعاني ، مذاكرة المحفوظ ، الاستراحة ، الجو الإيماني ، القراءة الجهرية:

ففي الكتاتيب كان المعلم يحاول أن يعطي طلابه نـبذة عـن موضوع الآيات ، ولكن ليس ذلك دائما ، وليس مع كل طالب ، بل مـع الطـالــب النجيب الألمعي ، وليس كل معلم يفعل ذلك .

 

وفهم الآيات يساعد الطالب على الحفظ حفظا سريعا ؛ لأنه يعي معناها ، ويـدرك مغزاها ، فتبقى راسخة في قلبه .

 

فيا حافظ القرآن استعن بتفسير مبسط ، يحل لك مغاليق بعض الآيات 0

 

فلقد كان سلفنا الصالح يعقدون حلقـات للمذاكـرة ، وهـذه المذاكرة ـ مع ما فيها من ترسيخ الحفظ ـ تنبه الواحد منا إلـى أخطـاء يقع فيها ، لم تخطر بباله 0

 

وهذا التأريخ يحكي لنا قصة ثلاث أخوات فاضلات كنّ يحفــظن القـرآن معـا ، ويتدارسنه معا على العشرات ؛ أي كل عشر آيات . (22)

 

فعلى المرء أن يختار له صحبة ترافقه في حفظ القرآن ودراسته ، واللـه المـوفق بعدها 0

 

ولقد فهم أصحابنا ـ رضوان الله عليهـم ـ معنـى ذلك ، فجعلوا النوم إجباريا في بعض الأوقات ، حتى يتمكن الجسد من أخذ الـراحــة ، التي تعينه على الحفظ بعد ذلك بهمة ونشاط 0

 

وقد جعلوا عقوبات لكل من يخالف ذلك ، ومن لاحظوا منه إرهاق نفســـه فـي الحفظ نصحوه بإراحة نفسه 0 (23)

 

فيا حافظ القرآن إن لجسمك عليك حقا ، فلا تكلفه ما لا تستطيع ، فـإن المنبـت لا أرضا قطع ،ولا ظهرا أبقى .

 

لقد قام نظام التحفيظ عند الأصحـاب ـرحمهم الله ـ على توفير الراحة النفسية للطالب ، فلا يكون مشغولا بأي شيء آخر، بل يكـون قلبـه خاليا من الهموم ، وصدره مملؤا بما يحفزه احفظ القرآن .

 

فأي طالب ذلك الذي يستطيع أن يحفظ ، مع أن فؤاده مشغول بما يؤرقــه ؟! فإذا ما حفظ كان الحفظ مهشما كصاحبه المهشم من الهموم .

 

فإياك ـ أخي الكريم ـ والحفظ ساعة ما يهاجمك بحر الهمـوم ، فـإن حفظـك كعدم حفظك حينها .

 

حرص الأصحاب على النظــام الإيمــاني ، الذي يجعل صاحبه في عالم آخر ، عالم يسوده الذكر والتسبيح ، يسوده القرآن ... نعم القـرآن لا غير ، فالمتأمل في نظامهم ـ رحمهم الله ـ يجد أن كل الوقت اشتغال بالمفيد .(24)

 

فاحرص ـ أخي الكريم ـ على ذلك الجـو ، تعيشـه مـع أهـل الذكـر والإيمان ، وهم أندر من الذهب الأحمر ، فاربط أحزمتك للبحث عنهم ، وهم لا يخفون على أحد بإذن الله .

 

أدرك أصحابنا أهمية القراءة الجهرية في تثبـيت الحفظ ، فكان المعلم في الكتاتيب ونحوها يطلب من طلابه القراءة الجهريـة لمـا يحفظـون ، وفائدة ذلك أنها تركز جميع حواس الجسم على الحفظ ، فلا يشتغل بشيء آخر، فيـكون الحفظ راسخا كرسوخ الجبال ، ولا يصل إليه النوم أو الملل و الضجر 0

 

فعلى المرء ـ إذا ـ أن يركز حواسه على ما يحفظه ، وإن خاف إزعـاج غيره فليبحث عن المكان المناسب ، كما أشرنا سابقا 0

 

5- القاعدة: الخامسة والعشرون إلى الثلاثين: عدم العبث، العمل بأحكامه، التفرغ له، الغذاء الجيد، المراجعة الشاملة، الصلة بالله:

حرص الأصحاب على عدم اشتغال الطالب عـنـد الحفظ بأي شيء آخر ، وكل من فعل ذلك فإنه يعرض نفسه للعقوبة ، حرصـا منهـم علـى تركيز الطالب على حفظه ، وانشغاله بما هو خير له 0(25)

 

فيا حافظ القرآن أعط كلك للقرآن تنل كل خير ، وإيـاك وإهمـالـه ، فمـن أهمل القرآن أهمله القرآن 0

 

لم يكن هم أصحابنا الأول من حفـظ القـرآن الكريــم إلا تطبيقه ؛ لأنهم يعلمون أن رب حامل للقرآن والقرآن يلعنه 0(26)

 

وإن المرء متى ما طبق ما حفظه كان ذلك داعيـا إلـى رسوخـه فـي قلبه، فإذا ما مرت آية تدعو إلى قيام الليل قامه ، و إذا مرت آية تــحــث على التصدق تصدق ، وهكذا دواليك ـ أخي الكريم ـ احرص ؛ حتى تكـون ممـن يشهـد لهــم القرآن ، لا ممن يشهد عليهم 0

 

معنى ذلك أن لا يتعرضوا لغير الـقرآن ، فـلا يشتغلـون بالعلوم الأخرى ، إلا ما قد عناهم من العبادة وفرائض الإسلام ، وذلك حتـى لا يتشتت الذهن بين هذا وذاك ، فلا يستطيع عندها تحقيق شيء ما 0(27)

 

وهكذا كان سلفنا الصالح لا يشتغلون بغير القرآن الكريم ، فإن بقيــة العلوم عندهم تلي القرآن الكريم ، فعلماؤنا حرصوا أول الأمر على القرآن فقــط ، حتـى إذا حفظوه في الصدور ، انتقلوا إلى تلك العلوم الأخرى 0

 

ولكن لا مانع من الجمع بين القرآن والعلوم الأخرى لمن أتاه الله فهمـا ذكـيا، وقلبا حافظا 0

 

فعلى المرء ـ إذا ـ الاشتغال بالقرآن أولا ، فلا يخادع نفسـه وينتقــل إلى العلوم الأخرى 0

 

حرص القائمون على نظام تحفيظ القرآن عنــد الأصحاب أن تكون الوجبات المقدمة للطلاب صحية من ناحية ، ومغذية للعقل والجسم من ناحيـة أخرى 0(28)

وفي هذا الوقت يمكن استشارة الطبيب لمعرفة نـوع الوجبــات الملائمـة لتنمية العقل و الجسم 0

 

وهكذا ـ أخي الكريم ـ حاول أن يكـون غذاؤك صحـيا مغذيـا للعقــل والجسم معا ، والله يوفقك 0

 

بعد أن يختم الواحد حفـظ القـرآن ، فإنه يطلـب منــه أن يواظب على مذاكرته ، حتى يظل في القلب راسخا 0

 

ولقد أتبع أصحابنا نظاما محكما في مذاكرة القرآن بعد ختمه مباشـرة، يسمى الاستظهار ، يعد بعدها من حفظة الكتاب العزيز حقا ، ويؤمر بعدها بالحفـاظ عليه عن طريق مذاكرته دائما 0(29)

 

فيا حافظ القرآن ، حافظ على كتاب الله في صــدرك ، حتى تـكــون ممن يكون إنجيله في صدره 0

 

كان أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ يدعون الله أن يوفقهـم إلى حفظ كتابه ، إذ هي أمنية كل مسلم 0

 

ومتى ما توثقت علاقة العبد بربه أعطاه الله ما يريــد ، حتى يكــون الله سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بهـا ، ورجلــه التي يمشي بها .

 

فما عليك ـ أخي الكريم ـ إلا أن تكون من أولياء اللــه وحزبــه ، حتى تكون من الفائزين بحفظ كتاب الله في الدنيا مع صدق العزيمة ، وبالنعيــم في الآخرة إن شاء الله .

 

هذه هي أهم القواعد التي استخلصتها من سيرة أصحابنا ـ رحمهـم الله ـ ، وهي سيرة جديرة بالدراسة والتمعن ، إذ بها الدر كامنا ، والجوهر مكنونا .

 

وما ذكرته هنا من قواعد قابلة للزيادة ، بعد النظر الدقيق في آثـار وأخبـار سلفنا الصالح ، وبعد كل هذا فالله الموفق إلى الخير ، والحمد لله أولا و آخرا .

----------------------------------------

6- هوامش الدراسة، ومصادرها ومراجعها

* هوامش الدراسة

1) كان لي حول عناية الإباضية بحفظ القرآن وتلاوته دراستان سابقتان ،

الأولى : المدارس القرآنية عند الإباضية ، والثانية : أخبار وآثار عن اهتمام رجالات الإباضية بالقرآن حفظا وتلاوة .

2) السالمي ، شرح الجامع الصحيح ، ج 1 ، ص 18 ، ... ، مشارق أنوار العقول ، ص 562 .

3) الجيطالي ، قناطر الخيرات ، ج 3 ،ص 474 ـ 476 ، السعدي ، قاموس الشريعة ، ج3 ، ص 286 ـ 289 ، البوسعيدي ، الأخبار والآثار ، ج1 ، ص 87 ـ 89

4) الدرجيني ، طبقات المشائخ ، ج1 ، ص 180 ـ 181 .

5) دبوز ، نهضة الجزائر الحديثة ، ج2، ص 165 .

6) رواه الإمام الربيع في باب ذكر القرآن (3) ، حديث رقم 3 .

7) السالمي ، شرح الجامع الصحيح ، ج1، ص15 .

8) حجازي ، تطور الفكر التربوي الإباضي ، ص211ـ 212، دبوز ، نهضة الجزائر الحديثة ، ج ، ص .

9) انظر ما قلناه في المدارس القرآنية عند الإباضية ؛ لتتبين دور معلم القرآن .

10) انظر : السعدي ، المدارس القرآنية عند الإباضية .

11) انظر : السعدي ، المرجع السابق .

12) الدرجيني ، طبقات المشائخ ، ج1 ، ص178 .

13) الدرجيني ، المرجع السابق ، ج1 ، ص177 ، السعدي ، المدارس القرآنية عند الإباضية ، ص10 .

14) دبوز ، نهضة الجزائر الحديثة ، ج2، ص67.

15) مجموعة مؤلفين ، جوهرة الزمان ، 44ـ 45.

16) سورة الأعراف ، آية 59 ، 65، 73، 85.

17) سورة الأعراف ، آية 62، 68.

18) سورة الأعراف ، آية 61.

19) سورة الأعراف ، آية 67 .

20) سورة الأعراف ، آية 63 ، 69 .

21) دبوز ، نهضة الجزائر الحديثة ، ج2 ، ص136 ـ 137 .

22) الشقصية ، السيرة الزكية ، ص182 .

23) الدرجيني ، طبقات المشائخ ، ج1، ص174 ـ 175 ، السعدي ، المدارس القرآنية عند الإباضية ، ص 16ـ 17 .

24) انظر : السعدي ، المدارس القرآنية عند الإباضية (كلّــه) .

25) انظر : السعدي ، المرجع السابق ، ص24 0

26) الجيطالي ، قناطر الخيرات ، ج3، ص376ـ 378 ، السعدي ، قاموس الشريعة ، ج3 ، ص289ـ 293 ، البوسعيدي ، الأخبار والآثار ، ج1 ، ص89 ـ 93 .

27) الدرجيني ، طبقات المشائخ ، ج1 ، ص178 .

28) حجازي ، تطور الفكر التربوي الإباضي ، ص170 .

29) السعدي ، المدارس القرآنية عند الإباضية ، ص19 ـ20 .

---------------------------------------------------------------

 

**المصادر والمراجع