طباعة
المجموعة: برنامج دين الرحمة
الزيارات: 1784

عنوان الحلقة "العـــزة"

 

مقدم البرنامج: مستمعينا الكرام أهلاً وسهلاً بكم جميعاً في حلقةٍ جديدة من برنامجكم " دين الرحمة" ، وسوف نتناول اليوم معكم قيمةً من القيم الإنسانية المهمة وهي " العزة" ، وسوف يتبين لكم معنا في هذا الحوار أن العزة ليست شعاراً يرفعه الإنسان، أو صفةً يسعى إلى التحلي بها من أجل غرضٍ معين، إنما هي قيمةٌ من القيم التي يدعو ديننا الحنيف إلى أن يتمثلها الإنسان في حياته دائماً، وفي تعامله مع الآخرين، وفي تناوله للأمور كلها، بيد أن هذه القيمة تحتاج إلى كثيرٍ من التبيين حول مفهومها ومعناها وأهميتها في حياة الإنسان، وماذا تعني في كل هذا.

 

سوف تستمعون في هذا الحوار مع فضيلة الشيخ الدكتور " كهلان بن نبهان الخروصي" إلى كل هذه التفاصيل بإذن الله تعالى.

 

*********************

 

مقدم البرنامج: كما قلت في البداية أن هذا المفهوم يتصوره البعض أنه مجرد شعار أو شيءٌ ربما يتوفر للبعض ولا يتوفر للآخرين؛ ولذلك نحن الآن بحاجة إلى أن تضعنا أمام تعريف لهذا الموضوع ( موضوع العزة) كقيمة من قيم هذا الدين.

 

كما أننا نحتاج إلى أن تبين لنا صلته بالإطار العام لبرنامجنا " دين الرحمة"، وما هي العناصر كذلك كما هي العادة التي نتناولها في هذا الحوار بإذن الله؟؟

 

 

الشيخ كهلان: هذا الموضوع – موضوع العزة – هو امتدادٌ لسلسلةٍ من القيم الإنسانية التي تناولناها في هذا البرنامج، وهذه القيمة – قيمة العزة – نستهل بها حلقات هذا البرنامج في عامه الهجري الثاني، فنحن اليوم في أولى حلقات العام الثاني من هذا البرنامج، وقدر الله تعالى أن يكون موضوع هذه الحلقة هو موضوع " العزة".

 

هناك كثيرٌ من الالتباس لدى أذهان بعض الناس حول دلالة هذه القيمة، وحول معانيها ومضامينها، ما نحاول أن نفعله اليوم هو أن نُعرِّف هذه القيمة، وأن نبين صلتها بباقي القيم الإنسانية في هذا الدين، فكل ما تقدم من قيمٍ نبيلةٍ دعا إليها هذا الدين الحنيف وحض عليها، وبين السبل التي تمكن من تَمَلُّك تلكم القيم إنما تورث هذا المرء شعوراً معيناً، هذا الشعور يجعله يفتخر بانتسابه إلى هذا الدين الحنيف، ويتشرف بحمله لمشاعل تعاليم هذا الدين، وتجعله أيضاً يشعر باعتزازٍ وشرفٍ أن يسر الله تعالى له عقيدةً ناصعةً سمحةً رحبة الأرجاء، تحرر له عقله ووجدانه من الخرافات والأوهام والأساطير، تقيه السوء، كما أن التعاليم والأحكام التي يتبعها تقيه أيضاً السوء في محيطٍ من الأخلاق والقيم النبيلة، وبهذا تتولد لدى هذا الإنسان هذه القيمة التي نتحدث عنها.

 

فهو إحساسٌ بالشرف وبالحصانة من أن يُنال بسوء في فكره.. في عقله.. أو في عواطفه وضميره، أو في الأخلاق التي يتبعها، أو في التعاليم والأحكام التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى.

 

وبالتالي سوف نتعرض للفروق الدقيقة التي قد تجعل بعض الناس يقعون في الأخطاء، كالتباس العزة بالكبر، فإن بعض الناس لا يتمكن من التمييز بين الكبر والعزة، كما أن بعضاً آخر من الناس أيضاً لا يعي دلالات العزة حينما نتحدث عنها كقيمةٍ تقف جنباً إلى جنب مع قيم التسامح والصفح والرحمة والتواضع وغيرها من القيم التي دعا إليها هذا الدين؛ فإذا به يحسب خطأً أن تلك القيم إنما تؤدي إلى أن يكون المسلم ذليلاً خانعاً فلا يستطيع أن يوافق بين تلك القيم وبين قيمة العزة التي نتحدث عنها، وبالتالي سوف يكون من صميم موضوعنا اليوم البحث في هذه المعاني الدقيقة..

 

في الفروق التي يمكن أن تبين للناس وتجلي حقيقة العزة واتصالها بباقي الصفات الحميدة في هذا الدين كالتواضع والصفح والسماحة والحلم وغيرها من الصفات النبيلة، وكيف أيضاً أنها تختلف عن صفاتٍ مذمومة لا يحبها الشرع، ولا تدعو إليها مروءات هذا الدين وأخلاقه كالكبر والغطرسة والتعالي على الناس وغيرها من الصفات المذمومة في هذا الدين.

 

ثم إننا سوف نتعرض أيضاً بمشيئة الله تعالى إلى ما يمكن أن يتولد من اختلاط هذه المفاهيم لدى الناس على مستوى الأمة في مجموعها، وسوف نحاول أن نقرأ قراءةً عابرةً لواقع المسلمين بالنظر أيضاً إلى تاريخهم حينما يحصل عندهم خللٌ فيما يؤدي إلى التزامهم بقيمة العزة.

 

كما أننا أيضاً كما تعودنا سوف نحاول أن نركز على الطرق والوسائل العملية التي تمكن المسلم من تمثل هذه القيمة دونما تفريطٍ في باقي القيم، ودونما وقوعٍ في خصالٍ لا يحبها هذا الشرع الحنيف.

 

 

*********************

 

 

{مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } (فاطر:10)

 

 

مقدم البرنامج: الآن فضيلة الشيخ بعد استماعنا إلى هذه الآية القرآنية الكريمة ما الذي نستفيده منها في تعريف العزة، وفي بيان الأسباب المؤدية إليها؟؟

 

 

الشيخ كهلان: هذا السياق الذي وردت فيه هذه الآية الكريمة هو سياقٌ يأخذ بالألباب؛ لأنه يبين ما الذي يحذرنا منه ربنا تبارك وتعالى، وما الذي يأمرنا به ونحن نتحدث عن العزة، فقبل هذه الآية التي استمعنا إليها من سورة فاطر نجد أن الحق تبارك وتعالى يحذر عباده من غرورين ( يحذر عباده من الاغترار بالحياة الدنيا وذلك حينما قال في مطلع هذا السياق الذي وردت فيه الآية التي استمعنا إليها حينما قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا...}، ثم قال: {... وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } (فاطر:5)، والغَرور هو اسمٌ للشيطان بدليل الآية التي بعدها حينما قال:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (فاطر:6)، ثم يبين المولى تبارك وتعالى بعد هذا التحذير من الاغترار بالحياة الدنيا أو بوساوس الشيطان الذي يغرر بهذا العبد يبين صفات حزب هؤلاء الذين يغترون بشيءٍ من هذه المسببات فيقول: { الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ...} (فاطر:7)، ثم ينتقل بعدها إلى صفات المؤمنين في المقابل {...وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ{7} أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } (فاطر: 7 – 8)، ثم قال: { وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ...} (فاطر:9) آية من آيات الله عز وجل ليأخذ بألباب المخاطبين أو بعقول المخَاطَبين وأذهانهم {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ{9} مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً...} (فاطر:9 -10)

 

فإذاً سبب العزة هو الاتصال بالله سبحانه وتعالى، والعزة لا تكون إلا من عند الله عز وجل، ويكون ذلك بما بينه ربنا تبارك وتعالى قبلاً في السياق المتقدم على هذه الآية بالحذر من الوقوع في الاغترار بالحياة الدنيا، وبوساوس الشيطان، وبما يزينه هذا الشيطان للمرء من سوء أعماله حتى يرى عمله السيئ حسناً فيغتر بذلك، وأيضاً بما اتصل بهذا الأمر من قبل الله عز وجل الذي ورد على صيغة الخبر {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً...}، ثم قال:{... إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ...}، ويحذر مرةً أخرى من الوقوع في المعاصي التي تورث المهانة والمذلة {... وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } .

 

فإذاً العزة التي نتحدث عنها مصدرها هو الله سبحانه وتعالى، وقد وصف المولى جل وعلا نفسه بأنه رب العزة في مقامٍ اقتضى ذلك { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ{180} وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ{181} وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الصافات: 180- 182)؛ لأن المقام مقام تنزيه مما نُسِب إليه تعالى من البنات ومن الولد، ومن الشركاء فأتى في آخرها { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} فهو تعالى رب العزة التي يستمد منها العباد المؤمنون عزتهم، وشرفهم، وحصانتهم من الوقوع في السوء.

 

 ثم يبين بعد ذلك المولى تبارك وتعالى في هذه الآية أن السبيل إنما يكون بالكَلِم الطيب والعمل الصالح، والكلم الطيب كما يقول الكثير من المفسرين: هي كلمة التوحيد، وإن عمم وقيل كل كلمٍ طيبٍ فإنه لا تعارض؛ لأنها من الإيمان، والإيمان يدعو إلى الكلم الطيب، واقترن أيضاً ذلك بأن عُطف عليها " والعمل الصالح" فالذي يورث العبد أن يعتز بالله سبحانه وتعالى إنما هو إيمانه الصادق الخالص لله تبارك وتعالى، وقوله الحسن المرضي الذي يرضي الله تبارك وتعالى، وعمله الصالح الذي يتقبله الله تبارك وتعالى فيرفعه إليه ويكافئه به مزيداً من الحسنات والثواب.

 

هذه هي العزة التي نتحدث عنها، هي التي يكون منشؤها تكريم الله تعالى لهذا الإنسان مطلقاً لكونه إنساناً خلقه الله عز وجل، وكرمه على سائر المخلوقات {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ...}(الإسراء:70 )، ثم ثانياً بكونه ينتسب إلى هذا الدين الذي جعل ميزان التفاضل الإيمان والعمل الصالح، والتقوى التي تصل بالله سبحانه وتعالى، وتكون سبباً لهذا الشعور بالشرف والحصانة في أبسط تعاريف العزة التي نتحدث عنها أنها الحصانة مما يوقع في السوء، مما يجعل المرء في سوء مذلةٍ ومهانة.

 

وهذا الذي ورد في هذا السياق القرآني أيضاً أكدته آياتٌ أخرى كثيرة أيضاً من كتاب الله عز وجل سوف نتعرض لها في ثنايا البرنامج بمشيئة الله.

 

*********************

 

مقدم البرنامج: الآن دعنا نقف أكثر مع موضوع العزة، والفرق بين هذه القيمة وبين الكِبر والتعالي من جهة، والمذلة والخنوع من جهةٍ أخرى.

 

أنتم أشرتم إلى وجود لبسٍ حول هذه المواضيع إذ أن كثيراً من الناس يظن أن العزة هي التعالي على الناس، وفي المقابل هناك فهم آخر لا يفرق بين التواضع الذي هو من أخلاق المسلم، وبين العزة التي نتحدث عنها اليوم.

 

 

الشيخ كهلان: هذه قضيةٌ غايةٌ في الأهمية، وأنا أدعو الإخوة والأخوات المتابعين إلى أن يشاركوننا بآرائهم فيها سيما الشباب منهم.

 

أولاً: سوف نلخص نحن الآن الفهم الصحيح لهذا الموضوع، ثم نتمنى أن نتلقى مشاركاتٍ حول فهم الناس – كما قلت – خاصةً الشباب لهذه القضية.

 

العزة تختلف اختلافاً كلياً عن الكِبْر، ذلك أن الكِبْر يعني التعالي، وقد حدد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن الكِبْر إنما هو غمط الحق، والتعالي على الناس.

 

وهذا يناقض تماماً معاني العزة التي نتحدث عنها هنا، فإن المعتز بعزة الله بانتمائه إلى هذا الدين، وبالتزامه بالإيمان والعمل الصالح لا يأنف أبداً من قبول الحق، وهذا من أبرز الفوارق التي تكون بين العزة وبين الكِبْر.

 

الكِبْر هو تعالٍ عن قبول الحق، أما العزة فإنه تعالٍ على هذه النفس الأمارة بالسوء، وارضاخها لقبول الحق ولو كان ممن تُحدث النفس بأن كان مصدر الحق أقل من النفس، فهو يقبل الحق ممن جاء به قريباً أو بعيداً، حبيباً أو بغيضاً، هذا يصدق أنه معتزٌ بدينه، وأنه ملتزمٌ بهذه القيمة، أما هذا الذي يتعالى على الناس، ويتكبر عليهم، ويأنف من قبول الحق حتى ولو كان مخطئاً، ولو كان مبطلاً، ولو كان ظالماً فإنه لا يمكن أن يسمى بأنه معتز وإنما ذلك غرور، وتلك كبرياء وكِبْر يمقتها هذا الدين ويُنَّفر منها، ويُحذر منها أشد التحذير، فإذاً هذا الفرق الأول وهو قبول الحق.

 

علامة الفارق بين العزة وبين الكِبْر هو موضوع قبول الحق، فإذا كان أحدنا مثلاً لا يعرف من نفسه هل هذا الذي هو فيه هو عزة دينٍ.. عزة انتماءٍ إلى دينٍ يفتخر بالانتماء إليه، أو أن ذلك هو من الكبر فليقس نفسه بميزان الحق .

 

هل يقبل الحق حينما يكون مخطئاً؟؟ لأن الله عز وجل بين لنا هذا المعنى في كتابه الكريم حينما قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} (البقرة: 204)، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ...} (البقرة:206) حتى التعبير نفسه الذي ورد في هذه الآية الكريمة {... أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ...} بماذا؟؟ "بالإثم" ، فإذاً هذه غطرسةٌ وهذا كبر وليس هو اعتزازٌ بالحق.. ليست هي العزة التي نتحدث عنها هنا، هذه عزةٌ بالإثم كما وصفها الله تعالى في كتابه الكريم.

 

 

مقدم البرنامج: والحق هنا مطلق سواء جاء من صغير أو من كبير.

الرجل في بيته، الرجل مع أولاده أو مع زوجته، الرئيس مع مرؤوسه...وهلم جرا.

 

 

الشيخ كهلان: نعم.

الفارق الثاني الظلم؛ لأن من أبرز الصفات التي يتصف بها أهل الكبر والغطرسة أنهم لا يأنفون من ظلم الآخرين، فتجد أن المتكبر يمكن أن يغمط الناس حقوقهم، ليس فقط مسألة أن يقبل الحق من الآخرين، لكن هو يبتدر الآخرين بظلمهم، فيمكن أن يعتدي مثلاً على أموال الأيتام .. يمكن أيضاً أن يعتدي على أموال المسلمين، وعلى حرماتهم وعلى أعراضهم ويدعي بعد ذلك أن ما يفعله إنما هو من صميم الدين.

 

 ومن صميم التعالي الذي يورثه إياه دينه، أو استقامته، أو صلاحه، أو سلطته التي خُوِّل إياها وليس الأمر كذلك؛ لأن العزة تنافي الظلم تماماً، وأبرز ما يبين الفارق بين العزة التي نتحدث عنها وبين صفاتٍ ذميمةٍ أخرى هو أن المعتز بالله سبحانه وتعالى.. بالانتساب إلى هذه العقيدة، إلى هذه الشريعة السمحاء لا يبادر الناس بالظلم، فإن وجد من نفسه أنه يرضى أن يظلم الآخرين فهذا ذل معصيةٍ لا يقبله الله عز وجل، وهو من الهوان في الدنيا والآخرة، فالظلم ظلماتٌ يوم القيامة، والظالم حتى وإن بدا للناس متكبراً، وبدا للناس ذا جبروتٍ وغطرسةٍ إلا أنه في الحقيقة ذليلٌ عند الله تعالى، وذليلٌ في موازين الحق أيضاً فهو غير عزيز، أما العزيز فإنه يأنف ولا يقبل لنفسه أن يظلم قيد شعرة، كما أنه يأنف من أن يحمل صفات الكِبر ولو حبة خردل – كما سوف يتبين لنا في الحديث الذي سوف نستمع إليه – فإنه يأنف من أن يرتكب مظلمةً في حق الآخرين ولو كانت قيد شعرة.

 

فإذاً الفارق الثاني هو: موضوع الظلم، قلنا الموضوع الأول هو قبول الحق، والثاني وهو من الفروق المهمة الرئيسة موضوع الأنفة من الظلم، وعدم الإقرار على الظلم.

 

الفارق الثالث: التزام قيم وأخلاق هذا الدين مهما كانت المواقف، ومهما كانت الظروف التي تمر به، حتى ولو مورس عليه الظلم، هو لا يقبل الظلم لكن عدم قبوله للظلم لا يعني أن يخرج عن دائرة أخلاق هذا الدين ومراشده وهداياته، لماذا؟؟

 

لأنه سوف يتغلب على نفسه بالعزة بإيقانه أن العزة لله ورسوله وللمؤمنين كما قال الله تبارك وتعالى، وأن النصر من عند الله، وأنه متوكلٌ على ربه تبارك وتعالى، ومن يتوكل على الله فإنه يتوكل على عزيزٍ حكيم، فهذا يورثه شعورٌ بطمأنينة حتى وإن كان مظلوماً في هذه الحياة الدنيا، وهذا الشعور بالطمأنينة يجعله غير مفرطٍ في قيمه ومبادئه وأخلاقه.

 

لا يتزحزح عنها أبداً، ينطلق – كما قلنا دائماً – لا من ردود أفعال، وإنما من مبدأٍ ومن أساسٍ خلقيٍ متينٍ رصينٍ لا ينفك عنه لحظةً من اللحظات.

 

 

مقدم البرنامج: وهذا طبعاً بعد تصوره واعتقاده أن دينه وأخلاقه لا يمكن أن تجعله ذليلاً، وإنما هي أساساً تدعو إلى عزته ولكن بطريقٍ صحيح.

 

 

الشيخ كهلان: نعم، في المقابل هذا إذاً يأخذنا – بارك الله فيك – إلى قضية الصورة المقابلة، أي (أخلاق التواضع والسماحة والصفح...وغير ذلك) هل العزة تتنافى معها؟؟

 

أيضاً لا، لا تتنافى معها؛ لأن من العزة التزام هذه القيم والمبادئ، وهذا أمرٌ غايةٌ في الصعوبة، أي – لا يتمكن من هذا الشيء إلا من اصطفاه الله عز وجل، يعني إذا ما رُزق العبد هذه الخصلة النبيلة الكريمة فقد رُزق خيراً كثيرا-.

 

 

مقدم البرنامج: هل نستطيع القول أن يوسف – عليه السلام – عندما طلب السجن لم يكن ذلك عن ذلة، وإنما كان ذلك طلباً للعزة من طريق الأخلاق والقيم التي يلتزمها؟؟

 

 

الشيخ كهلان: نعم أحسنت، حتى يترفع عن الوقوع في المعاصي والفواحش؛ فلذلك العزة هنا بالالتزام بهذه القيم، وهي لا تعني قبول الظلم، أبداً لا يُطلب من المسلم أن يرضى بالظلم، وأن يقر الظلم في نفسه أو في أهله أو في أمته ومجتمعه ومقدساته لا، لكن أن يلتزم بأخلاقه حتى حينما يرفض هذا الظلم، وأن يتحلى أيضاً بسائر القيم التي دعاه إليها دينه الحنيف، وأن يتأسى في ذلك برسول الله – صلى الله عليه وسلم -.

 

وهنا ترد ثلاثة أمور، الأمر الأول ما يتعلق بالنية – المقصد –، فالعبد المؤمن المعتز بعزة الله عز وجل.. المنتسب إلى حزب الله عز وجل المتصف بالعزة المطلقة -تبارك وتعالى- لا بد أن يصحح نيته لله تبارك وتعالى، فيكون مخلصاً له عز وجل، ولا يصاحب نيته شيءٌ من المقاصد الدنيوية التي لا يرضاها الله تبارك وتعالى؛ لذلك نجد في حديث الهجرة " ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".

 

الأمر الثاني: الفعل، فالفعل لا بد أن يكون أيضاً موافقاً لأخلاق الشرع، لا بد أن يكون موافقاً لأحكام الشرع.

 

التصرف الذي يقوم به لا بد أن يكون منضبطاً بضوابط الشرع الحنيف، ثم بعد ذلك مآل الفعل، أو ما يترتب على الفعل.

 

هنا لا بد أن يحسب العاقل للأمر حسابه من أن يقع في أمرٍ عواقبه عواقب شرٍ وسوء، فعندما يكون في سعةٍ من أمره فإنه لا بد أن يعرف مآلات الفعل الذي سوف يقوم به، فلا يكفي فقط أن تكون نيته سليمةً، وأن يكون فعله صحيحاً شرعاً؛ بل لا بد أيضاً أن ينظر في المآلات طبعاً باستثناء الواجبات الشرعية، والمحرمات أيضاً الشرعية التي يؤمر بالكف عنها..بتركها، فإنه لا بد أيضاً أن ينظر في عواقب الأفعال التي يقوم بها، فإذا ما كانت موافقةً للشرع فإن الله عز وجل قد أمر عباده أو وسع لهم في إتيان ما يريدون أن يأتوا، أو في ترك ما يتركون لكن وفق هذا الإطار – كما قلت – من النية والفعل والغاية من الفعل ومآل الفعل الذي يقوم به، حينما يتحقق هذا يورث المرء العزة؛ لأن العزة هنا تعني – كما قلنا – الحصانة من السوء.

 

 وقد لا يكون السوء المقصود هنا فقط السوء المادي الذي يمكن أن يصيبه في بدنه..أو في نفسه.. أو في ماله...أو غير ذلك؛ بل حتى في الجانب النفسي، فالله سبحانه وتعالى حينما يدعو عباده بأن من استجاب له تعالى ولرسوله – صلى الله عليه وسلم – فإنه يحييه المولى تبارك وتعالى حياةً طيبة، فإن المقصود بذلك هناء البال، وراحة الضمير؛ ولذلك نجد في سيرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الكثير من الأمثلة التي تدعو إلى أن يُتأسى بخير قدوةٍ – عليه أفضل الصلاة والسلام -؛ لأنه كان كما نعرف جميعاً ترجمان القرآن.. كان خُلقُه القرآن، ووصف بأنه على خُلقٍ عظيم؛ ولذلك كان خير ما يمكن أن نرى فيه عزة هذا الدين بما تشتمل عليه – كما قلت – من صفات الحق والتواضع، والصفح، والرحمة بالآخرين، وحسن الخلق مع الآخرين، والنظر أيضاً في عواقب الأمور، والتوسعة على الناس في أمور عباداتهم وفي أمور دنياهم، وهي كلها أمورٌ متصلٌ بعضها ببعض.

 

مقدم البرنامج: إذاً هناك فارقٌ بين الكِبْر وبين العزة، وبين ما يدخل حول هذه المفاهيم في مقابلاتها مع الأخرى.

 

هذا الكلام الذي ذكرتموه يذكرني بموضوع مهم وهو أن سلب حقوق الناس أو ظلمهم من الكبر وليس من العزة تماماً كما ظن – مثلاً - بنو إسرائيل عندما خرجوا من مصر بسبب ملاحقة فرعون لهم، أخذوا مجوهرات الناس ولكن بعد ذلك ابتلوا بها؛ لأنهم ظنوا أنهم أخذوها عن عزة؛ ولذلك قال الله تعالى: {...وَكانوا ظالمين} (الأعراف:148).

 

*********************

 

 روى النسائي في سننه عن طريق أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " تعوذوا بالله من الفقر ومن القلة ومن الذلة، وأن أَظلِم أو أُظلَم".

 

 

مداخلة متصل: كما ذكر الشيخ قبل قليل عن ما يتعلق بالعزة والفرق بينها وبين الكِبْر أنا أرى كتطبيق لذلك في حياتنا اليومية التعامل مع العمال الأجانب، فهناك مخالفات لما ينبغي أن يكون عليه المسلم من التعامل بحسن الخُلق مع العمال الأجانب سواء كانوا خارج المنزل أو داخل المنزل، وللأسف نجد أن هناك صوراً للتعامل السيئ من بعض الأفراد في مجتمعاتنا الذي يتضمن الكبر مع هؤلاء العمال وذلك على مستوى أعمال القلب أو أعمال الجوارح، فقد يُنظر إلى هؤلاء نظرة دونية كونهم فقراء وأنهم محتاجون، وكذلك قد يُغمطون حقوقهم، وتُأَّخر رواتبهم، أو تُنقص رواتبهم وغير ذلك.

 

وقد تُحدِّث النفس الأمارة بالسوء أن هؤلاء على غير الدين الإسلامي؛ فلذلك لا غضاضة أن يتعامل معهم معاملة سيئة، وأن هذا من باب العزة للإسلام والمسلمين، وهذا طبعاً التطبيق الخاطئ والمعاكس لما ينبغي أن يكون عليه خُلق المسلم حتى مع غير المسلمين.

 

وهذا طبعاً له دورٌ كبير في الصد عن دين الله تعالى، فهؤلاء العمال سيخرجون بفكرة سيئة عن حال المسلمين في ديارهم من ناحية التعامل معهم، والدين- كما نعلم- هو دين المعاملة.

 

 

مقدم البرنامج: طيب أخي هل تظن أن الذي يتعامل مع العمال بهذه الطريقة يفعل ذلك عن عزة ( بمعنى أنه أكثر منهم عزة، وأكثر منهم جاهاً؟؟)

 

 

المتصل: هو ربما يكون الأمر بسبب أمرين:

أحدهما النظرة الدونية لهؤلاء العمال بسبب فقرهم كما يقول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى{6} أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (العلق:6 – 7) ، فيعلم أن هؤلاء محتاجون وينظر إليهم نظرة دونية، فهذا يؤدي إلى غمطهم حقوقهم بلا شك.

 

 

مقدم البرنامج: الآن فضيلة الشيخ نريد تعليقكم على أطروحة المتصل السابق في موضوع التعامل مع العمال.

 

 

الشيخ كهلان: نعم فعلاً يوجد وللأسف الشديد من هو يزدري الآخرين سواء كانوا عمالاً أجانب أو كانوا من بني جلدته، ومن بني مجتمعه، هذه مع قلتها إلا أنها موجودة، وبالتالي ينبغي أن نتنبه إلى أن هذا التصرف إنما هو علامة كِبْر، وهذا أمرٌ لا يرضاه هذا الدين الحنيف، يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كِبر"، وحينما خشي الصحابة من أن يكون معنى الكِبر معنىً معيناً مألوفاً لديهم قال رجل منهم: إن الرجل فينا يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة.

 

فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " إن الله جميلٌ يحب الجمال، الكِبْر بطر الحق، وغمط الناس"، وهذه هي التي قلناها في بداية الحديث أنها تميز العزة عن الكبر.

 

بطر الحق أي: عدم قبول الحق..عدم الرضا بالحق، وغمط الناس هو ظلم الناس، وأضفنا إليها فرقاً آخر أيضاً قرأناه من جملةٍ من أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو التمسك بالقيم والأخلاق مهما كانت الظروف، ومهما كانت الأحوال، وبالتالي فمن كان يزدري الآخرين وينظر إليهم نظرة دون فإن عليه أن يصحح نظرته وفهمه لهذا الواقع.

 

الإسلام إنما يعلو بأخلاق أتباعه، وإنما ينتشر أيضاً بأخلاق أتباعه، وإنما يكون سبب العزة فيه إنما هو تمسك أتباعه به لا التفريط فيه.

 

هذا من التفريط في أهداب هذا الدين وفي أخلاقه أن يأنف المسلم من التمسك بأخلاق هذا الدين.

 

رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما يصفه خادمه أنس بن مالك قال: ما قال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لشيءٍ فعلته لما فعلته؟ ولا لشيءٍ لم أفعله لمَ لم أفعله.

 

وما رفع صوته، ولا رفع علي سوطاً قط – صلى الله عليه وسلم -، هذا في تعامله مع خادمه – عليه الصلاة والسلام – فما بالكم في تعامله مع الآخرين؟؟

 

 

مقدم البرنامج: فيما يتعلق بادخار حق العامل قصة الثلاثة الذين دخلوا الغار.

 

 

الشيخ كهلان: نعم أحسنت، فكيف كان أن ذلك مما شفع لهم أن فرَّج الله تعالى عنهم كربتهم، وهذا ما قلناه بأن العزة إنما تكون بالتمسك بأهداب هذا الدين وبأحكامه وتعاليمه؛ لأنها هي مصدر العزة فعلاً، فالله سبحانه وتعالى هو الركن الشديد الذي ينبغي للناس أن تأوي إليه، ولا يكون ذلك إلا بالاستقامة على طريق الصلاح والاستقامة، لكن ما ننبه عليه هنا أن أيضاً يغتر من يظن نفسه متمسكاً بأحكام هذا الدين، ومن يظن أنه على طريق الصلاح فيؤدي به ذلك إلى الغرور وبالتالي التكبر والتعالي على الآخرين، لا ، ينبغي له أن يكون مثالاً للتواضع وللخُلق الحسن، وللتمسك بالقيم، وبالدعوة إلى الخير بالحكمة والموعظة الحسنة، وهذا كما قلنا بل كما قال هذا الحديث الذي ذكرت " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كِبر"، ثم بين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الكِبر، وكذلك في الحديث الذي استمعنا إليه في الفاصل بما فيه أيضاً من دلالات إذا أردتَ أن نتعرض لها.

 

 

مقدم البرنامج: بإذن الله، إذاً منطق "أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً" منطقٌ خاطئ لا يتعامل به الإنسان .

 

 

الشيخ كهلان: نعم، وأحسنت بالإشارة إلى هذه القصة من سورة الكهف.

 

*********************

 

 

مداخلة متصل: بالنسبة لمفهوم العزة يوم كان في بداية الإسلام، أو في الصدر الأول تمثلت العزة في أقوال وأفعال المسلمين، وطبعاً كان ذلك من بداية عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى العصور اللاحقة، وطبعاً العزة كانت هي الفاصل بين وقوع الإنسان في ظلم الآخرين، وبين وقوع الإنسان في الذل والهوان.

 

فالعزة تمنع المسلم من أن يظلم الآخرين، وكذلك تمنعه من أن يكون ذليلاً مهيناً، وهذا ما تمثل في كلمات ربعي بن عامر في قصته المعروفة عندما سُئل ما الذي جاء بكم؟؟

 

قال: جئنا لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فأود تعليق فضيلة الدكتور على هذه الكلمات إن أمكن.

 

 

متصل ثالث: بالنسبة لموضوع العزة عندي قضيتان أتمنى على الشيخ أن يتعرض لها.

 

القضية الأولى: الكثير من الناس لأي سببٍ كان، كأن يكون بسبب أصله مثلاً يشعر بالذلة، فيعيش حالة ينظر فيها للمجتمع نظرة عداء، فيأتي بأمور كردة فعل، كيف يمكن للإنسان أن يعالج هذه الحالة النفسية إذا أُصيب بهذا الأمر؟؟

 

القضية الثانية: تعرض لها المتصل السابق قبل قليل ، حال المسلمين الآن بسبب سيطرة الأعداء على مناحي الحياة المختلفة، الكثير من المسلمين ربما يشعرون بالذلة، وتكون نظرتهم للمستقبل نظرة تشاؤمية، كيف يمكن للإنسان أن يعالج هذه النظرة؟؟

 

 

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ نريد تعليقكم على مداخلة المتصل الثاني (موضوع العزة في أقوال المسلمين وأفعالهم، وكيف كان ربعي بن عامر يصنع).

 

 

الشيخ كهلان: هذا الاستشهاد بهذه القصة هو في محله، ذلك – مرةً أخرى نعود – إلى أن مصدر عزة المسلم إنما هو إيمانه وعمله الصالح، هو تقواه لله عز وجل وليست هي غطرسةً، ولا هي بالتعالي على الخلق، ولا هي بإرادة الشر أيضاً للناس وإنما هي بإرادة الخير؛ لأنهم دعاةٌ للحق، وهم أيضاً هداة ودعاة سلام، وهم رسل رحمةٍ للناس؛ لأن الله عز وجل وصف رسولهم بذلك؛ ولذلك هنا موضع الشاهد في قصة ربعي بن عامر أن هو لم يغترر بما رآه من أبهة الملك من حوله، ولم يعبأ بما عليه حال هؤلاء الذين أتى ليخاطبهم، أو الذين أرسلوا في طلبه ليتعرفوا على ما عندهم، لم يعبأ ولم يكترث بذلك، ولم يتعالى أيضاً عنهم حينما كان معتزاً بدينه لكنه لم يتعرض لهم بسبابٍ، ولا بشتمٍ، ولا بظلمٍ وإنما بين لهم أيضاً خلاصة هذه الدعوة في أبسط صورها، وفي أنصع صورها (نحن قومٌ ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام).

 

فإذاً هو هنا يركز على أبرز ما تتلخص فيه هذه الدعوة التي جاؤوا بها.

 

هم لا يريدون الجور والظلم ويصرح بذلك (ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام)، من جور الأديان التي زُيفت وحُرفت وظلمت هذا الإنسان، وعطلت له عقله وضميره وإنسانيته إلى عدل هذا الإسلام.. عدل هذا الدين الذي يدعو إلى المرحمة، وإلى التواصي بالحق، وإلى التواصي بالصبر، وإلى التعاون على البر والتقوى، وإلى الاستعداد لليوم الآخر.

 

ثم يبين أن هذه الأبهة– حينما قال: ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة – يبين أنها ما هي إلا وسائل ولست غايات في حياة المسلم، فهي لا تغير شيئاً في مبادئه وفي قيمه وأخلاقه، وهذا هو ما نركز عليه ( سعة العيش لا تؤدي به إلى البطر، وإلى الكبْر، ولا أيضاً ضيق العيش – كما أشار المتصل الآخر – لا ضيق العيش، وسوء الأحوال يؤدي به إلى القنوط وإلى اليأس، وهذه النقطة غاية في الأهمية؛ وبالتالي ما ذكره المتصل الثالث في الحالة الأولى والثانية من النظرة التشاؤمية، لا أبداً، هذا أيضاً يتنافى والعزة التي نتحدث عنها.

 

العزة تعني الأمل.. تعني التعلق بالله سبحانه وتعالى والتوكل عليه، لا بد من التوكل؛ لأن العزة هي من ثمرات الإيمان والتوكل على الله سبحانه، والعزة تعني أن ينفي عن نفسه خلال المنافقين.

 

المنافقون هم الذين يبيعون ضمائرهم، ويغيرون قيمهم ومبادئهم؛ لأنهم يبتغون العزة عند غير الله تعالى، أما المؤمن الصادق فإنه لا يبتغي العزة إلا من عند الله تعالى، وهو واثقٌ في ذلك مطمئنٌ عليه، فيأخذ بالأسباب، والأسباب هي: العلم، والتقوى، والسعي في الأرض... وغير ذلك من الأسباب المادية والمعنوية التي ينبغي للمسلم أن يحرص عليها حينما نتحدث عن قيمة العزة.

 

*********************

 

مداخلة متصلة: فضيلة الشيخ ما رأيكم في الزوج الذي يظلم زوجته؟؟

 

أنا أعرف واحدة من صديقاتي تزوجت منذ اثنتي عشرة سنة، والآن تعيش في منزل أهلها، والزوج كان يأتيها في بعض الأوقات فقط ثم يذهب، والآن لديها أربعة أولاد لكن في الفترة الأخيرة هجرها أربع سنواتٍ كاملة ولكنها صبرت وأبت أن تشتكي عليه على أمل أن يعود إليها في يومٍ من الأيام، لكنه رجع إليها في الفترة الأخيرة لمدة شهر أو شهرين فحصل بينهم سوء فهم في هذه الفترة، ولكن كان سوء الفهم بسيط يمكن حله بطريقة ودية وبالحوار، لكن هذا الزوج قال لها: ليس بيني وبينك أي شيء، والأولاد هم مسؤوليتك أنت، وأنا لا أملك لهم شيء.

 

 

مقدم البرنامج: الآن بقيت أيضاً نقطة من نقاط المتصل الثالث وهي أن الإنسان قد تكون لديه ردة فعل للمجتمع الذي يعيش فيه عندما يواجهه بشيءٍ مما يجرح مشاعره أو يهين كرامته.

 

 

الشيخ كهلان: هذا الذي يميز المؤمن الصادق الحق عن غيره، هو أنه بشر يتأثر.. ينفعل مع الواقع الذي من حوله، لكنه في تصرفه.. في فعله إنما ينطلق لا من تأثير الواقع الذي يمر به، وإنما ينطلق من مبادئه، وهذه المبادئ إنما صاغها له دينه وعقيدته، فلا ينبغي له أن يقنط، أو أن ييأس، أو أن يعزل نفسه عن الواقع الذي هو فيه فيحسب أن ذلك من العلاج لهذا الواقع، لا، هذا موقفٌ سلبي ، وإن كان قادراً على النصح فعليه أن ينصح.. ، عليه أن يسعى إلى أن يتخطى تلك المشاعر والانفعالات طبعاً بلا شك باللجوء إلى الله سبحانه تعالى، وبتفتيش جوانح نفسه لعله قصر أو أخطأ في حق الله تعالى؛ فيتوب إلى الله عز وجل، ثم بعد ذلك ينبغي أن يتفاعل مع هذا الواقع تصحيحاً ونصحاً واستفادةً منه.

 

هذا ما ندعوا إليه، وفي عموم الحال أنا أستشف من اتصالات المتصلين أن هناك نوعاً من عدم الوضوح في قضية أن يكون المسلمون في مجموعهم متأخرين عن غيرهم ومع ذلك يُدعَون إلى العزة.

 

العزة من صميم هذا الدين.

هي ليست شيء إضافي ينبغي للمسلم أن يضيفه إلى قائمة أخلاقه وسلوكه.

 

 

مقدم البرنامج: ولا تتحكم فيها الظروف.

 

 

الشيخ كهلان: تماماً، لكن هي أيضاً ليست مجرد صفةٍ فطرية توجد في الإنسان، وإنما هي لها طرق ووسائل – كما بينا -؛ فلذلك ينبغي له أن يكون هو فاعلاً في سبيل تحقيق المعاني الحقيقية للعزة التي نتحدث عنها، فإن كان جاهلاً فليتعلم، وإن كان غير محترفٍ فليتعلم حرفة، وإن كان قادراً على المشاركة بكلمة خير بمدة قلمٍ يصلح بها وضعاً فلا ينبغي له أن يتأخر عن أبواب الخير التي هي من صميم العزة التي نتحدث عنها، شريطة – كما قلنا – أن يلتزم بالعزة بمعناها الحقيقي وهو: أن يأنف وأن يبتعد عن ظلم الآخرين.. أن لا يتكبر ويتعالى على الآخرين.. أن يقبل الحق حينما يخطئ من الآخرين.. أن يدعو أصلاً إلى أن تصحح له عيوبه وأفكاره كما كان عمر بين الخطاب – رضي الله عنه – يفعل، ولا شيء يؤدي إلى المذلة كالمعصية.

 

نحن حينما تحدثنا في الأسبوع الماضي عن موضوع الحياء، قلنا: بأن الحياء هو سبب العزة كما قال الحكيم: تركت المعصية حياءً فصارت ديانة، لماذا؟؟ لأن المعصية مذلة، هكذا قال - لأن المعصية مذلة – والله تعالى يقول في كتابه الكريم {... وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } (الحج:18)؛ ولذلك فينبغي للمسلم أن يترفع أيضاً عن المعاصي، وأن يقبل على مروءات هذا الدين بروحٍ من التفاؤل، ومن الرغبة في خيري الدنيا والآخرة.

 

 

مداخلة متصل: حقيقة الأمر إن العزة للمؤمنين {...أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ...} ( المائدة:54)، والذلة في هذه الآية ليست بمعنى الهوان، وإنما المؤمن يتواضع لإخوانه من المؤمنين، وهو عزيزٌ على الكافرين بدينه وأخلاقه، ولكن يحصل في بعض الأحيان تكبر من بعض الأشخاص، وقد يكون التكبر هذا له ثلاثة مصادر وهي:المناصب، والأموال، والأحساب والأنساب.

 

 

مقدم البرنامج: يحسب الناس هذه الثلاثة أمور أنها مصادر للكبر.

 

 

المتصل: نعم.

 

 

مقدم البرنامج: شيخ كهلان هناك من يتصور أن عزته من منطلق أنه رجل، كأن يتعالى الرجل في تصرفه مع زوجته، وينظر إليها نظرةً حقيرة.. هو أعز منها وهي أذل فيتعامل معها بهذه القسوة على النحو الذي ذكرته المتصلة الرابعة، كيف يكون علاج مثل هذا؟؟

 

 

الشيخ كهلان: هذا فهمٌ خطئ للرجولة، وفهمٌ خاطئ للعزة.

الرجولة بين الزوجين تعني تحمل المسؤولية.. تعني الذود عن العرض.. تعني القيام بتكاليف الحياة والتي أساسها إحسان العشرة بين الزوجين.

 

هذه هي الرجولة الحقيقية.. هذه الرجولة التي تكون مبعث العزة، أما الرجولة التي تدعو إلى الغطرسة، وإلى ظلم المرأة، وإلى التعدي عليها، وإلى التقصير في حقوقها ففي الحقيقة هذه مذلة وليست بعزة، وينبغي للرجال أن يفهموا هذا الموضوع حق الفهم، وكذلك الحال بالنسبة للنساء، أي – لو أخذنا أيضاً حتى نعمم ونعالج الموضوع، ونعطي كل ذي حقٍ حقه أيضاً بعض النساء لعلها تحسب أن أنوثتها وجمالها ورغبة الرجل فيها سببٌ للتعالى على زوجها هذا أيضاً خطأ، بل دينها يأمرها بأن تؤدي حقوق زوجها، وأن تحسن عشرته، وأن تسعى إلى أن تحفظ له بيته، وأن تحفظ له عرضه، وأن تصون له سره، وأن تعينه على تربية الولد... إلى آخر المسؤوليات التي عليها -.

 

إذا ًالعلاقة بينهما إنما تقوم على حسن العشرة الذي هو مما أتى به هذا الدين، ويدعونا إلى أن نعتز به فيعطى كل ذي حقٍ حقه.

 

 في مقابل هذا الشعور بالعزة هناك واجبات ينبغي أن تؤدى، ويجب أن تُلتزم.

 

*********************

 

خاتمة الحلقة

  

  روى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي المنهال قال : لما كان ابن زياد ومروان بالشام، ووثب ابن الزبير بمكة، ووثب القراء بالبصرة فانطلقتُ مع أبي إلى أبي برزة الأسلمي حتى دخلنا عليه في داره وهو جالسٌ في ظل عُلَيةٍ له من قصب فجلسنا إليه، فأنشأ أبي يستطعمه الحديث فقال: يا أبا برزة أما ترى ما وقع فيه الناس؟؟

 

فأول شيءٍ سمعته تكلم به " إني احتسبتُ عند الله أني أصبحت ساخطاً على أحياء قريش، إنكم يا معشر العرب كنتم على الحال الذي علمتم من الذلة والقلة والضلالة، وإن الله أنقذكم بالإسلام وبمحمدٍ – صلى الله عليه وسلم – حتى بلغ بكم ما ترون، وهذه الدنيا التي أفسدت بينكم.

 

إن ذاك الذي بالشام والله إن يقاتل إلا على الدنيا، وإن هؤلاء الذين بين أظهركم والله إن يقاتلون إلا على الدنيا، وإن ذاك الذي بمكة والله إن يقاتل إلا على الدنيا".

 

 

مقدم البرنامج: العزة فضيلة الشيخ عدم قبول الظلم – هكذا بينتم في حديثكم عن تعريفها – فكيف يلام من يستنكر ظلم الأعداء، ويأنف منهم، ويعلن عن ذلك ثم يذود بما يستطيع لرفع الظلم الواقع على أمته وعلى بلاد المسلمين ومقدساتهم؟؟!

 

 

الشيخ كهلان: هو لا يلام.

 الحقيقة من يستنكر الظلم.. من يستنكر ظلم الأعداء، ومن يأنف من الظلم هذا هو المطلوب من المسلم، ومطلوبٌ منه أن يسعى إلى مقاومة الظلم، لكن الذي يلام هو الذي يتصرف تصرفاتٍ لا يقبلها الشرع.. تصرفاتٍ غير مسئولة تعود بالضرر على مجتمعه وعلى أمته؛ لأن تصرفه إنما كان بناءً على انفعالاتٍ عاطفية، ولم يكن بناءً على تمسكٍ بقيم هذا الدين وبأحكامه؛ ولذلك فهذا ما يميز المسلم العزيز المتوكل على ربه.. الآخذ بالأسباب.. الواثق من نصر الله تعالى له أن هذا المسلم إنما يتصرف وفقاً لمبادئه، ووفقاً لأحكام دينه فينضبط بها؛ ولذلك حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب".

 

ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – حينما قال كبير المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول كما حكى القرآن الكريم {... لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ...} (المنافقون:8)، وسمع عمر بن الخطاب هذه الكلمة وقال: يا رسول الله ائذن لي أن أضرب عنقه – وفي رواية أن ابنه عبد الله هو الذي قال هذه الكلمة- ، فرسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: لا.

 

لم يأذن لأصحابه أن يتصرفوا بناءً على انفعالهم وعلى عواطفهم مع أنهم يعلمون أنه كبير المنافقين، لكن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – راعى مآلات مثل هذا الفعل، هذا ما قلنا عنه أيضاً في أول الحديث حينما قال: " لا، لا يُقال: إن محمداً يقتل أصحابه".

 

إلى هذا الحد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع أن هؤلاء القوم.. هؤلاء المنافقين، إنما علمهم بصفح رسول الله وبأخلاقه وبتمسكه بالقيم والمبادئ، وهذا الذي دعاهم إلى أن يقولوا ما قالوه مما نعاهم عليه القرآن الكريم، وهذه العزة التي هي لله ولرسوله وللمؤمنين هي التي أيضاً جعلت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يُعلِّم صحابته الكرام التمسك بالقيم والمبادئ، والانضباط بأحكام هذا الدين.

 

فإذاً هذا الذي يمكن أن يسلط الناس أنظارهم نحوه، أما الأنفة من الظلم والسعي إلى مقاومة الظلم، ورفع الظلم عن الناس فهذا مما يدعو إليه هذا الدين، لكن أن يكون كل ذلك في انضباطٍ والتزامٍ بأحكام هذا الدين، فمن كان جاهلاً فليرجع إلى أهل العلم، ومن اعتراه شيءٌ من الانفعالات النفسية فلم يستطع أن يضبط نفسه فليكن ذلك بالتأمل في هذه الأدلة الشرعية.

 

في هذا السياق بعض الأبيات للإمام راشد بن سعيد اليحمدي.. في نفس السياق الذي نتحدث عنه له أبيات غاية في الدقة في المعاني يقول فيها:

 

من الجهل أن تُعنى بأمرٍ كفيتــــه **** وتتــرك ما كُلِفتـه لا تطالبــه

إذا المرء لم يجهل مذاهب سعيـــه **** لدى سعيه غالته يومــاً مذاهبــه

ومن لم يفكر في عواقب أمــــره **** مدى دهره صارت عقابـاً عواقـبه

وما عاقلٌ في الناس من راح واعتدى **** يُغالـب في دنيــاه ما هو غالبـه

ولا خير في خيرٍ ترى الشـر بـعده **** ولا فـي أخٍ دبَّــت إليك عقاربـه

وأكرم بقومٍ قولــــهم هو فعلهـم **** ولا فعل إلا مـا كرامٌ مناسبـــه.

 

انتهت الحلقة