عنوان الحلقة: " المساواة"

مقدم البرنامج: قبل أن ندخل في صلب الموضوع نريد تعريفاً لموضوع الحلقة، وما سنتعرض له من عناصر، كذلك ما صلة هذا الموضوع بالإطار العام للبرنامج؟

 

 

الشيخ كهلان: إن موضوع حلقة اليوم، وهو موضوع " المساواة" من الموضوعات الهامة جداً، ولا يليق بنا ونحن نتحدث عن القيم الإنسانية في ظلال دين الرحمة أن لا نتعرض لقيمة " المساواة" لأنها أصلٌ أصيل في هذا الدين الحنيف الموافق للفطرة.

 

ومن موافقته للفطرة تكمن العلاقة بين موضوع الحلقة " المساواة" وبين الإطار العام للبرنامج الذي هو "دين الرحمة".

 

فإن كنا ننطلق من قاعدة أن هذا الدين هو دين فطرةٍ أتى موافقاً للفطرة ، ثم إنه بعد ذلك يزكي هذه الفطرة، وينمي خصال الخير فيها، ويقيمها على أود الاستقامة والصلاح والاهتداء في هذه الحياة الدنيا ليبلغ بها بعد ذلك في مراقي السعادة والنجاة في الآخرة، فإنه لا بد لنا أن نتحدث عن مثل هذه القيمة الأصيلة وهي قيمة " المساواة".

 

ذلك أن الدين دين رحمةٍ للناس جميعاً " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (الأنبياء:107)

 

فلما كان الحال كذلك كان من أهم المبادئ التي ينبغي أن يقوم عليها هذا الدين مبدأ المساواة بين البشر.

 

وسوف نتعرض بمشيئة الله تعالى لمظاهر هذه المساواة، وسنتعرض بعد التعريف السريع بموضوع المساواة أيضاً لأنواعها، ومن النقاط الهامة التي نرغب أيضاً أن يشاركنا فيها الإخوة والأخوات مدى احتياجنا اليوم إلى هذه القيمة ( هل أصبحت المساواة من المسلَّمات فعلاً، وبالتالي يكون ترفاً فكرياً أن نتعرض لمثل هذا الموضوع؟؟ أو أن عالم اليوم بحاجةٍ إلى أن يقف وقفاتٍ يراجع فيها تمسكه، ابتعاده واقترابه من هذه القيمة الإنسانية النبيلة.

 

ثم إننا سوف نتعرض أيضاً لبعض المواقف التي تتجلى فيها الجوانب العملية لهذه القيمة في ثنايا تعاليم وأحكام هذا الدين الحنيف.

 

وحبذا لو استمعنا إلى تجارب من الإخوة والأخوات حول أهمية هذه القيمة، وما تحدثه من آثار إيجابية، كما يُحدث انعدامها آثاراً سلبية.

 

من ضمن القضايا التي سوف نتعرض لها بعض خصوص القضايا التي تندرج في موضوع المساواة كقضية المرأة، وبعض الحقوق المالية المتعلقة بهذه القضية في التشريع الإسلامي.

 

وهل هناك مساواة، أم ليست هناك مساواة؟ سوف نحاول أيضاً أن نتعرض لهذا الموضوع.

 

على أننا سوف نقف أيضاً وقفةً، وحريٌ بنا أن نقف هذه الوقفة مع الآثار التي تنتج من عدم تطبيق هذه القيمة في واقع حياتنا.

 

من المسئول عن تطبيق هذه القيمة؟؟

وما الذي يترتب على التفريط في التمسك بهذه القيمة؟؟

 

 

*********************

 

 

 

قال الله تعالى:

"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات: 13)

 

 

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ ما المقصود بالمساواة؟

وما هي أهميتها كقيمةٍ في حياة البشر؟

 

 

الشيخ كهلان: أولاً هذه الآية التي استمعنا إليها من سورة الحجرات هي الأصل الذي تنبني عليه مضامين ومعاني ودلالات قيمة المساواة.

 

فالله عز وجل يخاطب الناس كافةً، فبداية الخطاب ذاته موجهٌ إلى الناس جميعاً، والله عز وجل حينما يخاطب البشر جميعاً فهذا يعني أن المُخاطَب به مقصودٌ به أن يكون قاعدةً كليةً عامةً شاملةً للناس جميعاً.

 

ثم إن الخطاب– ذات أو مضمون الخطاب– يُذكِّر بدايةً بأن الله عز وجل هو الخالق لهؤلاء الناس جميعاً، وأنه خلقهم سبحانه وتعالى من ذكرٍ وأنثى– أي أن أصل الخلقة واحد– فلذلك هم متساوون في أصل الخلقة.

 

ثم إن التساوي في أصل الخلقة اقترن به أن جعل الله عز وجل في الناس شعوباً وقبائل، وأن غاية هذه التعددية هو أن يتعارف الناس.

 

ثم يبين في آخر الآية ميزان التفاضل، والتفاضل لا يُضاد التساوي، وإنما هو درجاتٌ أخرى تتعلق بما يكتسبه الإنسان مما يُبلغه منزلةً فضلى عند الله سبحانه وتعالى، وهذا الميزان يقوم على التقوى والعمل الصالح.

 

فإذاً هذه هي الآية الكريمة الواضحة الدلالة في موضوع المساواة، لكن أريد أن أبين بدايةً أن المساواة لا تعني في الحقيقة التماثل في كل شيء، وإنما تعني التعادل– أي لو أردنا أن نشبهها هي أقرب إلى المعادلات الكيميائية التي تجد في طرفٍ من المعادلة مجموعةً من العناصر لها خصائصها، ومميزاتها وأوزانها الذرية، ومقادير الذرات التي تحتاج لتتفاعل ثم بعد ذلك تشكل في الطرف المقابل مكوناً أو مادةً مركبةً من مجموع تلك العناصر-.

هذه معادلة كيميائية تُشبِّه لنا معنى التساوي في أبسط صوره.

 

التساوي لا يعني التماثل في كل شيء، وإنما يعني في أن الإجمال– في المجموع– هناك مبدأٌ اسمه المساواة، وسوف نتعرض بمشيئة الله تعالى لأنواع هذه المساواة.

 

أنا أشرت أن الآية الكريمة يؤخذ منها المساواة في أصل الخلقة – أي الناس جميعاً متساوون في أصل خلقتهم– فلا اختلاف بين أبيض وأسود وأحمر وأصفر، لا عبرة بألوان البشر، ولا بأعراقهم، ولا بأماكنهم وإنما الناس جميعاً في أصل خلقتهم متساوون.

 

كذلك الناس متساوون في الخطاب الشرعي، في التكاليف الشرعية، في الأوامر والنواهي، إلى آخر الجوانب الأخرى، لكن هذان الأصلان من التساوي هما الأصل الكلي الأصيل الذي بنيت عليه فيما بعد الكثير من أنواع المساواة بين الناس.

 

لكن للمساواة أهمية قد لا ينتبه لها كثيرٌ من الناس، وعدم انتباههم لهذه القيمة إنما يأتي من عوامل خارجية، أو نفسية، أو الكثير من العوامل تؤدي بهم أن يحسبوا أن بعض الناس هم خيرٌ من آخرين من بني البشر إما للون جلد، وإما لأعمالٍ قاموا بها، وإما حتى لرسالاتٍ تلقوها فيظنون أنهم صفوة الخلق، وأن الله تعالى اختارهم ليكونوا خيراً من غيرهم .....الخ ما هو موجودٌ حاصلٌ في واقع حياة الناس.

 

 وإذا بهذا الدين الحنيف، وإذا بهذه الشريعة تُعلن هذا المبدأ (أن الناس متساوون ) حتى حينما سنتعرض بمشيئة الله تعالى للأحكام الشرعية، سيتبين لنا أن هذا التساوي حاصل حتى في الخطاب الشرعي ، وفي التكاليف الشرعية، هو لا يعني أيضاً أن هناك مرآة تعكس الحقوق لتقابلها واجبات، وإنما يعني أن الصورة في مجملها وفي تفاصيلها تساوي صورةً تُماثل وتقارب صورةً أخرى، بحيث إننا قد نجد أن بعض التكاليف في شيءٍ من التفاصيل هي في طرفٍ أكثر منها في طرفٍ آخر لكن هذه التكاليف قوبلت في الطرف الآخر بتخفيفٍ من تكاليف أخرى.

 

أيضاً نجد أن هناك حقوقاً في الذمة في شيءٍ من التفاصيل- من تفاصيل هذا التشريع- قوبلت بواجباتٍ تغطي مزايا تلك الحقوق التي اكتسبها طرفٌ دون طرف.

 

فإذاً من الأهمية بمكان أن نُدرك أن المساواة لا تعني التطابق، وإنما تعني التقارب، تعني كما شبهتها بالمعادلة الكيميائية، وأيضاً تعني الإجمال (أي لا يمكن- وهذا أمر غايةٌ في الأهمية- لا يمكن لنا أن نستل جانباً واحداً فقط من جوانب هذا الدين الحنيف، ونحاول أن نبني عليه مقارنات قد لا نستنتج منها بوضوح مبدأ المساواة، لأن ذلك غير منصف حينما نستقطع شيئاً من هذا الدين ونبني عليه بعد ذلك حكماً يتنافى والمساواة لأن الدين في مجمله، والشريعة في كليتها إنما تؤخذ بإجمالها وبعمومها ، ويُنظر فيما فيها من حقوقٍ وواجبات، وتكاليف، وأخلاق... وغير ذلك، ثم يُُستنتج منها المبادئ والقيم).

 

 

مقدم البرنامج: ذكرتم فضيلة الشيخ أنه لا يمكن أن يُستل من الدين شيء ثم بعد ذلك يبنى عليه شيءٌ آخر، هل ممكن أن تضربوا لنا مثالاً على ذلك؟؟ 

 

 

الشيخ كهلان: سوف نتعرض لقضية المرأة على سبيل المثال، بعض الناس يتهم الإسلام بعدم إنصاف المرأة، وأن الرجل مُيز وفُضِّل عنها، ويأخذ بعض جوانب الحقوق المالية فقط، ويستنتج منها عدم المساواة وهذا الذي أقصده.

 

مع أن بعض الحقوق المالية-حتى لو أنه نظر في سائر الحقوق والتكاليف والواجبات المالية فيما يتعلق بالتشريع الإسلامي-لوجد أن هناك مساواةً لا تقاربها مساواة.

 

لنأخذ أيضاً مثالاً آخر فيما يتعلق بالتكريم بالرسالات السماوية، بعض أتباع مللٍ وأديان يستلون أيضاً بعض الأحكام الشرعية فيبنون عليها أنهم أفضل من غيرهم من حيث تمييزهم عن سائر أتباع الملل السماوية بما كرموا به ، بينما نجد في الإسلام أن عقيدة المسلم تلزمه بأن يؤمن بكل الأنبياء والرسل ، وبكل الكتب التي أُنزلت على المرسلين جميعاً.

 

فإذاً هذا الذي قلته أنك لا يمكن سواء كان الجانب الذي يُستل جانباً عقدياً، أو جانباً تشريعياً في أي جانبٍ من الجوانب ( العبادات، العلاقات الاجتماعية، العلاقات الاقتصادية ، الحقوق والواجبات بجانب القضاء الذي سوف نتعرض له أيضاً أن الناس سواسيةٌ أمام القانون) لا يمكن أن يؤخذ منه حكم واحد، حكم شرعي قضائي من الإسلام ويقال: بأن ليست هناك مساواة لأن النظام بأسره يقوم على العدالة المطلقة التي تُمارس وتطبق ولو كانت على حساب الأنفس قبل أن تطبق على الآخرين.

*********************

 

 

مقدم البرنامج: نعتبر ما تحدثتم به مجالاتٍ للمساواة.

 

 

الشيخ كهلان: نعم، وهناك مجالاتٍ أخرى، وإجمالاً يمكن أن نذكر بعض المجالات.

مقدم البرنامج: قصدكم الآية القرآنية.

الشيخ كهلان: نعم.

 

مقدم البرنامج: إذاً نحتاج الآن إلى أدلة تبين لنا مبدأ المساواة، وأنه قد تم تطبيقه فعلاً في هذه المجالات في ظل الإسلام.

 

الشيخ كهلان: نعم، لنأخذ جانب العقائد مثلاً ، فالإسلام يدعو أتباعه إلى احترام الشرائع السماوية جميعاً– هذا الذي قلته– والدليل على ذلك آيات كثيرة لا شك ومنها قوله سبحانه وتعالى : "قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ..." (البقرة:136)

 

أيضاً في جانب العقيدة نجد أن المسلم مكلفٌ شرعاً أن يتحرى العقيدة الصحيحة وهي عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر، وأن يُعلن هذا المبدأ، وأن يدعو إليه لكن في إطارٍ من احترام الآخر " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ..." (البقرة:256)

 

كذلك يبين أن من صفات خاتم الأنبياء والمرسلين ( رسولنا محمدٍ– صلى الله عليه وسلم -) أنه هو مخاطبٌ أن يؤمن بالأنبياء والمرسلين قبله جميعاً " آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ..." (البقرة:285)

انظر " وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ".

 

 وهذا الخطاب لا شك صُدِّر ببيان صفةٍ من صفات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا شك هو سيد المؤمنين، وإمام الأتقياء، وخير الأنبياء والمرسلين مع ذلك هو مطالبٌ من أن يُعلن هذه العقيدة، وأن يبلغها قومه.

 

حتى حينما يُخاطب ، نفس الخطاب القرآني في جانب العقائد نجد أن الله تعالى يُذّكر دائماً في كتابه الكريم رسوله محمداً – صلى الله عليه وسلم – وفي هذا تعليم لأمته يُذّكره دائماً أن هذا الوحي الذي أوحي إليه قد أوحي بمثله إلى من كان قبله من الأنبياء والمرسلين، نجد "إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ...." ( النساء:163) هذا في جانب العقائد والأمثلة في ذلك كثيرة.

 

 

مقدم البرنامج: ولذلك لا ينتظر منا أتباع الأنبياء الآخرين عندما يسيئون إلى نبينا – صلى الله عليه وسلم – أن نرد بالإساءة إلى أنبيائهم، لأن أنبياءهم هم أنبياؤنا.

 

 

الشيخ كهلان: نعم، كما لا يُنتظر منا حينما تُنتقص منزلة أحدٍ من الأنبياء والمرسلين أن لا نثور ولا نغضب أيضاً للتعرض لنبيٍ غير نبي هذه الأمة.

 

 

مقدم البرنامج: طيب تدخلون في جانب العبادات.

 

 

الشيخ كهلان: جانب العبادات: الكثير من الناس حينما يقرأ بعض الآيات القرآنية لا ينتبه لهذا المعنى الذي أريد أن أتحدث عنه وهو ( احترام أماكن العبادة).

 

 أي في كثيرٍ من المواضع في كتاب الله عز وجل تُذكر الصوامع والبيع والمساجد، ذكرها لم يأت هكذا اعتباطاً، هي تُذكر في سياقٍ تقترن فيه جميعاً في نفس السياق سواءً كان ما يؤثر فيها ، أو ما يدعو إلى المحافظة عليها كأماكن للعبادة، فالله سبحانه وتعالى يقول: "...وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا..." (الحج:40)

 

فإذاً  ليست هناك عصبية من المسلم يؤثر فيها مسجده على صومعةٍ ، أو مكان عبادةٍ يُذكر فيه اسم الله عز وجل، ولذلك لهذه الأماكن قدسيتها ومكانتها، وهذا يُفسِّر الكثير مما ورد في أحكام الحرب من الإسلام من أنه لا يُقتل الرهبان والأحبار إلا إن شاركوا في القتال، أما إن كانوا في أديرتهم ، وفي رهبانهم وكنائسهم فإنهم لا يُقاتَلون.

 

 وفي هذا تتجلى أبرز مظاهر المساواة، في الوقت الذي تُخاطب فيه هذه الأمة بأنها خير أمةٍ أُخرجت للناس بسبب ما أكرمهم الله سبحانه وتعالى به من هذا الدين الخاتم والشريعة الخاتمة فإنهم مطالبون على أن يكونوا حريصين أشد الحرص على احترام هذه الأماكن كما يجب احترام الكتب التي أنزلها الله سبحانه وتعالى، والملل والأديان التي أنزلها على من كان قبل هذه الأمة.

 

وهذا أيضاً يُفسِّر مواقف كموقف عمر بن الخطاب وما فعله في كنيسة القيامة التي وصل الحال إلى أنها كانت تُسمى كنيسة القمامة في الحقيقة – أي كانت مزبلة ترمى فيها القمامة – فإذا عمر بن الخطاب بنفسه يزيح عنها وينظفها.

 

حتى في الدفاع مخاطب المؤمن أن يدافع أيضاً عن هذه الأماكن التي هي موجودة في بلاد المسلمين.

 

أن يدافع عن صوامع الرهبان، وبيع اليهود، وكنائس النصارى كما يدافع عن مساجد المسلمين.

 

وهذا يعني بطبيعة الحال أن الاعتداء على هذه الأماكن المقدسة، التي يُذكر فيها اسم الله تعالى محرمٌ في هذا الدين.

 

مقدم البرنامج: هذا يذكرني أيضاً بما كتبه ول ديورانت  في كتابه " قصة الحضارة" عندما تعرض لهذه المواضيع ، وذكر موضوع الكنائس قال: إن حكام المسلمين وخلفائهم كانوا يعينون أئمةً في الكنائس، ويباركونهم، وكانوا كذلك يفصلون بين النزاع الدائر بين الفرق النصرانية كالكاثوليكية ، والأرثوذكسية وغيرها فكل هذا يدعو بالفعل إلى أن هذه الديانات متساوية ، ولها الحقوق وعليها الواجبات.

 

 

الشيخ كهلان: نعم أحسنتم.

 

ننتقل مثلاً إلى جانب المعاملات، في المعاملات التكاليف الشرعية المتصلة بجانب المعاملات المالية تتحقق فيها المساواة في الحقيقة في أبرز صورها، لأن المساواة هنا قرينة العدالة، والتشريعات المتعلقة بالجوانب المالية إنما جاءت لكي ترفع أغلال الظلم، والغش، والخديعة، والتدليس، والتزوير، واستغلال الآخر عن الناس جميعاً.

 

وهذا يحفظ أولاً إعلان أهمية حفظ الأموال، أو مبدأ حفظ الأموال الذي هو من الضرورات في هذا الدين .

 

لما تحدثنا عن مقاصد الشريعة، وقلنا إن حفظ المال هو من الضرورات لم يكن نظرياً فقط، بل وردت تشريعاتٌ خوطب بها الجميع بلا تفرقة .

 

فليس للمسلم مثلاً أن يتعامل معاملةً أخلاقيةً مع المسلم التقي، ويترك هذه المعاملة مع غيره من الناس، بل إن عليه أن يلتزم بقيم العدالة، وأن يلتزم بالأحكام الشرعية الخُلقية المتعلقة بالمعاملات المالية مع كل من يتعامل معهم.

 

فلا يسوغ له أن يغش غير مسلمٍ مثلاً، ولا أن يأكل ماله ظلماً وعدواناً، وقد نزلت آيات قرآنية تبرئ ساحة يهودي اتهمه بعض ضعاف القلوب من المسلمين في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالسرقة، وإذا بالقرآن يتنزل لكي يُعلن بقرآنٍ يُتلى إلى يوم القيامة يُعلن براءة ذلك اليهودي مما رُمي به، ويتوعد فيه أولئك الذين رموا بريئاً ولو كان غير مسلمٍ بالوعيد الشديد.

 

 

مقدم البرنامج: وأظن أنكم ذكرتم في حلقةٍ ماضية بأن لوحاً من كنيسة أظن، أو من شيءٍ من بيوت غير المسلمين وصل بطريقةٍ غير صحيحة فأمر الخليفة بإرجاعه على اعتبار أنه حقٌ لأصحابه.

 

 

الشيخ كهلان: نعم أحسنتم.

 

*********************

 

عن أبي نضر قال: حدثني من سمع خطبة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في وسط أيام التشريق فقال:يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيٍ على أعجميٍ ، ولا لأعجميٍ على عربيٍ ، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى.

أبلغت؟ قالوا: بلَّغ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – .

 ثم قال: أي يومٍ هذا؟

قالوا: يومٌ حرام.

ثم قال: أي شهرٍ هذا؟

قالوا: شهرٌ حرام.

قال: ثم قال: أي بلدٍ هذا؟

قالوا: بلدٌ حرام.

قال: فإن الله قد حرم بينكم دماءكم، وأموالكم - قال: ولا أدري قال أو أعراضكم أم لا- كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. أبلغت؟؟

قالوا: بلغ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – .

قال: ليبلغ الشاهد الغائب.

 

 

مقدم البرنامج: الآن فضيلة الشيخ في موضوع المساواة هذا الحديث الذي استمعنا إليه، هل هناك أشياءٌ أخرى متعلقة بالمساواة نأخذها من هذا الحديث أيضاً؟

 

 

الشيخ كهلان: أنت تفضلتْ – بارك الله فيك – وذكرت أن المساواة فيما يتعلق بخطاب الله عز وجل للناس جميعاً بالإيمان به على مختلف الشرائع والملل التي بعث الله بها الأنبياء والمرسلين، وذكرنا قبل ذلك موضوع المساواة في القيمة الإنسانية، وذكرنا أيضاً بعض جوانب المساواة في العقيدة، وفي العبادات، والمعاملات.

 

هناك نوعٌ من المساواة غايةٌ في الأهمية وهي المساواة أمام القضاء، أو المساواة أمام القانون.

 

 فالناس أمام القضاء سواسية، وحتى من ينتسب إلى دينٍ غير الإسلام جعل الله تعالى مثلاً لأهل الكتاب فسحةً في أن يحتكموا إلى أحبارهم ورهبانهم بحسب ما لديهم من نصوصٍ مقدسة، لكن إن اختاروا أن يتحاكموا إلى الإسلام – إلى المسلمين – فإنهم سواسية مع غيرهم.

 

ونحن ندرك قصة خلفاء هذه الأمة الأوائل من الخلفاء الراشدين من وقفوا أمام القضاء جنباً إلى جنب مع يهود أو نصارى.

 

بل حتى خطاب القاضي لهم فما كان يرضى أن يكنى أحد الخصمين، بأن يكنى المسلم ولا يكنى غير المسلم.

 

 إلى هذا الحد كانوا سواسية أمام القضاء، وهناك الكثير من النصوص الشرعية التي تبين أهمية هذا المبدأ وتطبيق هذا المبدأ ( ممارسة المسلمين فعلاً منذ عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لهذا المبدأ النبيل السامي، وقد طبقوه على أنفسهم ، في تعاملاتهم فيما بينهم كما طبقوه أيضاً مع غيرهم في حالة السلم كما في حالة المكره)

 

فإذاً المساواة أمام القضاء هي وجهٌ آخر من أوجه المساواة التي نتحدث عنها، فضلاً عن المساواة في التكاليف الشرعية – في داخل الدين الحنيف هناك مساواة في التكاليف الشرعية –.

 

*********************

 

سؤال متصل: هل ممكن أن تبينوا لنا المجالات التي يمكن أن تتساوى فيها المرأة مع الرجل؟؟

 

 

متصل آخر: هل ثواب الصدقات التي تعطى لغير المسلم هو مساوٍ لثواب الصدقات التي تعطى للمسلم؟ أم أن الثواب يكون أكثر إذا أُعطت الصدقات للمسلم حتى وإن كان غير المسلم محتاجا؟

 

 

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ في موضوع المتصل الأول سنأتي إليه لأننا سنتحدث من ضمن عناصر هذه الحلقة عن موضوع المساواة بين المرأة والرجل.

 

المتصل الثاني ذكر موضوع الصدقات، نحن كنا تحدثنا في هذا الموضوع في موضوع ( المساواة بين المسلمين وغير المسلمين في الحقوق والواجبات )

 

 

الشيخ كهلان: أولاً مسألة الأجر والثواب هذه بلا شك بيد الله سبحانه وتعالى، والأعمال من حيث الأجر والثواب المترتب عليها إنما ترجع إلى العمل نفسه، وإلى القصد من العمل، والإخلاص لله سبحانه وتعالى هذه شرائط ، وفضل الله تعالى عظيم لمن أخلص له النية ، وأحسن العمل.

 

 لكن نتحدث على موضوع الصدقات لغير المسلمين: من مظاهر التسوية بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب الذين يعيشون في المجتمع الإسلامي – كما نص أهل العلم – هذا الموضوع وهو (موضوع المساواة في الانتفاع ببيت المال).

 

فيكاد يكون عملياً – شبه اتفاق بين علماء المسلمين على أن للذمي حقاً في بيت مال المسلمين – ومن حيث استحقاقه هو سواء مع أفراد المجتمع المسلم، لكن يبقى يُنظر في الاحتياج – أي من الأحوج –.

 

فمثلاً إذا صار شيخاً كبيراً ، أو عاجزاً عن كسب المال، أو عن العمل كما روى أبو عبيد في كتابه "الأموال" عن سعيد بن المسيب ،أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تصدق على بيتٍ من اليهود، ثم أُجريت عليهم الصدقة من بعد.

 

وعمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله في البصرة – عامله في البصرة كان عدي بن أرطأة – قال: وانظر من قِبَلك من أهل الذمة من كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب فأجري عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه.

 

فإذاً حتى في هذا الاستحقاق من بيت مال المسلمين علماء هذه الأمة وخلفاؤها راعوا هذا الجانب، فلم يكن الاختلاف في الشريعة مانعاً لهم من الانتفاع من بيت مال المسلمين في هذه الجوانب التي ذكرها.

 

لو نظرنا أيضاً جانباً آخر يتصل بهذا ( المساواة فيما يُعرف اليوم بالتوظيف) فثبت في التاريخ الإسلامي أن للذمي أن يتقلد وظائف غير ذات ولاية عامة على المسلمين شأنه في ذلك شأن باقي أفراد المجتمع المسلم – لنأخذ مثلاً وظائف محاسبة عامة، هندسة، أو تطبيب...وغير ذلك ليست هناك أثرة لاعتبارات الملة والشريعة وإنما هي الكفاءة والأمانة والقدرة -.

 

وثبت تاريخياً أن هناك من غير المسلمين من تبوأ مناصب عالية في هذه الجوانب حتى في الترجمة، في الكتابة، في المحاسبة في غير ذلك من الجوانب.

 

 

مقدم البرنامج: وهذه أيضا من الأشياء التي ذكرها ول ديورانت  في " قصة الحضارة" عندما قال: كان المسلمون والمسيحيون يتنافسون، حتى إن بعضهم وصل إلى مراتب عليا ومناصب كبيرة في الدولة.

 

*********************

 

متصل ثالث: المساواة بين الرجل والمرأة أنا من رأيي أن المصطلح قد يستخدم بشكل خاطئ عندما نقول هناك مساواة بين الرجل والمرأة، وإنما هناك العدالة – في الإسلام العدالة بين الرجل والمرأة – بحيث إن الرجل يؤدي واجباته، ويأخذ حقوقه وكذلك بالنسبة للمرأة تؤدي واجباتها ، وتأخذ حقوقها.

 

نحن عندما نطلق المصلح هكذا بإطلاقه ونقول المساواة ففي هذا ظلمٌ للرجل كما أيضاً فيه ظلمٌ للمرأة.

 

 

مقدم البرنامج: الآن بينتم لنا أهمية هذا الموضوع – موضوع المساواة - والأثر الجميل الذي يترتب على تطبيقه، الآن نأتي إلى الأثر الذي يترتب على تضييعه.

 

ماذا يحصل إذا ضُيِّع مبدأ المساواة؟؟

وكيف عالج الإسلام محاولات التفريط في هذا المبدأ؟

 

 

الشيخ كهلان: ترك التقيد بمبدأ المساواة في هذه الجوانب والمجالات التي تحدثنا عنها، وبالمفهوم والمعنى الذي أيضاً تحدثنا عنه، وأنا أتفق مع المتصل الثالث في أننا لا نتحدث هنا عن المطابقة، وإنما قلنا هي مساواةٌ من حيث الإجمال وهي تماثلٌ غير تطابق كالتعادل، وهو فعلاً استخدم كلمة العدالة وهي عدالة فعلاً.

 

وقلنا نحن إنها أشبه بالمعادلة الكيميائية منها بالعملية الرياضية التي تكون فيها العلامة علامة تساوي.

 

لكن التفريط في التقيد بهذه القيمة – كما قلت – (بحسب ما بينت ، وبحسب المعنى الذي ذكرته ، والأوجه التي ذكرتها ويعرفها الإخوة والأخوات المتابعون) التفريط في هذا المبدأ يؤدي إلى نتائج سلبية لا يكاد تُتَصور.

 

يؤدي إلى نزاعاتٍ بين الناس، لأن هناك من يرى أنه أفضل من غيره في المجتمع من حيث الأصل لا من حيث ما اكتسبه من أعمالٍ وصالحات، على أن من اكتسب الصالحات والأعمال هو خيرٌ وأفضل عند الله تعالى ، وإلا ففي الأوجه والمجالات التي ذكرناها هو سواءٌ بغيره من الناس.

 

ولازلنا إلى اليوم نسمع عبارات التمييز العنصري – أي أبسط أوجه المساواة التي دعا إليها هذا الدين، وجاء لتكريسها ولإقامتها (كما سمعنا في الآية من سورة الحجرات التي استمعنا إليها، وفي حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم – الذي بين فيه أن الناس سواسية) لا يزال إلى اليوم في كثيرٍ من البلدان تجد أن هناك من يعاني من التمييز العنصري ضده، وكأنه من طبقةٍ أخرى غير الطبقة التي خُلق منها سائر البشر إما بسبب لونٍ، أو بسبب عرقٍ ، أو بسبب بيئةٍ ومكان، أو غيرها من الاعتبارات، لذلك تظهر مسميات الانتمات العرقية، تظهر مسميات التمييز العنصري، كما تظهر مسميات التمييز الثقافي ، أوالعنصرية الثقافية....الخ أنواع العنصريات الموجودة التي هي في حقيقتها ليس لها اعتبار في هذا الدين الحنيف.

 

فإذاً حينما يفرط الناس في هذا المبدأ توقع كل ما ينتج من هذه العنصريات التي تحدثنا عنها ( سوف ينتج عن ذلك ظلم، سوف ينتج عن ذلك استغلال للبشر ، سوف ينتج عن ذلك تضييع لإنسانية هذا الإنسان، هذه الإنسانية التي يشترك فيها الناس جميعاً ، لا يختلفون فيها ).

 

*********************

 

متصل رابع: لدي قصتان تخص موضوع البرنامج:

 الأولى عندما رأى سيدنا علي- كرم الله وجهه-درعه في يد يهودي، فلما خاصمه أمام القضاء حكم القاضي لليهودي لأن الإمام لا بينة له.

 

وأما القصة الثانية هي لسيدنا عمر-رضي الله عنه- حينما رأى يهودي شيخاً كبيراً قال: ما أنصفناك، أخذنا منك وأنت شاب، وضيعناك وأنت شيخ فأمر له من بيت المال.

 

فليت عالم اليوم عنده شيءٌ من مساواة الإسلام.

 

 

مقدم البرنامج: مشاركة المتصلة الرابعة تدخل ضمن الحديث الذي تحدثتم عنه في موضوع المساواة.

 

 

الشيخ كهلان: نعم، هذه أمثلة عملية كيف أن المسلمين طبقوا فعلاً هذا المبدأ، ومارسوه حتى على أعلى مستويات سُلَّم الولاية التي كانت لديهم – أي نجد أن أمير المؤمنين، خليفة المسلمين يقف نداً أمام القضاء لغير مسلمٍ، ويحكم لغير المسلم لأن الخليفة تعوزه البينة والدليل .

 

 

مقدم البرنامج: ويتقبل ذلك بكل رحابة صدر، ولا يبدو عليه تشنجٌ، أو غضبٌ أو اتخاذ إجراء أو ما شابه ذلك.

 

 

الشيخ كهلان: نعم.

 طبعاً سبق ذلك مرحلة إعداد، نحن نعرف أن الطبقية والعنصرية التي تنتج من التفريط في مبدأ المساواة كانت راسخةً في مجتمع الجزيرة العربية، لكن هذا الإسلام اجتثها منهم اجتثاثاً، ولذلك هذا السبب الذي منع صناديد قريش في الحقيقة في البداية من قبول هذا الدين، وصرحوا بذلك أن سيؤول بهم الحال إلى أن يتساووا مع أذلة القوم.

 

وهذا منع أيضاً قوم سيدنا نوح – عليه السلام – وصرحوا له بذلك.

 

إذاً ليست مسألة هينة حينما تُفقد فعلاً المساواة تؤدي إلى نتائج وخيمة في المجتمعات، تؤدي إلى ظلم وطغيان وقهر.

 

من وسائل التربية قصة أبي ذر الغفاري وهو عربي يعتدي على بلال بن رباح وهو حبشي فيقول له: يا ابن السوداء، فغضب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – غضباً شديداً، وانتهر أبا ذر وقال له: "طفَّ الصاع..طفَّ الصاع، إنك امرؤٌ فيك جاهلية ، ليس لابن البيضاء فضلٌ على ابن السوداء إلا بالتقوى أو عملٌ صالح".

 

فهنا أدرك أبو ذر عظيم الخطأ الذي وقع فيه، ووضع خده على الأرض وقال لبلال: طأ خدي بقدمك يا بلال ، وأقسم على بلال أن يطأه بحذائه حتى يغفر الله تعالى له زلته.

 

إذاً كانت هناك تربية أدت بهم إلى فهم صحيح لهذا المبدأ، ولهذه القيمة التي نتحدث عنها.

 

 

مقدم البرنامج: هو هذا المفهوم الذي ترسخ في أذهان الناس علموه من الإسلام، وعلموا أن الإسلام ينصفهم حتى مع أبناء الأمراء ( عندما صنع ذلك المصري مع ابن عمرو بن العاص، ورفع شكايته، كانت القولة المشهورة " متى استعبتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟! "

 

*********************

 

 

مقدم البرنامج: نأتي الآن إلى الموضوع الذي نوهنا عنه مراراً في موضوع المساواة بين المرأة والرجل – وكانت مداخلة المتصل الأول قد سبقتنا في هذا الموضوع -، هناك قضايا أخذت حيزاً كبيراً من النقاش والأطروحات على مستويات لا تكاد تحصى – هذا قلناه في المقدمة - كقضية مساواة المرأة بالرجل ماذا يمكن أن نقول في هذا البرنامج عن الموضوع فضيلة الشيخ؟

 

الشيخ كهلان: مع شكرنا للمتصل الأول على طرحه لهذا الموضوع، وأيضا المتصل الثالث تحدث عن هذا الموضوع، ولن نستغرق فيها طويلاًًً، فهذه القضية مع أهميتها إلا أنني أظن أنها أُشبعت بحثاً فنضجت ولعلها احترقت.

 

لكن سوف أضع فيها بعض النقاط الرئيسة.

أولاً: الذي أدى بالناس إلى الحديث على موضوع مساواة المرأة للرجل، أو المناداة بمساواة المرأة للرجل هي بيئة غير هذه البيئة – غير بيئة بلاد المسلمين – بسبب أوضاعٍ عانت منها المرأة – أي كان هناك ما يبرر هذه الدعوة إلى المناداة بمساواة المرأة بالرجل – كانت هناك مشكلات حقيقية، وظلم واضطهاد تعاني منه المرأة في ظل تلك البيئات والمجتمعات التي ظهرت فيها هذه القضية.

 

 لكن نحن لم ننتبه إلى أن هذه المشكلات وتلك الأوضاع ما كانت موجودة عندنا لأن الإسلام بدايةً أعلى مكانة المرأة وكرمها وأعلى من شأنها، فكانت تدير أعمالها، كانت تتملك بنفسها.

 

فقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم –يعمل مديراً لأعمال السيدة خديجة ، كانت هي ربة المال..صاحبة أعمال، وكان هو الذي يقوم على الاتجار لها – يعمل عندها – فما بالك بغيرها من الحقوق، والأمثلة التي تدل على تبوء المرأة مكانةٍ عظيمة في هذا الدين؟!

 

لكن هناك مجتمعات أيضاً لا نقول بأن هذه الدعوة كانت ناشئة من فراغٍ أو لترفٍ أو غير ذلك بل هناك أوضاع أدت إلى ظهور المناداة بمساواة المرأة للرجل.

 

لكن هذه الأوضاع والظروف والبيئات ما كانت موجودةً في بيئات المسلمين ومجتمعاتهم، وإن كانت موجودة فهي بحكم الأعراف والعادات لا بحكم ذات التشريع.

 

وهذه قضية أيضا مهمة، وينبغي أن نتنبه لها – أننا لا نُحمِّل ديننا، وتعاليم هذا الدين تبعة عاداتٍ وتقاليد لا تمت إلى الدين بصلة –.

 

وهذه نقطة ثانية بالإضافة إلى قضية منشأ القضية هذه ، موضوع البيئات والعادات، ولا زالت إلى الآن، ونحن ينبغي لنا أن نعترف بأن بعض مجتمعات المسلمين تعاني المرأة فيها من اضطهادٍ وظلم لكن ليس بسبب التشريع بل بسبب التفريط في تطبيق أحكام هذا الدين ، ومبادئه وأخلاقه.

 

 

ثم مع هذا قضية المرأة – كما قلت – لا ينبغي حينما يُنظر إليها ينظر إلى أن تُستل – كما عبرنا - تستل منها بعض الحقوق المالية ، ويُحاسَب بها الدين، وكأن الدين على مسألة حقوق مالية فقط، وليس هناك جوانب معنوية، وليست هناك مسؤوليات وواجبات ، ولا أخلاق ولا ضمير، ولا إنسانية زكتها هذه الشريعة.

 

 لو سلمنا جدلاً أن هناك ما يبدو أنه غير إنصافٍ للمرأة في جانب الحقوق المالية ، على أن الأمر ليس كذلك حتى في جانب الحقوق المالية، لكن المهم أن يكون المسلم نفسه على علمٍ وقناعة – على علمٍ بهذا التشريع الذي أكرمه الله به ، وبما يشتمل عليه من تفاصيل وفروع – فينبغي له أن يتقن معرفة هذه الأمور، وأن يتعرف عليها، وأن يسأل عما يشكل عليه، وأن يكون على قناعةٍ أن ما شرعه الله سبحانه وتعالى مما هو منصوصٌ عليه فلا ريب أنه تشريعٌ من لدن حكيمٍ عليمٍ خبير.

 

 وما كان فيه سعةٌ للرأي والاجتهاد فهذا فيه شيءٌ من السعة وشيءٌ من المرونة يخضع لاجتهاد المجتهدين في كل عصرٍ، وفي كل مكان. وهذا دليلٌ آخر على رحمة هذه الشريعة بالناس.

 

هناك مجالات هي موضع اجتهادٍ لأهل العلم يقررون فيها ما هو أصلح للناس، ما هو أصلح للمجتمع مما يتناسب مع مقاصد هذه الشريعة.

 

فلذلك في الحقيقة ليس هناك إلى ما يدعو إلى أن يُقلق على وضع المرأة بحيث إنه ينادى بمساواتها بالرجل، لأن هناك من الحالات ما ينبغي للرجل أن يطالب فيها بالمساواة بالمرأة.

 

لكن المقصود فعلاً- أيضاً حتى لا نتحدث فقط بناءً على عواطف، أو يُظن أننا نتحدث بناءً على عواطف – ينبغي أن تعطى المرأة مكانتها، وأن توصل إليها حقوقها التي كفلها لها هذا الدين الحنيف.

 

فهذه نقطة أختم بها هذا الموضوع ( أن الحقوق التي أعطاها الله سبحانه للمرأة، والمنزلة التي بوئت إياها ينبغي أن تصل إليها) فلا يمكن تعطيل أيضاً هذا الجانب، لا يمكن تعطيل نصف المجتمع– كما يقال– بل ينبغي أن تؤدى إليه حقوقه، وأن يُعرف بحقوقه أيضاً.

 

 

مقدم البرنامج: إذاً قضية موضوع المساواة لا تتعلق بأن المرأة تتحمل الأعباء التي يتحملها الرجل، وأن لديها العضلات والقوة التي يستطيع الرجل أن ينفذ بها أموراً، مبدأ الموضوع يتعلق بالإنسان، بمعنى أنهما يدخلان تحت هذا المصطلح.

 

 

الشيخ كهلان: الخطاب التشريعي لا فرق فيه بين الرجل والمرأة – أي ليست هناك حاجة كما يقول ابن عاشور في "مقاصد الشريعة" تحدث عن موضوع المساواة قال: ليس هناك أحدٌ من العلماء يقول إن الخطاب الذي وجه إلى الرجال لا تدخل فيه النساء، لا تحتاج إلى دليل حتى تقول بأن الخطاب الذي خوطب به الرجال يُقصد به النساء، لأن الأصل أن النساء داخلة في الخطاب الذي وجه إلى الرجال.

 

حتى ما أشرت إليه أنت من قضية كثير من الناس لا يدرك عندما نقول إن هناك بعض الجوانب التي قد يظهر فيها أن الرجل محتاج إلى أن يساوى بالمرأة نحن نقصد ذلك فعلاً.

 

مثلاً حتى في حقوق الميراث– على سبيل المثال- التي يظن كثير من الناس بأنها هي مثار مثل هذه الشبهات التي تُثار حول الإسلام وتعاليمه، في الحقيقة هذا يتصل بالإطار التشريعي العام المالي للتكاليف التي علقت به والتي خوطب بها الرجل بشكلٍ عام.

 

فالرجل مخاطبٌ أن ينفق على المرأة سواء كانت بنتاً، أو زوجةً، أو أماً في حين أنها تتملك ما تكسبه دون أن يسألها أحدٌ أن تدفع شيئاً، أو أن تتحمل أية نفقة، يترتب في المقابل مثلاً لننظر في بعض مسائل الميراث ترث المرأة أكثر من الرجل في بعض المسائل، فلماذا تؤخذ فقط قضية أن الأخت أو البنت على النصف من شقيقها، أو من أخيها ولا ينظر إلى الحالات التي يكون فيها نصيب المرأة أكثر من نصيب الرجل؟!!

 

أيضاً بعض الحقوق حق الحضانة، حق الحضانة هو للمرأة – الأصل فيه أنه للمرأة – لماذا؟ لأن الأمومة من شأن المرأة، فلذلك هذا يراه كثيرٌ من الناس بأنه مغنم، حقٌ وميزةٌ للمرأة على الرجل.

 

فإذاً هذا ما قلنا عنه بأن الشريعة بمجملها تراعي هذا الجانب، وتقيم أود هذه الحياة على هذا المبدأ– مبدأ المساواة –.

 

 

مقدم البرنامج: كان يشغلني موضوع في ما يتعلق بمساواة الرجل بالمرأة ( التسلط الذي يكون على المرأة من قِبل امرأةٍ في البيت كأم زوجها مثلاً هكذا في بعض البلدان، هناك تسلط من قبل أم الزوج على المرأة فتكون هي الخادمة في البيت ، ربما تسمح لها هذه العادات والتقاليد حتى بحرقها، أو بصب الزيت عليها أو ما شابه ذلك).

 

وقرأت أيضاً أن في تلك البلدان يوجد انتحار كبير للنساء بسبب هذه المعاملة السيئة، حتى بلغ في بلد من البلدان أن ألف امرأة في العام يحرقن أنفسهن انتحاراً.

 

وعندما تتبعت الموضوع وجدت أن تلك العادة ليست عند المسلمين فقط، إنما عند غير المسلمين في نفس تلك البلد – بمعنى أنها عادة أصحاب تلك البلدان – والمسلمون عندما لا يصلهم الوعي الكافي ، وعندما لا يتفهمون دينهم سيمارسون تلك العادات والتقاليد، وسيقع على المرأة ظلم.

 

*********************

 

 

مقدم البرنامج: الآن تحدثتم فضيلة الشيخ عن موضوع المساواة هل يعني إلغاء التفاضل؟

 

 

الشيخ كهلان:لا، التفاضل لا يمكن أن يقع في أصل النشأة والتكوين، أو في أصل الخطاب الشرعي باختصار، وبجواب مباشر.

 

لكن يمكن بما يكتسبه الإنسان من أعمال ، بما يهبه الله سبحانه وتعالى من ملكات قد يتبوأ منزلةً يحضى فيها بقدرٍ من التقدير والاحترام لا ينالها غيره ممن لم يصل إلى تلك المنزلة، لكن مع ذلك لا من حيث الخطاب الشرعي – أي لن يعفى من التكاليف الشرعية –

لنقل مثلاً عالِماً مكتشفاً لا شك أنه سوف يحضى من المجتمع بتقديرٍ واحترام، ومن الله تعالى حينما يخلص النية الأجر والثواب، لكن هو أمام القضاء شأنه شأن موظف صغير في المؤسسة، في المصنع الذي يعمل فيه.

 

هو أيضاً من حيث التكريم الإنساني نفخة الروح التي نُفخت فيه هي كنفخة الروح التي نُفخت في غيره من الناس.

 

فإذاً التفاضل إنما هو في التقوى والعمل الصالح، وهو أمام الله سبحانه وتعالى، لكن من حيث أصل النشأة والتكوين، والتكاليف الشرعية، والحقوق والواجبات الناس سواسية.

 

*********************

 

 

 

 

خاتمة الحلقة

 

مقدم البرنامج: إذاً في نهاية هذا اللقاء نختم بهذا الفاصل الذي يبين فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – ويؤكد على مبدأ المساواة أمام القانون.

 

 

عن عائشة– رضي الله عنها– أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: ومن يُكلم فيها رسول الله– صلى الله عليه وسلم ؟- فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبٌّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم ؟– فكلمه أسامة، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : "أتشفع في حدٍ من حدود الله؟!"

 

ثم قام فخطب، ثم قال: "إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمدٍ سرقت لقطعت يدها".

 

انتهت الحلقة