طباعة
المجموعة: برنامج دين الرحمة
الزيارات: 2831

عنوان الحلقة "رحمة النبي – صلى الله عليه وسلم – "

مقدم البرنامج: لقد بعث الله رسوله بالهداية إلى العالمين، وحمَّله رحمةً تفيض على الصغير والكبير، وبها تحققت السعادة والحياة الهنيئة للناس في هذه الأرض " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (الأنبياء:107).

 

لقد كانت الأرض كلها على موعدٍ مع مولد النبي – صلى الله عليه وسلم – فقد أكلها الليل حتى في وضح النهار.

 

 وسادتها فوضى عامة سيطر على الناس فيها ظلمٌ وظلام، فجاءت ولادة النبي – صلى الله عليه وسلم – نوراً لهذه البشرية ، انقشع به الظلام ، وساد به العدل والأمان، وانتشر الخير والسلام "...قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ" (المائدة:15)

 

اليوم نحن سنناقش مع ضيفنا فضيلة الشيخ الجليل الدكتور "جابر بن علي السعدي" هذا الموضوع ليحدثنا عن رحمة النبي – صلى الله عليه وسلم -، وعن الخير والسلام الذي تحقق للبشرية في ظل مبعثه – صلى الله عليه وسلم -، وما حصل بعد ذلك.

 

*********************

 

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ نريد الآن أن تعرفونا عن أهمية هذا الموضوع وخاصةً في هذه الأيام، وما يشتمل عليه أيضاً من عناصر تتطرقون إليها في حديثكم.

 

 

الشيخ جابر: حول موضوع هذه الحلقة، وأهمية هذا الموضوع فإننا بإذن الله سبحانه وتعالى سنتحدث معكم والمستمعين المتابعين لهذه الحلقة عن كون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هو الرحمة للبشرية.

 

الرحمة في رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تتجلى في دين الإسلام الذي بعثه الله سبحانه وتعالى به ، وتتجلى في شخصه الكريم، حيث كان يفيض رحمةً ورأفة، وشفقةً وحرصاً على ما فيه خير الناس وسعادتهم في دينهم ودنياهم.

 

فالرحمة تتجلى للعالمين في الدين والتشريع الذي جاء به – عليه أفضل الصلاة والسلام – فهو المبعوث رحمةً للعالمين.

 

كما تتجلى أيضاً في سلوكه وخلقه وتعامله مع غيره – عليه أفضل الصلاة والسلام – وذلك هما العنصران اللذان سيدور موضوع الحلقة حولهما بإذن الله تعالى.

 

*********************

 

 

" فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ"

(آل عمران:159)

 

 

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ الآن استمعنا إلى هذه الآية الكريمة التي تصف النبي – صلى الله عليه وسلم – بصفة الرحمة.

 

ما المقصود من صفة الرحمة التي وردت في هذه الآية؟ وعلى ماذا يمكن أن نركز في حديثنا عنها عندما نعتبرها قيمةً إنسانيةً كبيرة، جاءت تحقق الخير لهؤلاء الناس؟

 

 

الشيخ جابر: بالنسبة لهذه الآية، هذه الآية من الآيات العظيمة كسائر آي القرآن الكريم.

 

وبالنظر إلى سبب نزول الآية يتبين المقصود منها بلا شك، فالآية الكريمة نزلت بعد أن استشار الرسول – صلى الله عليه وسلم – أصاحبه عندما تكالب عليه بعض قبائل العرب حول المدينة المنورة.

 

فاستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أصحابه أو شاورهم بين أن يلاقوهم داخل المدينة، أو أن يخرجوا خارجها، وكانت ميلولته - صلى الله عليه وسلم - إلى المكث داخل المدينة وهو رأيٌ لبعض أكابر الصحابة – رضوان الله عليهم –.

 

 إلا أن بعض الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين– لا سيما الشباب منهم- كان رأيهم الخروج، ومثلوا الأكثرية، فما كان منه – صلى الله عليه وسلم – إلا أن ينزل عند رأيهم، واستقر الأمر على ذلك، فلما خرجوا لملاقاة من أتوا يناصبونهم العداء وهي واقعةٌ مشهورة في وقعة " أحد" أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بضعة نفر بأن يمكثوا على مكانٍ مرتفع، وأوصاهم بأن لا ينزلوا عن ذلك المكان ولو رأوا المسلمين يُقَّتلون.

 

 فكان ما كان من نصر الله سبحانه وتعالى للمسلمين، ودارت الدائرة على أعدائهم، فلما رأى بعض أولئك الذين أُمروا بالمكث في ذلك المكان المرتفع من صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن المشركين قد أدبروا، ما كان منهم إلا أن نزلوا فشاركوا إخوانهم فيما يفعلون.

 

فما كان من خالد بن الوليد – وهو يومئذٍ على غير الإسلام – إلا أن التف حول ذلك المكان المرتفع، وكانت الدائرة على المسلمين.

 

فأصاب الرسول – صلى الله عليه وسلم – ما أصابه في بدنه – عليه أفضل الصلاة والسلام -، وأصاب المسلمين ما أصابهم.

 

بعد هذه الواقعة نزل قوله تعالى " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" (آل عمران:159) مع ما صدر منهم من جنوحٍ إلى غير رأي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومتابعته لهم – صلى الله عليه وسلم – على ذلك، ثم ما صدر من بعضهم لاحقاً من ترك المكان الذي أُمروا أن يمكثوا فيه، وما أصاب المسلمين مما أصابهم من جراء ذلك إلا أن الأمر الإلهي نزل بما تحدثت به هذه الآية.

 

ذكرت الآية أن الرحمة إنما هي من الله " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ..." أي إنما كان لينك برحمةٍ من الله سبحانه وتعالى ، و" الفاء" هنا في قوله تعالى " فَبِمَا " للتفريع على ما اشتمل عليه الكلام الذي حُكي فيه مخالفة طوائف لأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من مؤمنين وغيرهم، وما حُكي من عفو الله سبحانه وتعالى عنهم فيما صنعوا.

 

ولأن تلك الواقعة المحكية بالآيات السابقة فيها مظاهر كثيرةٌ من لين النبي – صلى الله عليه وسلم – للمسلمين-حيث استشارهم في الخروج، وحيث لم يثرِّبهم على ما صنعوا من مغادرة مراكزهم– أي لم يلمهم على ذلك-.

 

ولما كان عفو الله عنهم يعرف في معاملة الرسول – صلى الله عليه وسلم – لهم ألان الله سبحانه لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم – تحقيقاً لرحمته وعفوه.

 

فكان المعنى ولقد عفى الله عنهم برحمته فلان لهم الرسول بإذن الله وتكوينه إياه راحما، إذ رحمته – صلى الله عليه وسلم - فطريةٌ جِبِلية.

 

يقول الله سبحانه: " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (الأنبياء:107)

 

و"الباء" هنا " فَبِمَا " للمصاحبة – أي لنت مع رحمة الله – إذ كان لينه في ذلك كله ليناً لا تفريط معه لشيءٍ من مصالحهم ، ولا مجاراة ً لهم في التساهل في أمر دينهم ، فلذلك كان حقيقاً باسم الرحمة .

 

وقدم الله الجار والمجرور " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ.." تقديم الجار والمجرور مفيدٌ للحصر الإضافي – أي برحمةٍ من الله لا بغير ذلك من أحوالهم – فرحمة الرسول – صلى الله عليه وسلم – ولين جانبه لهم إنما هو برحمة الله لهم.

 

ولا شك أن هذا القصر يفيد التعريض بأن أحوالهم كانت مستوجبةً الغلظة عليهم، وتثريبهم على اعتبار ما صدر منهم لكن الله سبحانه وتعالى الحكيم الخبير اللطيف الرحمن الرحيم ألان لهم خُلق النبي – صلى الله عليه وسلم – رحمةً بهم، لحكمةٍ علمها الله سبحانه وتعالى في سياسة هذه الأمة بلا شك.

 

ولا شك أن اللين هنا مجازٌ في سعة الخُلُق مع أمة الدعوة والمسلمين، وفي الصفح عن جفاء الجافين منهم، وإقالة العثرات.

 

ودل فعل المُضي في قوله " لِنْتَ " تعبير بفعل المضي على أن ذلك الوصف هو وصفٌ تقرر وعُرف من خُلقه – صلى الله عليه وسلم – فتلك فطرته، وذلك ديدنه – عليه أفضل الصلاة والسلام – إذ أن فطرته على ذلك برحمةٍ من الله إذ خلقه كذلك، والله أعلم حيث يجعل رسالته.

 

فخُلق النبي – صلى الله عليه وسلم – لا شك مناسبٌ لتحقيق حصول مراد الله سبحانه وتعالى من إرساله.

 

 

مقدم البرنامج: لماذا ذكرت الآية "... وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ..." على الرغم من أنهم كانوا يحبون النبي – صلى الله عليه وسلم – ويضحون من أجله ولا يعصون أمره، ويتحملون في سبيل نصرته الكثير من الآلام؟؟!

 

هل لأن الموقف يستدعي منهم مثلاً هذا الانفضاض؟

 

 

الشيخ جابر: الله سبحانه وتعالى جبل الناس على ما جبلهم عليه من الركون إلى محاسن الأخلاق، والانجذاب إلى السهولة واليسر في المعاملة، كما جبلهم على النفرة من عكس ذلك.

 

 والعرب بلا شك أمةٌ عُرفت بالأنفة، وإباء الضيم، وسلامة الفطرة، وسرعة الفهم، وهم المتلقون الأولون للدين فلم تكن تليق بهم الشدة والغلظة.

 

 فمع ما ذكرتم من محبتهم لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وحدبهم عليه، وأنهم يفدونه بأرواحهم وأنفسهم وأولادهم إلا أن القرآن أكد على أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – حاشاه – عليه الصلاة والسلام – لو عاملهم بشدة..بشراسة خُلق أو حدةٍ في طبع ، وفظاظةٍ في المعاملة لانفضوا.

 

وانظر كيف أن القرآن الكريم عبِّر بكلمة "انفضوا" للدلالة على قوة الترك أو الانتشار أو التراجع عن ما كانوا عليه من حب رسول الله – صلى الله عليه وسلم –.

 

*********************

 

 

مقدم البرنامج: هذا موقفٌ من هذه المواقف التي تجلت فيها رحمة النبي – صلى الله عليه وسلم – وقد بينتم أنها رحمةٌ فطرية، وأن الله تعالى أراد لنبيه في ذلك الموقع وذلك الحدث أن يكون رحيماً، وأن يتجنب الغلظة وهو ليس من طبعه الغلظة – كما تفضلتم –.

 

 لكن الآن نريد نحن أيضاً أمثلةً أخرى بما أننا نتحدث عن رحمة النبي – صلى الله عليه وسلم –أمثلة ونماذج عملية نرى من خلالها كيف استحق رسول الله – صلى لله عليه وسلم – هذا الثناء العاطر-.

 

أيضاً أمثلة أخرى من واقع حياته – صلى الله عليه وسلم – تبين لنا كيف تجسدت هذه الصفة في خُلقه.

 

 

الشيخ جابر: قبل أن أجيب على ما تفضلتم به من سؤال أحب أن أشير إلى أن عفو الرسول – صلى الله عليه وسلم – أو لين جانبه لهم أراد الله تعالى أن يكون حقيقياً..صادقاً لا يخامر أحدٌ منهم شكٌ فيه.

 

 فقد قُرن بعدة خلال- لا شك أن الله تعالى وصف بأنه بما رحمةٍ منه لان لهم- لكن مع ذلك أمره بأن يعفو عنهم، ثم أن يستغفر لهم ، ثم بعد ذلك أمره بمشاورتهم مع ما تجلى عن ذلك سابقاً من مغبة ما صدر منهم من حيث ما أصاب المسلمين إثر مشاورة الرسول – صلى الله عليه وسلم لهم، لكن كل ذلك لم يحل بين أن يكون الرسول – صلى الله عليه وسلم – ليناً لهم، وأن يعفو عنهم ، وأن يستغفر لهم، بل ويشاورهم فيما يستجد من الأمور ليكون اللين وتكون الرحمة مقنعةً للمتلقي في نفسه ، فهو يشعر دون أدنى شك أن هذه الرحمة حقيقية .. صادقة.

 

ولا شك أن الرحمة هي من المعاني التي تنبع من القلب، فلكي تؤتي ثمارها لا بد أن يقتنع المتلقي، أو المقصود بها أنها حقيقية وأنها كذلك.

 

 

مداخلة متصل: أردت أن أسرد بعض القصص الدالة على رحمته – صلى الله عليه وسلم – ومنها عندما مرت على الرسول جنازة يهودي، وتحسر عليه وربما بكى.

 

كذلك قصة المرأة التي حمل عنها الحطب، فأرادت أن تشكره فقالت له: هناك رجل ساحر يدعى محمد، ويزعم أنه نبي فإذا لقيته فلا تتبعه، فقال لها عليه الصلاة والسلام: أنا محمد، ولم يرمِ لها حطبها بالرغم مما سمعه منها.

 

أيضا قصة الحمامة التي جاءت تشتكي للنبي– صلى الله عليه وسلم– لأن أحد الصحابة أخذ فرخها، فأمر الرسول– صلى الله عليه وسلم– بإرجاعه إليها.

 

هذه القصص تدل على أن الذين سبوا النبي في عصرنا الحاضر لو كانوا عاصروه، وعرفوه جيداً لآمنوا، ولم تصدر منهم أي إساءة اتجاهه.

 

فالرسول– صلى الله عليه وسلم– سيطر على القلوب برحمته وأخلاقه.

 

فهؤلاء الذين سبوه لم يعرفوه، وربما لم يقرأوا شيئاً عن الإسلام فلذلك هم أساؤوا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وإلى الأمة بأسرها.

 

 

مقدم البرنامج: النقاط التي ذكرها الأخ المتصل مهمة جداً في موضوع النماذج-نماذج ومواقف من رحمة الرسول – صلى الله عليه وسلم - وسوف نأتي إلى موضوع الذين أساؤوا إلى النبي– صلى الله عليه وسلم – لأنهم لم تصلهم معرفةٌ جيدة عن هذه الرحمة الغامرة.

 

نحن كنا قد طرحنا سؤالاً عن موضوع النماذج العملية التي قد تجلت فيها أيضاً رحمة النبي– صلى الله عليه وسلم – تكملون إن شاء الله الموضوع.

 

 

الشيخ جابر: رحمة الرسول– صلى الله عليه وسلم– تتجلى في تعامله الشخصي مع غيره– عليه أفضل الصلاة والسلام– ممن يلقاهم أو عاش معهم.

 

ورحمته تتجلى في تشريعه– عليه الصلاة والسلام– وحرصه في هذا التشريع أو في هذا الدين على ما فيه يسر وسهولة وتخفيف عن أتباع هذا الدين.

 

مما ورد عنه– عليه الصلاة والسلام- أن السيدة عائشة سألته حيث قالت: هل أتى عليك يومٌ أشد من يوم أحد؟؟

 (وغزوة أحد قد ذكرناها سابقاً أنها من أشد ما لقي الرسول – صلى الله عليه وسلم – وقد وردت الآية الكريمة بالمعاني التي ذكرناها سابقاً).

 

 قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهمومٌ على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أضلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك.

 

فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد فقال ذلك فيما شئت -أي أن الله سبحانه وتعالى قد أمره بأن يأتمر بأمر سول الله – صلى الله عليه وسلم - .

 

 قال: إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم - : "بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً".

 

فهؤلاء الذين يؤذون الرسول– صلى الله عليه وسلم- ، ويعرضون عنه، ويتلقى منهم أنواع الأذى نجد أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – يحرص على هدايتهم، وعلى إيصال الخير إليهم ، وعلى الرحمة بهم ، فيدفع عنهم العذاب الذي أمر الله سبحانه وتعالى بأن يوكل أمره إليه، لكن مع ذلك – عليه أفضل الصلاة والسلام – يرجو الله بأن يُخرج من أصلابهم من يحمل دين الإسلام ..من يعتنق الإسلام .. من يحمل راية هذا الدين.

 

وهذا منتهى الرحمة بأن يقابل الإنسان الإساءة بالإحسان، هذا فيضٌ من الرحمة.

 

وهناك في الحقيقة نماذجٌ كثيرة للدلالة على رحمته – عليه أفضل الصلاة والسلام –مثلا منها ً عفوه عن أهل مكة عام الفتح.

أهل مكة آذوه – عليه الصلاة والسلام – بل أخرجوه ومن آمن معه من غير جرمٍ فعلوه.

 

أخرجوه وترك أهله وماله وراءه، وآذوه بل ناصبوه العداء، فلما مكنه الله سبحانه وتعالى وفتح مكة قال قولته المشهورة التي رواها التاريخ عنه – عليه أفضل الصلاة والسلام – "يا أهل مكة ماتظنون أني فاعلٌ بكم؟؟"

 

قالوا: خيراً، أخٌ كريم، وابن أخٍ كريم.

 

قال عليه أفضل الصلاة والسلام: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"

 

 

مقدم البرنامج: وما تبع ذلك من صنيعه – عليه الصلاة والسلام – مع عكرمة بن أبي جهل، ومع صفوان بن أمية وغيرهم.

 

*********************

 

"لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ" (التوبة:129)

 

مداخلة متصل: في حقيقة الأمر نحن لا نلوم الغرب، أو اليهود والنصارى على إساءتهم للنبي، بل نلوم بعض المسلمين من ناحية أخلاقهم.

 

فنحن نرى بعض المسلمين لا يطبقون الشريعة الإسلامية، ولا يأتمرون بأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا يأتمروا بأوامر القرآن.

 

فنرى بعض المسلمين قد فرطوا في أمور الإسلام كالمحافظة على الصلاة، والصدق، والمحافظة على الحجاب بالنسبة للمرأة.

 

فيجب على المسلم أن يطبق الإسلام على نفسه أولاً.

 

 

مقدم البرنامج: الآن فضيلة الشيخ بعد أن استمعنا إلى هذه الآية الكريمة التي بينت جانباً ووجهاً آخر من أوجه الرحمة، هل يمكن أن نتعرف على نماذج تفصيلية تُظهر لنا صفة الرحمة في التشريع؟

 

أنتم تحدثتم عن صفة في التعامل، الآن في التشريع الذي جاء به النبي – صلى الله عليه   وسلم -.

 

 

الشيخ جابر: ذكرت سابقاً أن رحمة الرسول - صلى الله عليه وسلم – تتجلى في معاملته لغيره – عليه أفضل الصلاة والسلام – كما تتجلى في حرصه على ما هو يسير على أمته في التشريع.

 

ويتجلى ذلك في عدة أمور مما روي عنه – صلى الله عليه وسلم – من حيث الرحمة في التبليغ – في تبليغ هذا التشريع – وبيان هذه الأحكام وذلك أمرٌ استفاض، ومما تلقته الأمة بالقبول، أو مما أُجمع عليه بلا أدنى شك.

 

وإنما أذكر هنا بعض القصص، أو بعض الوقائع التي نقلت عنه – عليه أفضل الصلاة والسلام – مما يدل على ذلك.

 

منها ما حدث أن أعرابياً بال في المسجد، فقام إليه بعض الصحابة ليعنفوه، فقال لهم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: " دعوه – أي اتركوه – ، لا تزرموه" – أي لا تقطعوا عليه بوله - ، ثم أمر أن يراق على بوله ذنوباً من ماء، أو دلواً من ماء.

 

رحمة الرسول – صلى الله عليه وسلم – تتجلى في تعليم هذا الرجل، وفي سلوك سبيل اليسر والسهولة في التعليم، وعدم التنفير في إيصال الخير إليه.

 

وكان الرسول – صلى الله عليه وسلم – هو الموجِّه، أي لو أنكر الصحابة هذا الفعل لأنكروا باطلاً، أو أنكروا فعلاً منكراً، لأن البول في المسجد مما نهي عنه.

 

المساجد بيوت الله تنزه عن هذه القاذورات، ولذلك كان إنكارهم سيكون في حقيقته قولاً حقاً – أي يقولون حقا -، لكن الطريقة والوضع كان يستلزم ما فعله الرسول – صلى الله عليه   وسلم – .

 

فالرسول – صلى الله عليه وسلم – أمرهم بتركه بقوله " دعوه لا تزرموه"– أي لا تقطعوا عليه بوله – ثم أمر بعد ذلك أن يصب على بوله ذنوباً من ماء لإزالة أثر تلك النجاسة.

 

ثم أحضره فقال له: يا ابن أخي إن هذه المساجد جُعلت لذكر الله والصلاة لا تصلح لشيءٍ من هذه القاذورات.

 

فقال " يا ابن أخي " وهي عبارةٌ من عبارات التودد، أو من عبارات حسن الأدب عند العرب، للكناية عن قرب المتحدث إلى من يحدثه، وهذا من رحمته – عليه أفضل الصلاة والسلام – بذلك الرجل.

 

 

مداخلة متصل: موضوع اليوم عن الرحمة، ورحمة النبي – صلى الله عليه وسلم – واسعة " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (الأنبياء:107) فرحمة الرسول – صلى الله عليه وسلم – هي للعالمين جميعاً سواء كانوا الإنس، أو من الجن، أو من جميع المخلوقات.

 

أود أن أطرح فقط مثالا عن رحمة الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالمخلوقات غير البشر كرحمته بالحيوانات.

 

 فقد ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بأن امرأة دخلت النار في هرة، فهذا فيه تحذير للمسلمين من القسوة على الحيوانات، وكذلك هو حث على الرفق بالحيوان.

 

فعقوبة من لا يرفق بالحيوان كما جاء في الحديث عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – بأنه سوف يدخل النار كما هو في حال المرأة، على العكس من هذا أمر ذلك الرجل عندما سقى الكلب عندما وجده عطشاناً فغفر الله له ، وأدخله في رحمته.

 

 

مقدم البرنامج: بالفعل رحمة النبي – صلى الله عليه وسلم – غامرةٌ واسعة لكل المخلوقات، وينضم إلى هذه الأمثلة أمثلة المتصل الأول الذي ذكر أيضاً أن طائراً أُخذ فرخه فجاء يشتكي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم-.

 

إذن فضيلة الشيخ لا زلنا في موضوع الرحمة في التشريع وقد ذكرتم مثالاً.

 

 

الشيخ جابر: في الحقيقة بعض الأمثلة التي يذكرها الإخوة المتصلون – جزاهم الله خيراً، وبارك فيهم – هي أمثلةٌ من تشريع الإسلام.

 

ولا شك أن رحمة التشريع الإسلامي اختلطت برحمة الرسول – صلى الله عليه وسلم – فالإسلام دين الفطرة، فطرة الله التي فطر الناس عليها، فلا فرق بين رحمة الرسول – صلى الله عليه وسلم – ورحمة التشريع الإسلامي، فالكل ينبع من رحمة الله سبحانه وتعالى الواسعة بالعالمين.

 

من مظاهر رحمته – صلى الله عليه وسلم – في التشريع أنه لما كان في رمضان خرج إليهم فصلى بهم فصلوا بصلاته، ثم انتظروا في الليلة الثانية فخرج إليهم فصلى بهم وصلوا بصلاته، فلما كان من الليلة الثالثة لم يخرج إليهم – صلى الله عليه وسلم – فانتظروا ما شاء الله، ثم صلوا وانصرفوا.

 

فلما سألوه قال: "إنه لم يخفَ علي مكانكم، إلا أني خشيت أن يحب الله ذلك منكم فتفرض عليكم".

 

فانظر كيف أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – ينظر في أمته، في أصحابه – صلى الله عليه وسلم – مع حرصهم وشدة اندفاعهم إلى الخير إلا أنه – عليه الصلاة والسلام – يرفق بهم من حيث الفرضية، لأن ما هو مفروض المؤاخذة فيه بلا شك تختلف عن المؤاخذة فيما هو ندبٌ ومرغبٌ فيه، فخشي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن تفرض هذه الصلاة – وهي صلاة التراويح – فتكون فرضاً لازماً فلم يخرج إليهم – عليه أفضل الصلاة والسلام –  رحمةً بهم ، وشفقةً عليهم، وخشية أن يؤدي بهم في المستقبل إلى التقصير والتهاون فيما فُرض عليهم لو فرض والحال أنه لم يفرض. 

 

*********************

 

 

مقدم البرنامج: هناك أمثلة كثيرة كما يبدو أنتم تريدون أن تداخلوا بها ولكن على كل حال سننتقل إلى موضوعٍ نرى أنه أيضاً من الأهمية بمكان ، ويبدو لي من خلال اتصال الإخوة الذين شاركوا في البرنامج أن مشاركاتهم تدور حول هذا الموضوع، محاولةً منهم لتجلية رحمة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – للعالم الذي أخطأ في حق النبي – صلى الله عليه وسلم – .

 

هذه الأيام نحن نعيش ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم ، نريد أن نقف على ما هو حاصل في حاضرنا من الإساءة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – .

 

ونحن عندما نتحدث عن هذا نريد تفسيراً لهذه الأقاويل والدعاوى.

كيف صدرت والنبي – صلى الله عليه وسلم - يتصف بكل هذه الرحمة التي تحدثتم عنها، ليس الرحمة فقط مع الناس ومع المخلوقات كلها، وإنما حتى الرحمة في التشريع، والرفق بأمته – صلى الله عليه وسلم -؟؟!

 

كيف لكم أن تفسروا لنا هذا الموضوع؟؟

 

 

الشيخ جابر: أحب قبلاً أن أُعلق على قوله سبحانه وتعالى "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ" (التوبة:129)

 

 الآية بينت صفات الرسول صلى الله عليه وسلم، وبينت قبساً أو جانباً من صفاته – عليه أفضل الصلاة والسلام – وهو أنه من أنفسنا.

 

والقرآن الكريم يضع بلا شك كل لفظٍ موضعه، فلم يقل الله سبحانه" لقد جاءكم رسولٌ منكم" بل قال : " مِنْ أَنْفُسِكُمْ " للدلالة على أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قريبٌ إلى أنفسنا.

 

 فعندما تقول لشخصٍ ما: أنت قريبٌ مني، أو تقول له أنت قريبٌ من نفسي فهذه اللفظة الأخرى هي أقرب، لأن فيها مزيد قربٍ، ومزيد حدبٍ،  ومزيد علاقةٍ نفسية. فالله تعالى يقول: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ.."

 

"... عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ..." أي يعز عليه، ويشق عليه، ويهمه كثيراً – عليه أفضل الصلاة والسلام – ما يعنتنا. " مَا عَنِتُّمْ..." أي ما يعنتكم ويتعبكم ويشق عليكم، فهو – صلى الله عليه وسلم –حريصٌ على أن لا يصيبنا العنت من جراء التشريع الذي جاء به – عليه أفضل الصلاة والسلام – ومن غيره.

 

"حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ" أي شديد الحرص على هدايتنا، هو – صلى الله عليه وسلم – حريص علينا، وهو بالمؤمنين كذلك رؤوفٌ رحيم.

هذه بعض الخصال التي تحدثت عنها الآية الكريمة.

 

بالنسبة إلى ما تفضلتم به من سؤال وهو ما ذُكر مما قيل في حق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلا شك أن الإساءة باقيةٌ ما بقي الإنسان، ما بقي الناس لا شك أن الناس يصدر منهم ما يصدر.

 

ومما صدر تجاه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصدر قديماً وحديثاً، إلا أن وسائل الإعلام أصبحت تنقل الكثير مما لا يمكن الإطلاع عليه فيما مضى.

 

بالنسبة إلى ما يجب على المسلم تجاه ذلك، نصيحتي لإخواني من المسلمين أن يستمسكوا بسنة رسول الله ، وأن يلتزموا بما جاء به رسول الله – عليه أفضل الصلاة والسلام – وهو ماذكره أحد الإخوة المتصلين - بارك الله فيه -، وذكر كلهم ذلك- جزاهم الله خيراً-.

 

فنحن بلا شك نبين حرصنا على رسول الله – عليه أفضل الصلاة والسلام – وشدة حبنا بالتمسك بما جاء به – عليه أفضل الصلاة والسلام – في أقواله، وفي أفعاله ، وبالحرص على الشريعة التي جاء بها، لأننا نوقن بلا أدنى شك أن ما جاء به– عليه أفضل الصلاة والسلام– هو سعادتنا في دنيانا وأخرانا.

 

وهو سبيل نجاتنا في حياتنا وفي آخرتنا، فلا بد لكي يكون الإنسان محباً لرسول الله – عليه أفضل الصلاة والسلام – أن تكون أفعاله وأقواله ترجمةً عمليةً حقيقية للمبادئ التي جاء بها عليه أفضل الصلاة والسلام.

 

هكذا يكون التصرف لكي نبين للناس هذا الدين، أو هذا المنهج الذي جاء به هذا الرجل العظيم، وهو رسول الله – عليه أفضل الصلاة والسلام – .

 

لعل بعض من أساؤوا لم يصل إليهم هذا النور الذي جاء به رسول الله.

لم يصل إليهم هذا الخير على وجهه الحقيقي.

لم يصل إليهم ما يريده رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.

 

ولعل بعضاً ممن ينتسب إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أظهر خلاف ما ينبغي أن يظهره.

 

 

مقدم البرنامج: كما هو الحال في مكالمة المتصل الثاني.

بمعنى أن تكون من تصرفات المسلمين صورة خاطئة عن منهج الإسلام ، ودعوته، وطريقة النبي – صلى الله عليه وسلم - .

 

 

الشيخ جابر: لا شك أن بعض ما يثار حول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هو ردة فعلٍ لما يراه الآخرون من تصرفات بعض المسلمين.

 

 

مقدم البرنامج: مواقف الرسول – صلى الله عليه وسلم – مع الذين أساؤوا إليه عندما دعا لهم بالرحمة، لعل الله تعالى يُخرج منهم من يعبد الله وغيرها من المواقف، هل يمكن أن يستفاد منها في مثل هذه الأحداث؟؟

 

الشيخ جابر: في حقيقة الأمر أولاً ينبغي أن لا تكون تصرفات المسلمين في أقوالهم وأفعالهم نتيجة ردود أفعال.

 

فالمسلم في تصرفاته، وفي تعامله لا ينطلق من ردة فعل ، إن رضي قال شيئاً، وإن سخط قال شيئاً، لا ، المؤمن ينبغي أن ينطلق من مبدأٍ، ومن قناعةٍ يكون ثابتاً عليها حال السخط والرضا، وحال المنشط والمكره.

 

فهو يقصد بما يفعله ويقوله وجه الله تعالى، وبذلك يتجنب النظر إلى من يقول، أو إلى من يفعل هذا الفعل في حقه.

 

*********************

 

مقدم البرنامج: إذاً نحن في موضوع " منزلة النبي – صلى الله عليه وسلم – وعظمته ومكانته عند الكتاب والعلماء العقلاء الذين يدركون قيمة النبي – صلى الله عليه وسلم – نقف لنستمع إلى أحدهم وهو يصف النبي – صلى الله عليه وسلم – ويتحدث عن المسلمين في هذا الفاصل.

 

 

يقول العلامة الفيلسوف الدكتور جوستاف لوبون في ختام مؤلفه القيم عن حضارة العرب:

" كان يمكن أن تُعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم، فيقترفون من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادةً ، ويسيئون معاملة المغلوبين ، ويكرهونهم على اعتناق دينهم الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم.

 

 فلو فعلوا ذلك لتألبت عليهم جميع الأمم التي كانت بعد غير خاضعةٍ لهم، ولأصابهم مثل ما أصاب الصليبين عندما دخلوا بلاد سوريا مؤخراً ، ولكن العرب اجتنبوا ذلك، فقد أدرك الخلفاء السابقون الذين كانت عندهم من العبقرية ما ندر وجوده في دعاية الديانات الجديدة أن النظم والأديان ليست مما يُفرض قسراً، فعاملوا أهل سوريا ومصر وأسبانيا وكل قطرٍ استولوا عليه بلطفٍ عظيم، تاركين لهم قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم، غير فارضين عليهم سوى جزيةٍ زهيدةٍ  في الغالب إذا ما قيست بما كانوا يدفعونه فيما مضى في مقابل حفظ الأمن بينهم.

 

فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم."

 

مقدم البرنامج: الآن فضيلة الشيخ قبل أن ننتقل إلى موضوع رحمة النبي – صلى الله عليه وسلم – في وصاياه وتوجيهاته للسرايا التي يبعثها نريدكم أن تعلقوا على موضوع جوستاف لوبون وهو يصف رحمة المسلمين الفاتحين.

 

 

الشيخ جابر: هذا يبين على أن الناس دائماً فيهم المنصف، وفيهم غير ذلك.

هذا الرجل تكلم كلاماً طيباً، وأنصف حضارةً كانت تحكم الأرض فترةً من الزمن.

 

ما أريد أن أشير إليه أن الخلفاء الذين تحدث عنهم قال هو: كانت لديهم أو عندهم من العبقرية ما ندر وجوده في دعاية الديانات الجديدة.

 

في الحقيقة أولئك الفاتحون ينطلقون من مبدأ، ينطلقون من أن الإنسان إنما يفعل ما يفعله طلباً لرضى الله سبحانه وتعالى، وسعياً لمرضاته سبحانه.

 

فهم ينصفون أنفسهم، يخدمون أنفسهم، يحققون عبودية الله تعالى بتصرفاتهم تجاه غيرهم ، لا يفعلون ذلك طلباً لشهرةٍ دنيوية، أو طلباً لمجدٍ دنيوي، أو طلباً لتحسين صورتهم عند فلانٍ من الناس، أو عند فئةٍ من الناس لا، هم ينطلقون في أفعالهم من منطلق الخطاب التكليفي الذي كلفهم الله سبحانه وتعالى به– كما أسلفت –.

 

 

متصل رابع: لم يكن منذ ظهور الإسلام اتصال حقيقي بيننا وبين الغرب أهم نقطة من حيث اختلاف اللغة، - أي لم تكن هناك ترجمة حقيقية لكافة العلوم إليهم إلا بعد فترة – بعد أن ظهر منهم مستشرقون، وهم غالباً ما كانوا من الرهبان أو الكهنة، فكانوا مغرضين لم ينقلوا الصورة الحقيقية.

 

فقصدي من هذه النقطة أنه لم تنقل الصورة الحقيقية عن الإسلام من أناس مخلصين إلا نادراً وفي حالات قليلة، فهناك تقصير في نشر الصورة الحقيقية.

 

 وأنا أرى أنه يجب أن تبذل جهود كبيرة من قبلنا.

صحيح الآن مع توفر الشبكة العنكبوتية ، ووسائل الاتصال والإعلام قد لا يُعذرون في أن يكونون صورة خطأ، ولكن ما زال يجب أن نبذل جهود لنقل الصورة الحقيقية عن الإسلام.

 

ثانياً مثل ما قال الشيخ لا يجب أن تكون كل أفعالنا مجرد ردات فعل لاستثارات مثل الثور الهائج كلما استثير قام وغضب، وقام بأفعال ثم خمدت ناره، بل يجب أن يكون لدينا مبدأ ومنهج نسير عليه، وخطة واضحة نسير عليها.

 

 

متصل آخر: الله سبحانه وتعالى يقول: " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (الأنبياء:107) هنا وجب على المسلمين أن يجعلوا هذه الرحمة في قالب ثقافي مقبول حسب الوقت.

 

فديننا دين عولمة حقيقة، دين عالمية، عولمة لأجل نشر الرحمة، ولكن أحياناً قد تكون لغتنا تختلف عن لغة الغير بمعنى أن الغير قد يكون لا يفهم فقط بمجرد الكلمات والمحاضرات، قد تكون هناك جوانب أخرى كالفنون مثلاً.. كالإبداعات المختلفة والابتكارات التي تؤثر في الغرب، فنحن كمسلمين حقيقةً أنا أشعر أننا قصرنا تاريخياً في توصيل الإسلام الحضاري.

 

نحتاج إلى إسلام حضاري يصل إلى مشارق الأرض ومغاربها، يفهم هذا الإسلام الصغير والكبير، المثقف وغير المثقف، ولأجل هذا علينا أن نتكيف مع كل تقدم موجود في هذا العصر، ونوظفه لأجل توصيل هذه الرحمة.

 

قبل توصيل هذه الرحمة ينبغي أن نكون نحن كذلك قد تعلمنا معنى الرحمة، بل طبقنا معنى الرحمة ، ينبغي أن نكون كالرسول – صلى الله عليه وسلم – في الرحمة والشفقة، والإخلاص والتفاني بحيث أننا نؤثر بأفعالنا قبل أن نؤثر بكلماتنا.

 

فهذا حقيقة جزء من هذا الموضوع وهو موضوع مهم جداً ينبغي أن يُصاغ صياغة جديدة، وينبغي أن نعيد تأريخنا حقيقةً، أو نعيد ممارسات المسلمين عبر التأريخ إلى القرآن الكريم حتى تتحقق هذه الآية فينا ومن ثم يتأثر الآخرون.  

 

 

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ نريد تعليقاً على كلام المتصلين.

 

 

الشيخ جابر: بالنسبة إلى نقطة الاتصال الحقيقي بين المسلمين وغيرهم، وسائل الاتصال كثيرةٌ ومتاحة وإن اختلفت اللغات، ولا شك أننا نحن نؤيد جميعاً مزيد الاتصال ، ومزيد التعارف، ومزيد إيصال هذا الخير إلى كل أحد، إلى من نستطيع أن نوصل إليه هذا الخير نوصله كما هو، كما أراده الله سبحانه وتعالى.

 

من أبلغ بيان حضارة الإسلام هو التصرف في الأفعال، أو الترجمة العملية الفعلية.

 

نحن نعلم أن كثيراً من البشر دخلوا في دين الإسلام نتيجةً لإعجابهم بسلوك المسلمين في تجارتهم مثلاً، فلما لاحظوا أمانتهم، وإخلاصهم، وأنهم أسوياء في تصرفاتهم..في تعاملهم..في رحمتهم بالآخرين سألوا عن هذه المبادئ، وهذا الدين، وعن هذا السلوك الذي يسلكه أولئك الناس، فلما علموا المبدأ أو الدين الذي ينتمون إليه أعجبوا به فدخلوا فيه، ولذلك شواهد كثيرة على مر التأريخ الكل يعرفها.

 

نحن نرى أن بعض العمانيين وهو أبو عبيدة الصغير(عبدا لله بن القاسم) قد مُنح لقباً وهو لقب " فارس الأخلاق الحميدة" نتيجةً لسموه في الخُلق في التعامل مع غير المسلمين، حتى في تجارته.. في تعامله.

 

هذا ما نريده من المسلمين، نريد من المسلمين جميعاً أن تكون أقوالهم وقناعاتهم متسقة.

 

أقوالهم تطابق معتقداتهم، تطابق أفعالهم، يحترمون غيرهم في بيعهم وشرائهم، في تعاملهم، في أخلاقهم يمثلون الإسلام الحقيقي.

 

إذا تباينت الأقوال والأفعال فهنا تكمن المشكلة مع اتصاف أو تَسمي هذا الذي يفعل ذلك بالإسلام.

 

هذا الذي يطلب من المسلمين، الإسلام والرسول – صلى الله عليه وسلم – هو رحيمٌ بلا شك، والإسلام دين الرحمة، والمطلوب من المسلمين أن يترجموا هذه الرحمة واقعاً عملياً يبينونه للآخرين، يتحدثون به بأفعالهم، وبتعاملهم لا بأقوالهم فقط.

 

بالنسبة إلى الجوانب الحضارية في التشريع هناك جوانب كثيرة.

من أكثر ما يفاخر به الناس التراث الفكري.

 

التراث الفكري هو أغلى وأعز ما يفاخر به الناس فينبغي العناية بهذا الجانب، ينبغي الاعتناء بهذا الجانب وهو حاصلٌ بلا شك في بلادنا والحمد لله تعالى، لكن نحن نطالب الناس، أو ندعو إخواننا جميعاً كما ندعو أنفسنا إلى مزيد التمسك، ومزيد التطبيق العملي الواقعي لأحكام وتعاليم الإسلام معنا كمسلمين، ومع غيرنا – مع غير المسلمين – لكي يعرف الناس الإسلام في تصرفاتنا وأفعالنا – كما أسلفت - .

 

 

مقدم البرنامج: طيب فضيلة الشيخ هناك نقطة أرى أنه من الأهمية بمكان ذكرها وهي: نحن الآن حملنا المسلمين تقصيرهم في تبليغ هذه الرحمة، وفي نشر هذا الخير مسؤولية ما يشاع ويقال عن الإسلام وعن نبي الإسلام.

 

نحن نستطيع الزعم بأن المسلمين أسسوا المنهج العلمي في البحث في قراءة التأريخ، في الحكم على الأشخاص ، في ذكر معلومةٍ علمية لا بد من إتباع المنهجي العلمي والموضوعية.

 

 في هذا العصر الحديث الآن العالم الآخر من غير المسلمين يُنظِّر لهذا ، ويُصدر من أجله الشهادات العلمية (الماجستير والدكتوراه) أي لا بد للإنسان أن يتبع المنهج العلمي حتى يحكم على شخص بأنه كذا وكذا.

 

ألا ينبغي أيضاً لهذا العالم الذي يُنظِّر لهذا أن يقرأ عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – بنفسه إذا كان لا يجد هذه الرحمة متجلية في تصرفات بعض الأفراد؟!!

 

أليس من الواجب عليه أيضاً هو أن يقرأ كما قرأ جوستاف لوبون..كما قرأ برنارد شو..كما قرأ بسمارك وغيرهم ممن كتبوا عن رحمة النبي – صلى الله عليه وسلم – ؟؟!

 

 

الشيخ جابر: نحن في هذا الذي ذكرت – في هذا الحديث – ننطلق من رحمة الرسول – صلى الله عليه وسلم – في الإحسان إلى من أساؤوا إليه.

 

فنحن عندما نطالب إخواننا، ونحثهم كما نحث أنفسنا على مزيد بيان الإسلام بأفعالنا ننطلق من قدوتنا ومن اقتدائنا برسول الله– صلى الله عليه وسلم – الذي لم ينتظر أن يكون المسيء هو الذي يبادر، وهو الذي ينبغي أن يفهم هذا الدين، وهو الذي ينبغي أن يقرأ، وهو الذي ينبغي أن ينصت لا، مع إعراضه بل ومع تعرضه لرسول الله  – صلى الله عليه وسلم – بالأذى-الإعراض والتعرض لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالأذى- لكن ذلك لم يمنع الرسول – صلى الله عليه وسلم – من أن يقابل ذلك بمزيد رحمةٍ .. بمزيد بيانٍ .. بل بمزيد دعاءٍ وبمزيد شفقةٍ ورأفةٍ وحرصٍ على دخول ذلك المسيء إلى دين الله سبحانه وتعالى، وإيصال الخير إليه، والتأني به، وعدم التعجل في حقه.

 

*********************

 

خاتمة الحلقة

 

 

مقدم البرنامج: إذاً كما قال الله تعالى في وصف ذلك الرجل المؤمن : "قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ" (يس:26)

 

 ياليت الناس تعلم رحمة النبي – صلى الله عليه وسلم – وفضله، وخيره على هذه الإنسانية، فتنصفه في حديثها.

 

شكراً لكم فضيلة الشيخ على هذا اللقاء الطيب، وعلى هذه الكلمات الرائعة في موضوع " رحمة النبي – صلى الله عليه وسلم – " وكنا نتمنى أن يكون هناك حديثاً عن وصايا النبي – صلى الله عليه وسلم – للسرايا، ولكن الوقت قد انتهى.

 

انتهت الحلقة