طباعة
المجموعة: برنامج دين الرحمة
الزيارات: 2246

مسؤولية التربية ج3

بثت في:

1/ رجب /1431هـ

14/يونيو /2010م

-----------------------

 

مقدم البرنامج: بسم الله الرحمن الرحيم.

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم مرةً أخرى في هذا اللقاء لنستكمل معكم موضوع مسؤولية التربية والرسائل التي تم توجيهها خلال تلك الحلقات الماضية، والهدف منها كما أُعلِن هو مناقشة مضامينها، ومشاركة الجمهور المستمع في معناها، راجين منكم أن تشاركوا في هذه الحلقات المهمة والمتعلقة بموضوع التربية ومسؤوليتها، طبعاً المُعِدُّ والمقدم لهذا البرنامج هو فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة، نرحب به في هذا اللقاء..

 

*********************

أهلاً ومرحباً بكم فضيلة الشيخ..

 

الشيخ كهلان: حياكم الله، وأنا بدوري أُحَيِّي الإخوة والأخوات الذين يتابعون هذا البرنامج، وأرحب بمن سوف يشاركنا بمشيئة الله تعالى في تمام هذا الموضوع اليوم، وهو موضوع أتحفنا فيه الإخوة المتابعون بمداخلاتهم في الحلقتين الماضيتين، ونسأل الله عز وجل أن نستكمل هذا الموضوع اليوم، كما أسأله سبحانه أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا إنه تعالى سميعٌ مجيبٌ.

 

مقدم البرنامج: بحول الله..

نحن فضيلة الشيخ الآن سنُذَكِّر الإخوة بالرسائل الخمس التي ذُكِرتْ في الحلقات الماضية والتي لازلنا بصدد مناقشتها وهي: أنتِ وأنتَ مسؤولٌ عن التربية، أدبٌ بلا عنف، اخشوشنوا فإن النِّعم لا تدوم، لُمْ نفسك قبل لوم الآخرين، أيها الطفل قل: لا للغرباء.

 

وطبعا كما تفضلتم قبل قليل شاركنا المستمعون الأكارم بجملةٍ من المداخلات والأسئلة والتعليقات، فهل يمكن أن تُلخِّصوا لنا فضيلة الشيخ ما دار من حديث، وما رُكِّز عليه من عناصر في الحلقات الماضية حتى يكون الموضوع مجموعاً لدى مستمعينا اليوم؟

 

الشيخ كهلان: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن خلاصة ما دار في الحلقتين الماضيتين إنما يتمثل في الرسائل الخمس التي ذكرتموها، وهناك الكثير من التفاصيل المتعلقة بهذا الموضوع؛ ذلك أن قضية التربية هي من القضايا الهامة لما يتعلق بها من تنشئة الأجيال الذين هم رجال المستقبل ونساء الغد.. هم الذين على سواعدهم-بإذن الله تعالى-تُبنى الحضارات وتشاد المدنيات.. هم الذين سوف يتولون-بإذن الله عز وجل-الأمانات والمسؤوليات في سائر المجتمعات؛ ولذلك كان نصيب هذا الموضوع جملةً من الحلقات، وكانت مداخلات المتصلين غايةً في الأهمية، وطالبوا بتمديد الحديث في هذا الموضوع؛ لكننا مهما تناولنا من عناصر ومحاور فإنه لا يمكن لنا في إطار ما اتخذناه لبرنامج دين الرحمة من أسسٍ ومبادئ أن نتعرض لكل التفريعات والجزئيات التي يطالبنا بها الإخوة والأخوات،

 

وحسْبنا أننا نريد أن نُذكِّر والله عز وجل يقول: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (الذاريات:55)، ونريد أيضا أن نبين بعض الأحكام الفقهية الشرعية المتصلة بهذا الموضوع؛ تصحيحاً لبعض الأخطاء التي يقع فيها المربون، وتنبيهاً أيضا إلى التخلي عن بعض المسؤوليات؛ ولذلك كان العنوان لهذه الحلقات هو مسؤولية التربية؛ لأننا لا نَخُصُّ بالحديث الآباء والأمهات وإنما نتناول كل الجهات المعنية عن التربية بدءً من البيت.. مروراً بالمسجد والمدرسة وانتهاءً بالمؤسسات العامة والخاصة التي لها دورٌ مباشرٌ أو غير مباشرٍ في صياغة شخصية الأطفال من ما ينعكس على تربيتهم وعلى آدابهم وأخلاقهم في المستقبل؛ ولذلك فإن الأسس التي بنينا عليها حديثنا إنما يتمثل في التنبيه إلى أننا حينما نتحدث عن مسؤولية التربية فإننا نتحدث عن أمانةٍ عظيمةٍ حُمِّلَ إياها الأولياء والمجتمع بدليل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ...} (التحريم6)، وأن الأولاد نعمةٌ من نِعَمِ الله عز وجل يهبها جَلَّ وعلا لمن شاء، وهذه النعمة تستوجب شكر المنعم، وشكرها إنما يكون بأداء حقوق الطفولة، وحقوق الطفولة هي: إحسان الأدب، وإكرام الأولاد، وتربيتهم التربية الصالحة النافعة التي تُرضي الله عز وجل عن المربي وعن المُربَّى بإذن الله تعالى؛

 

ولذلك كنا في هذا الإطار نتناول ما يقع فيه بعض الناس من أخطاء، وأولى وأهم الأخطاء التي يقع فيها الآباء والأمهات على وجه الخصوص أنهم يتخلون عن مسؤولية التربية، ويَكِلُونَ التربية إلى المؤسسات الأخرى من: المسجد والمدرسة ورياض الأطفال وما يتلقاه الأطفال عبر وسائل الإعلام المختلفة، ومنهم من يبالغ ويظن أن التأديب وحقوق التربية تقتضي القسوة والعنف وأن في ذلك مصلحة الأطفال؛ ولذلك وقَعَتْ الكثير من الأخطاء التي كانت سبباً لانحراف هؤلاء الأطفال ولإصابتهم بعاهاتٍ وأمراضٍ نفسيةٍ وعقليةٍ وبدنيةٍ بسبب قسوة الآباء والأمهات وشدتهم على أولادهم، من ما يستدعي منا الوقفة الحازمة في تصحيح هذا الظن الخاطئ، وفي توجيه الناس الوجهة الصحيحة لمعاني التربية، ولكيفية أداء هذه المسؤولية في مقابل نوعٍ آخر من الناس يَظُنُّ أن إحسان التربية وإكرام الأولاد إنما يكون بإغراقهم في ما يحتاجون إليه من مادياتٍ ومطالب تظهر على شكل مطاعم وملابس وألعابٍ وحاجياتٍ وترفٍ وقضاء شؤون بالاعتماد على الآخرين، فهناك جهةٌ تُفَرِّطُ في التربية كما أن هناك جهةً أو هناك بعض الناس وطائفةً من الناس يُفْرِطُونَ في فَهْمِ التربية، وكلا الطرفين غير صحيح، ويؤديان إلى آثارٍ سلبيةٍ خطيرةٍ، فالغلو في التربية والظن بأن التأديب إنما يكون بالقسوة والضرب والشدة هو كالتفريط وإغراق الأولاد في الترف واللهو والتسلية والترفيه، وفي الاعتماد على الآخرين، وفي تنشئتهم في ميوعةٍ وعدم قدرةٍ على العمل ولا على إنجاز شيء، هذه كانت أهم الرسائل التي أردنا أن ننبه إليها المجتمع.

 

ونظراً للتغيرات التي حصلت أيضا في كثيرٍ من مجتمعات المسلمين فإننا نُطالِبُ بالفطنة والحزم في معرفة أحوال المجتمع وما ينعكس به على أمور التربية، فإن انفتاح المجتمعات لا شك كما أن له إيجابياتٍ يحمل معه بعض السلبيات، هذه السلبيات تقتضي أن يتنبه الآباء والأمهات والمربون وكل القطاعات إليها لأجل تلافيها وتجنيب أضرارها لأطفالنا، وهذا كله في إطارٍ من حسن التعامل مع هذه التي أفرزها لنا واقعنا المعاصر، هذه هي الأسس التي لا نريد أن نَدْخُلَ في الجزئيات والتفريعات بمقدار ما نريد أن نبين أن المسؤولية مسؤولية المجتمع، وأن أخصَّ هؤلاء إنما هم الآباء والأمهات، وأن ما يُطالِبُ به الآباء والأمهات من برٍّ ومن حقوقٍ على أولادهم لهم إنما يكون حينما يُحسِنون هم تربية أولادهم، وحينما يؤدون لأولادهم حقوقهم أداءً لما أمرهم به ربهم تبارك وتعالى وأرشدهم إليه نبيهم محمدٌ-صلى الله عليه وسلم-حينما قال: "ألا كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته".

 

مقدم البرنامج: جزاكم الله خيراً فضيلة الشيخ، إذاً هذا ملخص لما دار في الحلقات الماضية حول مسؤولية التربية، إذاً فنحن نحتاج إلى خطٍّ وسط بين التأديب والتدليل بحيث يكون الإنسان على بينة من أمره في تعامله مع أبنائه، أوضحتم أيضا أن هذه العناصر التي تحدثتم عنها إنما هي خطوطٌ عامة الدخول في جزئياتها قد يتطلب المزيد من الوقت ربما.

ونبدأ الآن بهذه الآية القرآنية..

 

*********************

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ{27} وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (الأنفال:27-28).

 

مقدم البرنامج: صدق الله العظيم.

فضيلة الشيخ بعد أن استمعنا إلى هذه الآية القرآنية ما هي المعاني التي نستفيدها منها؟ وما مدى احتياجنا في واقعنا اليوم إلى هذه التوجيهات الربانية كذلك؟

 

الشيخ كهلان: لما قررنا أن التربية مسؤوليةٌ تقع على عاتق المجتمع وأن أخصَّ من يحمل هذه المسؤولية هم الآباء والأمهات فإن كونها مسؤوليةً يعني أنها أمانةٌ من الأمانات؛ ذلك أن الأمانات لا تقتصر على الودائع المادية، وإنما الأمانات تعني الحفظ والوفاء لكل ما عُهِدَ به إلى أحدٍ من الناس، فلما أن الله عز وجل قد عهد بتربية الأولاد إلى آبائهم وأمهاتهم فإن هذه من الأمانات التي يجب أن يؤديها الآباء والأمهات أداءً فيه من التوفية اللائق بالأمانة وفيه من الإخلاص والصدق والبذل والتضحية ما يُبْرِئ ذممهم؛ لأننا نتحدث عن مسؤوليةٍ وأمانةٍ تؤدى طاعةً لله عز وجل، ورجاءً للثواب، ورجاءً للصلاح والخير.

 

ولذلك فإن مناسبة هذه الآيات لموضوعنا ظاهرة، فطالما أن التربية أمانةٌ فإنه لا يَصِحُّ خيانة الأمانة؛ ولذلك يُحذِّر الله عز وجل في هذه الآيات الكريمة من خيانة الأمانة، وخيانة الأمانة لا تكون حينما يُقصِّر في أدائها المرء متعمداً فقط بل إن خيانة الأمانة حتى ولو كانت عن دون قصد؛ لأنها إن كانت بقصدٍ فهي الغدر عينه، وإن كانت بدون قصد فهي التقصير والتفريط، وكلا الأمرين لا يَصِحُّ في الأمانات؛ ولذلك أمرنا الله سبحانه وتعالى بأداء الأمانات {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} (النساء:58)، ورسولنا-صلى الله عليه وسلم-يقول: "أَدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك"، ولذلك بعد هذا النهي عن تضييع الأمانات وخيانتها يأتي التنبيه إلى أن الأموال والأولاد إنما هي فتنةٌ من عند الله عز وجل، وكون الأموال والأولاد فتنة لا يعني البلاء، ولا يعني الإخفاق في أداء الأمانة، وإنما يكون الحُكْمُ على ذلك بحسب أداء المُؤتَمن في هذه الفتنة، فإن وفَّاها حقوقها-أي فإن وفَّى الأمانات حقوقها-فإن هذه الفتنة تكون سبب ثوابٍ وأجرٍ له عند ربه تبارك وتعالى، وإن كان قد قصَّر وأهمل وفرَّط وضيَّع فالنتيجة لا شك سوف تكون الخسران المبين، وهنا معنيان:

 

المعنى الأول: المعنى المادي أي لا يدفعنكم حبكم لأولادكم ولأموالكم إلى خيانة الأمانات فتدفعكم عاطفتكم إلى توفير ما يحتاجه تنمية المال وتربية الولد إلى خيانة أمانات الآخرين سواءً كانت ودائع أو كانت حقوقاً أو كانت غير ذلك من ما يُعْهَدُ به إلى الواحد منا، فتكون سبباً للاختلاس أو الغصب أو السرقة أو غير ذلك، لأنه يُعلِّلُ نفسه أنه يريد أن يوفر المسكن الملائم والطعام الجيد والتربية الجيدة والتعليم الراقي وغير ذلك فيرسُبُ في الامتحان؛ لأن هذه ساعتها سوف تكون من وساوس الشيطان.. حينما يُعلِّلُ نفسه بهذه الأمانيِّ الكاذبة إنما يكون ذلك من تزيين الشيطان لسوء عمله؛ لأن أداء أمانة التربية والوفاء بحقوقها لا يعني أن يُسوِّغ المرء لنفسه خيانة أمانات الآخرين، هذا المعنى الأول.

 

والمعنى الآخر: هو أن نفس التربية أمانة، لا يجوز تضييعها ولا التقصير فيها ولا التفريط فيها، كما لا يجوز أيضا المبالغة في أدائها ويكون ذلك بمجاوزة الحدِّ والتعسف في أداء هذه الأمانة والتفريط بالمبالغة؛ ولذلك نجد أن الآية تُختَم بقوله عز وجل: {... وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي حينما تنتهون عن ما نهاكم عنه وتؤدون هذه الأمانات على وجهها بالتمام والكمال كما أَمَرَكُم الله عز وجل فإن لكم عنده الأجر العظيم.

 

مقدم البرنامج: إذاً معنى ذلك أن خيانة الأمانة أو خيانة الله ورسوله والتقصير في التربية تدخل في هذه الأمانة سواءً كان-طبعا كما قلتم-بالعمد أو بالخطأ..

 

الشيخ كهلان: نعم..

 

مقدم البرنامج: بالخطأ يعتبر تقصيراً..

 

الشيخ كهلان: تقصيراً وتفريطاً نعم.

 

مقدم البرنامج: الآن ندخل إلى موضوعٍ مهم فضيلة الشيخ في ما يتعلق بحقوق الأولاد على آبائهم وأمهاتهم هل له سِنٌّ معينة ينتهي عندها فلا يَلْزَم الأولياء أي حق نحو أولادهم وإنما يكون على الأولاد أن يسمعوا ويطيعوا وأن يمتثلوا الأوامر الصادرة من آبائهم وأمهاتهم، وأن ينصاعوا لهم كذلك، ولا يناقشونهم في أمر، وإلا صار ذلك عقوقاً بالنسبة لهم؟

 

الشيخ كهلان: لا ريب أن السن الذي يحتاج فيه الطفل إلى التربية والرعاية هي السن التي تكون قبل أن يصل إلى حدِّ التكليف الشرعي أي قبل البلوغ؛ لكن هذا لا يعني أن حقوقه على آبائه وأمهاته تنتهي عند ذلك السن، لكنها تكون أقل نوعاً وكَمَّاً، وتختلف في طبيعتها، فهي بعد بلوغ الرشد إنما تكون رعايةً وتوجيهاً ونصحاً، أما قبل ذلك فهي تربيةٌ وطاعةٌ من قِبَلِ الأولاد لآبائهم وأمهاتهم، وامتثالاً منهم لهم، وتكون حقاً لهم على آبائهم وأمهاتهم، فالوالد أُمَّاً كان أو أباً ، كلٌّ منهما مأمورٌ شرعاً بأداء حق التربية لولده، أما إذا بلغ الحُلُم وكان راشداً كما قال الله عز وجل في إيتاء اليتيم ماله: {... فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ...} (النساء:6) أي صار الولد قادراً على التصرف التصرفات الراشدة في ما يتصل بالجوانب المالية فهذه علامةٌ على أنه يميز بين الصواب والخطأ، ويعرف الحقَّ والباطل، ويعرف الهدى والرشاد من الغي والضلال، فهو مكلفٌ مسؤولٌ عن تصرفاته وهي أي البنت كذلك؛ لكن تبقى بعض الحقوق للأولاد على آبائهم وأمهاتهم، فللبنت على وليها ولاية الزواج أو ولاية التزويج.

 

وولاية التزويج إنما هي ولاية رعايةٍ وحسن اختيارٍ من قِبَلِ الأب لابنته.. هي ليست تَسلُّط، وإنما هي-كما قلتُ-حسن اختيار؛ ولذلك فرسول الله-صلى الله عليه وسلم-خاطب الأولياء قال: "إذا خَطَبَ إليكم الكفؤ فلا تردوه، فنعوذ بالله من بوار البنات"، وقال: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير"، وقال أيضا أو أرشد إلى أن يُعتَدَّ برأي البنت، فلذلك رَدَّ زواج من زوَّجها أبوها وهي غير راضية لَمَّا جاءته تشتكي أباها فَرَدَّ النبي-صلى الله عليه وسلم-زواجها، ثم قالت هي: "قد أَجَزتُ ما فعل أبي، وإنما أردتُ أن أُعْلِمَ النساء أن لهن في الأمر حقاً"-أو كما قالت-، وكذا الحال بالنسبة للذكور فإن لهم على آبائهم التوجيه والنصح، فلئن كان ذلك أي النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حقاً لكل مسلمٍ على أخيه المسلم بسبب رباط الأخوة الإيمانية فلا شك أنه من الوالد لولده أحق وألزم.

 

لكن ذلك في المقابل لا يعني أن يتسلط الوالد على أولاده فيتدخل في خصوصياتهم، ويَظُنّ أن له عليهم الآن حق الطاعة، وأن عليهم برَّه والإحسان إليه من ما يُسوِّغ له أن يتدخل في خصوصياتهم، فيفسد عليهم زيجاتهم-رجالاً كانوا أو نساءً-، ويُضيِّق عليهم في حياتهم، ويُحمِّلهم من الأعباء ما لا يطيقون، ويَشُقُّ عليهم استغلالاً لوازع الإيمان عندهم، ولرغبتهم في البرِّ والإحسان، فيسيء إليهم بعدما أحسن وربَّى، وكأنه ينتظر العِوَضَ المادي عن ما فعله أو يَظُنُّ أن رأيه وحده هو الذي يمكن أن يُصلِح له ولده وقد بلغ ولده من العقل والتدبير والرأي ما يعينه في حقيقة الأمر وما يتمكن به على تدبير أمور نفسه والسعي في معيشته بحسب ما يراه من ما يتيحه له أيضا الزمان الذي وُجِدَ فيه، وكذا الحال بالنسبة للأم-أو حتى للأب-حينما تظن أن لها الحق في أن تتدخل في خصوصيات ابنتها حينما تتزوج، فتدخل بينها وبين زوجها، تأمر وتنهى، حتى في ما يتصل بالأثاث ومكانه، وترتيب المنزل والضيوف، وإلى آخر ما يمكن أن تتدخل فيه-ما يُعرَف بين قوسين بالحماة-في شؤون ابنتها، فلا يُنكَر أن للأم حقاً عظيماً على الولد ذكراً كان أو أنثى إلا أن ذلك لا يُسوِّغ أن يكون للآباء والأمهات سُلْطَةٌ مُطْلَقَةٌ يُدِلُّونَ بها على أولادهم.

 

وهنا أنا أستبق المتصلين فأقول بأن بعض الجوانب المالية التي يُسْتَشْهَدُ لها بحديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "أنتَ ومالُكَ لأبيكَ" فُهِمَتْ في الحقيقة على غير وجهها، فإن المقصود من هذا الحديث كما هو حديث "خُذِي من ماله ما يكفيكِ وبنيكِ بالمعروف" في المرأة التي يَمنَع زوجها النفقة عنها وعن ولدها إنما ذلك في مقدار الضروريات والحاجيات.. حديث "أنتَ ومالُكَ لأبيكَ" وحديث "خُذي من ماله ما يكفيك وبنيك بالمعروف" إنما كلها مشروطةٌ بحالات الضرورة والاحتياج الفعلي، وأن يكون ذلك بالمعروف، وبِقَدر، وأن يكون ذلك أيضا حينما لا تكون الطريقة الواضحة السهلة مجديةً مع الأولاد أو مع الأزواج في الحديث الآخر؛ لأن هناك روايات أخرى كقوله-صلى الله عليه وسلم-: "كلٌّ أحق بماله" وفي رواية "حتى الوالد وولده"، فخلاصة ما عند أهل العلم في هذا الحديث هو ما قدمتُه من أن المقصود .. وهذا الكلام عند المُرَخِّصين، وإلا فبعض علمائنا كالشيخ موسى بن أبي جابر يرى أن الذي يأخذ من مال ولده يعتبر لصّاً هكذا تعبيره، وبالتالي يُجْرِي عليه أحكام اللصوص، طبعا مع وجود الشبهة التي تدرأ الحدّ، لكن الحاصل بأن من قال من الفقهاء بهذا الحديث وأخذ به إنما أخذ به في هذا النطاق الذي بينته فيما مضى.

 

مقدم البرنامج: هذا موضوعٌ مهم في الحقيقة، تدخلات الآباء في خصوصيات أبنائهم تشكلت في أشكالٍ مختلفة، وتمثلتْ في أمورٍ متعددة؛ ولكن كما تفضلتم هناك مجموعة من النصوص تجعل الأبناء يحجمون عن مواجهة آبائهم وأمهاتهم؛ نظراً لأن الأمر ربما سيؤدي إلى العقوق، نحن نحتاج إلى مزيدٍ من التفصيل حول هذا الموضوع من خلال السؤال الذي نوجهه لمستمعينا الأكارم حتى يشاركوا كذلك في الإجابة: ما رأيكم أنتم أيها الإخوة المستمعون والمستمعات، هل ترون أن للأولاد حقوقاً على آبائهم وأمهاتهم إذا شبّوا وصاروا رجالاً ونساءً؟ وهل يُسوِّغ ذلك أن يتدخل الآباء والأمهات في خصوصيات أولادهم خاصةً فيما يتعلق بالحياة الزوجية والوظيفية والاجتماعية وغيرها؟ نريد منكم إجابةً حول هذا الموضوع من خلال اتصالكم، ونحن في انتظاركم.

 

مداخلة متصلة: عندي مداخلة بسيطة:

بالنسبة لتربية الآباء والأمهات نجد في هذه الأيام أن الأهل أحيانا يكونون منشغلين كثيراً عن أولادهم، أنا أكلم كل أم وكل أب أن التفتوا لأولادكم وخصوصاً في التربية الدينية؛ لأن الأولاد سيكونون محتاجين كثيراً للتوجيه الديني.. الحث على الصلاة وقراءة القرآن أي التربية الدينية بمجملها، هذا من ناحية.

والأمر الآخر بالنسبة لتدخل الآباء في حياة الأولاد: أنا الذي أراه أن تدخل الآباء أحيانا يكون مفيداً في حالة أن الأم أو الأب إنسان حكيم وجيد وعنده من الثقافة والوعي وسِعَة الصدر الكثير؛ فإنه سيساعد الأولاد على اجتياز بعض الصعاب في حياتهم، وأن لا يكون تدخلاً كثيراً.. لا يكون تدخلاً في أشياء لا تخصه، هو تَدخُّل في التوجيه العام لحياة البنت والولد، وخاصة أن الأولاد هذه الأيام عندهم مشاكل كثيرة، أولادنا هذه الأيام ليسوا مثل أولاد زمان كانوا يطيعون الوالدين، ويعملوا الذي عليهم بدون توجيه، الآن يوجد توجيه ولا يوجد طاعة.

 

مقدم البرنامج: طيب أختي أنتِ مع تدخُّل الآباء والأمهات في حياة أبنائهم هذا التدخُّل في رأيكِ يكون في صيغة الأمر والنهي أم فقط من أجل النصيحة ومن أجل نقل الخبرات؟

 

المتصلة: في النصيحة فقط..

الأولاد تزوجوا فلهم حياة مستقلة.. لهم حق مثلما أنتَ عشتَ حياتك هم أيضا يعيشوا حياتهم؛ لكن في حالة أننا نرى أن أولادنا يتخبطون أحيانا كأن نرى البنات لا تطيع أزواجها الطاعة الكافية أو أن الأولاد لا يقومون بحق الزوجة بطريقةٍ طيبة وكما أمر الله سبحانه وتعالى فالمفروض من الأم والأب إذا كان إنساناً واعياً وإنساناً فاهماً المفروض أن ينصح ابنه أو ابنته للتوجيه الصحيح، وهذا هو التدخل، أما أكثر من ذلك فلن يكون فيه تَدخُّل؛ لأن الحياة الزوجية خاصة بالزوج والزوجة.  

 

مداخلة متصل آخر: السؤال سهلاً في ظاهره، وطبعا أمراً ليس بسهلٍ عندما نتعمق في التفكير به، أنا قد أحصر التدخل وما يحدث من خلافاتٍ في التدخل في صراعين: أولهما صراع الفكر، والثاني صراع العمر، صراع الفكر أعني به هنا: أنه طبعا سلطنتنا الحبيبة كانت لفترةٍ قريبة بثقافةٍ مختلفة، آباءنا وأجدادنا لهم ثقافة معينة.. هناك فكر معين قد يُطلَق عليه بعض المرات "صراع أجيال"، وهذا هنا هو مربط الفرس في بعض الخلافات في المعاملة بين الآباء والأبناء، فالأبناء حاليا داخَلَتْهُم ثقافة مختلفة نهائياً عن ما ألفه آباءنا وأجدادنا، وأتكلم هنا من بأعمار الخمسة وأربعين سنة فما فوق، وهم الأكثرية..

 

مقدم البرنامج: أي عاصروا نوعية معينة من تعامل الآباء مع أبنائهم..

 

المتصل: صراع العمر.. صراع الفكر، هؤلاء الناس عاشوا في فكرٍ مختلف.. بأسلوبٍ مختلفٍ فجاء الأبناء-الحمد لله-في عهدٍ مختلف وبفكرٍ آخر فنجد هنا الخلاف، والخلاف الآخر العمر: فمثلاً تجد أن بعضنا نحن كأبناء أو أبناءنا نصل إلى مرحلةٍ عمريةٍ معينةٍ نظن أننا وصلنا إلى أنه تمكنَّا من أن يكون لنا استقلال في الرأي واستقلال في التفكير وعقب هذا نَكبُر ونكتشف أنَّا فعلاً كنا في سنٍّ معين لم نكن نعي كل الأمور، فهنا أمران: صراع فكري، وصراع عُمرِي؛ ولكن في مجمل الحديث بالتأكيد الآباء يجب أن يكون لهم الاحترام، ولا نَخرُج أبداً من مجمل تشريعنا الإسلامي، ونعاشرهم بالمعروف وبالطاعة في الحياة، وأيضا قد نتعلم وقد نصل من العلوم ومن مستويات التعليم ومن الفكر ومن العمر فسؤالي على ما تحدثتُ فيه وعلى سؤالكم: متى يستقل الابن عن أبويه في مرحلة من العمر؟ هل هي مرحلة عمرية؟ هل هي مرحلة فكرية؟ بالضبط ما هي المرحلة التي نقول شرعاً يجوز للابن أن يستقل برأي ولا يعتبر عاقّ؟ وطبعاً الأمر لا يمكن أن أختصره في مكالمة، وأنتم فيكم البركة، وإن شاء الله الحديث يُخْرِج لنا فعلاً بحقيقةٍ معينة نعيها، ونأخذ بها، جزاكم الله خيراً. 

 

مداخلة متصل ثالث: فقط عندي نقطتان:

النقطة الأولى من ناحية تدخل الآباء في الأولاد يكون كنصيحة فقط، فالولد بعدما يبلغ سن معينة اثنين وعشرين.. ثلاث وعشرين سنة يصبح شخصية مستقلة بنفسها، فالأب إذا أراد أن يتدخل في شيءٍ يخص ابنه فإن تدخله يكون كنصيحة، يريد ابنه أن يأخذ بالنصيحة فأهلاً وسهلاً، لا يريد أن يأخذ بالنصيحة فهو إنسان حرّ في حياته، لأنه الآن صار رجلاً.. فاهماً.. عاقلاً.. ودارساً لكل الأمور.

من ناحيةٍ أخرى أنا عندي سؤال من واقع تجربة: أنا كنتُ أريد أن أتقدم لفتاة، فقال الوالد والوالدة: إذا تقدمتَ أنتَ لهذه البنت فنحن غير راضين عليك لا دنيا ولا آخرة ، مع أن الفتاة ما عليها كلام أبداً، أنا أريد أن آخذ رأي الشيخ حول هذه النقطة، والفتاة لا يعيبها شيء، اللهم فقط السبب الذي جعلهم يقولون ذلك الكلام أنهم يريدونني أن أتقدم لفتاةٍ أخرى من أهلنا، فهم قالوا إذا أنتَ تزوجتَ هذه الفتاة فنحن غير راضين عليك لا دنيا ولا آخرة، مع أنه ما كان بيننا خلاف.. ما كان بيننا أي شيء فقط اللهم النقطة الوحيدة التي صارت هي هذه الفتاة..

 

مقدم البرنامج: هذا تَدخُّل إذاً في الاختيار وليس بشكل نصيحة..

 

المتصل: نعم تَدخُّل في الاختيار، فأنا أريد أن أسمع الإجابة.

 

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ الأخت المتصلة ترى أن الاهتمام بالجانب الديني وتقوية الوازع الديني لدى الأبناء مهمٌ جداً إلا أن الناس ربما اشتغلوا عنه بأمورٍ كثيرة، ما رأيكم فيما قالت؟

 

الشيخ كهلان: نحن نتفق معها، وقد ذكَرنا في ما مضى من حلقات هذا الموضوع حديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-"علموا أولادكم القرآن، فإنه أول ما ينبغي أن يُتَعلَّم من علم الله هو"، وحديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-الآخر"مُروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع"، وقلنا بأن ما نتحدث عنه من حقوقٍ للأولاد على آبائهم وأمهاتهم هي أمانات حمَّلهم إياها ربهم تبارك وتعالى، فإذا كان الواحد يريد أن يُنجِّي نفسه وأن يَقِيَّ نفسه وأهله ناراً وقودها الناس والحجارة فإن عليه أن يَفِيَّ بحقوق هذه الأمانات، وأن يؤديها خير الأداء، ولا يكون ذلك إلا بإحسان التربية، أما أن يُطالِب الوالد أو الأم بما له من حقوقٍ على الآخرين.. على أولاده، ويُطالِب بالإحسان والبرّ، وما كان قد أحسن في التربية، ولا أصلح من شأن ولده، ولا عُنِي بهم؛ فإن ذلك يكون من التطفيف في الكيل، والله عز وجل جعل ذلك من الخسران {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ{2} وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (المطففين:2-3)،

 

وأنا في ظني أن ما ذكرته الأخت المتصلة يتفق مع هذا الذي تحدثنا عنه؛ لكن هناك نقطة هي أشارت إليها، وهي أن ما نراه الآن هو مزيد عقوقٍ من الأولاد نحو آبائهم وأمهاتهم في مقابل أن هناك تربيةً، فهناك تربية وتوجيه من الآباء والأمهات للأولاد لكن الثمرة على خلاف ما يَأمَلُون، وأنا أقول أنا أختلف معها في ذلك، فإن الثمرة إنما تكون تَبَعَاً للغِراس، فإذا كان الغَرس صالحاً..، والغَرس الصالح إنما يكون من حسن اختيار الزوجين لبعضهما البعض، ثم من مراعاة الآداب الشرعية في العشرة والزواج، ومن مراعاة الإحسان والمعروف بين الزوجين، ومن فهمهما ووعيهما لمسؤولية التربية بعدما يوجد الولد حتى وهو في بطن أمه، ثم بعد ذلك حينما يولد، هناك قصة تُروى عن عمر بن الخطاب-رضي الله تعالى عنه-أن رجلاً جاء يشتكي له، يقول له: ما حقي على أبي؟ قال: حقه لك أن يختار لك أُمَاً صالحة، واسماً حسناً، وأن يعلمك القرآن، قال له: فإن أبي قد اختار لي امرأةً زنجية كانت تحت مجوسي، وسمّاني جُعْلاً، وما علمني حرفاً من القرآن، فهل له عليَّ حق الطاعة؟ فقال له عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-: لا، ليس له عليك حق الطاعة.

 

مقدم البرنامج: طيب فضيلة الشيخ هل هذه الاشتراطات عندما يقوم بها الأب في اختيار الأم هل نتائجها تكون مُطَّرِدة؛ لأنه في بعض الأحيان قد يأتي بعض الأولاد صالحين وبعضهم خلاف ذلك.

 

الشيخ كهلان: نحن لدينا أنبياء ورسل وقد ابتُلوا في أولادهم، فهذا نوح-عليه السلام-دعا ابنه لكي يكون من المؤمنين الصالحين فيركب معه في الفلك إلا أنه أبى وامتنع، لا.. هي ليست مُطَّرِدَة؛ لكنها هي العموم الأغلب، حينما يحسن المرء الغراس، والتربية، والتَّعهُّد فإن كما هو الحال في الزرع حينما يختار البذرة المناسبة والتربة المناسبة ويتعهَّد بذرته تلك بالرعي والحرث والرعاية اللازمة ويُجنِّب الشجرة بعد ذلك الآفات والعلل فإن المرجو في الغالب أن تكون الثمرة بإذن الله تعالى صالحة، فإن لم تكن كذلك فقد أدى ما عليه من أمانة، والله عز وجل جعل الأموال والأولاد فتنة، عليه هو أن يُحسِن وأن يُخلِص، ثم بعد ذلك نقول لا يستسلم، يلجأ إلى ربه جلَّ وعلا بالدعاء بأن يُصلِح له ذريته، ويتعهد هذا الولد مهما كان بالنصح، والرعاية، والوعظ، وما يدعوه إلى الخير والاستقامة.

 

مقدم البرنامج: نحن لازلنا في سؤالنا للجمهور ما رأيكم هل ترون أن للأولاد حقوقاً على آبائهم وأمهاتهم إذا صاروا كباراً رجالاً ونساءً، وهل يُسوِّغ ذلك أن يتدخَّل الآباء والأمهات في خصوصيات أولادهم فيما يتعلق بالحياة الزوجية، والوظيفية، والاجتماعية؟

فضيلة الشيخ الأخ المتصل الثالث والأخت المتصلة يشتركوا في موضوع التدخُّل أنه ينبغي أن يكون فقط من باب النصيحة؛ ولكن طبعا سؤال الأخ المتصل الثاني فيه مجموعة من التفصيلات نجيب أولاً على هذا.

 

الشيخ كهلان: جوابنا واحد للجميع حتى كلام الأخ المتصل الثاني-مشكوراً، بارك الله فيه-وكلام الأخ المتصل الثالث..

نحن الذي نتحدث عنه وحتى صياغة السؤال أتت لكي تُنَبِّه إلى أن حق الوالدين لا يسقط مطلقاً، لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بمصاحبة الوالدين بالمعروف حتى ولو كانا مشركَين، إلا أن هذا لا يُسوِّغ.. هذا الذي نريد أن نقوله نحن الآن لا نتحدث عن برِّ الوالدين وعن حقوق الوالدين على الأولاد هذا أمرٌ مُسَلَّمٌ، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ...} (الإسراء:23)؛ لكننا المقدار الذي نتحدث عنه هو أن لا يُستَغَلَّ هذا لكي يُسوِّغ الآباء والأمهات لأنفسهم أن يتدخلوا في سائر شؤون أولادهم وقد بلغوا مبالغ الرجال والنساء وصاروا مكلفين عقلاء رشداء، هذا لا يُسوِّغ أن يتدخلوا في سائر شؤونهم وفي خصوصياتهم ويظنون أن على الأولاد السمع والطاعة لأنهم مأمورون بذلك لا..، السمع والطاعة فيما أولاً لا يُسخِط الله سبحانه وتعالى، وفيما هو من حقوقهم عليهم، أما في ما يخصُّ شؤون أنفسهم فذلك ليس فيه للوالدين دَخْلٌ إلا في ما أعطاه الله سبحانه وتعالى للأولياء.

 

مداخلة متصل رابع: بالنسبة للأهل طبعا ليس لهم أن يتدخلوا في أمور أولادهم الزوجية إلا بالنصح فقط، وإذا كان بين الولد وزوجته بعض المشكلات فهنا طبعا لا يتدخل الأهل بتاتاً إلا إذا كان بالنصح فقط، فلابد أن ينصح الأب ولده أو الأم تنصح ولدها..

 

مقدم البرنامج: لكن أخي في بعض الأحيان هذا النصح يُغَلَّف بأمرٍ آخر، فهو ينصحه ويقول: والله أنا نصحتك، إذا ما تسمع كلامي كان لا أنا أبوك ولا أنتَ ابني..

 

المتصل: لا.. لا طبعا، هذا لا يصح، الإسلام لم يأمر بهذا، الأب له حقوق وعليه واجبات في نفس الوقت..

 

مقدم البرنامج: إذاً فقط نصيحة عادية؟

 

المتصل: نصيحة فقط لا غير.

 

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ الأخ المتصل الثاني-نحن لازلنا في موضوع التدخلات-يرى أن الأمر يحكمه معياران المعيار الفكري والعُمرِي، ثم طبعا استمعتم إلى تفصيل ما قال لا نحتاج إلى إعادته؛ ولكن السؤال الذي طرحه في النهاية الاستقلال الذي يُراد للابن من الناحية الشرعية هل يكون عند بلوغه مرحلة عمرية معينة أم مرحلة فكرية؟ نحتاج إلى توصيف هذا الاستقلال من هذا الجانب.

 

الشيخ كهلان: أولاً هو ذَكَرَ مسألة أن من الأسباب التي تؤدي إلى وجود فجوة في الصلة بين الآباء والأولاد هو قضية العمر وقضية الفكر؛ لكن لما صور ذلك بأنه صراع فقال صراع أجيال يشير به إلى الاختلاف العُمرِي، وصراع فكر يشير به إلى الاختلاف الفكري أنا شخصياً لا تعجبني كلمة صراع، ونحن نتحدث عن آباء وأولاد.. نتحدث عن صِلَة بين الأولاد وآبائهم وأمهاتهم أو نتحدث عن دوائر صِلات المؤمنين؛ لكن هذا قد لا يكون لأسبابٍ إلا من باب أننا نريد أن نؤلف، وإلا قد يكون حكاية الواقع تصل أحيانا نعم إلى أن يكون هناك ما هو أقرب إلى الصراع منه إلى مجرد الاختلاف، ولا نتمنى أن يصل إلى الصراع؛ لكن هذا مألوف هي سنة الحياة هكذا، فمن وصايا علي بن أبي طالب-كرم الله وجهه-أنه كان يقول أن أولادكم خُلقِوا لغير جيلكم؛ فلذلك لا ينبغي أن يُطالَب الأولاد بأن يسيروا على نَسَقِ اختيارات ومسالك الآباء والأمهات؛ لأن الجيل كله سوف يكون مختلفاً.. الجيل الذي فيه يَنْشَؤون ويُنتِجون ويعملون يختلف عن الجيل الذي نشأ فيه الآباء والأمهات، وهذه هي طبيعة الحياة متغيرة ومتجددة.

 

لكن يبقى أن هناك أسساً، فالآباء والأمهات عليهم أن ينقلوا خبراتهم ونصائحهم وتوجيهاتهم إلى أولادهم، هذا المقدار مطلوب، ويظل أن على الأولاد رعاية آبائهم وأمهاتهم بل عليهم حقوق.. كلما تقدَّم الأب والأم في العمر كانت حقوقهم على أولادهم أكثر؛ لكننا هذا المقدار كما قلتُ متفقٌ عليه لا نريد أن نكرره كل مرة وإنما نتحدث هل يُسوِّغ ذلك أن يتدخل فيأخذ مثلاً الوالد من مال ولده كما يشاء، ويقول أنتَ ومالك لأبيك، ويأتي أيضا ويفرض على ابنه أن يتزوج امرأةً بعينها وهو لا يرغب فيها أو أنه يمنع ويعضل ابنته من أن تتزوج بمن تريد ولا عيب فيه من خُلُقٍ ودينٍ ونسبٍ وسائر ما يُشتَرط في الكفاءات لا ليس ذلك لهم؛ ولذلك هذا يجيب على سؤال الأخ المتصل الثالث أيضا بأنه نعم هو لأبيه الطاعة وحسن العشرة والبر والإحسان، لكن هذا اختيارٌ يخصه هو؛ ولذلك نحن أيضا من باب الإصلاح نقول بأنه ينبغي للولد أن يراعي والده في اختياره؛ لكن ذلك ليس بِمُلْزِمٍ له، فإن لم يمكن فليتبع معه أسلوب الرفق واللين والمناصحة، وليتدبر في أحواله، وليفكر في أمر نفسه، فإن أطاع والده فكان ذلك مزيد برّ.. كان ذلك من ما يُحسَب له الأجر والثواب عند ربه تبارك وتعالى؛ لكن لا يؤاخَذ شرعاً إن لم يسمع لأبيه في هذا الخصوص.

 

أُجيب على النقطة التي ذكرها الأخ المتصل الثاني في ختام حديثه، وهو أنه متى يستقل الولد شرعاً باختياراته وقراراته وحياته، والأصل أنه إن كان أهلاً لكي يتحمل التكليف الشرعي فالأصل أنه أهلٌ لكي يَحمِل أعباء الحياة؛ لأن التكليف الشرعي أعظم، ومسؤوليته جسيمة، وهو مُؤاخَذٌ بفعله ولا يدري أيضا متى يفجؤه ريب المنون، فإذا ما قصَّر أو أخطأ أو انحرف فإنه سوف يُحاسَب على ذلك كما يُحاسَب لأنه بالغٌ عاقلٌ راشد، فإذاً أنتَ كما ذكرتَ هو الجانب العُمُرِي مُعتَبر، وجانب الرشد أيضا مُعتَبر؛ ولذلك حديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قال: "رُفِعَ القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ"-أو "... حتى يحتلم" في رواية-، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ "، واستشهدنا بقوله سبحانه وتعالى في ما يتصل بتَملُّكِ الأموال-أموال اليتامى-{... فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ...} (النساء:6).

 

مقدم البرنامج: إذاً معنى ذلك أن المسألة لا تعود فقط إلى العمر إنما أيضا مع العمر هو موضوع الرُّشد أو النضج.

 

الشيخ كهلان: الرُّشد نعم.. وإن كان هو البلوغ في الأصل منوط ببلوغ سن التكليف؛ ولذلك هي مسؤولية أخرى تضاف إلى الآباء والأمهات أن يُهَيِّئوا أولادهم لهذه المرحلة سواءً ما يتصل بالتكاليف الشرعية وما يتصل بتكاليف الحياة وأعبائها وتدبير أمورها.

 

مداخلة متصل خامس: أنا عندي والدان كبيران في السن، يعيشان في البلد، وأنا أعيش في مكان آخر بحكم ظروف عملي، فأكثر من مرة أحاول بأن أنقل الوالدين معي إلى نفس المسكن ليعيشا معي؛ لكنهما يفضلان العيش في نفس المكان بدون أن ينتقلا معي، فهل يعتبر هذا من العقوق على الرغم من أنه طبعا في المناسبات.. في الإجازات أقوم بزيارتهم وتوفير لهم كل ما يلزم من متطلبات الحياة؟

 

مقدم البرنامج: هل هناك مطالبة من الوالدين أن تَسكُن معهم مثلاً؟

 

المتصل: لا يوجد مجال للمطالبة طبعا، والحمد لله كل ما يلزم يتم توفيره لهم بشكل أسبوعي وبشكل شهري من مصاريف مالية ومستلزمات مادية بأكملها؛ ولكن أنا لدي الرغبة بأن يعيشا معي ولو جزء من الوقت في خلال الشهر مرة.. مرتين.. أسبوع.. أسبوعين.. ثم يرجعان إلى المكان الذي يعيشان فيه بصفة دائمة، فهل يعتبر هذا من العقوق أم يعتبر هذا حق من حقوقهم اختيار المكان؟ طبعا أنا لا أستطيع إجبارهم على أنهما يعيشا معي لما فرضته عليَّ ظروف العمل.

 

مقدم البرنامج: فضيلة الشيخ هناك في موضوع المصطلحات يحتاج الناس إلى مزيد توضيح، فكثيراً ما تُذيَّل فتاوى العلماء بقولهم "والاحتياط"؛ لكن المتلقي لكلمة الاحتياط يرتقي بها إلى موضوع اللزوم أي أن الذي ينبغي أن يفعله-بل يجب نقول-هو ذلك الذي صُنِّف من باب الاحتياط، أيضا الآن وردت عندكم في لفظتكم فضيلة الشيخ كلمة وهي "زيادة برّ" لو أنه استمع إلى أبيه وأمه في موضوع الاختيار-اختيار الزوجة-فإن ذلك فيه زيادة برّ، الناس عندما تستمع إلى مثل هذه الكلمات الطيبة منكم تظن أنها يعني عليها الوجوب.

 

الشيخ كهلان: لا ليس الأمر كذلك، حينما نقول مزيد برّ أي مزيد أجر وثواب؛ لكن أنا استدركت مباشرةً وقلتُ "وليس عليه في عدم إطاعة والده في ذلك ليس عليه إثمٌ ولا مؤاخذةٌ شرعاً"؛ لأن هذا من الأمور الخاصة به في نفسه، وكما قلنا في موضوع المال إن كان الولد محتاجاً للمال فليس للأب أن يأخذ من ماله.. إن كان الولد محتاجاً لنفسه ولمن يعول ليس له ذلك.. أو كان هذا المال متعلقاً بشركاء آخرين ليس له أن يأخذ من ماله، وكذا بالنسبة للأب إن كان المال إنما يريده لتحسينيَّات ولترفٍ ولأمورٍ غير ضروريةٍ أو حتى غير حاجيَّة فليس له أن يأخذ من مال ولده، إذاً كذا الحال بالنسبة لسائر الحقوق.

 

لكن هناك حقوق أبقاها الشارع، كما قلنا ولاية التزويج، أيضا بالنسبة للبنت الخروج ينبغي أن يكون بل يجب أن يكون باستئذانٍ من ولي.. السفر يكون مع ذي مَحرَم بالنسبة للنساء، هذه اعتبرها الشارع.. هذه أمور هي من اعتبار الشارع، وإلا فنحن نجد أي أحياناً يَظُن الشاب أو الفتاة بأن المصلحة والأجر والثواب في أمرٍ ما، بينما نجد أن الشرع يجعل الأجر والثواب في ما هو دون ذلك بكثير في نظر الناس، كمثلاً الموازنة بين الجهاد والقيام بشؤون الوالدين أو أحدهما، فالرجل الذي جاء يستأذن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-للجهاد، فقال: "أحيٌّ والداك؟" فقال: نعم، قال: "ففيهما فجاهد"، وحتى الجهاد إلا في النفير العام لا يخرج إلا بإذن والديه، بينما يَظُنّ هو أنه يريد أن يجاهد وأن ذلك فيه الشهادة وفيه الأجر والثواب مع أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يبين بل يمنع من استَأذنه من الذهاب إلا بإذن والديه، وأن جهاده وأجر ثواب ذلك يُحسَبُ له بقيامه بشأن والديه.

 

مقدم البرنامج: طيب فضيلة الشيخ هذه الدقيقة التي بقيت نقسِمها بين مكالمة الأخ المتصل الخامس وأيضا في ما يتعلق بسؤال الأخ المتصل الثالث في بعض الأحيان هذا التدخل تُرفَق معه أمورٌ أخرى فالأم مثلاً تقول: إذا تزوجتَ تلك المرأة فلا أنا أمك ولا تمشي في جنازتي.

 

الشيخ كهلان: لا، نحن هنا نخاطب الآباء والأمهات بأن ذلك ليس لهم، وأن ذلك يمكن أن يؤدي بهم إلى المعصية-والعياذ بالله-؛ ولهذا قلنا إن البرّ بر الوالدين والإحسان إليهما لا يُسوِّغ للوالدين أن يكلفا ولدهما ما ليس لهما، ولا أن يكلفاه ما لا يطيق، ولا أن يُدخِلا عليه الحَنَتَ أو يُثَرِّبَا ويُحَرِّجَا عليه خاصةً في ما-كما قلنا-لا دخل.. لا منفعة لهما في ذلك.

 

مقدم البرنامج: الأخ المتصل الخامس يقول قام بكل ما يلزمه اتجاه والديه..

 

الشيخ كهلان: نعم أنا سمعتُ سؤاله، ونقول له بارك الله فيك، وزادك حرصاً على برِّ والديك، وقد أديت ما عليك، ولا شك أنه لا إثم عليك ولا حرج إن كنتَ كما وصفتَ، ونحن فهِمنا من السؤال أنك تريد أن يكونا قريبين منك حتى تكون أكثر صلةً وبراً بهما، وكم نتمنى أن يكون الأولاد أن نكون جميعاً في الحقيقة بررةً بآبائنا وأمهاتنا، وأن نسعى قدر استطاعتنا إلى أن نكون مؤدين لحقوقهم علينا، وأن نكون في ذات الوقت أيضا آباءً وأمهات مؤدين لحقوق التربية، مراعين لها، عطوفين على الصغار، ومؤدين لحق التربية بما يرضي الله سبحانه وتعالى.

 

مقدم البرنامج: بحول الله سبحانه وتعالى..

إذاً نحتاج معنى ذلك إلى حلقةٍ رابعة في موضوع مسؤولية التربية، ما رأيك؟

 

الشيخ كهلان: طيب.. بإذن الله عز وجل.

 

مقدم البرنامج: إذاً أعزاءنا الكرام في نهاية هذا اللقاء نشكركم على مشاركتكم واستماعكم، نشكر فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة، وكما قلنا قبل هذا الشكر الذي نتوجه به إليكم أن موضوعنا القادم سيكون تكملةً لهذا الموضوع وهي الحلقة الرابعة ستكون-بحول الله تعالى-من مسؤولية التربية، نريد منكم مشاركة، وتفاعل حول الموضوع؛ لأنه بالفعل يهُمُّنا ويَهُمُّ مجتمعاتنا وأبناءنا، شكراً لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

انتهت الحلقة