قال أبو سفيان: خرجت آمنة زوج جابر[1]إلى مكة ذات سنة للحج، وأقام جابر تلك السنة ولم يخرج، فلما رجعت سألها عن كَرِيّها-أي: المستأجر المتكفل بقافلة الحج- فذكرت منه سوء الصحبة، ولم تُثنِ عليه بخير، قال: فخرج إليه جابر فأدخله الدار، واشترى لإبله علفاً، وعولج له طعام، فلما تغذَّى خرج به إلى السوق، فاشترى له ثوبين كساه بهما، ودفع إليه ما كان مع آمنة من قربة وأداة، وغير ذلك من آلات السفر .

   فقالت له آمنة: « أخبرتك بسوء الصحبة، ففعلتَ معه ما أرى؟! » قال: « أفنكافيه بمثل فعله فنكون مثله؟! لا؛ بل نكافيه بالسوء خيراً، وبالإساءة إحساناً » . (طبقات المشايخ، ج2 / 210 ، وكتاب السير ، ج1 / 70)

*******

   إن النفوس الكبيرة لا تحمل شيئاً من الإساءة أو الحقد على أحد، مهما كانت إساءته، إلا ما كان حقاً للشرع، فإنهم يغضبون لله سبحانه لا لأنفسهم، ومن كالإمام أبي الشعثاء جابر بن زيد- رحمه الله- في سعة صدره، وكثرة حِلمه، وعمق فقهه، وعلو منزلته في العلم والعمل والصلاح والتقوى!

 

   إنه رجل في أمة، وأمة في رجل، ويكفيه شهادة أكبر أساتذته ابن عباس ابن عم رسول الله r ورضي الله عنهما، إذ قال عنه: « اسألوا جابر بن زيد, فلو سأله أهل المشرق والمغرب لوسعهم علمه », وقال عنه أيضاً: « لو أن أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علماً من كتاب الله » .

 

   ولما مات الإمام جابر بن زيد قال قتادة: « اليوم مات أعلم أهل العراق »، وقال عنه إياس بن معاوية: « أدركت الناس وما لهم مفتٍ غير جابر بن زيد » .

 

   ويكفي أنه أدرك سبعين رجلاً من أهل بدر فحوى ما عندهم من العلم، كما أخبر بذلك عن نفسه، وقد أخذ العلم عنه خلق كثير، ووصل عدد الذين رووا عنه أكثر من ثلاثة وسبعين راوياً، وليس الإمام جابر- رحمه الله- ممن يحتاج إلى تزكية بعد تلك الشهادات العظيمة من أولئك الأفذاذ .

 

   أما عن عبادته وخُلُقه ونُبله، فلندع المواقف الآتية تسطر بأحرف نورانية سيرة ذلك العبد الصالح والإمام العالم t:

   قال- رحمه الله وأجزل له المثوبة-: « نظرت في أعمال البر، فإذا الصلاة تجهد البدن ولا تجهد المال، والصيام مثل ذلك، والزكاة تجهد المال ولا تجهد البدن، والحج يجهد المال والبدن، فرأيت أن الحج أفضل من ذلك كله »[2]، ولذلك لم يتخلف- رحمه الله- عن الحج سنة واحدة قدر جهده إلا ما ندر.

 

   وفي أحد الأعوام أرسل إليه عامل البصرة، أن لا تبرح العام، فإن الناس يحتاجون إليك، فقال: « لا أفعل » . فسجنه، فلما كان غرة ذي الحجة جاءه الناس، فقالوا: أصلحك الله؛ قد هلَّ هلال ذي الحجة، فأرسل إليه فأخرجه من السجن، فأتى منزله، وله ناقة في الدار، قد كان هيأها للخروج، فأخذ يشد عليها الرحل، ويقول: )مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا([3]، ثم قال: « يا آمنة؛ أعندك شيء؟ » قالت: نعم، قال: « فاجعليه في جرابي، فهيأت له زاده في جرابين »، ثم قال: « من سألك فلا تخبريه بمسيري يومي هذا »، فخرج من ليلته، وانتهى إلى عرفات والناس بالموقف، فضربت الناقة بجرانها الأرض وتجلجلت، فقال الناس: ذكِّها ذكِّها يا أبا الشعثاء. قال: « حقيق لناقة رأت هلال ذي الحجة بالبصرة أن لا يفعل بها هذا »، ثم سلمها الله تعالى[4].

 

   إن عمل الخير عند الإمام جابر- رحمه الله- لا يساويه شيء من متاع هذه الدنيا، لذلك لا يُقدِّم عليه شيء، عن صالح الدهان قال: « إن جابر بن زيد كان لا يماكس في ثلاث: في الكراء إلى مكة، وفي الرقبة يشتريها للعتق، وفي الأضحية »، قال: « كان جابر لا يماكس في كل شيء يتقرب به إلى الله عزوجل »[5].

 

   إنه كثير الضراعة إلى ربه عزوجل بأن يقضي له حوائج ثلاثاً، عن الحصين عن جابر بن زيد أنه قال: « سألت ربي عن ثلاث، فأعطانيهن، سألتُ زوجة مؤمنة، وراحلة صالحة، ورزقاً حلالاً كفافاً يوماً بيوم »[6].

 

   إنه شفوق رقيق القلب، حتى على الطير في وكناته، قيل عنه: إنه قعد ذات يوم، فوقعت بيضة خُطَّاف من عشها فانكسرت، فنظر إلى أمها تدور عليها- وقد كان له ولدان- فقال- رحمه الله-: « وددت أن يموت واحد منهما، وتسلم بيضة هذه المسكينة، وودت أن يموتا- يعني ولديه- هكذا في الطفولة؛ لئلا يكبرا فيعملا الذنوب، فيدخلا النار، وأموت بعدهما، وتعقبنا آمنة؛ لأني لا أحمد أن أعيش في الدنيا يوماً واحداً عازباً»، فكان أمره كما قال، وأوصى أن تغسله آمنة، فمات فغسلته[7].

   ما أروع قوله في شأن ولديه « وودت أن يموتا هكذا في الطفولة؛ لئلا يكبرا فيعملا الذنوب، فيدخلا النار »، وإذا كان الإشفاق على صبيين صغيرين، فكيف لا يشفق على نفسه أسير الخطايا والآثام؟!

 

   إنه العبد الذي راقب الله، وخشيه خشية عظيمة، حتى إنه ليتحسس آثار ذنوبه فيما حوله، فهو القائل- رضوان الله عليه-: « إني لأعرف أثر ذنبي في زوجي ودابتي » .

 

   ذكر أبو سفيان قال: أصاب الناس على عهد جابر بن زيد ظلمة وريح ورعد، ففزعوا إلى المساجد، قال: فخرج أبو الشعثاء إلى بعض المساجد فجلس فيه يذكر الله، والناس في تضرع وضجة، قال: فلما انجلت تلك الريح وتلك الظلمة، أخذ الناس ينصرفون إلى أسواقهم ومنازلهم، قال: فدعا قوماً كانوا قريباً منه، فقال لهم: « ما كنتم تظنون هذا الأمر؟ » قالوا: « خفنا أن تكون القيامة قد قامت »، قال: « إنما خفتم على الدنيا والإفضاء إلى الآخرة ». قالوا: « نعم »، قال: « لقد خفتم أمراً عظيماًُ، فحق عليكم أن تخافوه ». ثم قال: « أين تذهبون الآن؟ » قالوا: « إلى منازلنا »، قال: « لقد خفتم أمراً عظيمًا ففزعتم إلى الدعاء، ولو جاء ما خفتم لم يُغنِ عنكم ما كنتم فيه شيئاً، فالآن إذ رد الله عليكم دنياكم فاعملوا حين قبول العمل، وأما ما كنتم فيه فلو كان الأمر ما خفتموه لم يُغنِ عنكم دعاؤكم من الله شيئاً »[8].  

 

   وهو العالم المتعمق، صاحب الفكر الثاقب، والذهن المتوقد، وفي حواره للحسن البصري لما حضرته الوفاة، قال له الحسن- وكان صديقاً لجابر-: قل لا إله إلا الله، والإمام جابر يقول: « أعوذ بالله من غدو أو رواح إلى النار »، والحسن يقول له: قل لا إله إلا الله، وجابر يرد عليه: « أعوذ بالله من غدو أو رواح إلى النار»، ثم قال الإمام جابر: يا أبا سعيد ) يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً([9]، فقال الحسن: « هذا والله الفقيه العالم »[10].

 

   إنه يرى أن النطق بكلمة التوحيد عند حضور الأجل مع تضييع العمل، لا تنفع شيئاً، ما لم يصدقها العمل الصالح فيما سبق؛ بل ربما رددها اللسان، وغفل عنها القلب، وكم من مغرور انخدع بذلك!

 

   وهذا الفقه العميق لمقاصد القرآن الكريم، قد أخذه من أعظم أشياخه ابن عباس-رضي الله عنهما- ترجمان القرآن، فقد وقف الحبر ابن عباس مثل هذا الموقف، قال t: « من كان له مال يُبلِّغه حج بيت ربه، أو تجب عليه في زكاة فلم يفعل، سأل الرجعة عند الموت »، فقال رجل: يا ابن عباس؛ اتقِ الله، فإنما يسأل الرجعة الكفار! فقال: « سأتلو عليكم بذلك قرآناً) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ( »[11].

 

   وكم للإمام جابر- رحمه الله- من مآثر غراء، ومواقف مشرقة! لكن بحسبنا أن نقف مع أحد مواقفه الجليلة، بشيء من التحليل والتعليق؛ لأخذ بعض العبر .

 

***

   بين أيدينا هذا الموقف النبيل، يسطع منه نور العفو والإحسان، والأناة والحلم والصفح الجميل، وكلها خِلال كبيرة، لا تجتمع إلا في النفوس العظيمة، وقد ترسم الإمام جابر- رحمه الله- مراشد القرآن الكريم، فوعاها ثم أقام عليها نفسه وأهله.

 

   وكم في القرآن الكريم من آيات بينات تأمر بالحلم والصفح والعفو، والدفع بالحسنى، ومقابلة الإساءة بالإحسان، يقول الله جل جلاله: )وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ([12]، إي والله لا يلاقها إلا كل صبار، ولا ينالها إلا من فاز فوزاً عظيماً.

 

   ويقول سبحانه لرسوله r: ) فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ([13]، ويقول له:) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ([14]، فأخذك بحقك ممن ظلمك حق من حقوقك، ولكن الصبر والصفح أعلى مرتبة، وأرفع مكانة، وهي المنزلة التي رضيها واختارها ربنا جل وعلا لرسولنا الكريم- عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- من ثَم أمره بالصبر، وعدم الحزن، وترك الضيق .

 

وكان سبب نزول هذه الآية ما رواه الدارقطني عن ابن عباس قال: لما انصرف المشركون عن قتلى أحد، انصرف رسول الله r فرأى منظراً ساءه، رأى حمزة قد شق بطنه, واصطُلِم أنفه, وجُدِعت أذناه, فقال: « لولا أن يحزن النساء أو تكون سنة بعدي لتركته حتى يبعثه الله من بطون السباع والطير، لأُمثلنَّ مكانه بسبعين رجلاً »، ثم دعا ببردة وغطى بها وجهه, فخرجت رجلاه، فغطى رسول الله r وجهه، وجعل على رجليه من الإذخر, ثم قدمه فكبر عليه عشراً , ثم جعل يُجاء بالرجل فيوضع وحمزة مكانه, حتى صلى عليه سبعين صلاة, وكان القتلى سبعين, فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت هذه الآية: ) ادْعُ إلى سَبيلِ ربِّكَ بالحِكْمةِ والموعظةِ الحَسَنةِ (-إلى قوله- ) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ(، فصبر رسول الله r ولم يمثل بأحد[15] .

   وقد جاء عن الرحمة المهداة r أنه قال: « من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة، حتى يخيره من الحور العين ما شاء »[16]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله r لأشج عبد القيس‏:‏ « إن فيك خصلتين يحبهما الله‏:‏ الحلم والأناة »[17]‏.

 

***

   لقد وعى الإمام جابر- رحمه الله- كل ذلك، فأثر في سلوكه ومنهجه وحياته كلها، ولا تنبع هذه الخصال الكريمة إلا من القلب الكبير الطاهر النقي، إنه بعث بزوجه آمنة في قافلة الحج، ولما رجعت سألها عن كريها، فذكرت منه سوء الصحبة، ولم تُثنِ عليه بخير، فما كان موقفه؟ هل هاج وغضب لسوء معاملة زوجه؟ مع إعطاء كريها حقه واستيفاء نفقته؟ كلا لم يفعل شيئاً من ذلك، ربما لو وقف أحدنا ذلك الموقف لما احتمل في نفسه، فكيف في زوجه؟!

 

   وكم رأينا مواقف- خاصة في الأسفار- التي هي مظنة التعب والمشقة والعنت، يضيق فيها عطن الإنسان، وتنكشف فيها جواهر الرجال، فيظهر عوار كل ضعيف:

وقيل: في الأسفار تكشفن *** عن خلق الفتى  فيعرفن

فيظهرن جواهر الرجال *** وضدها   وكرم الفعالِ[18]

   كثير منا من يضيق عطنه، ولا يتسع صدره، وتصدر منه كثير من التصرفات التي تنم عن فقدان الحلم والأناة، والصفح والدفع بالحسنى، لأجل أدنى خصام، أو عدم فهم، أو سوء ظن، تثور ثائرته، وتخرج ضغائن نفسه .

 

   أما الإمام جابر فكان أبعد عن كل ذلك، فما التفت إلى ما قالت زوجه، وإن كانت صادقة في حديثها، فأظهر من طيب المحتد، وحسن المعشر، وكرم السجايا، وحميد الخلق ما ينبغي أن يقتدي به فيه كل مسلم، لو وقف موقفه .

 

   إنه حالف الإحسان والصفح، فلم يلتفت إلى الإساءة، وإنما أدخل الرجل داره، واشترى لإبله علفاً، وصنع له طعاماً غدَّاه به، ثم خرج به إلى السوق، فاشترى له ثوبين كساه بهما، ودفع إليه ما كان مع آمنة من قربة وأداة، وغير ذلك من آلات السفر .

 

   إنه ما أبقى من إحسان يُصطنع إلا فعله وزيادة، فبهتت آمنة من صنيعه، وما كانت تستغرب أن يعفو زوجها، لكن أن يغمره بهذا السيل من الإحسان، فذلك مما لا يُقضَّى منه العجب .

 

فقالت له آمنة: أخبرتك بسوء الصحبة، ففعلتَ معه ما أرى؟! قال: « أفنكافيه بمثل فعله، فنكون مثله؟! لا؛ بل نكافيه بالسوء خيراً، وبالإساءة إحساناً » .

 

   تلك هي أخلاق الخُلَّص من عباد الله، إن العبد قبل أن يعامل أخاه، فهو يعامل خالقه ومولاه، فإساءة المسيء لا تضره، كما أن إحسانه لا يضيع إذا وجد طريق القَبول عند الله، وما دامت المعاملة صحيحة، والإحسان خالصاً لوجه الله، فلن يضيع أي عمل مع الله.

 

   ولينظر أحدنا ماذا يصنع الصفح والإحسان في قلب من ساء، إنها بلا ريب تطهره وتقتلع منه أشواك الضغينة والإساءة، ) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(، فمن استحكمت عداوته، وامتلأ حنقاً وغيظاً، فادفعه عنك بالإحسان، فتنقلب عداوته مودة، وقطيعته صلة، وإساءته إحساناً .

 

   وما أحسن ما قاله إمام الأنبياء والمرسلين r فيما رواه أبو أمامة t: « أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان مازحاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان محقاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه »[19]، ولو أنفق أحدنا مِلء الأرض ذهباً، ليؤلف قلباً، أو ليدفع حقداً، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، إلا بعون من الله، ثم حسن المعاملة، ) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ ([20]، وقد وعد الله تعالى العافين عن الناس بجنة عرضها السموات والأرض، وما أحسن ما قيل:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم *** فطال ما استعبد الإنسانَ إحسانُ

   كثيراً ما تستعر العداوات، وتستحكم البغضاء في النفوس، بين الأزواج، والآباء والأبناء، والأهل والجيران، وتظل مستعصية على الحل، قد ركب كل فريق شيطانُه، وزين له سوء عمله، فعاد قلبه أقسى من الحجر الصلد، لا تقطر منه قطرة رحمة، بل يوصد الأبواب في وجه أي صلح أو صفح أو عفو أو مسامحة.

 

   ولو حُسمت مادة هذه العداوات بدواء الصفح والإحسان، لَوُئِدت في مهدها، ولَقُطع دابرها قبل استشرائها واستحكامها .

 

   إنه درس غالٍ، وموعظة جليلة، أراد أن يعلمنا إياها إمامنا جابر بن زيد- رحمه الله، وغفر له- فهل وعينا الدرس؟ حتى نكون خير خلف لخير سلف!

 

[1]- الإمام أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي اليحمدي العماني ، من أكابر التابعين، ولد في عمان وهاجر إلى البصرة لطلب العلم ، وهو بحر العلم ، وسراج الدين ، أصل المذهب ، وإمامه الذي أرسى دعائمه ، صاحب ابن عباس t، أخذ العلم عن كثير من الصحابة حتى قال عن نفسه : « أدركت سبعين رجلاً من أهل بدر فحويت ما عندهم إلا البحر » يعني ابن عباس t الذي قال عنه : « اسألوا جابر بن زيد ، فلو سأله أهل المشرق والمغرب لوسعهم علمه » ،وقال عنه أيضاً : « عجباً لأهل العراق كيف يحتاجون إلينا وعندهم جابر بن زيد ، ولو قصدوا نحوه لوسعهم علمه » ، ولما مات جابر قال عنه أنس بن مالك t : « اليوم مات أعلم من على ظهر الأرض » ، وقال عنه قتادة : « اليوم مات عالم العرب » ترك الإمام جابر ديواناً عظيماً يحوي علماً غزيراً ولكن الكتاب مفقود ، وقد كان مختفياً عن أعين الجورة لكثرة بطشهم وظلمهم ، توفي رحمه الله في سنة 93 هـ .

[2]- إتحاف الأعيان، ج1 / 80

[3]- فاطر: 2

[4]- طبقات المشايخ، ج2/208

[5]- إتحاف، ج1/80

[6]- السير، ج1/72

[7]- معجم أعلام النساء، ص 7

[8]- الطبقات، ج2 / 206

[9]- الأنعام: 158

[10]- الطبقات، ج2 / 207

[11]- المنافقون: 10 ، وانظر : صفوة التفاسير، ج3/366

[12]- فصلت: 34 ، 35

[13]- الحجر: 85

[14]- النحل: 126 ، 127

[15]- القرطبي، ج10/ 132

[16]- الترمذي، رقم (2022).

[17]- رواه مسلم، رقم ( 25 ) .

[18]- جوهر النظام، باب جامع الآداب، ج2/ 244

[19]- رواه أبو داود واللفظ له، وابن ماجه والترمذي ( الترغيب والترهيب، ج3/ 406 ) .

[20]- آل عمران: 159