طباعة
المجموعة: الفكر الإسلامي
الزيارات: 4216

عمان عزلت نفسها أم عزلها الآخر؟ (3)

الفكر الإسلامي » عمان عزلت نفسها أم عزلها الآخر؟ (3)

النبي صلى الله عليه وسلم اعتبرها مكونا من مكونات الممالك في عهده

أكد سعادة الشيخ المفكر أحمد بن سعود السيابي الأمين العام بمكتب الإفتاء أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر عمان مكونا من مكونات الممالك في عهده فقد كانت تشكل وحدة سياسية على مساحة جغرافية تمتد على مساحة طويلة غير عمان الآن.

كما أكد سعادته أن عمان وعلى رأسها جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم – حفظه الله ورعاه – التزمت بعدم التدخل في شؤون الغير قولا وعملا فلذلك أصبحت الوساطة العمانية مطلوبة ومقبولة سياسيا ودينيا.

وفي جانب استقلالية الإفتاء قال سعادته: (أنا مع استقلالية الإفتاء في إطار الدولة ويمكن أن يكون الإفتاء بجانب القضاء ليأخذ قوته الإلزامية، فالإفتاء أخ للقضاء ورديفه وكل منهما مكمل للآخر) .. وإلى ما جاء في الجزء الأخير من اللقاء.

لعمان مكانة في قلب النبي صلى الله عليه مسلم وخلفائه الراشدين من بعده فكيف يمكن القول أن عمان في معزل عن الآخرين؟

فعمان اعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم مكونا من مكونات الممالك في عهده صلى الله عليه وسلم، فكتب النبي إلى ممالك ذات وحدات سياسية مستقلة فكتب إلى هرقل امبراطور الروم وكتب إلى كسرى امبراطور الفرس وكتب إلى المقوقس حاكم مصر وكتب إلى عبد وجيفر ملكي عمان إذن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب بالدخول في الإسلام هذه الجهات الأربع التي تشكل كيانات سياسية مستقلة، صحيح أن هناك خطابات عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض الزعماء في عمان لكن ليس معنى ذلك أن عمان ليست وحدة سياسية واحدة، ففي تلك الأيام لم تكن الدولة كالدولة المعاصرة اليوم بحيث تكون مركزية الدولة فيها قوية لكن عمان في تلك الأيام هي وحدة سياسية لكن داخل تلك الوحدة السياسية هنالك زعماء، يذهب ذلك الشخص أو ذلك الزعيم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب منه خطابا إلى قومه بأن هذا الرجل مسؤول فيكم إلى غير ذلك أو أن شخصا من قوم ذلك الرجل يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويعلن إسلامه ثم يطلب منه خطابا إلى زعيمه مثلا.

وعمان كانت تشكل وحدة سياسية على مساحة جغرافية تمتد على مساحة طويلة غير عمان الآن، لأن ذلك البعض الآن خرج عن الوحدة السياسية العمانية، بدليل أن عبد وجيفر كانا يبعثان برسلهما للدعوة للإسلام إلى الشمال إلى دبا وما جاورها ودبا كانت تطلق على مساحة جغرافية شاسعة في الحقيقية، وإلى الجنوب كان يذهب إلى مهرة كما جاء في كتب التاريخ فما إن يأتي رسول عبد وجيفر إلى أحد في هذه الأماكن إلا ويدخل في الإسلام وهذا يدل على أنهم يتحكمون في وحدة سياسية كبيرة تحت عنوان الملكية لأنهم كانوا ملوكا على عمان وعمان كانت تنبسط على رقعة جغرافية واسعة.

والرسول صلى الله عليه وسلم أيضا كان يعرف الكثير عن عمان، فعندما قال لعمر بن الخطاب: (إني لأعرف أرضا ينضح بناحيتها البحر يقال لها عمان لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر) وفي حديث آخر قال لشخص (لو أهل عمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك) الحديث هذا (إني لأعلم أرضا يقال لها عمان) يعني أن الرسول يعرف عمان وموقعها ويعرف لعبد وجيفر ابني الجلندى مكانتهم في قومهما ومكانتهما كملوك، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرفهم فلذلك خاطبهم بذلك الخطاب الذي فيه تطمين لملكهم بعد دخولهم الإسلام إلى غير ذلك.

ثم إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه عندما ذهب  إليه الوفد العماني الذي ذكرناه أثنى على أهل عمان لأنه كان يعرف مكانة العمانيين.

عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه هو الآخر كان يعرف عمان عندما ذهب إليه الوفد العماني لكي يشرح لأمير المؤمنين ما حدث في عمان في آخر خلافة أبي بكر الصديق من قبل عامل الخليفة وذلك أن حذيفة بن محصن الغلفاني الذي كان عاملا على عمان من قبل دولة الخلافة بعث رجلا إلى دبا كي يأخذ الصدقة فتشاجر الجباة مع امرأة من دبا فصاحت في قومها كعادة العرب تستنجد بهم فجاء قومها ولكون أن الوقت كان وقت ارتداد اعتبرهم الجباة مرتدين فاعتقل منهم مجموعة من الناس فأرسل بهم إلى المدينة إلى دار الخلافة وتذكر المصادر العمانية هذه القصة بأنها ليست ردة، فذهب الوفد العماني ليفهم أبا بكر الصديق بأن هؤلاء ليسوا مرتدين وإنما حصل سوء فهم بين الوالي وبينهم في وعاء الصدقة وعندما وصلوا المدينة وجدوا أبابكر الصديق قد توفي وكان عمر بن الخطاب في الخلافة فأبلغوه بذلك فشدد الخليفة عمر بن الخطاب على الوالي فأمر بإطلاقهم وإكرامهم فلذلك كان العمانيون متواصلين حقيقة مع الآخر و كانوا في قلب الحدث الإسلامي.

مع ملاحظة أن المصادر العمانية تذكر هذه الحادثة ويعتبرونها ليست ردة وهي كذلك، ولكن المصادر التاريخية غير العمانية تذكر قصة أخرى حدثت في بداية خلافة أبي بكر الصديق وهي في منطقة دبا أيضا، وتلك في الحقيقة ردة واشترك جيش الخلافة مع الجيش العماني بقيادة عبد وجيفر ابني الجلندى وحسم الأمر لصالح الجيش الإسلامي وكما أن المصادر غير العمانية لم تذكر الحادثة الثانية التي فيها المشاجرة بين المرأة العمانية وجباة الزكاة فالمصادر العمانية لم تذكر الحادثة الأولى التي هي في الحقيقة ردة، ومن هنالك كان الاختلاف بين المصادر العمانية وغير العمانية، وقد ذكرت ذلك في كتابي الوسيط في التاريخ العماني.

لتكون وسيطا كن غير منحاز

سياستنا عدم التدخل في شؤون الغير والعمل بتهدئة بعض التوترات والمساهمة في حل بعض المشاكل بطريقة هادئة دون زوبعة إعلامية كما يطلق عليها الآن .. هل هذه السياسة سبب من أسباب القول بانعزالها كما قد يربطها بعض الناس؟

في الحقيقة هذه مواقف سياسية تنبني على دراسات سياسية واقعية فلو نظرنا إلى جميع الدول وجدنا أنها تقول هذا القول ولكن بعض الدول تلتزم به واقعا ملموسا قولا وعملا وبعضها تقول به قولا ولا تلتزم به عملا هذا هو الواقع السياسي وهو ما يسمى بالواقعية السياسية.

عمان كدولة أعلنت هذا القول وعلى رأس هذه الدولة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم – حفظه الله ورعاه – والتزمت به عملا وهذا لا يدل على العزلة وهذا في الأصل جزء من السياسة الدولية المعلنة لجميع الدول، وهذا تقريبا ميثاق شرف بين جميع الدول التي هي في إطار الأمم المتحدة وهو بند أساسي معروف بين الدول. عمان التزمت بهذا القول عملا وبجانب هذا أصبحت عمان مقبولة في نزع التوترات مقبولة في تسوية الخلافات مقبولة في الوساطات لأنك إذا أردت دائما أن تكون وسيطا كن غير منحاز أما إذا عرف عنك الانحياز فإنه لا يجوز أن تكون وسيطا، والمنحاز لا يوثق به من أي طرف من الطرفين المتنازعين.

وأصبحت الوساطة العمانية مطلوبة ومقبولة وأقول لك وأؤكد أنه حتى على المستوى المذهبي الوساطة العمانية الإباضية مقبولة تحدث بعض التوترات في المؤتمرات بين أطراف مذهبية فيتدخل مثلا سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة فيحلها ويعتبر ذلك مقبولا من الجميع وهذا حدث في مؤتمر عقد في القدس عندما حدثت مشادة كبيرة بين علماء السلفية وكان على رأسهم العلامة الكبير محمد رشيد رضا وبين علماء أشاعرة وهم من المذاهب الأخرى وكان العلامة الإباضي الشيخ أبواسحاق أطفيش حاضرا وهو الذي توسط في حل هذا الخلاف وتسويته والقضاء على تلك المشادات وهذا الآن يقوم به الوفد الديني العماني والذي يكون دائما برئاسة  سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة.

فهذه القبولية الدينية المذهبية منبنية على تلك القبولية السياسية للدولة وعلى رأسها جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم فهي منظومة كاملة متقبلة.

فطالما أن عمان عرفت بوساطتها سياسيا هي أيضا مقبولة بوساطتها دينيا.

 

هل تؤيد استقلالية الإفتاء؟

الإفتاء في الحقيقة هو أخ للقضاء ورديفه وكل منهما مكمل للآخر الإفتاء يبين حكم الله تعالى في المسألة والقضاء يفصل في الحكم.

عندنا مقولة تقول: إن (القضاء ملزم) بمعنى أن حكم القاضي ملزم للخصمين في حل مشكلتهما حكما لازما، وأن (الإفتاء غير ملزم) حتى جاءت المقولة المعروفة فقهيا (لا فتوى في دعوى) وقيل أيضا فتوى المفتي غير ملزمة أما حكم القاضي فهو ملزم.

ولكن في الحقيقة عندي وجهة نظر وهذا ما أؤكده وأكدته من خلال محاضرة ألقيتها بمعهد العلوم الشرعية قبل سنوات فقلت: إن الإفتاء بصيغته الحالية هو أيضا ملزم كما أن القضاء هو ملزم، بمعنى أن فتوى المفتي ملزمة كما أن حكم القاضي ملزم، لماذا؟ أولا متى يكون القضاء ملزما ومتى يكون غير ملزم؟ القضاء يكون ملزما إذا عين القاضي من قبل الحاكم (ولي الأمر) فيصبح حكمه ملزما، أما إذا كان القاضي عرف بحكمه وبقضائه ولكنه لم يعين من قبل الحاكم وترافع إليه الخصمان فإن حكمه غير ملزم خاصة إذا لم يرض أحد الطرفين بالحكم، حتى القاعدة القانونية هي كقاعدة تكتب ولكن لا تكون ملزمة إلا إذا صدر بها أمر أو مرسوم من الحاكم، هكذا هو القضاء.

والفتوى القائلة: إن فتوى المفتي غير ملزمة . ذلك  عندما كان الإفتاء في السابق لا يكون بأمر الحاكم، بمعنى أنه لم يكن في إطار الدولة وإنما يبرز شخص ما بعلمه أو أشخاص معينون بعلمهم والعامة تتجه إليهم لتأخذ عنهم الفتوى فيما يعنيهم من أمور دينهم فيفتي المفتي فبالتالي فتواه غير ملزمة كما أن القاضي إذا لم يكن معينا من قبل الحاكم حكمه غير ملزم.

أما وإن الإفتاء أصبحت له أطر قانونية وكيانات قانونية تصدر بها تعيينات من قبل الحكام وأصبح جزءا من الدولة ففي وجهة نظري أن فتوى المفتي ملزمة عندما يأتي الشخص ويستفتي المفتي تكون فتوى المفتي له ملزمة.

وللعلم سماحة الشيخ المفتي نفسه (لم يقل بهذا القول الذي أنا أقوله) وسماحة المفتي حفظه الله لا يزال متمسكا بالقول السابق بأن فتوى المفتي غير ملزمة مع أنه هو المفتي لكني أقول: إن فتوى المفتي ملزمة إذا جاءه المستفتي واستفتاه لأن الإفتاء صار له كيان قانوني بناء على أمر الحاكم صدر تعيينه من الحاكم بمرسوم سلطاني وعمّد للإفتاء فأصبح هذا المفتي كذلك القاضي، وهذه المحاضرة ألقيتها بمعهد العلوم الشرعية وأكاد أجزم أنه لم يقل هذا القول غيري.

وإذا قلنا باستقلالية القضاء عن الدولة فإن استقلالية القضاء ليس معناه أنه مستقل عن الدولة فهو مستقل في إطار الدولة فالدولة تشمل ثلاث سلطات السلطة التشريعية (البرلمان) والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية وهي في الحقيقة كلها في إطار الدولة، ولكن في إطار الحكومة فلا، وهناك فرق بين أن توصف الدولة وأن توصف الحكومة، فالدولة تشمل الجميع هذا كله في إطار الدولة وإلا ستصير فوضى، فالإفتاء إن استقل عن الدولة فمعنى ذلك أنه سيصير غير ملزم ولم تكن له أية أهمية.

فالآن عندما ينصب القاضي أليس ينصب بأمر الحاكم؟، أنا لست مع استقلالية الإفتاء عن الدولة بل تكون استقلاليته في إطار الدولة، ويمكن أن يكون الإفتاء بجانب القضاء ويتبع لجهة ما حسب ما يراه أهل القرار في هذا الأمر.

لكن من حيث الإفتاء كناحية علمية هو رديف القضاء لا سيما في عصر الدولة المركزية الدولة القانونية الدولة ذات المؤسسات لذلك فإن فتوى المفتي ملزمة كما أن حكم القاضي ملزم ومعنى ذلك أنه حتى تأخذ الفتوى قوتها الإلزامية يجب أن يكون في إطار الدولة كما أخذ القضاء قوته الإلزامية بكونه في إطار الدولة.

-----------------------

جريدة عمان: الاحد, 5 رمضان 1434هـ. 14 يوليو 2013م

 

أجرى اللقاء: سيف بن سالم الفضيلي