طباعة
المجموعة: الفكر الإسلامي
الزيارات: 4345

عمان عزلت نفسها أم عزلها الآخر؟ (2)

الفكر الإسلامي » عمان عزلت نفسها أم عزلها الآخر؟ (2)

عمان عزلت نفسها أم عزلها الآخر؟ (2)

منذ دخولها الإسلام كان موقفها فاعلا وإيجابيا

السيابي: عمان تواصلت منذ فجر الإسلام والصحابي مازن أقوى مثل..

حمل سعادة الشيخ المفكر أحمد بن سعود السيابي الأمين العام بمكتب الافتاء جزءا من المسؤولية عن (العزلة) العمانيين انفسهم كونهم لا يعرفون عن بلدهم وتاريخه وحضارته وفكره ولا يتواصلون مع اصحاب النفوذ في البلدان التي يسافرون اليها وقدّره بنسبة 25 بالمائة، مشيرا الى ان الأمر قد تغير في هذا العصر الذي نعيش فيه فأصبحت نظرة الآخرين ايجابية نتيجة اللقاءات والتواصل بين العمانيين وغيرهم كما ان العمانيين بدأوا يشعرون بالمسؤولية تجاه حضارتهم وفكرهم وتاريخهم وهذا امر جيد وفيه تقارب بين جميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم وافكارهم وفيه طي لكثير من صفحات الماضي المظلمة والظالمة.

وفي الوقت نفسه حمل سعادته الجزء الأكبر من المسؤولية إلى الآخر الذي عزلها وعزا هذا العزل الى سبب سياسي مذهبي فكري نتيجة المواقف التاريخية المنبثقة عن الفتنة الكبرى في تاريخ الاسلام.

 

وتكملة لإجابة سعادته على سؤال، هل عمان عزلت نفسها عن الآخر أم الآخر عزلها، ولماذا؟

وبناء على هذا كله هل العمانيون عزلوا انفسهم أم عزلهم الآخرون من هذا المنطلق استطيع ان اقرر ان العمانيين لم يعزلوا انفسهم وإذا كانوا لم يعزلوا انفسهم كيف اقول انه عزلهم الآخر، اولا استطرد ان العمانيين لم يعزلوا انفسهم فهم تواصلوا مع الآخر منذ بداية العهد الاسلامي فمسير الصحابي الجليل مازن بن غضوبة السمائلي الى النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل في الاسلام هو من باب التواصل مع الآخر ومن الأكيد انه لم يذهب بنفسه وهذه مبادرة عمانية في الدخول إلى الاسلام.

كما يقول الشيخ الشاعر الكبير عبدالله بن علي الخليلي:

فإن يك هذا الدين جاء لطيبة ** فهذي سعت للدين في خير منزل

 

الامر الثاني ان العمانيين منذ ان دخلوا في الاسلام كان موقفهم فاعلا وإيجابيا مع المسلمين فشاركوا في التحريرات الاسلامية في حروب الشام وبلاد فارس، ثم شاركوا في نقل الاسلام واختلطوا بشعوب جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا وشعوب شرق افريقيا وهذا في عهد مبكر في الاسلام.

 

وعندما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وعلم العمانيون بوفاته لم يرتضوا ان يتركوا عمرو بن العاص ان يرجع منفردا وانما رافقه وفد عالي المستوى برئاسة عبد بن الجلندى احد ملوك عمان ومعه سبعون شخصا عمانيا من اعيان اهل عمان بقصد مرافقة مبعوث النبي صلى الله عليه وسلم لكي يصلوا به المدينة سالما، الامر الثاني لكي يبايعوا ابابكر الصديق بالخلافة وهذا الذي حدث.

 

وشارك العمانيون في التحريرات الاسلامية وانتقل عدد كبير منهم للسكنى في العراق في عدة أماكن وآخر استقر في البصرة فالإمام جابر بن زيد خرج من عمان وسكن مع قومه العمانيين في البصرة الذين شاركوا في فتوح فارس ورجعوا الى العراق واستوطنوا بها وعندما خططت البصرة جعل لهم مخطط سكني بالتعبير المعاصر لكي يستقروا فيها، طبعا ليس كل الذين خرجوا مع القائد الاسلامي عثمان بن ابي العاص الثقفي ساروا الى العراق وإنما بعضهم رجع الى عمان ولكن كثيرا منهم ذهبوا الى العراق فنزلوا في منطقة بين فارس والعراق اسمها (توّج) ثم انتقلوا الى البصرة.

 

وجابر بن زيد، كما سبق، في عهد الخلفاء الراشدين انتقل الى البصرة لكي يسكن مع قومه وهناك اخذ يتردد بين البصرة والحجاز ليأخذ العلم عن اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعن زوجاته رضي الله تعالى عنهن فالعمانيون تواصلوا مع الآخرين بشكل كبير وأقبلوا على مؤلفات الآخرين ونقلوا عنها وعن الصحابة وعن جميع التابعين وعن العلماء الآخرين.

 

تخريجات

فمثلا في القرن الرابع الهجري الف ابن المنذر النيسابوري كتابه الاشراف وهو في مسائل الخلاف عن المذاهب الاربعة والامام النيسابوري توفي سنة 318 هـ هذا الكتاب وصل الى عمان والشيخ ابو سعيد الكدمي عمل عليه تعليقات سماها (زيادات الاشراف) في اربعة اجزاء ومعظم هذا الكتاب هو مفرغ في (بيان الشرع) الذي الفه العلامة محمد بن ابراهيم الكندي الذي توفي سنة 508 هجرية، ومن هنالك جاءت اقوال المذاهب الاخرى ودخلت في المذهب الاباضي، ثم جاءت الكتب من بعده فنقلت عن (بيان الشرع)، فبعض الاقوال لأصحاب المذاهب الأخرى أطرت إباضيا وصارت كأنها من اقوال المذهب الاباضي نتيجة ذلك التلاقح الفكري بين الامام ابن المنذر النيسابوري الشافعي وبين الإمام أبي سعيد الكدمي الناعبي الاباضي.

 

وابو سعيد ايضا عمل تخريجات اخرى من كتاب الاشراف وهو الذي عرف بتخريجاته الكثيرة، والتخريج هو احداث قول آخر في المسألة عن الاقوال الموجودة، فرأى الامام ابو سعيد الكدمي ان ما يذكره الامام ابن المنذر في كتابه الاشراف (وهما عاشا في القرن نفسه) ينسجم مع المبادئ العامة للمذهب الاباضي فقال يخرج على هذا القول عند اصحابنا قول آخر فأصبحت تخريجات الامام ابي سعيد الكدمي على كتاب الاشراف تشكل معلما بارزا في الفقه الاباضي، فهذا يدل على سرعة تواصل العمانيين مع الآخر.

 

وعندما اراد العوتبي من علماء القرن الخامس الهجري ان يؤلف كتابه في الانساب اعتمد على كثير من الكتب اعتمد على كتاب بن حزم وهو جمهرة النسب وعلى كتاب ابن حبيب الاندلسي وكتاب ابن الكلبي وهم من غير العمانيين والعوتبي علامة كبير.

 

وايضا محمد بن عبدالله الازدي صاحب كتاب الماء هذا الرجل خرج من صحار وذهب الى فارس وذهب الى بلاد الشام والى مصر والى الاندلس ومات في فلنسية في الاندلس الف كتابه (الماء) وهو كتاب طبي اعطاه اسم الماء انطلاقا من الآية الكريمة (وجعلنا من الماء كل شيء حي) فألفه بطريقة المعجم بالحروف الهجائية فيه ادب وحكم واشياء جميلة جدا وطبعته وزارة التراث والثقافة في ثلاثة مجلدات بتحقيق الباحث العراقي هادي حسن حمّود، وهو لازم كثيرا الطبيب الرئيس ابن سينا وكان كثيرا ما يجله وينقل عنه الكثير في كتابه (الماء) حتى انه نقل القصيدة الرائعة التي قالها الطبيب الرئيس بن سينا في وصف النفس التي عبر عنها بالورقاء أو الوريقة، وهي التي فيها:

هبطت اليك من المحل الارفع ** ورقاء ذات تعزز وتمنع

محجوبة عن كل مقلة ناظر ** وهي التي سفرت ولم تتبرقع

هبطت على كره اليك وربما ** كرهت فراقك وهي ذات تفجع

واظنها نسيت عهودا بالحمى ** ومعاهدا بفراقها لم تقنع

وهي قصيدة فلسفية لكنها فيها شاعرية حتى ان الكاتب الاديب المصري احمد امين شكك في نسبتها الى ابن سينا لما فيها من شاعرية لكن محمد الازدي الصحاري قال انا اثبتها هنا لاني سمعتها من فيه أي من فم ابن سينا.

 

صاحب كتاب (القراءات الثماني)

وهناك عالم عماني آخر هو ابو الحسن محمد بن علي بن سعيد العماني صاحب كتاب (القراءات الثماني) الذي طبعته وزارة التراث والثقافة ايضا بالسلطنة هذا الرجل ايضا جاب العديد من المناطق فذهب الى مصر والف العديد من الكتب منها (المرشد في الوقف والابتداء) سمعت شيخنا الخليلي مفتي عام السلطنة (أبقاه الله) يقول انه اطلع على ان الشيخ محمود خليل الحصري شيخ المقارئ المصرية الأسبق ينقل عن هذا الكتاب (المرشد في الوقف والابتداء) وهذا الرجل ذهب الى مصر بعد عام 500 هجرية، وجميع العلماء والأدباء وأهل الثقافة والفكر في عمان قرأوا عن غيرهم ونقلوا عن غيرهم.

 

والى عهد قريب كان العمانيون علماؤهم وأدباؤهم وشعراؤهم يحفظون ديوان المتنبي بالكامل ودواوين غيره من الشعراء لا فرق بين عالمهم وبين اديبهم وشاعرهم، والذي لا يحفظ ديوان المتنبي بالكامل يحفظ جزءا كبيرا منه، وهذا عندما كان الاهتمام بالحفظ هو المعمول به وكان العمانيون متعلقين بالشعر.

 

ومما يدل على هذا ما يقال ان الشيخ ماجد بن خميس العبري زار الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي في سمائل واستشهد الشيخ العبري ببيت شعري على قافية اللام فسأله الشيخ الخليلي عمن هذا البيت فقال له عن المتنبي فأطرق الشيخ سعيد اطراقة فاستحضر فيها لاميات المتنبي فقال ان هذا البيت لا يوجد في قصائد المتنبي اللامية مما يدل ان الشيخ الخليلي كان يحفظ ديوان المتنبي عن ظهر قلب.

 

لا يكتبون عن الأعلام العمانيين

عندما نقول العمانيون لم يعزلوا انفسهم، كيف حدثت هذه العزلة الثقافية والفكرية إذن؟ بمعنى ذلك ان العالم العماني غير معروف خارج عمان والشاعر العماني غير معروف خارج عمان والأديب العماني غير معروف خارج عمان والمؤرخ العماني غير معروف خارج عمان.

 

وعندما يكتب الآخرون عن الرجال وعن الاعلام لا يكتبون عن الاعلام العمانيين، لماذا؟ مثلا نجد العالم في الشام او في العراق يكتب عن الأعلام ويذكر علماء المسلمين في جميع البلاد الا علماء عمان فنجده وهو في الشام يؤلف ويكتب عن علماء اليمن، واليمن بجانب عمان ويكتب عن العلماء الآخرين ولم يكتب عن علماء عمان، وحتى العالم في اليمن رغم ان اليمن قريبة من عمان ومتصلة بها لم يذكر أعلام عمان.

 

فمثلا عندما كتب الشوكاني كتابه (البدر الساطع) ذكر في فترة زمنية علماء إلا أنه لم يذكر عالما عمانيا، وهلم جرا، وأؤكد ان العمانيين لم يعزلوا انفسهم بل أنهم تواصلوا وكتبوا والفوا عن الآخر سواء في الأنساب او التاريخ او العقيدة او التفسير او الحديث وفي كل شيء، اذن السبب الآخر هو الذي عزل العمانيين ثقافيا وفكريا وذلك السبب في وجهة نظري ليس كما يقال جغرافي وانما هو يكمن جزء منه في الخلاف السياسي وجزء آخر اعتبره فكريا، نتيجة تلك المواقف التاريخية السابقة المعروفة أو المنبثقة عن تاريخ الفتنة الكبرى في تاريخ الاسلام.

 

والقول بأنه كيف يتعدى ذلك السبب السياسي، وذلك السبب الفكري الى الأدب والشعر والتاريخ والفكر ولم يقتصر على الوضع الديني، أقول انه ما كانت توجد حدود فاصلة بين ما هو ديني وبين ما هو أدبي، كما هو حاصل الآن فالأديب والشاعر والمؤرخ يتأثر مذهبيا  وسياسيا أعود فأقول ان العزلة الفكرية والثقافية فرضت على عمان والعمانيين لعاملين اولهما فكري مذهبي والثاني سياسي، أما العامل الجغرافي فلا يعطي عزلة او انعزالا عن الآخر، على اننا كعمانيين لا نعفي أنفسنا من المسؤولية الأدبية عن هذه العزلة الثقافية والفكرية فالعمانيون يتحملون جزءا من ذلك، فإذا كان هنالك نسبة وتناسب فيمكنني ان احمل العمانيين نسبة 25 بالمائة واحمل الآخر نسبة 75 بالمائة وذلك لان العماني كان لم يعرف باسمه بمعنى انه لم يعرف ببلده ولا بتاريخه ولا بحضارته ولا بمذهبه فهو عندما يتوجه الى مكان ما تراه مستحييا منكفئا منزويا وطبعا لا أعمم هذا ولكن هذا هو الطابع الغالب على الانسان العماني في العصور الأخيرة وربما من قديم وان كانت الصورة توسعت في العصور الأخيرة، فمن النادر ان تجد العماني عندما يسافر يحمل كتابا عن تاريخه او عن مذهبه او عن حضارته ليعرف به الآخر مع ان ذلك الآخر في هذا العصر يطالبه بذلك والعماني اصبح من طبعه اذا اقام في مكان ما خارج عمان فإنه لا يتواصل مع المسؤولين هنالك، بعكس غير العمانيين فإنهم يتواصلون مع المسؤولين في تلك الدول، انظر مثلا الى غير العماني عندما يأتي الى عمان فإنه يتصل بالمسؤولين ويقيم معهم العلاقة الطيبة وهم بذلك يستطيعون قضاء مصالحهم وهذا المعنى جاءت به الأدبيات العربية، فإنه قيل ينبغي لأي شخص يحل في بلد ما ان يتصل بحاكمها ومسؤوليها وقاضيها وواليها وغيرهم حتى إذا نابه أمر من الشدة فإنه يستطيع ان يدفع ذلك عنه من خلال علاقته بأؤلئكم المسؤولين وفي هذا المعنى صاغ القاسم بن محمد الحريري صاحب مقامات الحريري مقامته التاسعة التي هي بعنوان المقامة الاسكندرانية فإنه قال فيها (انه يجب على الشخص إذا حل في بلد ان يتصل بقاضيها وحاكمها وساق قصة ذلك الرجل الذي خدع امرأة ذات حسب ونسب وغنى وجاه الى غير ذلك فتزوجها بعد ان خدع والدها بأنه صاحب حرفة شريفة وانه ميسور الحال ولكن بعد ان ابتعد بها عن اهلها وجدته لا شيء عنده ولا حرفة واستهلك ما عندها من مال وعندما ذهبت به الى قاضي الاسكندرية لم يحكم لها بشيء وانما اعطاه من مال الصدقة وكل ذلك نتيجة علاقة ذلك الرجل الزوج بالقاضي او بالحاكم في الاسكندرية.

 

وهكذا ينبغي للعماني ان يتفاعل مع المجتمع الذي يقيم معه ويتواصل مع المسؤولين ولكن الملاحظ هو العكس، فقد اقام العمانيون في دول مختلفة ولكنهم لم يتفاعلوا مع اهلها ولم يتصلوا بالمسؤولين فيها، ولم يتصلوا بالعلماء فيها وانما يبقون في اعمالهم ومنازلهم وهذا بالطبع خطأ في الحياة جسيم.

 

واذكر انني كنت في كمبالا العاصمة لجمهورية اوغندا في شهر ديسمبر من عام 2003 وكنت قد ذهبت الى هنالك لحضور مؤتمر عن الحضارة والتاريخ الاسلامي لشرق افريقيا وعندما كنت في الفندق زارني عدد من العمانيين المقيمين في كمبالا وتصادف ان زارني احد علماء اوغندا وعندما شاهد تلك المجموعة من العمانيين تعجب من وجودهم وقال انه لا علم له بوجود عمانيين في كمبالا، وهذا التعجب من ذلكم الشخص دليل على عدم الاتصال من أولئكم العمانيين الذين يفترض منهم ان يتصلوا به وبغيره من العلماء والمسؤولين، وأذكر هذا كمثال فقط على سلوك العمانيين، على انه لا يفوتني ان اقول ان الأمر قد تغير في هذا العصر الذي نعيش فيه فأصبحت نظرة الآخرين ايجابية نتيجة اللقاءات والتواصل بين العمانيين وغيرهم كما ان العمانيين بدأوا يشعرون بالمسؤولية تجاه حضارتهم وفكرهم وتاريخهم وهذا امر جيد وفيه تقارب بين جميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم وافكارهم وفيه طي لكثير من صفحات الماضي المظلمة والظالمة.

_____________________________________

جريدة عمان: السبت 4 رمضان 1434ه / 13 يوليو 2013م

أجرى اللقاء:  سيف بن سالم الفضيلي