موقع الداعية في عباب الحياة المتلاطمة والتيارات الجارفة (مقال رائع جدا)

علي بن سعيد العلياني: يعيش المسلم اليوم في ظل تيارات مختلفة تتسارع وتيرتها وتتعدد أقطابها وتدور رحاها حول من يفوز بأكبر نصيب من الكعكة العالمية يبرز الى السطح الدور الاعلامي الكبير في استقطاب عقول الناس بشتى الطرق وجميع الأساليب، وتوضع الدراسات النفسية لفهم كيفية الوصول الى عقل المستمع والمشاهد موضع التنفيذ وتمارس أساليب حديثة وطرق ومناهج ملتوية.

 

وتجد كل واحد يحاول بطرقه أن يصل الى عقل المشاهد ويحاول ليل نهار ابتكار الحديث والجديد في سبيل اثبات حضوره ووجوده على الساحة، وهكذا فالتطورات متسارعة والمحاولات لا تهدأ والتطوير في الأساليب لا يتوقف، وبالتالي اذا ما صحونا يوما وأفقنا على وقع نجاح هذه التيارات في أن تعصف بعقول قطاع عريض من جمهور المستمعين والمشاهدين وتأخذهم بعيدا عن متناول أيدينا هنا نولول ونصرخ ونستنجد ونستغيث: لقد غرقت السفينة وجنحت جانبا ونحن لا ندري، لماذا يا ترى؟!

 

لأننا آثرنا أن نتبع النهج التقليدي القديم في ايصال المعلومة الى الناس، ولأننا لم نطور من ثقافتنا ولم نحدد معلوماتنا ولم يطرأ على بالنا يوما أن نساير الخطاب العصري الذي بدأت عقول الناس تتعود عليه، لقد ذهبت تلك الطريقة القديمة التي كان المجتمع يريد أي معلومة يتلقفها ثم يحتضنها ثم يناقش أبعادها، لقد اتسع أفق الناس وصاروا يبحثون عن المعلومة وأبعادها ومغزاها وكيف يطبقونها في واقع حياتهم بل أكثر من ذلك، يريدون الأسلوب الراقي الذي يوصل اليهم المعلومة مع احترام ذواتهم وعدم المساس بشخصياتهم أو جرح مشاعرهم.

 

ان جمهور المستمعين والمتلقين لا يكفيه عبارة عابرة أو كلمة غامضة او مقتضبة ليس فيها تحليل، فهو لم يعد ذلك الجمهور الذي يأخذ المعلومة على أنها من المسلمات وكفى! بل أصبح يقارن ويريد توضيحا اكثر ويريد من ذلك المتحدث أو الذي يعرض المعلومة أن يبادره بالابتسامة ويخاطبه بالحديث الذي يبعد فيه عن الشطط والتكلف والتشدد في رص العبادات، بل يريد العبادة سهلة الفهم، يسيرة الهضم.

 

فالتلفاز والمذياع أصاب العقول والافهام بعسر هضم في الفهم وذلك لكثرة ما يعرض عليهما من معلومات مغلوطة ومفاهيم ممسوخة ومناهج معتلة الآخر، وسط هذا الموج المتلاطم والبحر الهائج والجو المشحون كيف للداعية أن يبحر في اليم وهو لا يملك العدة اللازمة، وكيف لصاحب الحق أن يقول كلمته المسموعة وهو لم يغير في خطابه القديم أي شيء، كيف له أن يبرز رأيه ويوصل صوته وهو خافت لا يكاد يسمع وغامض لا يكاد يفهم ومقتضب لا يملأ الأسماع ولا يروي ضمأ القلوب، كيف له أن يصل الى الوسط المستهدف وقد صمت آذانهم صباح مساء بسيل جارف من المعارف ولو كانت خاطئة ومن المناهج ولو كانت طرقها معوجة، كيف له ان يخترق هذا الكم الهائل من الوسائل التي ترافق الانسان في نومه ويقظته، في كل مكان ابتداء بغرفة نومه وانتهاء بمقر عمله.

 

فالانترنت أصبح اليوم موجودا أينما تذهب فهو يرافقك في غرفة نومك، على هاتفك النقال، وهو موجود على المكتب المنزلي ومكتب العمل، وهناك وسائل اخرى ولو كانت محدودة التأثير لكن لها من التأثير ما يكفي للتغطية على دور الداعية الذي أحاط نفسه بسياج من العزلة حتى لا يحدث الخطاب، فالصحف والمجلات والتلفاز والانترنت في متناول أيدي الجميع الصغير والكبير النساء والرجال، ولنتصور معا كيف لطالب معلومة واحدة في أي مجال يعثر على آلاف المعلومات.

 

سياتي قائل ليقول : وماذا تريدنا أن نفعل في هذا الجو المكهرب والكم الهائل من المعلومات،أين تقف حدود طاقتنا؟ ولماذا تحملنا ما لا نحتمله؟!

أقول: نعم هناك صعوبة، هناك منافسون وعلى مستوى عال من الاحتراف في اختراق عقول الناس والسيطرة عليها، لكن بالمقابل هل يكون ردنا على هذا الواقع بأن نجلس مكتوفي الأيدي بدعوى حماية الطرق التقليدية التي عفا عليها الزمن من الاندثار؟! لقد ولى ذلك المجتمع الطاهر النقي الذي يريد معلومة ليأخذها كما هي ويعتبر تنفيذها أمرا مقدسا، وظهر جيل حشي غفلة بشتى أنواع العلوم والمعارف.

 

ستجد الرياضي الذي يحوي عقله على ملفات تحتوي على تصوير فيديو لآلاف المباريات وتختزن ذاكرته مئات الآلاف من اللاعبين القدامى والمعاصرين ويحتفظ بذكريات مع كل مباراة مصيرية في كأس العالم أو كأس أوروبا أو غيرها الكثير، كيف تريد منه أن يخاطب بأسلوب التلقين بدون تحليل أو وصف أو شرح؟!، وأيضا كيف تريد أن تساويه بأحد من الناس ما زال على الفطرة عقله نظيف؟!

 

وهناك من يحوي قاموسه العقلي تسجيلات لآلاف الأغاني ومئات المطربين، وهناك الكثير والكثير من الأمثلة على أن الخطاب الدعوي يجب أن يتجدد دون أن تمس ثوابته ويصارع بأسلوب عصري دون أن تمس أبجدياته، على أننا يجب أن ننتبه أنه بدون وجود ثقافة واسعة النطاق لدى الداعية فلن يستطيع مسايرة الركب، وهكذا نجد أنفسنا مجبرين على الخروج من القمقم والنزول الى الميدان بصورة حضارية متزنة لا تزمت فيها ولا شطط، هذا اذا أردنا الوصول الى عقول الناس.

 

قبل أكثر من اثنين وعشرين عاما عندما كنت طالبا في معهد القضاء الشرعي وقف سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي حفظه الله يعدد أوجه التخلف الثقافية قصر النظر عند البعض ممن كانوا يحرمون ما أحل الله بحجة أمن الفتنة واتقاء المحرمات، وكان من بين ما ذكره سماحته أن هناك من يحرم قراءة الجرائد والمجلات بكافة أنواعها ممن كانوا يدعون حيازة العلم الشرعي وأيضا ذكر من منعوا من الاطلاع على الثقافات الأخرى والقراءة والاطلاع في شتى الفنون والمعارف، وأذكر أن سماحته خنقته العبرة بل بكى على هذا الوضع المزري والتخلف .

 

وبعد هذه المدة الطويلة حسبت أن الأمر أصبح ضربا من ضروب الماضي وقضية عفى عليها الزمن ولكنني صدمت عندما اكتشفت أخيرا وفي لقاء عام أن الأمر ما زال على حاله بل أضحى يلقى رواجا أكثر وله أتباع ممن سلكوا مسلك أن الاطلاع الواسع والثقافة متعددة المشارب هو مما لا يستساغ شرعا بل عدوا أنفسهم حماة للعقيدة الصافية التي لا تشوبها شائبة وهم في ذلك واهمون بل مخطئون لأن الحقيقة أن الحكمة ضالة المؤمن يبحث عنها أنى وجدها.

 

والكلام عن القراءة والاطلاع الواسع يكون بمعناه أن نبحث عن الكتب المفيدة والعناوين الهادفة والمعارف النافعة، فتنهل فيها لتكون خير معين لك على تخطي اشكالات هذه الحياة بخطى ثابتة ويقين ثابت لا يتزعزع.

 

وفي مسألة القراءة والبحث عن المكنونات العلمية أحب أن ألفت الأنظار الى أن المسلمون الأوائل اللذين أثروا الحياة العلمية والأدبية في عهد الازدهار الثقافي الاسلامي كانوا قبل أن يصبحوا جهابذة الطب والرياضيات والفلك والعلوم الأخرى، قد اطلعوا على كنوز التراث اليوناني فكان أن لمعت أسماؤهم الى يومنا هذا بل وتتصدر أسماؤهم مداخل أرقى الجامعات الأوروبية، فالرازي وجابر بن حيان والادريسي والفارابي أسماء لامعة الى يومنا هذا وكانوا ذوي اطلاع واسع وعلى كل الثقافات.

 

ان الحلال بين والحرام بين وأن الأمور الثقافية واضحة للعيان لا تحتاج الى فلسفة لندرك الضار منها والنافع وأن نفس المؤمن تفرق بين الغث والثمين وقادرة على الخروج أقوى عودا وأقوى شكيمة مهما عرض من فتن، ولكن صاحب النفس المهزوزة والشخصية غير الثابتة تجده يخاف من خوض غمار هذه الحياة وهذا لعمري ناتج بالدرجة الأولى عن قصر النظر وقلة الحيلة عن الانخراط في الاستفادة من علوم الآخرين وتجارب حياتهم، وأيضا هو خور في العزيمة؛ لأن صاحب الارادة والعزيمة القوية يكون أبعد نظر وأحد بصيرة وأقوى أثرا يؤثر ولا يؤثر فيه، يعطي ولا يعطى، يقيم ولا يقيم، فهو بمثابة الفلتر يأخذ النافع ويطرح الضار.

 

ومما لا شك فيه أن المؤمن يجب أن يكون ذا اطلاع واسع لتتسع خبرته في هذه الحياة ولينمي مداركه ويمتد أفقه وتتفتح ملكاته.

 

فالمؤمن وخاصة الداعية يتعامل مع طوائف وشيع شتى وهو يغدو ويروح مع أناس تختلف أفكارهم وتتعدد رؤاهم وتتباين نظرتهم للحياة حسب شأن كل واحد منهم ومدى اطلاعه وإلمامه بأبجديات هذه الحياة.

 

انني بهذه السطور البسيطة أردت أن ألفت انتباهكم الى قضية شائكة كل يدلي فيها بدلوه لكن علينا أن نعلم أن الحق ظاهر أبلج لا يحتاج الى عناء حتى تعرفه، وأيضا قضية تعدد الثقافات والأخذ من المصادر على تعدد رؤى مؤلفيها قضية لا تحتاج منا الى كثير من التفكير بل لا بد من اعادة التفكير اذا كنا نعتبرها من الخطوط الحمر التي لا يمكن تجاوزها.

---------------------------

جريدة عمان: الجمعة, 29 يونيو 2012