التعامل بالحسنى وأسلوب التعايش 1

 د. كهلان الخروصي: كتاب الله عز وجل قرر كيف يمكن للبشر أن يحيوا حياة طيبة هانئة يسودها السلام والمحبة والتراحم

 

أكد فضيلة الدكتور الشيخ كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة أن الله تعالى ما أنزل كتابه إلا لكي يهدي الناس إلى الأسس والقواعد التي تمكنهم من أن تكون حياتهم محققة لغايات وجودهم من عبادة الله عز وجل ومن تعارفهم وتعايشهم ومن الحياة الطيبة التي ينشدونها.

وقال: إن معاملات الناس فيما بينهم وعلاقات بعضهم ببعض لا تخضع لأذواقهم ولا لموازين بشرية قاصرة ولا يمكن أن تطوع وفقا للمصالح والأهواء والشهوات وإنما موازينها ومعاييرها ومبادؤها مستمدة من المنهج القرآني.

وأوضح أن كتاب الله عز وجل قد قرر كيف يمكن للناس أن يحيوا حياة طيبة هانئة يسودها السلام والمحبة والتعاطف والتراحم.

وبين أن أوامر الله جاءت صريحة في كتابه عز وجل تبني الخلق النبيل وتؤسس لمعاملة مبنية على الحسنى.

وقال: إن الله تعالى يأمر عباده بان يقولوا أحسن الأقوال فيما بينهم لكي يسدوا الأبواب أمام الشيطان حتى لا ينزغ بينهم فتؤدي وسوسته الى ان يحل الخصام والنزاع محل المحبة والوئام.

واكد على ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الترجمان للأخلاق والمبادئ العظيمة فزكت نفسه وسمت أخلاقه حتى وصفته السيدة عائشة رضوان الله تعالى عليها بقولها (كان خلقه القرآن) وكان اشد احتمالا للأذى وأصبر على مخالطة الناس.

وأوضح أن الآيات المتصلة بالأخلاق من أيسر الآيات في كتاب الله عز وجل ففهمها والتعامل معها وإدراك دلالاتها ومعانيها لا يحتاج الى كبير عناء ولا إلى عميق فهم.

واشار الى أن المسلمين مامورون بأن يتناهوا عن المنكر وان يتواصوا بالحق وان يتواصوا بالصبر وان يأمروا بالمعروف وان يتناصحوا فيما بينهم.

وبين ان كثيرا من الناس عبر تاريخ هذه الأمة أبعد النجعة في استمداد القيم والأخلاق النبيلة من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعض الناس والدعاة والعلماء يستبدلون بالأخذ من تصرفات وأعمال وأفعال بعض العلماء والأئمة والدعاة فيما يسمونه بالسلف الصالح.

وقال: لا حرج في التأسي بالصالحين والاقتداء بهم لكن ذلك انما يكون مشروطا بموافقتهم للهدي القرآني في أخلاقهم وأفعالهم وأقوالهم وتعاملهم مع سائر الناس.

 

جاء ذلك في برنامج سؤال اهل الذكر في الحلقة قبل الماضية تحت عنوان (التعامل بالحسنى وأسلوب التعايش).

 

فحول السؤال الذي طرحه مقدم البرنامج الدكتور سيف الهادي الذي يقول فيه كثيرا ما يركز الدعاة عند حديثهم عن القرآن الكريم على جانب التخلي عن مجموعة من الصفات الذميمة كالغيبة والنميمة وسوء الظن والتجسس وغيرها بينما هناك جانب اظن انه لا يزال يخضع لطباع الناس ولتصرفات القدوات احيانا وهو جانب التعايش بالحسنى وأسلوب التعامل الحسن.

 

ما هو التوجيه القرآني في دعوة الناس الى هذا المنهج العملي اكد فضيلة الشيخ الدكتور الخروصي ان الجواب المباشر على هذا السؤال هو في ذات السؤال فان المنهج الذي قرره لنا ربنا تبارك وتعالى ليتعامل الناس على أساسه وليتعايشوا وفقا لسننه ونواميسه انما هو مقرر بكل وضوح وبيان في كتاب الله عزو جل في القرآن العظيم فالله تعالى ما نزل كتابه إلا لكي يهدي الناس الى الأسس والقواعد التي تمكنهم من ان تكون حياتهم محققة لغايات وجودهم من عبادة الله عز وجل ومن تعارفهم وتعايشهم ومن الحياة الطيبة التي ينشدون وبذلك وصف الله عز وجل كتابه بقوله (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) مما يعني ان معاملات الناس فيما بينهم وعلاقات بعضهم ببعض لا تخضع لأذواقهم ولا تخضع لموازين بشرية قاصرة ولا يمكن بحال من الأحوال أن تطوع وفقا للمصالح والأهواء والشهوات وانما موازينها ومعاييرها ومبادؤها مستمدة من هذا المنهج القرآني وقد قرر كتاب الله - عز وجل - كيف يمكن للناس ان يحيوا حياة طيبة هانئة يسودها السلام والمحبة والتعاطف والتراحم.

 

نجد ذلك ليس فيما يتصل بالزواجر أو النواهي التي سميتموها بانها مما يتصل بجانب التخلي بل حتى فيما يتصل بالتحلي بل جاءت أصالة لكي تبني خلق الانسان ولكي تصوغ شخصيته لما يسمو به في درجات الكمال البشري وهذا من صميم دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما وصفها الله تعالى في كتابه حينما قال(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) ولذلك فان من صميم مقاصد هذا الدين الذي أكرم الله عز وجل خاتم الأنبياء والمرسلين هو ان يزكو باخلاق الناس وأن يسمو بأذواقهم وان يرتفع بطباعهم وان يعلي من شأن خلق هذا الانسان وأدبه في تعامله مع غيره ولذلك نجد أوامر جاءت صريحة في كتاب الله عز وجل تبني هذا الخلق النبيل وتؤسس لمعاملة مبنية على الحسنى وعلى التعامل بما يحقق العيش المشترك وبما يحقق للناس ان يسودهم الوئام والتراحم.

 

ولننتقل الى بعض هذه الأسس الأصيلة من كتاب الله - عز وجل - فنجد في القرآن العظيم ان الله سبحانه وتعالى يأمر عباده بقوله (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) فيأمر عباده بان يقولوا احسن الأقوال فيما بينهم لكي يسدوا الأبواب امام الشيطان حتى لا ينزغ بينهم فتؤدي وسوسته الى ان يحل الخصام والنزاع محل المحبة والوئام ويقول ايضا (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) وهذا تأسيس لمبدأ أصيل لأن الله عز وجل أمر به عباده المخاطبين في تعاملهم مع كل الناس (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) وفي التعامل مع المختلف نجد ان الله تبارك وتعالى في أسمى عبارة وأوضح بيان يخاطب نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام ويخاطب أمته بقوله (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) ثم قال( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) فيؤسس الى ان التعامل حتى مع المختلف الذي يمكن ان تكون بينك وبينه عداوة والذي يمكن ان يمثل الطرف فيه الحسنة والطرف الآخر يمثل السيئة ومع ذلك يأتي التوجيه الرباني بقوله جل وعلا (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ثم يبين العاقبة (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).

 

فهناك عداوة ومع ذلك فان الله تعالى يأمر بأن يكون هناك دفع وان يكون هذا الدفع للباطل وللفساد وللمنكر ان يكون بالتي هي احسن وليس بالحسنى فقط بل بالتي هي احسن في التعامل مع هذا الصنف من الناس نجد ان الله تعالى يرسي للمسلمين في كتابه الكريم مبدأ العدالة والانصاف من النفس حينما يقول جل وعلا(وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) فحتى مع العدو مع البعيد البغيض يأمرنا الله سبحانه وتعالى ألا تحملنا العداوة والبغضاء والشنآن الذي بيننا وبينه إلى ظلمه وإلى الإجحاف في حقوقه ولذلك قال (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).

 

وهذا المبدأ السامي العظيم لو ان الناس أخذوا به في واقع حياتهم اليوم لطابت حياتهم واختفت الكثير من النزاعات والخلافات التي تتحول بعد ذلك الى خصومات يصعب علاجها ويمكن أن تتحول إلى حروب مدمرة ومع ذلك فإن هناك جملة أخرى من المبادئ القرآنية التي يرشدنا اليها ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم المنهج القرآني الذي يرسيه لنا ربنا في تعاملنا مع بعضنا البعض ومن ذلك ايضا ما نجده في قوله تبارك وتعالى (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) فالله تعالى يبين ان هؤلاء الذين لم يصدر منهم ظلم لا في الأنفس ولا بالإخراج من الديار يأمر بالبر بهم والإقساط اليهم ويبين انه جل وعلا انما يحب المقسطين الذين يبذلون القسط او يعاملون الناس بمبدأ العدالة والانصاف من النفس قبل المطالبة بالنصفة للنفس فهذه المبادئ التي يقررها لنا ربنا جل وعلا في هذه الآيات القرآنية وفي غيرها مما لا يخفى على الناس هي الخلق القرآني التي أمر المسلمين بأن يمتثلوه واقعا في حياتهم ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الترجمان وبهذه الأخلاق والمبادئ العظيمة زكت نفسه وسمت أخلاقه حتى وصفته السيدة عائشة رضوان الله تعالى عليها بقولها "كان خلقه القرآن".

 

وما وصفته بهذا الوصف الا لأنه تمثل هذه المبادئ الخلقية وهذه القيم الانسانية الرفيعة في تعامله مع سائر الناس وهذا مانحتاج اليه اليوم في واقعنا ان نعود الى المنهج القرآني كما وصف الله عز وجل في القرآن الكريم (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).

 

وانا تتبعت الآيات المتصلة بالأخلاق تتبع طالب العلم النهم الراغب في التعرف على ما تشتمل عليه من معان ودلالات يحتاج اليها كل مسلم فوجدت انها من أيسر الآيات في كتاب الله عز وجل ففهمها والتعامل معها وإدراك دلالاتها ومعانيها لا يحتاج الى كبير عناء ولا الى عميق فهم لأنها واضحة بينة في كتاب الله عز وجل تأتي في سياق القصص القرآني وفي الأوامر المباشرة وفي سياق النواهي وفي بيان صفات المؤمنين وجاءت مبادئ إنسانية رفيعة تتناول الواقع حينما يصف الله عز وجل عباده الرحمن بقوله (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا).

 

فحتى تعاملهم لأن من واقع حياة الناس ان يكون هناك لغو وفساد ولذلك فان الله تعالى قد بين منهج عباده الذين يمتثلون اوامره (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا).

 

وقال جل وعلا(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ).

 

وعن مداخلة الدكتور الهادي ماذا نفهم من هذه الآية السابقة الذكر اجاب فضيلته: هذه الآية كسابقتها او كما تشتمل عليه الآيات السابقة في التعامل مع من يكثر من اللغو او من كان جاحدا يستهزء بآيات الله تبارك وتعالى فان الله عز وجل ينهى عباده المؤمنين من الجلوس اليهم ومشاركتهم حتى ولو بسماع استهزائهم وكفرانهم لكنهم ان خاضوا في حديث آخر فان هذا الحكم الشرعي يرتفع لم ينههم القرآن الكريم العظيم عن الجلوس معهم وانما نهاهم عن الجلوس معهم حالة استهزائهم وكفرانهم بآيات الله تعالى أي بأحكام شرعه وبما يشتمل عليه دينه فاذا انتقلوا الى حديث غيره فان الله سبحانه وتعالى قال(حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) وهذا ورد في سورة النساء وورد تشريع مثله ايضا في سورة الأنعام.

 

أسس دوام البقاء ومصدر خيرية الأمة

وفي إجابته لسؤال الدكتور الهادي الذي استوضح فيه فضيلته: هذه النقطة التي أختتم بها حديثكم غاية من الأهمية تتعلق بالتعامل مع الناس وطريقة الاتصال بهم او عدم الاتصال يسلمنا الى سؤال مهم وهو ان طبيعة الناس على العموم تفهم اخلاق الاسلام والتعامل بالحسنى من خلال المتمسكين به او المتدينين حرصا على فرائضه وسننه حتى انهم اصبحوا يطلقون عليهم مسميات تتعلق بالاسلام (كالإسلاميين مثلا) بيد ان اختلاف هؤلاء في التعامل مع الناس واسلوب التعايش بالحسنى تتراوح هذه الاختلافات بين التشدد مع الآخر أيا كان ومسالة اذا خاضوا في حديث يسىء الى الاسلام تركوا مطلقا على العموم العودة اليهم لن تكون وبين الاندماج الحذر هذا النوع في الاختلاف بين المتدينين او الذين يلتزمون بأخلاق الاسلام ادى الى وجود جفوة بينهم وبين الناس.

 

هل ترى ان هناك اشياء اخرى ومناهج وقواعد زاحمت المنهج القرآني في تخطيط او في وضع اسس التعامل يقول فضيلة الشيخ الدكتور الخروصي: نعم لكن قبل ان اجيب على هذه القضية بالذات لي تعليق بسيط حول مقدمة السؤال اذ حسنا قلتم بان كثيرا من الناس ينظرون الى المتدينين أي الملتزمين باحكام الله تعالى ومن خلالهم يقومون هذا الدين وأخلاقه وآدابه وقيمه ولهم كل الحق في ذلك ولذلك كان من الواجب على المتقين وعلى الصالحين ان يكونوا اكثر التزاما بأخلاق هذا الدين لأنهم في مقام الأسوات في مقام المقتدى بهم ولذلك كان الالتزام في حقهم اوجب والزم طالما انهم ساروا وهكذا ايضا المناصب والولايات العامة لأن الناس تتأسى بهم ولأنهم منظور اليهم كما يقول الفقهاء ولذلك كانوا أحوج الى الصبر وكانوا أحق بكظم الغيظ واحتمال الأذى..

 

فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول للأشج ابن عبد القيس: (إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة)، وايضا لما كان الرسول صلى الله عليه وسلم اشد احتمالا للأذى والصبر على مخالطة الناس لأن الله تبارك وتعالى أمره بذلك فقال (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) فهو مأمور بالصبر في مخالطته لهم ومأمور ان يحتمل الأذى وان يهجر أذاهم فلا يقابله بالمثل فيكون هجرانه هجرانا جميلا لا أن يهجر أمر دعوتهم الى الخير ومن هنا ادخل الى لب السؤال.

 

فالمسلمون مأمورون بان يتناهوا عن المنكر وان يتواصوا بالحق وان يتواصوا بالصبر وان يأمروا بالمعروف وأن يتناصحوا فيما بينهم وأدلة ذلك كثيرة معروفة في كتاب الله عز وجل ادلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأدلة تغيير المنكر وأدلة التناصح والتواصي بالحق لكن هذا لا يعني ان يلجأ المسلم الى ما ينفر الناس والى ما يبعدهم عن حب احكام دين الله عز وجل وحب التأسي بالصالحين والتأسي قبل الصالحين بهدي الانبياء والمرسلين وامتثال المنهج القرآني في اخلاقهم في معاملاتهم لبعضهم البعض بل من الواجب ان يحرص المسلمون على قوام بقائهم، ومصدر دوام خيريتهم انما يكمن في محافظتهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق والتواصي بالصبر واداء واجب النصيحة لكن ذلك مشروط بجملة من الآداب والأخلاق التي نص عليها كتاب الله عز وجل (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وقوله ايضا جل وعلا (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ).

 

ثم في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته القولية وفي سنته الفعلية لأن اخلاقه صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال كانت خير ما يمثل المبادئ الخلقية والقيم النبيلة التي دعا اليها كتاب الله عز وجل ولذلك أثنى عليه القرآن العظيم في قوله جل وعلا: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)..

 

لكن الذي حصل ان كثيرا من الناس مع الأسف الشديد عبر تاريخ هذه الأمة ابعد النجعة في استمداد القيم والأخلاق النبيلة فبدل ان يأخذها من مصادرها من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية الثابتة الصحيحة عنه عليه افضل الصلاة والسلام اذا ببعض الناس وبعض الدعاة وبعض العلماء يستبدلون بالأخذ من هذه المصادر الأخذ من تصرفات واعمال وافعال بعض العلماء وبعض الائمة والدعاة فيما يسمونه بالسلف الصالح في حين ان هذه التشريعات وهذه الأحكام هي واضحة جلية في كتاب الله عز وجل..

 

لا شك انه لا حرج في التأسي بالصالحين والاقتداء بهم لكن ذلك انما يكون مشروطا بموافقتهم للهدي القرآني في اخلاقهم وفي افعالهم واقوالهم وفي تعاملهم مع سائر الناس؛ لأن لتصرفات الناس مهما بلغوا من المنزلة ما يكتنفها من الظروف والأحوال والملابسات التي قد لا تنقل الينا والتي قد تعذرهم في زمانهم ومكانهم لكنها لا تصلح ان تؤخذ وتنسخ لكي تكون هي المقياس والمعيار الذي يحاكم به الناس وعلى اساسها يصنفون بين فاسق ومبتدع وضال واهل بدعة وبين تقي صالح منتسب الى السلف او غير منتسب اليه هذا هو الذي أدى الى كثير من مسببات هذه الفجوة التي تشير اليها هذا من ضمن أهم الأسباب..

 

ومن ضمنها ايضا ان منظومة القيم والأخلاق التي يشتمل عليها ديننا في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم للأسف الشديد عبر اجتهادات العلماء أبعدت من هذه المصادر بل أبعدت من أن يكون الفقه الاسلامي هو الذي يتناولها واذا بنا نجدها في الغالب مبثوثة في كتب المنطق والفلسفة وكأنها قضايا فلسفية منطقية نظرية لا تمت الى الواقع بصلة مع ان أصل الفقه ان يتناول الأحكام الشرعية ومن الأحكام الشرعية ما يتصل بمعاملة الناس بعضهم البعض كيف يعامل المسلم اخوانه المسلمين وكيف يعامل سائر الناس وما هي الأسس التي يستند إليها في معاملته وما هو الثواب الذي يترتب على إحسانه او العقاب الذي يترتب على إساءته للآخرين فهذا الصنيع من تهميش علم الأخلاق وما يتصل بالأدب الاسلامي بمعنى القيم الاسلامية _ من دوائر الفقه لكي تكون محصورة في كتب المنطق والفلسفة والكتب النظرية هو ايضا من الأسباب التي أدت الى نشوء هذه الفجوة لأن الناس لم يتعرفوا لا من حيث تعرف الدعاة ومن سميتموهم المتدينون ولا تعرف عامة الناس على هذه الأحكام الفقهية لا في جانبها النظري من خلال قراءاتهم واطلاعهم ولا من حيث الممارسة والتطبيق وهذا مما ادى الى الفجوة.

 

كذلك من ضمن الاسباب التي يمكن ان تضاف في هذا السياق جهل كثير من ابناء المسلمين بهذه الآداب والقيم فاذا بهم يزكون انفسهم ويبخسون الناس اقدارهم ومنازلهم فتزكية النفس لا شك ستؤدي الى الغرور والى التكبر على الآخرين والله تعالى يقول: (تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا) فالتكبر والعلو ارتبط في كتاب الله عز وجل بالإفساد والفساد في هذه الأرض وهذا من الغرور ولذلك حذر الله تعالى منه في كتابه الكريم حينما قال: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) وقال: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا).

_____________________________________

جريدة عمان: الجمعة 21 صفر 1434ه / 4 يناير 2013م

متابعة: سيف الخروصي

 د. كهلان الخروصي: كتاب الله عز وجل قرر كيف يمكن للبشر أن يحيوا حياة طيبة هانئة يسودها السلام والمحبة والتراحم

 

أكد فضيلة الدكتور الشيخ كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام للسلطنة أن الله تعالى ما أنزل كتابه إلا لكي يهدي الناس إلى الأسس والقواعد التي تمكنهم من أن تكون حياتهم محققة لغايات وجودهم من عبادة الله عز وجل ومن تعارفهم وتعايشهم ومن الحياة الطيبة التي ينشدونها.

وقال: إن معاملات الناس فيما بينهم وعلاقات بعضهم ببعض لا تخضع لأذواقهم ولا لموازين بشرية قاصرة ولا يمكن أن تطوع وفقا للمصالح والأهواء والشهوات وإنما موازينها ومعاييرها ومبادؤها مستمدة من المنهج القرآني.

وأوضح أن كتاب الله عز وجل قد قرر كيف يمكن للناس أن يحيوا حياة طيبة هانئة يسودها السلام والمحبة والتعاطف والتراحم.

وبين أن أوامر الله جاءت صريحة في كتابه عز وجل تبني الخلق النبيل وتؤسس لمعاملة مبنية على الحسنى.

وقال: إن الله تعالى يأمر عباده بان يقولوا أحسن الأقوال فيما بينهم لكي يسدوا الأبواب أمام الشيطان حتى لا ينزغ بينهم فتؤدي وسوسته الى ان يحل الخصام والنزاع محل المحبة والوئام.

واكد على ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الترجمان للأخلاق والمبادئ العظيمة فزكت نفسه وسمت أخلاقه حتى وصفته السيدة عائشة رضوان الله تعالى عليها بقولها (كان خلقه القرآن) وكان اشد احتمالا للأذى وأصبر على مخالطة الناس.

وأوضح أن الآيات المتصلة بالأخلاق من أيسر الآيات في كتاب الله عز وجل ففهمها والتعامل معها وإدراك دلالاتها ومعانيها لا يحتاج الى كبير عناء ولا إلى عميق فهم.

واشار الى أن المسلمين مامورون بأن يتناهوا عن المنكر وان يتواصوا بالحق وان يتواصوا بالصبر وان يأمروا بالمعروف وان يتناصحوا فيما بينهم.

وبين ان كثيرا من الناس عبر تاريخ هذه الأمة أبعد النجعة في استمداد القيم والأخلاق النبيلة من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعض الناس والدعاة والعلماء يستبدلون بالأخذ من تصرفات وأعمال وأفعال بعض العلماء والأئمة والدعاة فيما يسمونه بالسلف الصالح.

وقال: لا حرج في التأسي بالصالحين والاقتداء بهم لكن ذلك انما يكون مشروطا بموافقتهم للهدي القرآني في أخلاقهم وأفعالهم وأقوالهم وتعاملهم مع سائر الناس.

 

جاء ذلك في برنامج سؤال اهل الذكر في الحلقة قبل الماضية تحت عنوان (التعامل بالحسنى وأسلوب التعايش).

 

فحول السؤال الذي طرحه مقدم البرنامج الدكتور سيف الهادي الذي يقول فيه كثيرا ما يركز الدعاة عند حديثهم عن القرآن الكريم على جانب التخلي عن مجموعة من الصفات الذميمة كالغيبة والنميمة وسوء الظن والتجسس وغيرها بينما هناك جانب اظن انه لا يزال يخضع لطباع الناس ولتصرفات القدوات احيانا وهو جانب التعايش بالحسنى وأسلوب التعامل الحسن.

 

ما هو التوجيه القرآني في دعوة الناس الى هذا المنهج العملي اكد فضيلة الشيخ الدكتور الخروصي ان الجواب المباشر على هذا السؤال هو في ذات السؤال فان المنهج الذي قرره لنا ربنا تبارك وتعالى ليتعامل الناس على أساسه وليتعايشوا وفقا لسننه ونواميسه انما هو مقرر بكل وضوح وبيان في كتاب الله عزو جل في القرآن العظيم فالله تعالى ما نزل كتابه إلا لكي يهدي الناس الى الأسس والقواعد التي تمكنهم من ان تكون حياتهم محققة لغايات وجودهم من عبادة الله عز وجل ومن تعارفهم وتعايشهم ومن الحياة الطيبة التي ينشدون وبذلك وصف الله عز وجل كتابه بقوله (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) مما يعني ان معاملات الناس فيما بينهم وعلاقات بعضهم ببعض لا تخضع لأذواقهم ولا تخضع لموازين بشرية قاصرة ولا يمكن بحال من الأحوال أن تطوع وفقا للمصالح والأهواء والشهوات وانما موازينها ومعاييرها ومبادؤها مستمدة من هذا المنهج القرآني وقد قرر كتاب الله - عز وجل - كيف يمكن للناس ان يحيوا حياة طيبة هانئة يسودها السلام والمحبة والتعاطف والتراحم.

 

نجد ذلك ليس فيما يتصل بالزواجر أو النواهي التي سميتموها بانها مما يتصل بجانب التخلي بل حتى فيما يتصل بالتحلي بل جاءت أصالة لكي تبني خلق الانسان ولكي تصوغ شخصيته لما يسمو به في درجات الكمال البشري وهذا من صميم دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما وصفها الله تعالى في كتابه حينما قال(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) ولذلك فان من صميم مقاصد هذا الدين الذي أكرم الله عز وجل خاتم الأنبياء والمرسلين هو ان يزكو باخلاق الناس وأن يسمو بأذواقهم وان يرتفع بطباعهم وان يعلي من شأن خلق هذا الانسان وأدبه في تعامله مع غيره ولذلك نجد أوامر جاءت صريحة في كتاب الله عز وجل تبني هذا الخلق النبيل وتؤسس لمعاملة مبنية على الحسنى وعلى التعامل بما يحقق العيش المشترك وبما يحقق للناس ان يسودهم الوئام والتراحم.

 

ولننتقل الى بعض هذه الأسس الأصيلة من كتاب الله - عز وجل - فنجد في القرآن العظيم ان الله سبحانه وتعالى يأمر عباده بقوله (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) فيأمر عباده بان يقولوا احسن الأقوال فيما بينهم لكي يسدوا الأبواب امام الشيطان حتى لا ينزغ بينهم فتؤدي وسوسته الى ان يحل الخصام والنزاع محل المحبة والوئام ويقول ايضا (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) وهذا تأسيس لمبدأ أصيل لأن الله عز وجل أمر به عباده المخاطبين في تعاملهم مع كل الناس (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) وفي التعامل مع المختلف نجد ان الله تبارك وتعالى في أسمى عبارة وأوضح بيان يخاطب نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام ويخاطب أمته بقوله (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) ثم قال( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) فيؤسس الى ان التعامل حتى مع المختلف الذي يمكن ان تكون بينك وبينه عداوة والذي يمكن ان يمثل الطرف فيه الحسنة والطرف الآخر يمثل السيئة ومع ذلك يأتي التوجيه الرباني بقوله جل وعلا (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ثم يبين العاقبة (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).

 

فهناك عداوة ومع ذلك فان الله تعالى يأمر بأن يكون هناك دفع وان يكون هذا الدفع للباطل وللفساد وللمنكر ان يكون بالتي هي احسن وليس بالحسنى فقط بل بالتي هي احسن في التعامل مع هذا الصنف من الناس نجد ان الله تعالى يرسي للمسلمين في كتابه الكريم مبدأ العدالة والانصاف من النفس حينما يقول جل وعلا(وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) فحتى مع العدو مع البعيد البغيض يأمرنا الله سبحانه وتعالى ألا تحملنا العداوة والبغضاء والشنآن الذي بيننا وبينه إلى ظلمه وإلى الإجحاف في حقوقه ولذلك قال (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).

 

وهذا المبدأ السامي العظيم لو ان الناس أخذوا به في واقع حياتهم اليوم لطابت حياتهم واختفت الكثير من النزاعات والخلافات التي تتحول بعد ذلك الى خصومات يصعب علاجها ويمكن أن تتحول إلى حروب مدمرة ومع ذلك فإن هناك جملة أخرى من المبادئ القرآنية التي يرشدنا اليها ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم المنهج القرآني الذي يرسيه لنا ربنا في تعاملنا مع بعضنا البعض ومن ذلك ايضا ما نجده في قوله تبارك وتعالى (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) فالله تعالى يبين ان هؤلاء الذين لم يصدر منهم ظلم لا في الأنفس ولا بالإخراج من الديار يأمر بالبر بهم والإقساط اليهم ويبين انه جل وعلا انما يحب المقسطين الذين يبذلون القسط او يعاملون الناس بمبدأ العدالة والانصاف من النفس قبل المطالبة بالنصفة للنفس فهذه المبادئ التي يقررها لنا ربنا جل وعلا في هذه الآيات القرآنية وفي غيرها مما لا يخفى على الناس هي الخلق القرآني التي أمر المسلمين بأن يمتثلوه واقعا في حياتهم ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الترجمان وبهذه الأخلاق والمبادئ العظيمة زكت نفسه وسمت أخلاقه حتى وصفته السيدة عائشة رضوان الله تعالى عليها بقولها "كان خلقه القرآن".

 

وما وصفته بهذا الوصف الا لأنه تمثل هذه المبادئ الخلقية وهذه القيم الانسانية الرفيعة في تعامله مع سائر الناس وهذا مانحتاج اليه اليوم في واقعنا ان نعود الى المنهج القرآني كما وصف الله عز وجل في القرآن الكريم (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).

 

وانا تتبعت الآيات المتصلة بالأخلاق تتبع طالب العلم النهم الراغب في التعرف على ما تشتمل عليه من معان ودلالات يحتاج اليها كل مسلم فوجدت انها من أيسر الآيات في كتاب الله عز وجل ففهمها والتعامل معها وإدراك دلالاتها ومعانيها لا يحتاج الى كبير عناء ولا الى عميق فهم لأنها واضحة بينة في كتاب الله عز وجل تأتي في سياق القصص القرآني وفي الأوامر المباشرة وفي سياق النواهي وفي بيان صفات المؤمنين وجاءت مبادئ إنسانية رفيعة تتناول الواقع حينما يصف الله عز وجل عباده الرحمن بقوله (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا).

 

فحتى تعاملهم لأن من واقع حياة الناس ان يكون هناك لغو وفساد ولذلك فان الله تعالى قد بين منهج عباده الذين يمتثلون اوامره (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا).

 

وقال جل وعلا(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ).

 

وعن مداخلة الدكتور الهادي ماذا نفهم من هذه الآية السابقة الذكر اجاب فضيلته: هذه الآية كسابقتها او كما تشتمل عليه الآيات السابقة في التعامل مع من يكثر من اللغو او من كان جاحدا يستهزء بآيات الله تبارك وتعالى فان الله عز وجل ينهى عباده المؤمنين من الجلوس اليهم ومشاركتهم حتى ولو بسماع استهزائهم وكفرانهم لكنهم ان خاضوا في حديث آخر فان هذا الحكم الشرعي يرتفع لم ينههم القرآن الكريم العظيم عن الجلوس معهم وانما نهاهم عن الجلوس معهم حالة استهزائهم وكفرانهم بآيات الله تعالى أي بأحكام شرعه وبما يشتمل عليه دينه فاذا انتقلوا الى حديث غيره فان الله سبحانه وتعالى قال(حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) وهذا ورد في سورة النساء وورد تشريع مثله ايضا في سورة الأنعام.

 

أسس دوام البقاء ومصدر خيرية الأمة

وفي إجابته لسؤال الدكتور الهادي الذي استوضح فيه فضيلته: هذه النقطة التي أختتم بها حديثكم غاية من الأهمية تتعلق بالتعامل مع الناس وطريقة الاتصال بهم او عدم الاتصال يسلمنا الى سؤال مهم وهو ان طبيعة الناس على العموم تفهم اخلاق الاسلام والتعامل بالحسنى من خلال المتمسكين به او المتدينين حرصا على فرائضه وسننه حتى انهم اصبحوا يطلقون عليهم مسميات تتعلق بالاسلام (كالإسلاميين مثلا) بيد ان اختلاف هؤلاء في التعامل مع الناس واسلوب التعايش بالحسنى تتراوح هذه الاختلافات بين التشدد مع الآخر أيا كان ومسالة اذا خاضوا في حديث يسىء الى الاسلام تركوا مطلقا على العموم العودة اليهم لن تكون وبين الاندماج الحذر هذا النوع في الاختلاف بين المتدينين او الذين يلتزمون بأخلاق الاسلام ادى الى وجود جفوة بينهم وبين الناس.

 

هل ترى ان هناك اشياء اخرى ومناهج وقواعد زاحمت المنهج القرآني في تخطيط او في وضع اسس التعامل يقول فضيلة الشيخ الدكتور الخروصي: نعم لكن قبل ان اجيب على هذه القضية بالذات لي تعليق بسيط حول مقدمة السؤال اذ حسنا قلتم بان كثيرا من الناس ينظرون الى المتدينين أي الملتزمين باحكام الله تعالى ومن خلالهم يقومون هذا الدين وأخلاقه وآدابه وقيمه ولهم كل الحق في ذلك ولذلك كان من الواجب على المتقين وعلى الصالحين ان يكونوا اكثر التزاما بأخلاق هذا الدين لأنهم في مقام الأسوات في مقام المقتدى بهم ولذلك كان الالتزام في حقهم اوجب والزم طالما انهم ساروا وهكذا ايضا المناصب والولايات العامة لأن الناس تتأسى بهم ولأنهم منظور اليهم كما يقول الفقهاء ولذلك كانوا أحوج الى الصبر وكانوا أحق بكظم الغيظ واحتمال الأذى..

 

فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول للأشج ابن عبد القيس: (إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة)، وايضا لما كان الرسول صلى الله عليه وسلم اشد احتمالا للأذى والصبر على مخالطة الناس لأن الله تبارك وتعالى أمره بذلك فقال (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) فهو مأمور بالصبر في مخالطته لهم ومأمور ان يحتمل الأذى وان يهجر أذاهم فلا يقابله بالمثل فيكون هجرانه هجرانا جميلا لا أن يهجر أمر دعوتهم الى الخير ومن هنا ادخل الى لب السؤال.

 

فالمسلمون مأمورون بان يتناهوا عن المنكر وان يتواصوا بالحق وان يتواصوا بالصبر وان يأمروا بالمعروف وأن يتناصحوا فيما بينهم وأدلة ذلك كثيرة معروفة في كتاب الله عز وجل ادلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأدلة تغيير المنكر وأدلة التناصح والتواصي بالحق لكن هذا لا يعني ان يلجأ المسلم الى ما ينفر الناس والى ما يبعدهم عن حب احكام دين الله عز وجل وحب التأسي بالصالحين والتأسي قبل الصالحين بهدي الانبياء والمرسلين وامتثال المنهج القرآني في اخلاقهم في معاملاتهم لبعضهم البعض بل من الواجب ان يحرص المسلمون على قوام بقائهم، ومصدر دوام خيريتهم انما يكمن في محافظتهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق والتواصي بالصبر واداء واجب النصيحة لكن ذلك مشروط بجملة من الآداب والأخلاق التي نص عليها كتاب الله عز وجل (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وقوله ايضا جل وعلا (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ).

 

ثم في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته القولية وفي سنته الفعلية لأن اخلاقه صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال كانت خير ما يمثل المبادئ الخلقية والقيم النبيلة التي دعا اليها كتاب الله عز وجل ولذلك أثنى عليه القرآن العظيم في قوله جل وعلا: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)..

 

لكن الذي حصل ان كثيرا من الناس مع الأسف الشديد عبر تاريخ هذه الأمة ابعد النجعة في استمداد القيم والأخلاق النبيلة فبدل ان يأخذها من مصادرها من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية الثابتة الصحيحة عنه عليه افضل الصلاة والسلام اذا ببعض الناس وبعض الدعاة وبعض العلماء يستبدلون بالأخذ من هذه المصادر الأخذ من تصرفات واعمال وافعال بعض العلماء وبعض الائمة والدعاة فيما يسمونه بالسلف الصالح في حين ان هذه التشريعات وهذه الأحكام هي واضحة جلية في كتاب الله عز وجل..

 

لا شك انه لا حرج في التأسي بالصالحين والاقتداء بهم لكن ذلك انما يكون مشروطا بموافقتهم للهدي القرآني في اخلاقهم وفي افعالهم واقوالهم وفي تعاملهم مع سائر الناس؛ لأن لتصرفات الناس مهما بلغوا من المنزلة ما يكتنفها من الظروف والأحوال والملابسات التي قد لا تنقل الينا والتي قد تعذرهم في زمانهم ومكانهم لكنها لا تصلح ان تؤخذ وتنسخ لكي تكون هي المقياس والمعيار الذي يحاكم به الناس وعلى اساسها يصنفون بين فاسق ومبتدع وضال واهل بدعة وبين تقي صالح منتسب الى السلف او غير منتسب اليه هذا هو الذي أدى الى كثير من مسببات هذه الفجوة التي تشير اليها هذا من ضمن أهم الأسباب..

 

ومن ضمنها ايضا ان منظومة القيم والأخلاق التي يشتمل عليها ديننا في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم للأسف الشديد عبر اجتهادات العلماء أبعدت من هذه المصادر بل أبعدت من أن يكون الفقه الاسلامي هو الذي يتناولها واذا بنا نجدها في الغالب مبثوثة في كتب المنطق والفلسفة وكأنها قضايا فلسفية منطقية نظرية لا تمت الى الواقع بصلة مع ان أصل الفقه ان يتناول الأحكام الشرعية ومن الأحكام الشرعية ما يتصل بمعاملة الناس بعضهم البعض كيف يعامل المسلم اخوانه المسلمين وكيف يعامل سائر الناس وما هي الأسس التي يستند إليها في معاملته وما هو الثواب الذي يترتب على إحسانه او العقاب الذي يترتب على إساءته للآخرين فهذا الصنيع من تهميش علم الأخلاق وما يتصل بالأدب الاسلامي بمعنى القيم الاسلامية _ من دوائر الفقه لكي تكون محصورة في كتب المنطق والفلسفة والكتب النظرية هو ايضا من الأسباب التي أدت الى نشوء هذه الفجوة لأن الناس لم يتعرفوا لا من حيث تعرف الدعاة ومن سميتموهم المتدينون ولا تعرف عامة الناس على هذه الأحكام الفقهية لا في جانبها النظري من خلال قراءاتهم واطلاعهم ولا من حيث الممارسة والتطبيق وهذا مما ادى الى الفجوة.

 

كذلك من ضمن الاسباب التي يمكن ان تضاف في هذا السياق جهل كثير من ابناء المسلمين بهذه الآداب والقيم فاذا بهم يزكون انفسهم ويبخسون الناس اقدارهم ومنازلهم فتزكية النفس لا شك ستؤدي الى الغرور والى التكبر على الآخرين والله تعالى يقول: (تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا) فالتكبر والعلو ارتبط في كتاب الله عز وجل بالإفساد والفساد في هذه الأرض وهذا من الغرور ولذلك حذر الله تعالى منه في كتابه الكريم حينما قال: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) وقال: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا).

_____________________________________

جريدة عمان: الجمعة 21 صفر 1434ه / 4 يناير 2013م

متابعة: سيف الخروصي