مناهج الدعوة وأساليبها » بين الشيخ المحروقي والفيلسوف أنتوني فلو‎

شاءت إرادة الله - عز وجل- أن يكون الصراع بين الحق والباطل إلى أن تقوم الساعة. ولقد تصدى للدفاع عن كل من الحق والباطل فريقان من الناس. فمنذ أن خلق الله - سبحانه وتعالى- آدم - عليه السلام- إلى يومنا هذا كان التاريخ الإنساني بين دولة للحق وصولة للباطل. ومن رحمة الله - عز وجل - بالناس أن جعل معالم الحق واضحة جلية منسجمة مع فطرة الإنسان وقوانين الكون ونواميس الوجود. وأعظم معالم الحق وضوحا وأكثرها تجليا وأشدها تغلغلا في النفس الإنسانية هي حقيقة وجود الله - عز وجل-.

 

هذا الوجود الذي ما من ذرة في الوجود إلا وهي شاهدة عليه دالة على أن للكون خالقا. وفي كل نفس إنسانية شعور بهذه الحقيقة الصادقة الراسخة. ولذلك نرى أن فكرة الالتزام بدين أو عقيدة أو البحث عنها لم تفارق الجنس البشري في كل مراحل حياته. فقد وجدت جماعات بشرية وحضارة إنسانية من غير علوم وفنون وفلسفات, ولم توجد قط في طول التاريخ Bوعرضه جماعة بغير ديانة أو معابد. فالإيمان وجود الإله الخالق جزء لا يتجزأ من فطرة الإنسان.

 

ورغم ذلك نجد أن هذه الحقيقة الساطعة قد تحجبها حجب كثيفة وتطمسها ظلمات مدلهمة بعضها فوق بعض, فتطفئ هذه الحجب والظلمات جذوة الإيمان من قلب الإنسان. ومتى ما خبت هذه الجذوة أصبح هذا الإنسان تائها ً حائراً, ينظر إلى وجوده ووجود الكون من حوله على أنه لغز معمى. وانظر إلى هذا الحائر كيف يصور هذا التيه وهو يقول:

 

جئت لا أعلم من أين, ولكني أتيت

وأبصرت أمامي طريقا فمشيت

كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟

لست أدري

 

ويقول:

وطريقي, ما طريقي؟ أطويل أم قصير؟

هل أنا أصعد أم أهبط أم أغور؟

لست أدري

 

إلى أن يقول:

ألهذا اللغز حل؟ أم سيبقى أبدياً؟

لست أدري

ولماذا لست أدري؟

لست أدري.

 

طلاسم في طلاسم, وحيرة ما بعدها حيرة وظلمات بعضها فوق بعض إن أخرج يده لم يكد يراها. وهذه هي نتيجة الإعراض عن منهج الله - عز وجل -.

 

ولما شاءت إرادة الله - عز وجل - أن تفتح للإنسان من خزائن العلوم الطبيعية والتقنية, إذ به يشمخ بأنفه ويظن أن السماء تاج فوديه وأن الأرض وما عليها شراك نعليه. فكان أول ما كان منه تجاه هذه النعمة أن أعرض عن ربه وخالقه الذي خوله هذه النعمة التي يسرت له كثيرا من جوانب حياته؛ بحجة أن الإيمان - بعد الاكتشافات العلمية الكثيرة - أضحى من أساطير الأولين, وأن وجود الله - عز وجل - ما هو إلا تفسير بدائي لظواهر عجز الإنسان عن تفسيرها, كما يقول واينبرج في كتابه "Dreams of a Final Theory": بل إنه حتى القرن التاسع عشر كان تصميم النباتات والحيوانات تعد دليلا بيّنا على وجود الخالق. لا تزال في الطبيعة أشياء لا حصر لها لا نستطيع تفسيرها, لكننا نرى أننا نعرف المبادئ التي تحكم الطريق التي تعمل بها. إن على من يرد معرفة السر الغامض الحقيقي أن يبحث عنه في مجال علم الفلك أو علم الجزيئات الصغيرة". وبما أن باب العلم قد فتح على مصراعيه فلا داعٍ - على حد قول البعض - لأن ندخل الإله في تفسير الظواهر الكونية.

 

وسار في هذا الطريق المظلم الوعر جمع غفير من علماء الغرب ومفكريه. وكثير من هؤلاء غادروا هذه الحياة ولم يجدوا نهاية النفق المظلم الذي زجوا بأنفسهم داخله. ومنهم من مدّ الله - عز وجل - حتى يعيد توجيه دفة فكره الوجهة الصحيحة ويتلمس معالم الخلاص من مستنقع الإلحاد الآسن.

 

ومن هؤلاء الآخرين الفيلسوف البريطاني البروفيسور أنتوني فلو أستاذ الفلسفة الشهير, الذي ظل طوال خمسين عاماٌ يدافع عن الإلحاد بمؤلفات ومناظرات كثيرة حتى لُقب بأشرس ملاحدة العالم. وعندما بلغ الثمانين من عمره, أعلن أنه يؤمن بأنّ هناك إلها لهذا الكون. لقد فوجئ العالم بهذا الخبر حتى أن وكالة أنباء الأسوشيتد برس أذاعت الخبر تحت عنوان: " ملحد شهير يؤمن بالإله بدافع من الشواهد العلمية". ولقد نزل هذا الخبر كالصاعقة على الفلاسفة والمفكرين الملاحدة, فانبروا للدفاع عن إيمانهم المقدس بالإلحاد, وعبروا عن سخطهم وازدرائهم لهذا التحول وكالوا للرجل ما لا يليق من التهم منها أن الرجل قد بلغ من الكبر عتيا وأنه أصبح يخاف من الموت لذلك توجه نحو الإيمان ليخفف عنه ما يجده من الخوف.

 

ولقد دخل خلف ملاحدة الغرب جحر الإلحاد النتن المظلم بعص أبناء المسلمين مناسقين خلف ادعاءاتهم التي توهم بوجود التناقض بين العلم والدين. ولأجل إزالة الغبش عن هذا الفهم, نستعرض آراء الشيخ درويش بن جمعة المحروقي - رحمه الله - والفيلسوف أنتوني فلو حول الحياة والكون. ولقد عاش الشيخ المحروقي - رحمه الله - في القرن السابع عشر الميلادي بينما أنتوني فلو من الفلاسفة المعاصرين. ورغم وجود الفجوة الزمانية والحضارية بين الرجلين, فإننا خلال هذا الاستعراض نلاحظ تقاربا كبيرا بين آرائهما, وإن كان أنتوني فلو قد استعان لبناء صرحه الفكري لمرحلة ما بعد الإلحاد بأحدث ما توصل إليه العلم الحديث من نظريات وحقائق تتعلق بأصل الحياة وبنظام الكون, فإن الشيخ درويش - رحمه الله - قد انطلق في تأملاته في خلق الكون و الإنسان من أسس ثلاثة: النظرة القرآنية, والعقيدة السليمة, والعقل المفكر.

 

وباستخدام هذه الأسس استطاع الشيخ - رحمه الله- امتلاك رؤية ثاقبة تجاوزت في صحتها الزمان والمكان, لتأتي الاكتشافات العلمية الحديثة منتظمة في فلك هذه الرؤية ومنسجمة معها. وبعد إمعان النظر وصل كل من الشيخ - رحمه الله- والفيلسوف إلى نقطتين مشتركتين هما:

 

أولا: أن خلق الإنسان والتعقيد البالغ في عمل خلاياه وفي انتظام قوانين الكون لهو أكبر دليل على وجود الخالق العظيم - سبحانه وتعالى- .

 

يقول الشيخ في كتابه الفكر والاعتبار عن خلق الإنسان: "أما تتفكر في عينيك, فقد جعلها الله في أعلى وجهك؛ لتنظر بهما حيث شئت, وجعل لهما جفنين حارسين وجعلهما مغمضين, أي شيء يحرك جفنيهما دائما إلا عند النوم, وكيف جعل هذا النظر من مقلة العين شبه الحبة لا يكون إلا منه - أي من الله عز وجل- فبه يرى ما فوقه إلى السماء, وما على يمينه وشماله أو ورائه, أو قدامه, ولو إلى مسيرة يوم أو أكثر... أما هذا من الآيات الباهرات الدالات على خالق ليس كمثله شيء".

 

ونلاحظ في كلام الشيخ أن مصدر المعلومات عن خلق الإنسان هو العين المجردة التي تتأمل في الكون ويضع العقل هذه التأملات في مكانها المناسب وفي سياقها الصحيح في منظومة الرؤية القرآنية للكون والحياة. وعندما تحدث فلو عن معجزة الخلق استخدم معلومات أكثر دقة وعمقا مستعينا بأحدث ما توصل إليه العلم من معرفة عن عمل الخلايا الحية, فهو يقول: "إذا تأملنا مفهوم الحياة بمنظور فلسفي وجدنا أن السمة المميزة لها أن للكائنات الحية غرضا أو هدفا متأصلاً في بنيتها, هذا الهدف هو المحافظة على وجودها, وهو هدف لم يكن موجوداً في المادة غير الحية التي نشأت منها.

 

وعندما لاحظ أرسطو الارتباط بين الحياة والغاية, عرّف الحياة بأن يكون للشيء غاية في وجوده. ويقول: " إن الحياة ليست مجرد تفاعلات كيميائية معقدة تنتهي ببناء البروتينات اللازمة للحياة, وليست فقط اختزان المعلومات والصفات الوراثية ونقلها للأجيال التالية. إن المشكلة الأعقد التي تواجه الماديين بخصوص طبيعة الحياة هي معضلة التشكيل, يمكن أن نوضح مفهوم التشكيل بطرح مثال يقرب لنا الصورة, كيف يمكن أن تتحول كلمات نخطها على أوراق نصف فيها هيئة إنسان مهما بلغت تفاصيلها ودقتها إلى إنسان حقيقي من لحم ودم. لقد أصبح من الضروري الإقرار بأن هناك نظاماً ما "مازال مجهولا" هو المسؤول عن هذا التشكيل". ويقول: "إن التفسير الوحيد المرضي عقلا لوجود الحياة ذات الغاية, والقادرة على التكاثر والتي تحكمها آلية التشفير هو الإقرار بوجود الإله القديم الحكيم القادر".

 

ثانيا: إن الكون بما فيه من أجرام ومخلوقات مسخر لخدمة الإنسان. يقول الشيخ - رحمه الله - عن الآبار: " وكيف الآبار جعلها الله لمنافع العباد...أما هذا من الآيات الدالات على وحدانية الله تعالى", ويقول عن الأشجار: " منه الحلو لأكل البشر, ومنه المر, ومنه الصغير لرعي الدواب ومنه الكبير يعضد للدواب, ومنه المظل للناس, ولا يحصى بعضه فكيف بجميعه, وكله جعله الله منافع للخلق", ويقول عن بعض الحيوانات: " وجعل بعضها رزقا لنا لنأكل من لحومها حلالا طيبا, بل نذبحها بعد ذكر اسم الله عليها وجعل في بعضها منافع لعباده للزجر عليها, ولحرث الأرض ولحمل الأثقال, ولركوب النساء والرجال" ويقول عن البحار: " ثم التفكر في هذه البحور الزواخر, فإنها من آيات الله الظواهر, انظروا كيف جعلها الله طرقا لكل مسافر؟ وكيف جعلها لا تفيض على البراري, وجعل فيها اللؤلؤ والمرجان والعنبر والجواهر" ويقول عن الشمس: " وانظر إلى ما جعل الله لنا من المنافع بسبب هذه الشمس من شفاء علل وتنشيف رطوبات ووسخ وإيناع ثمرة نخيل وشجر, ونضج زروع".

 

وفي الجهة الأخرى نستعرض ما قاله أنتوني فلو عن نظام الكون وما فيه من منافع للإنسان. فقد ذكر تحت عنوان " كون أعد لاستقبالنا" قصة رمزية تبدو وكأنها تلخيص كلام الشيخ- رحمه الله - عن تسخير الكون لمنفعة الإنسان. تقول القصة: "تصور أنك نزلت في إحدى رحلاتك بأحد الفنادق, وعندما دخلت غرفتك وجدت أن الصورة المعلقة فوق السرير نسخة مطابقة للصورة التي علقتها منذ سنوات فوق فراشك في بيتك, كذلك السجادة التي تغطي أرضية الغرفة! بل إنهم يضعون في المزهرية نوع الزهور نفسه الذي تفضله. وعلى المنضدة التي في ركن الغرفة وجدت الطبعة الأخيرة من ديوان الشعر الذي تفضل القراءة فيه من حين لآخر, كما وجدت الصحيفة التي اعتدت قراءتها يوميا". وداخل الثلاجة وجدت أنواع المشروبات والشيكولاته التي تحبها, كما أن زجاجة المياه من نفس النوع الذي تستخدمه في وطنك. وعندما شغلت جهاز التلفاز, وجدت أن الإرسال الداخلي للفندق يعرض باستمرار الأفلام المفضلة عندك, كما تذيع الإذاعة الداخلية المقطوعات الموسيقية التي تحبها. وفي الحمام وجدت الجدران قد غطيت بالقيشاني من نفس درجة اللون الذي تفضله كما وجدت على أحد الأرفف نفس الشامبو والصابون الذين اعتدت على استخدامهما. وكلما جلت ببصرك وجدت حولك تطابقا بين ما تحبه واعتدت عليه, وبين ما وفرته لك إدارة الفندق. لا شك أن احتمال المصادفة يتناقص تدريجيا حتى يثبت في يقينك أن أحداً قد أطلع إدارة الفندق على تفاصيل حياتك ودقائق رغباتك".

 

من خلال كلام الشيخ السابق وهذه القصة الرمزية نلاحظ تقارب - إن لم تطابق - بين رأيي الشيخ - رحمه الله - والفيلسوف في أن كل ما في الكون مسخر للإنسان.

 

وهكذا نلاحظ أن تأملات الشيخ درويش - رحمه الله - المرتكزة على العقيدة الصحيحة والنظرة القرآنية إلى الكون والحياة, أثبت صحتها الفيلسوف أنتوني فلو وتبناها فكرا ومعتقدا بعد أن عصفت به عواصف الإلحاد وألقت به في دوامة الشك مدة خمسين عاما. والشيخ - رحمه الله - اقتبس هذه الاشراقات الإيمانية من مشكاة القرآن الكريم, فكانت لديه - كما هو حال العقيدة الصحيحة- رؤية لهذه الحياة تتعدى حدود الزمان والمكان. وهذا التفاعل مع روح القرآن هو الذي يفتقده أنتوني فلو, فهو بعد أن قادته الأدلة نحو الإيمان بالخالق العظيم - جل في علاه- ما استطاع أن يواصل المسير لاكتشاف الغاية من الخلق, والمنهج الذي ينبغي أن يسير عليه الإنسان في هذه الحياة. فهو على الرغم من إثباته أن للحياة غاية إلا أنه ما استطاع أن يتوصل إليها بعقله وهيهات له ذلك دون الوحي الإلهي. فما ينقصه هو العقيدة السليمة التي تفك له ألغاز هذا الوجود.

 

ولمن خدع ببهرج الإلحاد من أبناء المسلمين نقول: إن في موقفي الشيخ والفيلسوف لعبرة بالغة, فالشيخ لم يكن يحتاج للمناظير الفضائية ولا للمجاهر الإليكترونية ولا لنظريات الفيزياء والأحياء, ليؤمن بأن للكون إلها وخالقا عظيما, وإنما اعتمد على فكر صحيح صاغته عقيدة سليمة واقتبس نوره من القرآن العظيم. والفيلسوف أفنى خمسين سنة من عمره زعيما لحركة الإلحاد الحديثة ثم أعاد النظر في الكون, وإذا به ينساق تلقائيا وبدون تردد إلى الإيمان, والعاقل من اعتبر بغيره. وختاما نؤكد على أننا لسنا بحاجة إلى أي كان ليثبت لنا أننا على الحق وأن عقيدتنا صحيحة فهذا أمر ندين لله تعالى به, ولكن لما رأينا بعض المسلمين وغيرهم مفتتنين بأقوال الغرب وآرائهم, سقنا موقف أنتوني فلو من قضية الإيمان بالله سبحانه وتعالى.

____________________________________________________

خالد بني عرابة-جريدة الوطن: الجمعة 13 شوال 1433هـ / 31 أغسطس 2012م