جاءت ابنة الشيخ أبي مسور النفوسي رحمها الله إلى أبيها يوماً تسأله عن مسائل الحيض، وتصف له بعض ما أصابها، فقال لها العالم الكبير: « ألا تستحين؟ » فقالت: « أخشى إن استحيت منك أن يمقتني الله يوم القيامة »، فانتبه الشيخ فقال: « لا يمقتك الله يا بنتي » فألزمت أباها الحجة، ولم يجد لها رداً، وأجابها عن أسئلتها[1] .

إخوتي الأعزة:

   موقف هذه البنت الكريمة الصالحة هو عين ما جاء عن أم سُليم امرأة أبي طلحة الأنصاري- رضي الله عنها- إذ جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله؛ إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال: « نعم إذا رأت الماء »[2] .

   وهو نفس ما رواه ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: جاءت امرأة- أم سُليم أو غيرها- إلى رسول الله قالت: برح الخفاء يا رسول الله، المرأة ترى ما يرى الرجل، فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: « عليها الغسل إذا أنزلت »[3] .

   نعم بَرِحَ الخفاء، أي وضح الأمر فلا يمكن إخفاء شيء عن الحق، وإن اقتضى الحياء إخفاءه، وإن الله لا يستحي من الحق، إنها امرأة من الأنصار من نساء الرعيل الأول، ممن قالت فيهن السيدة الطاهرة عائشة- رضي الله عنها-: « رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء عن التفقه في الدين ».

   إنها تريد أن تتعلم أمر دينها ولو كان ذلك في أخص خصوصياتها، مما يستوجب الاستحياء والخجل، فلا مكان للاستحياء الذي يمنع صاحبه من الفقه في دينه، وفهم شريعة ربه، وعبادة خالقه على بصيرة، إذ ما حجتها عند ربها لو جهلت طهارتها التي هي شرط صحة عبادتها؟ هل ينفعها التذرع بالجهل وعدم التعلم بدعوى الاستحياء؟ إنها غير معذورة، وما أحسن ما قاله العلامة ابن النضر:

وما عذري بجهلي عند ربي *** وهل أنا واجدٌ في الجهل عُذرا

   لماذا يستنكف بعضنا عن تعلم أمور دينه؟ متذرعاً بدعاوى مستمدة من الوهم والجهل، كما أن من النساء من تستنكف عن السؤال عما يهمها في أمر عبادتها بدعوى الخجل والحياء .

   وإنه مما لا يتقضَّى منه العجب أن يهتم البعض بمعرفة ما لا خير فيه، من تتبع العورات، وتقصي أسرار البيوت، والحديث عن أعراض الناس، والاستفاضة في معرفة القليل والكثير مما يدور في فلك نيل مآربه وقضاء شهواته، فإذا ذاكرته في أقل القليل من الواجب عليه في أمر دينه، وجدته خالي الوفاض، يقع في مهاوٍ ومغالق تضيع عليه عبادته وتفسد طاعته، وربما يكون قد بلغ من الكبر عِتياً، ومع ذلك فهو متشبع بالجهل إلى أذقانه، لا تختلف عبادته في كبره عما كان في صغره.

   وصنف من الناس من يبزّك بزَّاً في تدقيق حساباته وجمع دراهمه، بينما أمر دينه لا يُبدئ فيه ولا يعيد، رغم سهولة فهمه وتعلمه، لكنه لم يُلقِ إليه نظراً، ولا كان من اهتماماته يوماً، على مثل هؤلاء يتوجع قلب الناصح، يقول الإمام السالمي:

لأنما الدنيا لديهم تعظمُ *** لا الدين وهو للفؤاد مُؤلمُ

   وعندما خجل هؤلاء عن تعلم أمر دينهم والسؤال عنه، رجالاً كانوا أو نساء، رأيت ضروباً من الأعاجيب، ربما لا تصدقها أو تنكرها لكنها حق، وما خفي كان أعظم، ولا أدل على ذلك ممن يصلي أربعين سنة المفروضة تاركاً تكبيرة الإحرام، وهي فاتحة الصلاة وركنها الأعظم، ومنهم من لا يعرف أصول الاغتسال من الأحداث الكبرى « الجنابة، الحيض، النفاس »، بل بعضهم تركه رأساً، ومن النساء من تضيع صلوات وصيام؛ لأنها لا تفرق بين وقت طهرها ووقت عذرها، ولا شرائط ذلك كله، ومَن يعاشر أهله سنوات وهما لا يغتسلان، ومن لا يُميِّز بين المياه الثلاثة، ومن يترك الصلاة في مرضه بدعوى أنه معذور، رغم أن المريض يصلي على حسب ما أمكنه، ولا يصح له ترك الصلاة، ناهيك بمن يأكل رمضان جهلاً، ويفسد حجه لسوء فهمه وعدم علمه، ويترفع عن السؤال .

   هذا أقل القليل في أمر عبادته، فكيف بفقه المعاملات، كالبيع والشراء، ومعاملة المعتدة معاملة تنفر منها الطباع، الحقوق الزوجية وتضييعها، والأبناء وتربيتهم، وكم جر هذا الجهل من ويلات وبليات على الأفراد والأسر والمجتمعات! ولو عددت ما استقيصت، وهل يداوى هذا الجهل بالخجل والاستحياء؟‍‍‍‍‍‍‍‍! كلا، فلا بد من سؤال العلماء، والاسترشاد بأحكام الشرع الشريف .

   لذلك بادرت أم سُليم- رضي الله عنها- تسأل رسول الله r عما يعنيها في أمر دينها، ولم يقف الحياء والخجل حائلاً بينها وبين معرفة فقه طهارتها، وقد علَّمها- عليه الصلاة والسلام- وما نهرها ولا عنَّفها ولا منعها السؤال، بل كشف عنها اللبس، وبصَّرها من العمى، وفعله r ذلك معها أعظم إقرار لأمته وخاصة النساء أن يسأل المرء عن أمر دينه .

   وعلى هذا النهج الصالح والسلوك الحميد سارت بنت أبي مسور- رحمها الله- إذ سألت أباها وما استحت، بل عندما قال لها: « ألا تستحين؟ » ردت عليه: « أخشى إن استحيت منك أن يمقتني الله يوم القيامة »، فانتبه الشيخ فقال: « لا يمقتك الله يا بنتي ».

***

   إن الفقه في الدين من أبرز صفات المسلم، وهو من علامة محبة الله لعبده، كما جاء بذلك الحديث الشريف « من أراد الله به خيراً فقَّهه في الدين »[4]، وقد دعا r لعبدالله بن عباس بقوله « اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل »[5] .

   من ثَم كان الفقه بتلك المنزلة العلية، يسير صاحبه على سواء الصراط في معرفة أحكام معاشه ومعاده، فهو على نور من ربه إذ عرف الحلال والحرام، والجائز والممتنع، وأنقذ نفسه من شباك إبليس التي ينسجها بخيوط الجهل، فيملي على ابن آدم إرادات الشر والفساد والمنكر، ويزعم أنه له ناصح وعليه حريص، فيتبعه ذلك الجاهل؛ لأن نور الفقه عنده معدوم أو شبه معدوم .

   لذلك تنقلب عنده الأمور، فيتصور الحق باطلاً والباطل حقا، والمعروف منكراً والمنكر معروفا، والخير شراً والشر خيرا، فيُفسِد ويُعربِد فيُضِل نفسه ويُضِل غيره .

   كم قد رأينا من يعمل السوء والشر ويزعم أنه الخير المحض، ومن يركب الباطل ويتخرَّص بأنه الحق الأبلج، ومن يتقحَّم عن الفضيلة بدعوى الحرية، وتنحرف مبادئه بدعوى التفكير النيّر، ويأكل أموال الناس ويزعم النباهة والفهم، ويهتك الأعراض بدعوى الحب، ويرتكب من صنوف الموبقات بدعوى الفن والإبداع.

   ومن الناس من يتخبط في أمر عبادته بسبب جهله وعدم فهمه لدينه، وما تُغني العبادة الجوفاء- وإن كثُرت- بدون فقه أو علم، ربما كانت مخترمة فاسدة بسبب وقوعه فيما يفسدها، شأنه كمن يبني قصراً بلا قواعد سرعان ما ينهار به، وقد ضرب الحق سبحانه لذلك مثلاً بقوله ) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ الله وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ([6].

   إن الفقه سلاح المؤمن به يكافح وينافح، وبه يستبصر الحقائق ويستخرج المكنونات، ويقدم بين يديه عبادة نظيفة سالمة من مفسداتها، تامة في شرائطها، كاملة في ضوابطها، شديدة البنيان، راسخة القواعد، تلك العبادة على نور الفقه هي التي تصعد إلى عليائها متقبلة، تُحِلُّ صاحبها منازل الرضوان وغُرف الجنان، وينال بها درجات الأبرار، وتثمر في النفس الخشية والمراقبة والصلاح والاستقامة، وصلاح الدين والدنيا والآخرة .

   كما أن المرء مع سلاح الفقه يعامل الناس معاملة صالحة نظيفة صحيحة، في أخذه وعطائه، وبيعه وشرائه، في حقه وواجبه، فلا يَبخس ولا يُبخس، يعرف مواطئ الأقدام الراسخة فليزمها، ويتفطن لمزال الأفهام فينفر منها، يصون نفسه عن الدنايا والرزايا، ويوقف تصرفاته على الشريعة الناصعة، فيعمل بالحق وللحق.

   وهكذا تعامله مع الوجود بأسره في اتساقه وانتظامه، يكون كما أراده الله خليفة له في أرضه، يطيع أمره ويطبق شرعه، ويفقه سر وجوده، ويعقل حِكَم الحياة وخط السير فيها .

   أما الجاهل الذي أفرغ جعبته من فهم دينه، فهو يتردى في عمى، ويسير على غير هدى، ويهدم ولا يبني، ويأخذ ولا يُعطي، وما أكثر تلك الأخطاء الناشئة عن الجهل وعدم الفهم لدين الله، فكانت كوارث على أصحابها، ومعاول هدم لمجتمعاتها، فصارت عقبات كأداء في سبيل الإصلاح ونشر الخير، وقد ضرب الله الأمثال وما يعقلها إلا العالمون ) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ[7](، وقوله تعالى) أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا([8].

***

   كما أن الفقه ليس مقصده الفهم وحده، وإنما فهم وتطبيق، بأن يتحول إلى واقع مشاهد للعيان، إذ الفقه يُترجم لتسير الحياة على المنهج الرشيد، لا لحشو الأدمغة بالمسائل بدون فهم أو عمل .

   إذن لا بد أن يُنزل هذا الفقه إلى الواقع حتى يسير الناس في الحياة على نوره، ويستبصروا به في ظلماتها .

   ومنا مَن يعرف ولا يفقه، ومنا من يفقه ولا يعمل، والرابح من ظَفِر بالفقه والعمل، فهو السعيد الفائز في الدارين، ولا عبرة بسعة الأفق والمعارف ما لم يرافقه العمل، وأكثر الناس فهماً من عمل بعلمه ولو كان قليلا، فهو سر يفتح مغاليق العلوم، ويفجر ينابيع الحكمة والخشية في القلب الطاهر، يقول النبي المجتبى r: « من تعلم العلم لله عزوجل وعَمِل به حشره الله آمناً ويُرزق الورود على الحوض »[9].

   فغزير الفقه هو افر العمل، ذلك مَن رفع الله مقامه، وأدناه وقرَّبه وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا .

   وكم كان الفقه بهذه المعاني السامية سلامة من العطب، ومنقذاً من الهلكة، وبناءً لقيم ورفعاً لأمم، وصلاحاً لمجتمعات، فهل يُفرِّط في هذا الكنز الثمين مُفرِّط، وهو بين يديه وله خُلِقَ وعليه يحاسب .

   وإنما يقتتل الناس على شهوات الدنيا الزائلة، فمالهم يزهدون في كنز الشريعة وسر السعادة، والثروة التي لا تقدر بثمن، إنه الفقه فعليه فأقبل وإياه فلزم .

   من كل ما تقدم ندرك سر ما قالته بنت أبي مسور « أخشى إن استحيت منك أن يمقتني الله يوم القيامة »، ومن مقته الله أخرجه من دائرة الرحمة إلى منزل الذل والسخط، لذلك رد عليها أبوها على الفور « لا يمقتك الله يا بنتي »، فليراجع كل منا حساباته قبل طي صفحاته، وانكشاف عثراته.

   ولتكن هذه الكلمات النورانية المشرقة نصب عينيك- فتاة الإسلام- لتكوني ممن فَقِهَ ففَهِمَ فَلَزِم، ولتتكاتف الجهود من أجل تنوير الناس وتفقيههم في دينهم، والصبر عليهم في تعليمهم، حتى يصل الجميع- بحول الله- إلى بر الأمان .    

 

 

[1]- كتاب السير، ج1/ 197

[2]- رواه الربيع برقم 137

[3]- رواه الربيع برقم 136

[4]- رواه الربيع برقم 25 ، 26

[5]- أخرجه البخاري برقم 244

[6]- التوبة: 109

[7]- النور:40

[8]- الأنعام:122

[9]- رواه الربيع برقم 21