منظومة القيم القرآنية

في المجال الكلامي والأخلاقي

بحث مقدم

إلى ندوة تطوّر العلوم الفقهية

بعنوانها الفرعي

(( المشترك الإنساني والمصالح ))

في الفترة من 6-9/4/2014م

أعدّه :

أحمد بن سعود السيابي

 

 

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فهذا بحث بعنوان (( منظومة القيم القرآنية وأثرها في المجال الكلامي والأخلاقي )) أعددته لندوة تطور العلوم الفقهية في عمان، التي تقيمها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية كل عام، وعنوانها الفرعي هذا العام هو ((المشترك الإنساني والمصالح ))، وقد جعلته تحت أربعة عناوين وخاتمة وهي :

  • القرآن دستور الحياة الإسلامية.
  • القيم القرآنية .
  • علم الكلام في القيم القرآنية .
  • الأخلاق في القيم القرآنية .
  • الخاتمة وفيها خلاصة الفكرة .

                والله أسأله التوفيق والتسديد في القول والعمل

إنه وليّ التوفيق

 

 

أحمد بن سعود السيابي

 

 

 

 

القرآن دستور الحياة الإسلامية

                   أما الكتاب فهو نظم نزلا   *   علـى نبـيـنـا وعنــه نقــلا

                   تــواتــرا وكــان في إنزالــه    *   إعجاز من ناواه في أحواله

بهذا التعريف الجامع المانع عرّف الإمام نور الدين السالمي القرآن العظيم المبارك في أرجوزته القيمة ((شمس الأصول)) وقال في شرحه لها ((طلعة الشمس)).

الكتاب المراد به كتاب الله تعالى : بأنه النظم المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم المنقول عنه تواتراً(1).

على أن للقرآن خصائص كثيرة، ولكن أهمها وأبرزها في رأيي خصيصتان اثنتان هما : الإعجاز والهداية .

فإن هاتين الخصيصتين تنسحبان على كل آيات القرآن، العقدية والتشريعية والأخلاقية والأخبارية، وعلى كل الوجوه التي نزل بها القرآن الكريم، وهي الوجوه التي اختلف العلماء حولها كما روى الإمام الربيع بن حبيب عن الإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة عن اختلاف الناس في معنى الأحرف التي نزل بها القرآن، حيث قال : اختلف الناس في معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم نزل القرآن على سبعة أحرف، قال بعضهم على سبع لغات، وقال بعضهم على سبعة أوجه : وعد، ووعيد ، وحلال، وحرام، ومواعظ وأمثال واحتجاج .

وقال بعضهم : 

حلال، وحرام، وأمر، ونهي، وخبر ما كان قبل، وخبر ما هو كائن، وأمثال(2).

فإن هذه الوجوه التي نزل القرآن عليها واختلف العلماء حولها هي من الإعجاز القرآني، ومحملة بالهداية الربانية للإنسان سواء كانت هداية بيان أم هداية توفيق .

وذلك لأن القرآن وافق نزوله بلوغ اللغة العربية نضجها، وبالتالي بلوغ أصحابها العرب أوج البلاغة وقوة الفصاحة فيها، إلى حد أن بلغ بهم الإعجاب بذلك كل مبلغ، فكذّبوا القرآن وكذّبوا النبي صلى الله عليه وسلم،واستكبروا استكباراً عن التصديق وقبول الحق، ولنستمع إلى الله عز وجل وهو يصف لنا أحد تلك المشاهد الجحودية أو التكذيبية حيث يقول ((تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ {الجاثية/6} وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ {الجاثية/7} يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {الجاثية/8} وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ {الجاثية/9})).

من هنالك كان الإعجاز القرآني بكل صنوفه ووجوهه هو الأمر الذي كان لا بد من التحدي به ذلك الإستكبار البياني الذي وصف الله به واحداً من زعمائهم بقوله ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ {لقمان/6} وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {لقمان/7})).

يقول الإمام ابن بركة واصفاً ما عليه أولئك القوم من فصاحة وبلاغة غير أنه مع فصاحتهم تلك فقد تحدّاهم القرآن أيّما تحد ولم يستطيعوا مجاراته حيث يقول (( إن رسول الله جاء به قوماً كانوا الغاية في الفصاحة والعلم باللغة والمعرفة بأجناس الكلام جيّده ورديئه، فشتم آباءهم وأسلافهم، وقبّح أديانهم، وضعّف أخبارهم، وهم أهل الحمية والأنفة والخيلاء والعصبية فقرّعهم بالعجز لأن يأتوا بمثله، ومكّنهم من الفحص والبحث والإحتيال، وأمهلهم المدة الطويلة، وأعلمهم أن في إتيانهم بمثل الذي أتى به في جنسه ونظمه ما يوجب إحقاقهم وإبطاله – حاشا له من الباطل – فبذلوا له في إطفاء نوره ودحض حجته أموالهم وآباءهم وأبناءهم وأنفسهم، ولم يعارضوا ما احتج به عليهم من كتاب ربه بإرجوزة ولا قصيدة ولا خطبة ولا رسالة، فصحّ بهذا أنهم لو قدروا على ذلك ما تركوه إلى بذل الأموال والأنفس(1))).

على أن دستورية القرآن للحياة الإسلامية لا شك أنها مشمولة بالهداية الربانية، وتلك الدستورية المحكمة والصالحة تتجلى في قول الله عزوجل حيث قال ((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا {المائدة/48})) وقوله تعالى ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ {الجاثية/18} إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ {الجاثية/19} هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ {الجاثية/20})).

وتتضح الخطوط العريضة من سياق الآيتين الكريمتين منطوقاً ومفهوماً فيما يلي :

  • - نزول القرآن من الله بالحق .
  • - مصدقاً لما قبله من كتب الله على أنبيائه وأهمها التوراة والإنجيل، وبالطبع قبل تحريفهما.
  • - هيمنة القرآن على الكتب الربانية السابقة .
  • - الأمر بالحكم بالقرآن وما جاء فيه من أحكام وأخلاق واعتقاد .
  • - التحذير من إتباع أهواء الضالين المضلين الذين لا يجدون وسيلة لإضلال أهل الحق إلا فعلوها وقاموا بها .
  • - جعل الله للنبي محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمين، الإسلام شريعة يجب إتباعها والعمل بمقتضاها .
  • - الشريعة الإسلامية منهاج واضح بيّن لا لبس فيه ولا غموض .
  • - التحذير من إتباع أهل الأهواء لأنهم جهّال لا يعلمون الحق أين هو ؟ فلذلك ضلوا وأضلّوا .
  • - الظالمون وأهل الأهواء بعضهم أولياء بعض، فعلى أهل الإيمان أن يجتمعوا ويوالي بعضهم بعضاً، فالله تعالى وليهم وناصرهم ومؤيدهم لأنه وليّ المتقين .
  • - آيات القرآن هي بصائر، تبصّر الناس الحق وتوضحه لهم لكي يتّبعوه ولا يضلوا عن طريقه وفي ذلك هدى لهم ورحمة من الله. ولكنها للقوم الذين يعلمون علماً يقينياً بأن شريعة الإسلام هي الحق المبين، وأنّ ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه دليل لكل الناس إلى الخير والصلاح دنيا وأخرى .

 والملاحظ أن الآيتين الكريمتين تركزان على أمرين اثنين هما : الأمر بإتّباع شريعة الله،   ومجانبة الأهواء الضالة .

على أن هذه الدستورية القرآنية للحياة الإسلامية هي التي شكّلت القيم الإسلامية العظيمة، وهي في الحقيقة قيم إنسانية تدل عليها فطرة الله التي فطر الناس عليها قبل أن تتلوث تلك الفطرة بالملوثات العقدية والأخلاقية يقول الله عزوجل ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {الروم/30} مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ {الروم/31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ {الروم/32})).

وسوف نتطرق إلى القيم القرآنية الإسلامية الإنسانية في المحور التالي :

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القيم القرآنية

القيم جمع قيمة .

وقد عرّف الخليل بن أحمد الفراهيدي القيمة بأنها الملة المستقيمة(1).

وعرّفها الفيروز آبادي قائلاً : القيمة بالكسر واحدة القيم، وماله قيمة إذا لم يدم على شيء، وقوّمت السلعة واستقمتها ثـمّنتها، واستقام اعتدل.

وقوّمته عدّلته فهو قويم ومستقيم، والقوام العدل(2).

والقيم القرآنية هي أوامره ونواهيه وأخباره وكل وجوهه التي ترسم الحياة الإسلامية المتصلة بالله عقيدة وشريعة، فذلك هو منهج الله (( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا )) .

ومن هنالك يتبين لنا أن القيم في القرآن تعني دين الله عزوجل الذي هو دين الإسلام، فالقرآن الكريم هو الأصل الأول والأصيل للإسلام وفي الإسلام، وهو ما يعنيه قول الله عزوجل ((قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {الأنعام/161} قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {الأنعام/162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ {الأنعام/163})).

وقد رسمت هذه الآيات الخطوط العريضة للحياة الإسلامية من صلاة ونسك ومحيا وممات بأنها هي الدين القيم الذي كان عليه نبي الله إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه والذي يجب على المسلم بل على الإنسان أن يسير عليه، ومن المعلوم أن خطاب الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم هو خطاب للبشرية كلها سواء كانت أمة إجابة أو أمة دعوة.

ودين الأنبياء واحد في أصول العقائد والأخلاق، فقد قال الله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام في قوله لصاحبي السجن ((مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ {يوسف/40})).

إذن نستخلص من ذلك أن القيم القرآنية هي دين الله القويم، وهو الإسلام الذي كان عليه الأنبياء والرسل منذ آدم وإلى محمد صلى الله عليه وعليهم وسلم، لأن جميع الأنبياء والرسل في جميع دياناتهم أصولهم واحدة ومتفقة في العقائد والأخلاق يقول الإمام محمد بن يوسف أطيفش ((والدين واحد وهو التوحيد لا يختلف، ومكارم الأخلاق واجتناب مساوئها، والإقرار بحقيقة ما جاء من الله، ولا شريعة بعد البعثة المحمدية، وتدل الآية أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا، وكذا بين الشرائع وقيل هما واحد(1))).

على أن الآية التي يشير إليها هي الآية (48) من سورة المائدة التي فيها ((لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)).

ومن المعلوم أصولياً أن الخلاف موجود في شرع من قبلنا هل هو شرع لنا إذا لم ينسخ أم ليس شرعاً لنا ؟ .

اختيار المذهب إنه ليس شرعاً لنا، أما إذا نسخ فلا خلاف أنه ليس شرعاً لنا .

 

 

 

 

 

 

 

 

علم الكلام في القيم القرآنية

عرّف الشريف الجرجاني: الكلام بقوله، الكلام علم يبحث فيه عن ذات الله تعالى وصفاته وأحواله الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الإسلام، وقال أيضاً الكلام علم باحث عن أمور يعلم منها المعاد وما يتعلق به من الجنة والنار والصراط والميزان والثواب والعقاب .

وقال أيضاً : الكلام هو العلم بالقواعد الشرعية الإعتقادية المكتسبة عن الأدلة(1).

ويطلق الكلام على علم التوحيد، فهو يسمى كلاماً، لأن عنوان مباحثه كان قولهم الكلام في كذا وكذا، ولأن العالم به يقتدر على الكلام القامع للشبه بخلاف غيره، فيكون تسميته بالكلام مبالغة حتى كأنه هو الكلام لا غيره .

والتوحيد في اللغة : الإفراد، يقال وحّد الله إذا أفرده ولم يجعل له شريكاً .

وشرعاً : هو الإقرار لله بالوحدانية، والشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وأن ما جاء به محمد من ربه هو الحق مجملاً ومفصلاً .

والتوحيد هو العلم الذي يقتدر به على إثبات العقائد الدينية، والمراد بالعقائد ما يقصد منه نفس الإعتقاد دون العمل(2) .

وفي رأيي أن علم الكلام يختلف عن علم العقيدة أو علم التوحيد، فإن علم العقيدة أو علم التوحيد هو العلم المثبت لوجود الله وصفاته ومعرفة الله عزوجل، وما يتعلق بالمعاد من الحساب والجنة والنار والثواب والعقاب والصراط والميزان والوعد والوعيد والملائكة والكتب والعدل والشفاعة، وهي القضايا العقدية التي تنقسم إلى الإلهيات والنبوّات .

أما علم الكلام فهو الجدل أو النقاش حول قضايا العقيدة المتعلقة بالإلهيات والنبوّات، وذلك الجدل مرتبط بعلم المنطق المرتبط بدوره بالفلسفة .

والجدل منطقياً هو قياس مؤلف من مقدمات مشهورة لا مسلّمة عند الناس أو عند الخصمين .

وهو أحياناً يكون مرتبطاً بالقياس المنطقي الذي هو قول ملفوظ أو معقول مؤلف من أقوال متى سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر .

وأحياناً يرتبط بالبرهان الذي هو قياس مؤلف من مقدمات يقينية لإنتاج  اليقينيات، وهو من أقسام الحجة وأجلّها يقول الأخضري في سلّم المنطق                                               وحــجــة نـقـــليـــة عقــليـــة   *   أقســام هذي خمســة جليــّة

خطابة شعر وبرهان جدل   *   وخامس سفسطة نلت الأمل

             أجلّها البرهان ما ألّف من   *   مـقــدمــات باليـقين تقـتـرن

                من أوليـــات مشاهـــدات    *   مجــــربات متـــــواتــرات

                وحدسيات ومحسوسات    *   فتلك جملة اليــــقينيات

وحول أهمية البرهان في معرفة الحق، يقول الإمام الوارجلان ((ومحال أن يعرف الحق ويقرّ به من لا يعرف البرهان، ومحال أن يعرف البرهان ولا يعرف طرقه، وذلك أن العلوم البرهانية لا تتطرق إلى العباد إلا من أحد ثلاثة أوجه : إما عقلية وإما لغوية وإما شرعية، وعلى هذه العلوم الثلاثة ينبني البرهان ومنها يتركب(1))).

وحول التفريق بين علمي الكلام والعقيدة في التعريف فإنني لم أجد ذلك في التعريفات           السابقة، وإنما تلك التعريفات تجمع بينهما وتجعلهما كأنهما علم واحد أو فن واحد.

وإذا كان هنالك من قال بالتفريق ولم أطلع عليه، فهو من باب التوارد.

والملاحظ أن القرآن يقيم حجته في إثبات الحق وإقراره على البرهان المبني على المقدمات اليقينية، ولذلك تكون النتيجة يقينية أيضاً.

فمن ذلك حوار الله تعالى مع ملائكته الكرام حول استخلافه آدم عليه السلام في الأرض حيث يقول عزوجل ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {البقرة/30} وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {البقرة/31} قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ {البقرة/32} قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ {البقرة/33})) فالله تعالى أقام الحجة على الملائكة بأنه يعلم غيب السموات والأرض ويعلم ما يبدون وما يكتمون، وهم يعترفون بذلك، وما دام أنه في علمهم ذلك، فإن إستخلافه آدم في الأرض صحيح .

ومن ذلك أن الله تعالى عندما يأمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يحاجج المشركين وأهل الكتاب وغيرهم من المعارضين، يأمره بطرح المقدمات اليقينية لإلزام خصمه بالنتيجة اليقينية فأما أن يعترف بها ذلك الخصم ويسلّم ويسلم أو يعرض ويتولى فمن ذلك أمره له بمناظرة أهل الكتاب بقوله ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ {آل عمران/64})).

فهنا أمر الله نبيه أن يشترط المقدمات اليقينية وهي عبادة الله، وعدم الإشراك به، وعدم اتخاذ البعض للبعض الآخر رباً غير الله، وهي مقدمات يدعيها الخصم، وإذا ما اعترف بها صراحة من غير إلتواء ولا تأويل فإنه ليس هناك إلا الإسلام .  

ويثبت القرآن وجود الله تعالى ووحدانيته وأنه لا إله غيره وأنه لا شريك له؛ بالبرهان المنطقي فمن ذلك قوله تعالى ((قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ {الأنعام/19}))، وقوله ((وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ {الأنبياء/19} يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ {الأنبياء/20} أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ {الأنبياء/21} لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ {الأنبياء/22})) وقوله عزوجل (( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ {سبأ/24})).

وغير ذلك من الآيات الكريمة، والمتأمل في هذه الآيات يجد أن القرآن برهن على نتيجتها اليقينية القطعية بمقدمات مشهورات أو مسلمات، لأن البرهان بمقدماته ونتيجته هو الذي يبيّن الحق ويوضحه ويثبته في الجدل الكلامي لدى المعارض يقول العلاّمة محمد رضا المظفر (( إن العلوم الحقيقية التي لا يراد بها إلا الحق الصراح لا سبيل لها إلا سبيل البرهان، لأنه هو وحده من بين أنواع القياس الخمسة يصيب الحق ويستلزم اليقين بالواقع، والغرض منه معرفة الحق من جهة ما هو حق، سواء كان سعي الإنسان للحق لأجل نفسه ليناجيها به، وليعمر عقله بالمعرفة أو لغيره لتعليمه وإرشاده إلى الحق(1))).

على أن البرهان كما يقول الإمام الوارجلاني ((يعتوره ثلاثة ألفاظ برهان صحيح، ومموه صريح، وخطاب فصيح، وهذه الطرق الثلاثة هي التي سلكت بنو آدم في الدعاء إلى إعتقاداتهم ومذاهبهم، فمن بني برهانه على الحد والقياس والطرح والإنعكاس كان برهانه صحيحاً في العقليات(2))).

وهكذا نجد أن القرآن يكرس قضايا العقيدة المتعلقة بالذات الإلهية وجوداً وصفات بالبرهان العقلي المنطقي، ولعل هذا يعزز رأي القائلين بوجوب معرفة الله عقلاً، وهو رأي جميع الفرق الإسلامية ما عدا الحشوية(3).

على أن البرهان في حقيقته هو الحجة القاطعة، لذلك طالب القرآن على لسان النبي صلى الله عليه وسلم المعارضين المعاندين أن يأتوا ببراهينهم إن كانوا صادقين فيما يقولون ويدّعون فمن ذلك قول الله تعالى في الآيات التالية (( وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {البقرة/111})).

((أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ {الأنبياء/24})).

(( أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {النمل/64})).

هذا هو البرهان في حقيقته اللغوية، وقد أطّره المناطفة كلامياً وفق الضوابط التي مرّ ذكرها، ليكون دليلاً على معرفة الحق للمتكلم – القائل – والسامع .

ونظراً إلى أن عنوان هذا البحث ربط بين مجالي الكلام والأخلاق وأثر القيم القرآنية عليهما، فلا أدل على ذلك من الآية الكريمة حيث يقول الله عزوجل (( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ {سبأ/24})).

فإنه يرتبط فيها الكلام بالأخلاق ارتباطاً قوياً، ويتجلى فيها الإنصاف في القول حيث لا فرض رأي على رأي، ولا إقصاء رأي عن رأي وإنما المطلوب هو إستعمال العقل والتدبر في القول، لأنه لابد من كون أحد المتناظرين صائباً والآخر مخطئاً، لكنه من غير حكم سابق على النظر والتدبر والتفكر .

وفي رأيي إن ما ذهب إليه المفسرون من أنّ الآية فيها تعريض بأن النبي صلى الله عليه وسلم على الهدى والحق، وأن المشركين في الضلال المبين لا يستقيم، لأن القرآن لم يخاطب قوماً قد استعجمت ألسنتهم أو تبلبلت، وإنما خاطب قوماً هم أساطين العربية وسادتها وسدنتها مستكبرين بفصاحتهم، وكابروا القرآن بها، وفي ظننا أنه لولا ربانية القرآن لما انهزموا لغة أمامه، فلا نظن أنهم يفوتهم ذلك المغمز البلاغي المعبّر عنه بالتعريض .

والذي ذهب إليه المفسرون(1) هو حكم عقدي أملته المنظومة العقدية على العقل المسلم .

والأقرب إلى فهم سياق الآية ما قاله العلاّمة العوتبي ((والمعنى إنّا لضالون أو مهتدون، وهو يعلم أن رسوله صلى الله عليه وسلم المهتدي وأن مخالفه الضال(2))).

 

 

الأخلاق في القيم القرآنية

موضوع الأخلاق تتنازعه جهتان:

الأولى: الفلسفة .

الثانية: الفكر الديني .

وبالنسبة إلى الجهة الأولى، فإنه اعتبر موضوع الأخلاق علماً وهو متفرع عن الفلسفة، حيث أنه أحد فروعها الثمانية وهي :

  • 1- ما بعد الطبيعة .
  • 2- فلسفة الطبيعة .
  • 3- علم النفس .
  • 4- علم المنطق .
  • 5- علم الجمال .
  • 6- علم الأخلاق .
  • 7- فلسفة القانون .
  • 8- علم الإجتماع وفلسفة التاريخ(1) .

وقد عرّف فلسفياً علم الأخلاق بأنه : علم يوضح معنى الخير والشر ويبيّن ما ينبغي أن يكون عليه معاملة الناس بعضهم بعضاً(2).

أما موضوعه : الأعمال التي صدرت من العامل عن عمد واختيار يعلم صاحبها وقت عملها ماذا يعمل، وهذه هي التي يصدر عليها الحكم بالخير والشر(3).

أما الجهة الثانية فهي الفكر الديني، ولم نقصرها على الفكر الإسلامي لأن شرائع الأنبياء السابقين كلها جاءت حاثة على الأخلاق الحميدة والسلوكات القويمة، وإنما جاء محمد صلى الله عليه وسلم متمماً لها، حيث قال ((بعثت لأتمم مكارم الأخلاق(4))).

وما كان عليه العرب قبل الإسلام من أخلاق حسنة وصفات حميدة كالصدق والكرم ونصرة المظلوم وإغاثة الملهوف وحسن الجوار إلى غير ذلك من المنظومة الأخلاقية السامية، فإنها كانت من بقايا دين أبيهم وأبي الأنبياء إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليتممها، وفعلاً تمّمها وهذّبها، فمثلاً بعد أن كان النصر للأخ ظالماً أو مظلوماً على مقتضى ظاهر اللفظ، صار النصر له إن كان مظلوماً، وأما إن كان ظالماً فيجب رده عن ذلك الظلم .

وعموماً فإن الإسلام باعتباره وريث الديانات السابقة، ودستوره الذي هو القرآن الكريم هو المصدق لها والمهيمن عليها، فإن هذا القرآن العظيم عني عناية عظيمة وكبيرة بالأخلاق الحسنة .

على أن الأخلاق في الجهتين، الفلسفة أو الفكر الديني الإسلامي لابد من تقييدها بالخير أو الشر، فسلوك الخير أخلاق وكذلك سلوك الشر أخلاق، بيد أن الحكم على تلك السلوكات هو الذي يحدد خيريّتها وشريّتها، يقول الأستاذ أحمد أمين ((كلنا يحكم على الأعمال بأنها خير أو شر صواب أو خطأ، حق أو باطل، وهذا الحكم متداول بين الناس رفيعهم ووضيعهم في جليل الأعمال وحقيرها على لسان القاضي في المسائل القانونية، وعلى ألسنة الصناع في صنائعهم، والأطفال في ألعابهم فما معنى الخير والشر، وبأي مقياس أقيس العمل فأحكم عليه بأنه خير أو شر ؟(1) )) .

وما قاله الأستاذ الكبير متسائلاً عن المقياس الذي يحكم به العمل بأنه خير أو شر، هو من حيث التأطير الفلسفي، أما في الفكر الإسلامي فيكون من الأدلة الإسلامية فهي التي تحدد ذلك العمل أو تحكم عليه بالخيرية أو الشرية، وجميع الأدلة الأصولية مشتركة في ذلك كالقرآن والسنة والإجماع والقياس والإستحسان والعرف ومذهب الصحابي والمصالح المرسلة وسد الذرائع واستصحاب الأصل، والأخلاق سواء كانت فلسفة أو دينية؛ فإنها لابد من تقييدها بالخير أو الشر، فيحكم لها بالخير إن كانت خيراً، وبالشر إن كانت شراً، ونحن هنا في بحثنا هذا نركز على القيم القرآنية التي جاءت آمرة بالأخلاق الخيّرة الحسنة وناهية عن الأخلاق الشرّيرة السيئة .

ولعظم منزلة الأخلاق وسموها فإن الله عندما أراد أن يثني على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وصفه بحسن الخلق وقال له ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ {القلم/4})).

تطييباً لخاطره وتطميناً لقلبه من ذلك القول المؤذي الذي أطلقه عليه المشركون، حيث وصفوه بالجنون والسحر وغير ذلك من الأوصاف المؤذية الوقحة.

والأخلاق في القيم القرآنية تتجلى على سبيل المثال لا الحصر فيما يلي :

  • عبادة الله عزوجل، لأن عبادة الله من حسن الخلق من العبد تجاه خالقه وفاء وشكراً منه لخالقه الذي خلقه ورزقه ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {الذاريات/56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ {الذاريات/57} إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ {الذاريات/58} )) .
  • الإحسان إلى الوالدين، لقول الله تعالى ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا {الإسراء/23} وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا {الإسراء/24}))، والآيات في ذلك كثيرة نظراً لعظم حق الوالدين.
  • الإحسان إلى ذوي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى (القريب في النسب) والجار الجنب (الأجنبي نسباً) والصاحب بالجنب (الرفيق في السفر) وابن السبيل (المنقطع عن أهله وبلده) والمماليك، يقول الله ((وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ {النساء/36})).
  • معاملة جميع الناس بالإحسان ((وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً  {البقرة/83})).
  • العدل للجميع ((اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى {المائدة/8})).

والعدل عند الإباضية من أمور العقيدة،ويقصدون به العدل الإلهي، وفلسفتهم في ذلك       -في رأيي- أنهم طالما وصفوا الخالق بالعدل وجعلوه من بنود العقيدة، أوجبوا العدل على الإنسان، ولا شك أن العدل الإلهي عدل مطلق، بينما يبقى العدل الإنساني عدلاً نسبياً، والعدل قيمة اجتماعية كبيرة .

  • الوفاء، وهو مع الله كالوفاء بالنذر ومع الخلق كالوفاء بالعقود والعهود ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ {المائدة/1}))، والوفاء يكون للجميع من إنسان وحيوان وشجر وحجر ومدر .
  • الرحمة، وهي صفة لله عزوجل فهو الرحمن الرحيم، وصفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن يتصف بها الإنسان فيرحم بها الصغير والضعيف.
  • احترام الصغير للكبير.
  • أدب المجالس بالفسح فيها ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا ٌ{المجادلة/11})).
  • آداب الطريق بالفسح للمار وغض البصر وإرشاد الضّال ورفع الأذى.

وعلى العموم فإن الأخلاق والمقصود منها الأخلاق الحسنة الخيّرة واسعة الدائرة لتشمل جميع المخلوقات والموجودات في هذا الوجود، وإذا ما تعامل بها الناس ارتفعت أفكارهم وتهذبت سلوكاتهم واستقرت حياتهم، وتحققت لهم السعادة، وعمّهم الخير، والأخلاق إلى جانب كونها مما كرسته بقوة القيم القرآنية فإنها تواضع عليها العقلاء، وعمل بها الحكماء، وقالوها أدبيّات إنسانية رائعة، وحفلت بها كثيراً المكتبة الإنسانية، وتعانق في ميدانها الخطاب الديني والخطاب الفلسفي والخطاب الأدبي الإنساني، وشكلت تلك الخطابات قيمة اجتماعية سامية .

 

الخاتمة

الكلام والأخلاق علمان مترابطان، فعلم الكلام مرتبط بعلم المنطق الذي هو أحد فروع الفلسفة، كما أن الأخلاق كعلم مرتبط أيضا بعلم الفلسفة، وقد أثرت القيم القرآنية على هذين العلمين، حيث جعلت المنطق خادماً لعلم الكلام الذي يناقش القضايا العقدية عن طريق البرهان الصحيح المنبني على المقدمات اليقينية والنتيجة اليقينية القطعية، وهناك يكون ثبوت الحق ثبوتا واضحا صحيحا.

أما الأخلاق،فقد حوّلتها القيم القرآنية من كونها علماً فلسفياً مرتبطاً بالانفعالات النفسية للانسان إلى قيم إجتماعية مرتبطة بمروءة الإنسان بعد أن أسقطت عليها حكم الخيرية أو الشرّية، معتمدة الخيرية ونافية الشرية ليكون التعبير عنها بمكارم الأخلاق، وقد استمدت القيم القرآنية تلك المكارم الراقية السامية من الديانات السابقة،حيث تقرر أصولياً أنه لا نسخ بين الديانات فيما يتعلق بالعقائد ومكارم الأخلاق، وإنما جاء الإسلام ممثلا في نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم متمماً لها، وسائراً على نهجها لأنها من الثابت الذي لا يتغير بتغيّر الزمان أو المكان، فهي مقررة وصالحة لكل زمان ولكل مكان ولكل إنسان .

وقد تبلورت الكثير من العناوين الأخلاقية كالكرم والصدق والأمانة والوفاء وحسن الجوار وإكرام الضيف وغيرها من العناوين الأخلاقية في دين أبينا إبراهيم عليه السلام، وهي التي ورثتها العرب وبقيت عندهم من دين أبيهم إبراهيم بجانب مناسك الحج وشعائره، ونظراً لقيمة تلك العناوين في الحياة الإنسانية، فقد أقرّها الإسلام من وحي القيم القرآنية ولعله هذّب بعضها من شائبة الإفراط أو التفريط .

لذلك أصبحت الأخلاق الحميدة فلسفة وسلوكاً مطلباً أممياً، وأمتلأت يذكرها بطون الكتب تمجيداً وتقديساً، وصيغت حكماً وأمثالاً وعبارات وأقوالاً، وكل ذلك المعطى لكي تتشكل منه القدوة الصالحة أمام الناس أجمعين.

وأخيراً كما يقول الشاعر المصري حافظ إبراهيم:

                      فالناس هذا حظّه مـال وذا علـم وذاك مــكــارم الأخـــلاق

                      فــإذا رزقـت خلــيقـة محــمـودة   *   فقد اصطفاك مقسم الأرزاق

             وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين .                                                    

                                                                

 

                                                            

                                                                أحمد بن سعود السيابي    

 

 

(1) طلعة الشمس،ج1 ص103، دار الراشد، بيروت، لبنان، تحقيق عمر حسن القيام .

(2) رواه الربيع في مسنده، في باب ذكر القرآن .

(1) الجامع، ج1، ص52 .

(1) كتاب العين، مادة قوم .

(2) القاموس المحيط، مادة قوم .

(1) تيسير التفسير، ج4،ص55، تحقيق إبراهيم طلاي وآخرين .

(1) الجرجاني، علي بن محمد الشريف، التعريفات، ص194، مكتبة لبنان.

(2) السالمي، عبدالله بن حميد، معارج الأمال، المجلد الأول (المقدمات) ص290، مكتبة الإمام السالمي .

(1) يوسف بن إبراهيم، أبو يعقوب، الدليل والبرهان، ج3، ص5 .

(1) المنطق،ص313، دار التعارف للمطبوعات، لبنان.

(2) الدليل والبرهان، ج3، ص6.

(3) بن حمده عبد المجيد، المدارس الكلامية بافريقية،ص85.

(1) انظر على سبيل المثال في تفسير الآية الكشّاف للزمخشري، وتيسير التفسير لأطيفش .

(2) العوتبي، سلمة بن مسلم، الإبانة،ج1،ص289.

(1) أحمد أمين، كتاب الأخلاق، ص5.

(2) نفس المصدر، ص2 .

(3) نفس المصدر، ص4.

(4) رواه مالك في الموطأ في باب ما جاء في حسن الخلق .

(1) كتاب الأخلاق، ص1.