طباعة
المجموعة: دراسات وبحوث
الزيارات: 7295

مذاهب العلماء في الوقف على رؤوس الآي:

رأس الآية : هو آخر كلمة فيها نحو : العالمين ، المفلحون ، عظيم ، المآب ، وكيلا ، عجباً ، حيا ، هوى ، وقد اختلف علماء الإسلام في الوقف على رءوس الآي على أربعة مذاهب .

 

المذهب الأول :

جواز الوقف عليها والابتداء بما بعدها مطلقاً مهما اشتد تعلقها بما بعدها ، وتعلق ما بعدها بها ، كالوقف على قوله تعالى (فوربك لنسألنهم أجمعين ) والابتداء بقوله تعالى (عما كانوا يعملون ) سورة الحجر آية 92 ، وعلى قوله تعالى (أرأيت الذي ينهى ) والابتداء بقوله (عبداً إذا صلى )سورة العلق آية 9 .

 

حتى ولو كان الوقف عليها يؤدي إلى معنى فاسد ، كالوقف على (فويل للمصلين ) سورة الماعون آية 4، فإن الوقف على (للمصلين ) وهو رأس آية يفهم منه أن الله تعالى توعد المصلين بالويل والهلاك ، وهذا المعنى غير المراد من الآية.

 

 

أو كان الوقف على رأس الآية سائغاً ولكن الابتداء بما بعدها يفضي إلى معنى باطل، كالوقف على ( ألا إنهم من إفكهم ليقولون ) والابتداء بقوله (ولد الله ) فإن هذا الابتداء يؤدي إلى ثبوت الولد لله تعالى تنزه عن ذلك وتقدس ، والآية من سورة الصافات رقم 151 فالوقف على رءوس الآي على هذا المذهب سائغ مطلقاً مهما كان من تعلق ، ومهما ترتب عليه من فساد في المعنى .

 

وقد اختار هذا المذهب الإمام البيهقي في شعب الإيمان ، وكذا غيره من العلماء ، واشتهر هذا المذهب عن أكثر أهل الأداء .

 

والذين ينتحلون هذا المذهب يعتبرون الوقف على رءوس الآي مطلقاً سنة يثاب القارئ على فعلها ، واستدل لهذا المذهب بما روي عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ يقطع قراءته آية آية ، يقول : بسم الله الرحمن الرحيم، ثم يقف ، ثم يقول : الحمد لله رب العالمين ، ثم يقف ، ثم يقول : الرحمن الرحيم ، ثم يقف ، الحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم .

 

ووجه دلالة الحديث على هذا المذهب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقف على العالمين ، وعلى الرحيم ، ففصل بين الموصوف وصفاته مع ما بينهما من وثيق الصلة ، وشيج الارتباط ، قال بعض العلماء - وهو من أنصار هذا المذهب - الأفضل الوقف على رءوس الآيات وإن تعلقت بما بعدها ، إذ اتباع هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته أولى ، انتهى .

 

واستدل لهذا المذهب أيضاً بأن رءوس الآي بمنزلة فواصل السجع في النثر ، وبمنزلة القوافي في الشعر من حيث إنها محال الوقف .

 

 

المذهب الثاني :

جواز الوقف على رءوس الآي والابتداء بما بعدها إن لم يكن ارتباط لفظي بينها وبين ما بعدها ، أو لم يكن في الوقف عليها ، أو الابتداء بما بعدها إيهام خلاف المراد ، فإن كان هناك ارتباط لفظي بين رأس الآية وبين ما بعده نحو (أنهم مبعوثون ) سورة المطففين آية 4 ، فإنه يجوز للقارئ أن يقف عليه عملا بحديث أم سلمة السابق ولكن ينبغي له أن يرجع فيصله بما بعده وهو (ليوم عظيم )مراعاة للتعلق اللفظي وحينذاك يكون قد جمع بين العمل بالحديث وملاحظة التعلق اللفظي .

 

وإذا كان الوقف على رأس الآية صحيحاً لا يوهم شيئاً ولكن الابتداء بما بعده يوهم معنى فاسداً كالوقف على ( ألا إنهم من إفكهم ليقولون ) سورة الصافات آية 151 والبدء بقوله تعالى (ولد الله )فإنه يجوز للقارئ الوقف على رأس الآية عملا بالحديث السابق ، ولكنه - بعد الوقف على رأس الآية - يتعين عليه أن يرجع فيصله بما بعده دفعاً لتوهم المعنى الباطل وتنبيهاً على المعنى المراد .

 

وأما إذا كان الوقف على رأس الآية يوهم معنى فاسداً كالوقف على (فويل للمصلين )فلا يجوز الوقف عليه حينئذ ، بل يتعين وصله بما بعده ، دفعاً لتوهم المعنى الفاسد ، ومسارعة إلى بيان المعنى المقصود .

 

المذهب الثالث :

جواز السكت بلا تنفس على رأس كل آية بناء على أن السكت يجوز في رءوس الآي مطلقاً سواء صحت الرواية به أم لا حال الوصل لقصد البيان أي بيان أنها رءوس آي .

 

ومستند هذا المذهب ما ذكره الإمام أبو عمرو الداني في كتابه "المكتفى في الوقف والابتدا" حيث قال "حدثنا فارس بن أحمد المقري ، قال حدثنا جعفر بن محمد الدقان ، قال حدثنا عمر بن يوسف ، قال حدثنا الحسين بن شيرك ، قال حدثنا أبو حمدون ، قال حدثنا اليزيدي عن أبي عمرو بن العلاء البصري أنه كان يسكت عند رأس كل آية ، وكان يقول : إنه أحب إلي إذا كان رأس آية أن يسكت عنده ، انتهى ، وقد حمل أصحاب هذا المذهب الوقف في حديث أم سلمة على السكت .

 

قال صاحب كتاب الاهتداء في الوقف والابتداء:

إن هذا الأثر المروي عن أبي عمرو البصري لا يصلح سنداً لهذا المذهب ؛ لأن المتقدمين كثيراً ما يذكرون لفظي السكت والقطع ويريدون بهما الوقف ، فهذه الألفاظ الثلاثة : القطع ، السكت ، الوقف ، في لسان المتقدمين من علماء القراءة بمعنى واحد ، ولم يفرق بين معاني هذه الألفاظ الثلاثة إلا المتأخرون.

 

وبناء على هذا يكون المراد بالسكت في هذا الأثر الوقف فلا يكون فيه دليل لهذا المذهب ، وحمل الوقف في حديث أم سلمة على السكت خلاف الظاهر ، فلهذا كان هذا المذهب في غاية الضعف عند عامة القراء وأهل الأداء .

 

المذهب الرابع :

أن حكم الوقف على رءوس الآيات كحكمه على غيرها ما ليس برأس آية ، فحينئذ ينظر إلى ما بعد رأس الآية من حيث التعلق وعدمه ، فإن كان له تعلق لفظي برأس الآية فلا يجوز الوقف على رأس الآية ، وإن لم يكن له به تعلق لفظي جاز الوقف .

 

وقد عرفت مما سبق أن التعلق اللفظي يلزمه التعلق المعنوي ولا عكس ، فليس ثم فرق بين رأس الآية وغيره من حيث الوقف وعدمه على هذا المذهب ، ولهذا وضع أصحاب هذا المذهب علامات الوقف المختلفة فوق رءوس الآي كما وضعوها فوق غيرها مما ليس برأس آية .

 

وأيضاً منعوا الوقف على رأس بعض الآيات بالنسبة للقراءة وأجازوه بالنسبة لأخرى .

 

ومن أمثلة ذلك : لفظ (والآصال ) في قوله تعالى (يسبح له فيها بالغدو والآصال ) سورة النور آية 36 ، فهو رأس آية ولكن لا يجوز الوقف عليه بالنسبة لقراءة (يُسبِّح ) بكسر الباء وهي قراءة الجمهور نظراً للتعلق اللفظي ، وهو أن لفظ رجال في قوله تعالى (رجال لا تلهيهم تجارة ، ، ، ) الخ فاعل لقوله يسبح ، ويجوز الوقف عليه بالنسبة لقراءة (يُسبَّح ) بفتح الباء وهي قراءة ابن عامر وشعبة ، لعدم التعلق اللفظي ، لأن (رجال )- على هذه القراءة يكون خبراً لمبتدأ محذوف والتقدير : هم رجال .

 

ومن الأمثلة أيضاً لفظ (الحميد )في قوله تعالى (إلى صراط العزيز الحميد ) سورة إبراهيم آية 1 ، فهو رأس آية ، ولكن لا يصح الوقف عليه بالنسبة لقراءة (اللهِ الذي ) بجر الهاء من لفظ الجلالة وهي قراءة معظم القراء نظراً للتعلق اللفظي وهو أن لفظ الجلالة على هذه القراءة بدل من لفظ العزيز أو بيان له ، ويجوز الوقف عليه بالنسبة لقراءة (اللهُ الذي ) برفع الهاء من لفظ الجلالة وهي قراءة نافع وأبي جعفر وابن عامر ، لعدم التعلق اللفظي ، لأن لفظ الجلالة - على هذه القراءة - يكون مبتدأ خبره الاسم الموصول بعده ، أو خبراً لمبتدأ محذوف والتقدير : ( هو الله الذي ).

                                                         ***

وهذا مذهب علماء الوقف كالإمام أبي عبد الله محمد بن طيفور السجاوندي ، والعلامة الشيخ أبي محمد الحسن بن علي بن سعيد العماني ، والعلامة زكريا الأنصاري ، والشيخ الجليل أحمد بن عبد الكريم الأشموني .

 

 

وقد أجاب أصحاب هذا المذهب – حكم الوقف على رءوس الآيات كحكمه على غيرها ما ليس برأس- أي عن حديث أم سلمة بجوابين :

 

الأول :

أن سنده غير متصل ، قال العلامة الشوكاني في نيل الأوطار: وقد أعلَّ الطحاوي الخبر بالانقطاع فقال : لم يسمعه ابن أبي مليكة من أم سلمة ، واستدل على ذلك برواية الليث عن ابن أبي مليكة عن يعلى ابن مملك عن أم سلمة ، ولكن قال العلامة الحافظ ابن حجر : وهذا الذي أعل به ليس بعلة ، فقد رواه الترمذي من طريق ابن أبي مليكة عن أم سلمة بلا واسطة ، وصححه ورجحه على الإسناد الذي فيه يعلى ابن مملك ، انتهى من الشوكاني .

 

الجواب الثاني :

أن مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم من الوقف على رءوس الآي بيان جواز الوقف عليها ، وتعليم الصحابة الفواصل ، قال المحقق الجعبري : إن الاستدلال بهذا الحديث على سنية وقف الفواصل لا دلالة فيه على ذلك ، لأنه إنما قصد به إعلام الفواصل ، وقد جهل قوم هذا المعنى وسموه وقف السنة ، إذ لا يسن إلا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم تعبداً ، ولكن هو وقف بيان ، انتهى .

 

ونقل صاحب نهاية القول المفيد عن الحافظ العسقلاني أنه تعقب الاستدلال بالحديث على سنية الوقف على رءوس الآي ، ثم قال الحافظ : والأظهر أنه عليه الصلاة والسلام إنما كان يقف ليبين للمستمعين رءوس الآي ، ولو لم يكن لهذا لما وقف على العالمين ، ولا على الرحيم ، لما في الوقف عليهما من قطع الصفة عن الموصوف ، ولا يخفى ما في ذلك ، انتهى ، من نهاية القول المفيد .

 

 

هذا وقد شدد أصحابنا في الوقف على ما لم يتم معناه ولو كان رأس آية واختاروا الوصل حتى لا يتبدل المعنى، بل حكموا بنقض صلاة من فعل ذلك في بعض المواضع التي تؤدي إلى تغيير المعنى تغييراً شديداً، كما نجده في موسوعاتهم الفقهية ( منهج الطالبين، وبيان الشرع، والمصنف، وأجوبة المحقق الخليلي، وفواكه البستان، والنثار، وغيرها ).

 

قال العلامة أبو مسلم ناصر بن سالم بن عديم البهلاني رحمه الله :

 

« ومما ينبغي للقارئ - وخصوصاً في الصلاة- إذا ابتدأ من أثناء سورة أن يبتدئ من أول الكلام المرتبط بعضه ببعض، وإن وقف وقف على المرتبط وعند انتهاء الكلام، ولا يتقيد في الابتداء ولا في الوقف بالأجزاء والأحزاب والأعشار، فإن أغلبها وسط الكلام المرتبط بالكلام، فإن مراعاة هذه الآداب مما ينبغي التفطن له، والتحرز عن مجاوزته، فلا تغترر بكثرة المتهالكين في ترك هذه الآداب» .

 

ويقول سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي - طيب الله ذكره، وأعلى قدره-: « يستحب الوقف في القرآن الكريم في كل موضع يوهم وصل القراءة فيه غير المعنى المراد، بل ذهب بعض إلى لزوم الوقف، إذا كان الإيهام الحاصل من الوصل شديداً، كما في قوله تعالى ( وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ) فإن وصله في التلاوة بقوله من بعد ( إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جميعاً )(2)، توهم السامع أن هذا مقولهم الذي نفاه الله عنهم، مع أن هذا قول حق وقولهم باطل، وإنما سيق هذا رداً على قولهم الباطل.

وكذلك قوله تعالى ( إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ) إذا وُصِل بقوله من بعد ( خافضة رافعة) يوهم أن خافضة رافعة في سياق النفي .. »اهـ .

 

والمذهب الرابع رأي طائفة كبيرة من علماء الأمة كا تقدم، وذلك أن معاني الآيات ، وسمو بلاغتها ، وسر إعجازها ، ورصانة أساليبها ، وقوة عباراتها - كل ذلك لا يستبين ولا يتضح إلا بربط الجمل ، وجمع شملها ، وتعانق كلمها ، وضم المسند إلى المسند إليه ، والجواب إلى شرطه ، والمقسم عليه إلى المقسم به ، والمعمول إلى عامله ، والمتعلق إلى متعلقه ، والحال إلى صاحبه ، والتمييز إلى مميزه ، والمستثنى إلى المستثنى منه ، والمؤكد إلى المؤكد ، والبدل إلى المبدل منه ، والنعت إلى المنعوت ، وهكذا .

 

وتعمد الوقف على رءوس الآي مطلقاً - كثيراً ما يترتب عليه الفصل بين هذه المذكورات ، ولا شك أنه ينجم عن هذا الفصل ، عدم فهم المعنى المراد ، وتفكك النظم القرآني الجليل ، وذهاب ما في الآي من جمال وروعة ، وما في الأساليب القرآنية من رصانة وجودة ، وما في التراكيب من جزالة ودقة .

 

 

وأما ما استند إليه أصحاب المذاهب الثلاثة من حديث أم سلمة السابق - ولا مستند لهم غيره - فلا يؤيد مدعاهم ، ولا يعضد مذهبهم ، للأمور الآتية :

 

الأول :

قال الشيخ الحصري: ان في إسناده علة وغرابة ، وتصحيح الحافظ ابن حجر له من بعض الطرق لا ينفي عنه العلة والغرابة من باقي الطرق ، والحديث لا ينهض للاحتجاج به إلا إذا سلم من جميع العلل ، والغرابة ، خصوصاً إذا احتج به على ما يتعلق بألفاظ القرآن الكريم .

 

الثاني :

أن الحديث ليس فيه دلالة على أن وقف الرسول صلى الله عليه وسلم على رءوس الآيات كان لبيان أن الوقف عليها من السنن التي يثاب المكلف على فعلها ، بل يحتمل احتمالا قريباً أو وقف الرسول صلى الله عليه وسلم عليها كان لبيان الجواز ، أي جواز الوقف على رءوس الآي وإن كان هناك تعلق لفظي ، ولتعليم الصحابة الفواصل ورءوس الآي كما ذهب إلى هذا الحافظ ابن حجر ، وناهيك به علماً وفهماً للسنة النبوية ، والإمام المدقق العلامة الجعبري وهو من الحذاق المتقنين المبرزين في كثير من علوم القرآن والدين واللغة ، ومن المقرر الذي لا يمتري فيه أحد من أهل العلم أن الدليل إذا طرقه الاحتمال سقط به الاستدلال .

 

الثالث :

وعلى تسليم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقف على رءوس الآي لبيان أن الوقف عليها من السنن التي يثاب المرء على فعلها - فليس في الحديث ما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك في القرآن كله ، بل هناك من الروايات ما يفيد أن ذلك خاص بسورة الفاتحة ، منها ما أخرجه الدارقطني وابن خزيمة والحاكم عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، ملك يوم الدين ، إياك نعبد وإياك نستعين ، إهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) فقطعها آية آية ، فهذا الحديث نص في قراءة الفاتحة بخصوصها .

 

وعلى هذا يكون المراد من القراءة في رواية الترمذي وغيره "كان يقطع قراءاته آية آية" - قراءة الفاتحة بخصوصها ، لأنه من المعلوم أن روايات الحديث يشرح بعضها بعضاً ، ويرد بعضها لبعض ويحمل العام فيها على الخاص ، والمطلق على المقيد .

 

 

وإنما خص الرسول صلى الله عليه وسلم الفاتحة بتقطيع آيها ، والوقف على رأس كل آية فيها ، لما لها من مزيد الفضل ، وعظيم الرفعة ، وسمو المكانة ، وعلو المنزلة على غيرها من سور القرآن الكريم .

 

والدليل على ذلك ما روي عن سعيد بن المعلى رضي الله عنه أنه قال : كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه ، فقلت : يا رسول الله : إني كنت أصلي ، فقال صلى الله عليه وسلم : ألم يقل الله تعالى (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) ثم قال : إني لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن الكريم قبل أن تخرج من المسجد ، ثم أخذ بيدي ، فلما أراد أن يخرج قلت له : ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن الكريم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الحمد لله رب العالمين )هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ، أخرجه البخاري.

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحمد لله رب العالمين أم القرآن ، وأم الكتاب ، والسبع المثاني" رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح .

 

وإنما كانت الفاتحة أعظم السور في القرآن الكريم - كما دل على ذلك حديث البخاري - وكانت أم القرآن ، وأم الكتاب - وأم كل شيء أصله - كما دل على ذلك حديث الترمذي ، لأنها اشتملت على ما لم يشتمل عليه غيرها من سور الكتاب العزيز ، حيث إنها جمعت معان القرآن كله ، وتضمنت جميع علومه ومقاصده ، على سبيل الإجمال ، وكل ما في القرآن تفصيل لها ، وشرح لمرماها .

 

فلا غرو أن عنى النبي صلى الله عليه وسلم بتلاوتها هذه العناية الفائقة فقطع كلماتها ، ووقف على رءوس آيها ، ليحفظها عنه المسلمون جميعاً كلمة كلمة ، وآية آية ، ويتلقاها عنه الكبير والصغير ، الرجل والمرأة ، الكهل والشيخ ، الغلام والجارية ، الصبي واليافع ، ويسمعها منه العربي المستنير والأعرابي الجلف الغليظ .

 

قال العلماء: ولم يثبت - فيما وقفنا عليه من صحاح السنة والآثار - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع في أية سورة من سور القرآن العظيم مثل صنيعه في سورة الفاتحة .

الآن تكاد أكثر الختمات القرآنية المسموعة لمشاهير القراء كلها تسير على هذا النمط.

 

ومما يحز في النفس ان الاجيال تتلقاها مغمضة العينين تقليدا كاملا بدون التفات الى بتر المعاني وفصل الايات، بينما كان القدماء من المقرئين لا يقفون الا حيث تمام المعاني.

 

فكيف تكون سنة للنبي صلى الله عليه وسلم وفيها بتر المعاني رأساً!!!

 

وكذلك اكثر المتعلمين للتجويد يكادون يقتلون أنفسهم لتطبيق الغنة والمد وإسماع الهمس والقلقة، ويتركون احكام الوقف وهي أهم وألزم لأنها تغير المعاني، بينما بقية الأحكام التجويدية وان كانت مهمة إلا أن أغلبها لا يغير المعنى.

 

بل حتى هذا التجويد الصناعي المتكلف الآن ليس من فن التجويد في شيء بل من التكلف المقيت، فالتجويد حلية وهو يسر سهل ليس كهذا التقعر والتكلف اليوم.

 

فيكاد علم الوقف أهمل إلا عند القلة، ونسأل الله أن ينتبه لذلك الأمر من يعتني بهذه المعارف القرآنية.

انظروا الى رؤوس الآيات الآتية:

 

- (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ) (الدخان:43)، ما شأنها؟ حتى تأتي الآية التي تليها ( طعام الأثيم ).

-(أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ) (الصافات:151) يقولون ماذا؟ حتى تأتي التي تليها ( ولد الله وإنكم لكاذبون).

-(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) (الماعون:4) اثبات الويل للمصلين ويقف، هل هذا يليق بكلام الله؟

-(وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ) (الصافات:167) يقولون ماذا؟ حتى يأتي ما بعدها ليذكر ما قالوه.

وغيرها مئات الأمثلة في كتاب الله.

 

في الابتداء أيضا، بما أنه يقف ويبتدئ:

-(فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)(البقرة: من الآية220) ماذا نفهم من هاتين الكلمتين لولا أن وصلناهما بما قبلهما ( لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ).

-(مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) (هود:55) من دون من؟ لولا أن يوضحها بوصلها بما قبلها ( مما تشركون، من دونه ).

- (وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (الصافات:138) هل هذا معنى واضح؟ هل ينفى العقل في الليل؟ أما اذا وصلتها بما قبلها ( وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل، أفلا تعلقون ) هكذا تكون روعة المعاني.

-(وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (الصافات:152) عياذا بالله اذا ابتدأ هكذا لأنه وقف على ما قبلها يثبت الولد لله، بخلاف لو وصل ( ليقولون ولد الله ) نسب المقول الى قائله، فكيف يتحول تبديل المعنى في الآية من ايمان الى شرك بسبب الوقف المزعوم أنه سنة؟

 

حاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك.

 

والقرآن مملوء بمئات الأمثلة على هذا النحو وقريب منه، فعلينا أن نتبصر ولو اشتهر بين الناس، بينما القدماء ما كان مشتهرا عندهم الا وصل الآيات وربطها بمعانيها.

 

ذكر الدكتور يحيى الغوثاني أنه أدرك من مشايخه الكبار الذين اقعدوا من الكبر فكان يصحح تلاوته أمامهم، فقرأ الغوثاني يوما امام شيخه هذا سورة الفاتحة الشريفة ، حتى اذا وصل الى قوله تعالى (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة:7) يقول: أردت أن أقف على قوله ( أنعمت عليهم ) فإذا بشيخي يشير بأصبعه وكفه ترتعش من كبر السن أن صلها ولا تقف عليها.

 

وإن يسر الله في المستقبل كتابة بحث في هذا الموضوع نقلت لكم عشرات النصوص عن أئمة علماء التفسير وشراح الحديث وأئمة اللغة في كل المذاهب ومن كتب علمائنا القدماء ما يبرهن لكم بأن هذا الذي شاع مؤخراً لم يكن إلا قليلا فيما سبق، وكان الشائع الوصل لا الوقف، والعلم لله وحده.

----------------------

يراجع:

- المكتفى في الوقف والابتداء : أبو عمرو الداني

- الاهتدا في الوقف والابتداء : الشيخ محمود خليل الحصري.

- الوقف والابتداء: أبو محمد الحسن بن علي بن سعيد العماني.

- فتح الباري شرح صحيح البخاري: الحافظ ابن حجر العسقلاني.

- نثار الجوهر في علم الشرع الأزهر: أبو مسلم ناصر بن سالم الرواحي.

- أجوبة سماحة الشيخ الخليلي، وبرنامج سؤال أهل الذكر.