الشيخ ابن بركة السليمي الأزدي

بيَّنا سابقاً تواصل عُلمَاء عُمَان مع غيرهم من عُلمَاء الأمَّة الإسلاميَّة في دراسةِ القرآن الكريم والوقوف عنده تلاوةً وتعليماً وتطبيقاً، فكان لهم دورهم الفعَّال في خدمةِ هذا الكتابِ العزيز، والاعتناءِ بتفسيره منذ القرنِ الأول للهجرة.

 

لم تكن للعمانيين مؤلفات مستقلة في التفسير:

ونريد أنْ ننبه في هذا السياق أنَّ الكثير من عُلمَاء عُمان لم تكن لهم مؤلفات مفردة ومتخصصة في تفسير القرآن الكريم، إلا أنهم ساهموا كثيراً في هذا الجانب المعرفي الهام، وكانت لهم آراؤهم التفسيريَّة في كثير من الآيات القرآنيَّة نجدها مبثوثة في مصنفاتهم الفقهيَّة والعقديَّة وغيرها، والتي ربما لو جمعت كوّنت تفاسير موسوعيَّة، إذ غالبيَّة عُلمَاء عُمَان كانوا ممن يرى برأي كثير من الصحابة والتابعين الذين تهيَّبوا من تفسير القرآن الكريم خشيةً وإجلالاً من مخافة الوقوع في الخطأ والزلل، والتقول على الله بغير الحق، لذلك كان أغلب اتجاههم التأليفي نحو الفقه والعقيدة وسائر المعارف الأخرى، ولعلَّ بعضهم ساهم بتفسير كامل للقرآن الكريم إلا أنَّ عوامل الزمن أبت أن تسعفنا بأي معلومات عنها.

 

ابن بركة علامة فقيه أصولي مفسر:

ومن عُلمَاء عُمَان في القرن الرابع الهجري الذين ساهموا بآرائهم التفسيريَّة الغزيرة في مصنفاتهم الفقهيَّة، الشيخ الجليل : عبدالله بن محمد بن بركة السليمي الأزدي، ونسبته إلى سليمة بن مالك بن فهم، ويكنى بأبي محمد، ويكنى أيضا بابن بركة.

 

حياته:

ولم تشر المصادر التي ترجمت له إلى تاريخ ولادته، واقتصرت على أنه عاش في القرن الرابع الهجري، وقد نشأ في مدينة بُهلا، إحدى مدن المنطقة الداخليَّة بعُمَان، وبها قضى أيام صباه وطفولته، وكان فيها مسكنه. ولم تذكر المصادر تاريخ وفاته، وقد استظهر بعض الباحثين أنْ تكون وفاة الشيخ ابن بركة منحصرة بين عام اثنين وأربعين وثلاثمائة للهجرة وعام خمسة وخمسين وثلاثمائة للهجرة.

 

طلبه للعلم:

وقد تلقى العِلْم في المرحلة الأولى من صباه في بلدته "بُهْلا"، التي تضم في ذلك الوقت بعضاً من أهل العلم مثل الشيخ : محمد بن خالد الخروصي. وبعد أنْ بلغ عهد الشباب سافر إلى مدينة صُحَار حاضرة العِلْم والعُلمَاء آنذاك، واستقر فيها وتلقى العِلْم على يد شيوخها وعُلمَاءها كأمثال الشيخ أبي مالك غسان بن محمد الصَّلاني، والشيخ : أبي القاسم سعيد بن عبدالله بن محمد بن محبوب الرحيلي، والشيخ أبي مروان سُليمان بن محمد بن حبيب، وغيرهم من عُلمَاء صُحَار في ذلك الوقت.

 

جهوده وتلامذته وآثاره:

وكان للشيخ ابن بركة دور كبير في إثراء الحركة العلميَّة في عهده بعُمَان، وكان من أهم ما قام به في هذا الجانب تأسيسه لمدرسته ببلدته "بُهلا"، وقد برز من هذه المدرسة علماء كثيرون كتب لبعضهم الشهرة في الأوساط العلميَّة، ومن بينهم:

 

ـ الشيخ : أبو الحسن علي بن محمد البسيوي، صاحب المؤلفات المشهورة والتي منها: جامع أبي الحسن البسيوي، وكتاب المختصر، وغيرها.

 

ـ ومن تلاميذ ابن بركة أيضاً الشيخ : أبو عبدالله محمد بن زاهر، والشيخ : أحمد بن محمد بن خالد

 

ويعتبر الشيخ ابن بركة أحد عُلمَاء عُمَان الكبار والمجددين في الفقه الإسلامي، ويبدو من خلال سيرته أنَّه كان شغوفاً بطلب العلم ومحباً له، ولهذا اشتهر في أوساط الساحة العلميَّة، وبرز في عصره عالماً مجتهداً، فكتب المؤلفات، وأصَّل الكثير من القواعد الفقهيَّة، وقد صار لفقهه صدى كبير عند من جاء بعده من علماء عمان، فلا يكاد يخلو كتاب من كتب العلماء المتأخرين عنه من نقل أقواله، وتدوين فتاواه، ورصد تحريراته وتفريعاته وتخريجاته.

 

وقد كان الشيخ ابن بركة رجلاً حريصاً على النظر والتأمل عند الاستدلال، نابذاً للتقليد المذموم وراء ظهره، داعياً إلى التحرر ومن غله وقيوده، ومن كلامه في ذلك:

 

قوله:"ونحن نعوذ بالله من غلبة الأهواء، ومسامحة الآراء، وتقليد الآباء، وإياه نسأل أن يجعلنا من المتبعين لكتابه، الذابين عن دينه، والقائمين بسنة نبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ".

وقال أيضاً:"واتباع الحجة أولى من اتباع الرأي الذي ليس بحجة".

 

وقال في موضع آخر:"والدليل هو حجة الله على الخلق"، و"لا حظ للنظر مع النص".

 

ومن غرر كلامه المحفوظ عنه، قوله:"من أقدم على معايب الرجال قبل أن يعرف معاذيرها وتقحم الموارد قبل أن يعد مصادرها ندم حيث لا تنفعه الندامة، وهرب حيث لا ترجى له السلامة، وحصل في ضيق المسالك، ودخول المهالك وتورط في المشكلات، وتهور في المهلكات ووقع في الشبهات".

 

وقال عن علم الشريعة:"هذا علم لا يدركه إلا من سهر ليله بالتلاوة، واشتغل نهاره بالبحث عن الرواية حتى يحفظ الآيات ويعرف المحكمات من التشابهات، والناسخات من المنسوخات، فأمَّا من نبذ القرآن وراء ظهره وقطع بالبطالة أيَّام عمره، ولم يتعرض للحفظ فيها، وهو لا يقف على معانيه لم يكن له عدو أعدى من لسانه، ولا ناصح أعدل من شأنه".

 

ترك الشيخ ابن بركة بجانب ما أحياه من نهضة علميَّة العديد من المؤلفات العمليَّة المتنوعة، ككتاب الجامع في الفقه، وكتاب التقييد في الفقه، وكتاب المبتدأ في التوحيد، وغيرها. ويعتبر كتاب "الجامع" من أشهر مؤلفاته، وأهمُّ إنتاجٍ علميٍ وصلَ إلينا حتى الآن؛ فقد أفرغ فيه عصارة فكره وخلاصة استنتاجاته الفقهيَّة بعد أنْ استفرغ فيه جهده، وأشبع معظم مسائله بحثاً وتدقيقاً، وقد جعل القرآن الكريم في مقدمة استدلالاته واستشهاداته؛ لأنَّه مصدر التشريع الأول، حيث يقرر ابن بركة أنَّ القرآن الكريم هو الكتاب الذي تكفل الله بحفظه وسلم من دخول النقص والباطل عليه، مصداقاً لقوله تعالى:{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.

 

كتابه الجامع ومسائل علوم القرآن:

وقد قام الشيخ ابن بركة في مقدمة كتابه "الجامع" بإبراز بعض مزايا القرآن الكريم من حيث إعجازه وحسن نظمه وبلاغته وعدم قدرة الخلق على محاكاته والإتيان بمثله مستشهداً على ذلك بأنَّ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ جاء بهذا القرآن الكريم قوماً كانوا هم الغاية في الفصاحة والعلم باللغة والمعرفة بأجناس الكلام جيده ورديئه فعاب عليهم دينهم وأظهر مثالب آبائهم وأسلافهم وتحداهم أنْ يأتوا بمثله، ومكنهم من الفحص والبحث، وأمهلهم المدة الطويلة وأعلمهم أنَّ في إتيانهم بمثله ما يوجب إحقاقهم وإبطاله، فما قدروا على شيء من ذلك بأرجوزة ولا قصيدة ولا خطبة ولا رسالة، فصح بذلك إعجازه، وأنَّ العرب لو استطاعت معارضته بالبيان لما نزعوا لإطفاء نوره إلى بذل الأنفس والأموال في ميادين القتال.

 

كما أبرز ابن بركة الحكمة من وجود المحكم والمتشابه في القرآن الكريم، وهي أنَّ الله سبحانه وتعالى جعل بعض القرآن محكماً وبعضه متشابهاً ليستبق الخلق في إعمال عقولهم وأذهانهم في مدلول آياته ليظهر بذلك مقدار تفاضلهم في الاستنباط للأحكام الشرعيَّة، وقال:"لو كان القرآن كله محكماً لا يحتمل التأويل، ولا يمكن الاختلاف فيه، لسقطت المحنة فيه، وتبلدت العقول وبطل التفاضل والاجتهاد في السبق إلى الفضل، واستوت منازل العباد".

 

وتعرض ابن بركة أيضاً للحكمة من تكرار الألفاظ وسرد القصص، كقصة موسى ـ عليه السلام ـ وقصة عيسى ، وقصة نوح ـ عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ وغيرهم من الأنبياء لأخذ العظة والعبرة منها، وزيادة في الإفهام والإنذار، وأمَّا من حيث تكرار الألفاظ الواحدة في القرآن الكريم كقوله تعالى:{أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى} وقوله تعالى:{كلا سوف تعلمون ثمَّ كلا سوف تعلمون}، وغيرها من الآيات القرآنيَّة، فقد علَّل ابن بركة ذلك بأنَّ القرآن نزل على لغةِ العرب ومن مذاهبهم في التخاطب التكرار في بعض مقامات الخطاب لإرادة التأكيد والإفهام.

 

ويرى ابن بركة أنَّ النسخ يقع في القرآن الكريم ولذا فهو يورد في أول كتابه أمثلة عديدة على وقوع النَّسخ في القرآن الكريم، ويقع النسخ عنده في الأوامر والنواهي والأخبار التي معناها الأمر أو النهي، أمَّا الأخبار التي لم ترد مورد التكليف أمراً أو نهياً فلا يصح نسخها؛ لأنَّ ذلك يستلزم إسناد صفة الكذب على الله . تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا. وقد وقع النسخ عنده على نوعين، هما:

 

1ـ نسخ القرآن للقرآن: وقد مثَّل له الشيخ ابن بركة بقوله تعالى:{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(الأنفال:76)، فإنَّ هذه الآية نزلت في عتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقبوله أخذ الفداء من الأسرى يوم بدر ثمَّ نزل قوله تعالى:{ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء}(محمد:4)، فكانت هذه الآية ناسخة للأولى.

 

2ـ نسخ القرآن للسنة: وقد مثَّل له الشيخ ابن بركة بقوله تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ}(البقرة: 144)، فإنَّ هذه الآية ناسخة للسنة النبوية وهي توجه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بيت المقدس قبل نزول الآية.

 

كما يرى الشيخ ابن بركة البهلوي أنَّ القرآن يمكن أنْ يخصص بعض عموم بعض، فإذا ورد لفظ دال على العموم في الكتاب، وورد فيه لفظ يمكن أنْ يخصص به ذلك العموم فإنَّ الشيخ ابن بركة ينص على أنَّ الخاص "يعترض على العَام والعَام لا يعترض على الخاص"، وقد مثَّل لذلك بـ:

 

أـ بقوله تعالى:{ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}(المؤمنون:6)، فهو يقول: "فظاهر هذه الآية يبيح نكاح الزوجات والإماء في كل حال، ثم قال جل ذكره:{فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ}(البقرة:222)، فخصت هذه الآية نكاح كل حائضٍ في وقت حيضها حتى تطهر".

 

بـ قوله تعالى:{ وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}(البقرة:221)، فهو يقول:"فحرم جميع المشركات بعموم هذه الآية، ثم خص من جملة ما حرم نكاح المشركات الكتابيات بقوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ}(المائدة:5).

 

جامع ابن بركة دائرة معارف:

كان حديثنا سابقًا عن العَلامة الجليل: أبي محمد عبدالله بن محمد بن بركة البهلوي العُمَاني، الذي كان له أثر كبير في الحركة العلميَّة والنهضة الثقافيَّة في القرن الرابع الهجري، حيث أوجد حركة علميَّة في مدينة "بُهْلَا" التي نشأ فيها، وأثمرت هذه الجهود الفكريَّة طائفة من العُلمَاء والمؤلفات توَّجها بكتابه "الجامع" الذي جعله دائرة معارف شملت الفقه والعقيدة والتفسير والحديث والتاريخ واللغة العربيَّة إلى غير ذلك من العلوم المختلفة.

 

ويعتبر كتاب "الجامع" لابن بركة عملاً علميًّا متكاملاً في ميدانه، ونموذجًا رفيعًا في فنه يشهد لمؤلفه بغزارة المادة العلميَّة وعمق الثقافة ودقة البحث وحسن العرض وسعة الاطلاع والإلمام بمختلف علوم عصره مقارنة بما وصلنا عن عُلمَاء عُمَان خلال تلك الفترة، وذلك بما جمع فيه من نقولٍ متعددة الاتجاهات مختلفة المصادر، وبما ضمَّنه من أقوالِ العديد من المفسرين، وروايات المحدثين، وآراء الفقهاء، وعلماء اللغة العربية والأدب، وأصحاب المغازي وغيرهم. فكان بذلك موسوعة شاملة لعلوم عصره وسندًا متصل الحلقات لأقوال السلف من الصحابة والتابعين والعلماء، يجد فيه القارئ والباحث مادة علميَّة خصبة في مختلف فروع المعرفة، وجهدًا عقليًا كبيرًا في تفسير آيات الأحكام، وبيان ما استنبطه منها العلماء في المسائل الفقهيَّة، بأسلوب علمي رصين، وجودة في الترتيب والتهذيب.

 

والشيخ ابن بركة لم يقتصر في كتابه "الجامع" على الفقه بمعناه الاصطلاحي، بل تجاوز ذلك إلى الحديث عن الفقه بمعناه العام، ليشمل كل ما يتعلق بالكيان الإنساني بشقيه المادي والغيبي، فهو يتكلم عن الجوانب العقائدية في الآيات التي لها تعلق بالعقيدة، كما أنَّه يسترسل في الحديث عن مظاهر قدرة الله تعالى إذا مرَّ بآية من الآيات التي تتكلم عن سنن الله تعالى في الكون، وتناول الأحكام الشرعيَّة في آيات الأحكام، وأشار إلى الدروس والعبر المستفادة من الآيات القرآنيَّة، وذكر أسباب النزول والقراءات القرآنيَّة، وحوادث التاريخ وغير ذلك من العلوم التي تدل على تعدد ثقافته.

 

التفسير عند ابن بركة في كتابه الجامع:

وإذا رمنا تسليط الضوء على حضور التفسير في كتاب "الجامع" فيمكن أنْ نقول: إنَّ نظرةً سريعةً على صفحات الكتاب تؤكد لنا توزع المادة التفسيريَّة في كامل صفحاته بنسب متفاوتة بين الكثرة والقلة، وذلك حسب طبيعة الموضوعات التي تناولها في كتابه، وهو يدلنا على أنَّ ابن بركة وزَّع مادته التفسيريَّة وكأنَّه يريد أنْ يقول لنا: أنَّ التفسير هو ما جاء في هذا الكتاب، هذا من حيث الجانب الكمي، أمَّا من حيث الجانب النَّوعي فيظهر في عمق تناوله للتفسير، حيث يتعرض في كثير من الأحيان إلى المعنى اللغوي ثمَّ يغوص في استخراج المعاني، وهو في كل ذلك لا يخرج عن إبراز الجانب العقائدي والسلوكي مع إبراز الأحكام باعتبارها المقصد الأصلي من تأليف الكتاب، والأمثلة على ذلك عديدة، منها:

 

ـ يرى ابن بركة أنَّ القرآن كريم يمكن أنْ يقيد بعضه إطلاق بعض، ومن الأمثلة التي ذكره على ذلك ما نص عليه من أنَّه يجب أنْ تكون الرقبة الواردة بخصوص كفارة الظهار في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ( (المجادلة:3)، رقبة مؤمنة حملاً على الرقبة الواردة بشأن كفارة القتل الخطأ في قوله تعالى: ( وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ( (النساء:92).

* كما يقرر الشيخ ابن بركة أنَّه إذا وردت قراءتان ليس في العمل بكلتيهما معًا ترك للأخرى، وأمكن الجمع بين مدلوليهما فإنَّه يجب العمل بما تضمنتاه معًا لأنَّهما نازلتان عنده منزلة الآيتين، ويمثل لذلك بورود القراءة بالنصب والخفض في قوله تعالى: وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ( (المائدة:6)، ويذكر أنَّ الآية قرأها الصحابة بالنصب والخفض، فالخفض يوجب المسح؛ لأنَّه معطوف به على الرأس، والنصب يوجب الغسل لأنَّه معطوف به على الوجه واليدين، وأجمع الكل على أنَّ القراءتين صحيحتان فصارتا بمثابة الآيتين.

 

وبناء على ما أصَّلَه الشيخ ابن بركة لنفسه هنا ذهب إلى القول بوجوب الجمع بين الغسل والمسح في الرجلين عند الوضوء، فقد قال:"فإذا كان هذا كذا فالواجب أنْ يأتي المتوضئ بغسل يشتمل على مسح ليكون في ذلك استعمال القراءتين".

 

وقد جعل ابن بركة في كثيرٍ من الأحيان تفسيره للآيات القرآنيَّة منطلقًا لبداية أبوابه ومسائله، من ذلك مثلاً: قوله في الجزء الأول من كتابه "الجامع":"باب في الأسماء وما يدل على مسمياتها، قال الله تبارك وتعالى: الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ( (الرحمن:1-3)، فأخبر الله جل ذكره أنَّ البيان باللسان ولذلك لزمت الحجة، فإذا ورد الخطاب لمخاطب بأمرٍ أو نهيٍ لزمت حجته وانقطع عذر المخاطب به إذا كان من أهل ذلك اللسان، ولولا ذلك لما علم فرق ما بين الأمر والنهي والإباحة والحظر، ولما عُرِفَ قول القائل: قم أو اقعد أو تكلم أو اسكت أو تعال أو أذهب أو خذ أو اترك، فجعل الله تعالى هذه الأسماء دلائل وعلامات ليعلم بها الخَلْق ما خوطبوا به ليمتثلوه ويقصدوا إليه، فخاطبهم بما يعملونه لتجب الحجة عليهم، فمن الأسماء ما يقع فيها الاشتراك بين مسمياتها، ومنها ما لا يقع الاشتراك فيه...إلخ ما ذكره في هذا الموضوع.

 

والشيخ ابن بركة في كتابه "الجامع" يتعرض لتفسير الآيات الكريمة بلفظٍ سهلٍ موجزٍ لا تكلف في لغته ولا تطويل، وقد اختلفت طريقته في تفسيرها حسب الموضوع الذي يتناوله، فأحيانًا يطيل في تفسير الآية وأحيانًا يفسرها باختصار، وفي بعض المواضع يكتفي بتفسير بعض الألفاظ من الآية ويستشهد بآيات مماثلة من سور أخرى، والأمثلة على ذلك عديدة، منها:

 

- عند تفسيره لقوله تعالى:( وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ)(النساء:25)، يقول ابن بركة:"والطول هو المال الذي يتوصل به إلى التزويج والله أعلم، وكذلك قوله (:(اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ)(التوبة:86)، وهم أهل المال.

 

- وعند تفسيره لقوله تعالى:( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى)(المائدة:2)، وقال (:(وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(الحج:77)، يقول ابن بركة:"فمن البر والتقوى التعاون على البر والتقوى، وفعل الخير إدخال السرور والنفع على الأخ المسلم في حفظ نفسه وماله.

 

- وعند تفسيره لمعنى الفيء في قوله تعالى:( فَإِنْ فَاؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(البقرة:226)، يقول ابن بركة:"يعني الرجوع إلى الزوجات المُؤلَّى عنهُن، والله أعلم، والمعنى أنَّه أرجعهُ الله إلى المسلمين ورده إليهم، ومنه قيل للظل فيء؛ لأنَّه رجع من موضع إلى موضع".

 

- وفي قوله تعالى:(حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ)(الحجرات:9)، يقول ابن بركة:" يعني: حتى ترجع إلى حكم الله وإلى ما أمر الله به، والله أعلم".

 

- وعند تفسيره لقوله تعالى:(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ)(المعارج:29-30)، يقول الشيخ ابن بركة:"فظاهر هذه الآية يُبيح نِكَاح الزَّوجات والإماء في كل حال، ثمَّ قال جل ذكره:( فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ)(البقرة:222)، فخصت هذه الآية نكاح كل حائضٍ في وقت حيضها حتى تطهر، ثم سئل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن سبايا أوطاس من الإماء فنهى عن وطء الحوامل منهُنَّ حتى يضعن، وعن الحوائل حتى يحضن، والحائل هي التي لا يأتيها الحيض حالاً بعد حال والله أعلم".

 

فنرى من خلال هذه الأمثلة أنَّ المادة التفسيريَّة في جامع ابن بركة لم تكن عرضاً، وإنَّما قصدها في كتابه، وكأنَّه يرمي إلى وضعِ تفسيرٍ للقرآن الكريم فما من موضعٍ في أجزاء الكتاب إلا ونجده يستعرض جملة من الآيات القرآنيَّة مستنبطًا ما تضمنته من أحكام ومعاني، وموظفًا في تفسيرها وسائله المعرفية، بأسلوب أدبي رصين، وألفاظ منتقاة، لا تعقيد فيها ولا تكلف، فجاء تفسيره للآيات بطرق مختلفة، دون أنْ يلتزم بترتيب المصحف.

 

ويتضح لنا ممَّا سبق أنَّ كتاب "الجامع" لم يقتصر على فقه الأحكام فقط، بل يُعَد مصدرًا للتعرف على آراء ابن بركة التفسيريَّة، فقد كشف فيه عن قدرةٍ على النَّظر والاجتهاد بوأته مقام المقارنة والنظر بين آراء العُلمَاء على اختلاف توجهاتهم الفكريَّة.

 

وإلى لقاء آخر بإذن الله مع سيرة عالم ..

-------------

جريدة الوطن: الجمعة 17 من ذي الحجة1430هـ الموافق 4 من ديسمبر 2009م العدد (9621) السنةالـ