طباعة
المجموعة: محاور ولقاءات
الزيارات: 4554

 التاريخ الإسلامي كيف نقرؤه؟ د. فرحات الجعبيري

اجب المسلمين ألّا يقبلوا كلّ ما كُتِب على أنه مقدس

 التاريخ الإسلامي كيف نقرؤه؟ د. فرحات الجعبيري:

أجرى الحوار/ فوزي بن يونس بن حديد

 

اكد الشيخ الدكتور فرحات بن علي الجعبيري ان التأريخ من القضايا الشائكة في جميع الحضارات والمؤرخون في العالم الإسلامي منذ أن بدأوا الكتابة يرجعون إلى نشأة الإنسان  .

وقال: التاريخ كالعلوم الإنسانية والبشرية يمكن أن يقع في الصواب وفي الخطأ، واوضح ان الناس الذين يكتبون ويؤرخون والذين بعدهم يقرؤون من حقهم أن يناقشوا وأن ينتقدوا وذلك حسب معطيات تطور الفكر الإنساني فالإنسان خطّاء في أي ميدان وكل عمله نسبي.

وبين ان التاريخ الإسلامي جزء من الحضارة الإنسانية وواجب المسلمين أن لا يقبلوا كلّ ما كتب على أنه مقدس واشار الى ان الكتابة في التاريخ يصعب أن تكون موضوعية.  واوضح ان المستشرق يحاول أن يقلّل من قيمة الإسلام والمسلمين، والمستغرب يناصره في ذلك.

وقال: الله تعالى علّمنا يا أولي الألباب بأن نعمل عقولنا وعندنا مقياس، ما يتماشى والسنن الكونية الإلهية.

وأشار الى ان الأطروحات في الجامعات الآن خرجت بنتائج مختلفة  بالنسبة إلى قضايا التاريخ.

واكد على ان طفوح كُتب التفسير بالإسرائيليات يعزى لغفلة المؤرخين المسلمين.

وقال: تصفية الغث من الأخبار تحتاج إلى أن تقاس بالنصوص القرآنية وان عقلية الاعتماد في الكتابة على القصص الخرافية والأسطورية تجاوزها الزمن وعلى القارئ الآن أن يتتبع عددا من القراءات والروايات عسى أن يقترب من الحقيقة. واوضح  ان أكبر المشاكل في حضارتنا الإسلامية كُتّاب المقالات. وبين ان الإباضية كغيرهم مروا بمحن عديدة جعلتهم يستأثرون بمعلومات لأنفسهم.

 

 

اسئلة عديدة يكشف لنا بعضا مما خفي فيها عن الناس فضيلة الشيخ الدكتور فرحات بن علي الجعبيري المؤرّخ والكاتب في الحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي والملمّ بأحوال الأمة قديما وحديثا، فإلى نص ما قاله في هذا الحوار:

 المحاور: التاريخ الإسلامي جزء من حضارة الإنسان هل يبدأ منذ أن خلق آدم عليه السلام أم هو مرتبط ببعثة سيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم ففيم يتمثل التاريخ الإسلامي حسب رأيكم؟

-*الدكتور الجعبيري: الموضوع الذي تسأل عنه من أدقّ المواضيع في العلوم الإنسانية، والتأريخ من القضايا الشائكة في جميع الحضارات وطبعا المؤرخون في العالم الإسلامي منذ أن بدأوا الكتابة يرجعون إلى نشأة الإنسان وإلى آدم عليه السلام ومنطلقهم في ذلك ما جاء في القرآن الكريم من قصص للعبرة عن منشأ البشرية ويتتبعون تاريخ الأنبياء والرسل، أما بالنسبة للتاريخ الإسلامي فطبعا موضوعيا ينطلق من بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام وهذا التاريخ كما هو الشأن بالنسبة للعلوم الإنسانية والبشرية يمكن أن يقع في الصواب ويمكن أن يقع في الخطأ لذلك في كل زمان الناس يكتبون ويؤرخون والذين بعدهم يقرؤون ومن حقهم أن يناقشوا وأن ينتقدوا وذلك حسب معطيات تطور الفكر الإنساني، وكل عمل الإنسان نسبي والإنسان خطّاء مهما كان في أي ميدان من الميادين. فالتاريخ الإسلامي هو جزء من الحضارة الإنسانية، وواجب المسلمين في كل زمان ومكان وخاصة اليوم ألا يقبلوا كلّ ما كتب على أنه مقدس، فالمقدس معروف ما جاء في القرآن الكريم وما جاء في سنة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فذاك لا نقاش معه نقبله، نفهمه، ونتأمل في حكمته، وأما ما أنتجه البشر فهو إنتاج، الحقيقة فيه نسبية وجدير بنا مع التطور الإنساني والتطور الحضاري أن نتأمل في كل إنتاجنا الفكري.

 

الكتابات تكررت

المحاور: المؤرخون الذين كتبوا عن التاريخ الإسلامي بكافة توجهاتهم المسلمون والمستشرقون والمستغربون هل التزموا حسب رأيكم بالموضوعية والحيادية في تدوينهم للتاريخ الإسلامي؟

*الدكتور الجعبيري: الكتابة في التاريخ يصعب أن تكون موضوعية خاصة أن جلّ الذين كتبوا كانوا يكتبون للدولة الحاكمة وهم مأجورون على ذلك وحتى إن كانوا غير مأجورين هم عادة ينتمون إلى هذه الدولة الحاكمة ويتعاطفون معها ويؤيدونها، فكتاباتهم يصعب أن تكون حيادية، ولهذا لا نقول إننا نرفض هذا الذي كتب، وإنما واجبنا أن نقرأه مع الاحتراز الكامل دون أن نتحامل لا لهم ولا عليهم، والطيب في هذا هو أن هذه الكتابات تكررت وكتبت في عهد دولة ثم كتبت في عهد دولة أخرى معاكسة لها فتأتيك الأخبار متضاربة ومتناقضة فأنت بفحصك تقرأ، تتبين، وبالمقابلات والمقارنات عساك تصل إلى الحقيقة أو تقترب من الحقيقة، وذلك بأن تتأمل في مدى عقلانية هؤلاء المؤرخين، مدى جانب الهوى في هذه الكتابات، وهذا يتجلى للقارئ الفاحص من أول وهلة وهو يعلم أن المؤرخ يكتب بتيار معين وبفكر معين، وهي في النهاية يوميات.

 

فهؤلاء المؤرخون يكتبون حياة الدولة التي يكتبون لها ولا تهمّني أموية أو عباسية وما إلى هذا وإنما هم يتتبعون هذه الأخبار  بمنظار واحد من منظار الولاء إذا كان هناك ولاء فيعني ذلك أن هناك معارضة فيكون رفعا من قيمة الذين يتولونهم وصدّا ومحاربة للذين يعارضون، والمعارضة في كل زمان يكتب عنها على أنها خارجية وعلى أنها إرهاب، وعلى أنها معادية، وهذا ضرب من الحرب النفسية وقع فيها ويقع فيها المؤرّخون – كما ذكرتم- بجميع اتجاهاتهم المسلم والمستشرق والمستغرب، فالمستشرق والمستغرب معروف اتجاههما، المستشرق يحاول أن يقلّل من قيمة الإسلام والمسلمين، والمستغرب يناصره في ذلك ونحن عايشنا أحداثا ورأينا كيف تكتب عنها الصحافة، فتجد أن الناس يقرؤون من زاوية واحدة فأنت تكون في الحدث ولكن عندما ينقل هذا الحدث و يُقرأ فتجد أن الناس كتبوا ما يخالف ما رأيته مخالفة تامة، فلذلك دائما نتأمل في زاوية الذي يقرأ وفي منطلقاته ونحاول أن نستفيد بقدر الإمكان كما ذكرتُ دون أن نتهجّم ودون أن نطري الإطراء الكامل فالله تعالى علّمنا يا أولي الألباب بأن نعمل عقولنا وعندنا مقياس، ما يتماشى والسنن الكونية الإلهية التي ورد ذكرها في القرآن الكريم وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام نقبله وما لا يتماشى لا نقبله، وهذا واضح وجدير بالذكر، ولهذا الآن الأطروحات في الجامعات التي تحاول أن تقرأ قراءة موضوعية عن طريق المقارنة خرجت بنتائج مختلفة  بالنسبة إلى قضايا التاريخ بصفة عامة والتاريخ الإسلامي بصفة خاصة.

 

الإسرائيليات داء عياء

* المحاور: رغم ادعاء بعضهم أنهم ينقلون الأحداث كما هي لماذا تضم مؤلفاتهم جملة من الإسرائيليات والمهاترات التي يندهش القارئ عندما يريد أن يتصفح ويطلع على حدث تاريخي مهم وخاصة عند حديثهم عن الفتنة التي وقعت في آخر عهد عثمان وبداية عهد علي؟

*الدكتور الجعبيري: الإسرائيليات داء عياء عند المؤرخين المسلمين، هؤلاء الناس حاولوا أن يفهموا بعض الأحداث، واعتمدوا في ذلك  على روايات متعددة، ويا ليت الأمر وقف عند كُتب التاريخ وإنما نجد أن كُتب التفسير هي أيضا طافحة بهذه الإسرائيليات، وهذا مطبّ يمكن أن يعزى لغفلة المؤرخين المسلمين، ويمكن أن يعزى لكيد الكائدين من اليهود الذين لم يتمكنوا من إيقاف الزحف الإسلامي فتحولوا في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الكيد ومعروف أن القرآن الكريم في قصص الأنبياء يكتفي بالتلميح لأن الغرض القرآني إنما هو دفع الإنسان للاعتبار فلا يذكر الأسماء، ولا يذكر أسماء الأشخاص، ولا يذكر أسماء الأماكن، فانساب المؤرخون والمفسرون من الاستفادة من كتب المتقدمين ومن بينها كتب بني إسرائيل وتفسيرٌ للتوراة وإضافات وما إلى ذلك، وكأنّ ذلك كان محبذا عند الناس لأن تكتمل قصة سيدنا نوح عليه السلام وأن تكتمل قصص بقية الأنبياء فوضعوا هذه الإضافات على أنها من باب التفسير ومن باب التعريف ومن باب ذكر الأسماء، والمؤرخون طبعا انسابوا في هذا غاية الانسياب فطبعا اليوم تصفية الغث من السمين بالنسبة إلى هذه الأخبار – كما ذكرت – تحتاج إلى أن تقاس بالنصوص القرآنية وأن يكتفي المسلمون في أخبار المتقدمين فيما جاء مقدسا لا نقاش فيه.

 

 والبقية كلها يجب أن تنزع من صفحات كتاباتنا المعاصرة وفعلا الفكر المعاصر الآن تخلص من هذه النزعة التي سادت في فترة من فترات مؤرخينا، هذه الفكرة الثاقبة الآن التي ندعو إليها هي أن الإنسان من واجبه في كتابة التاريخ أن لا يعتمد على القصص الخرافية والأسطورية وما إلى ذلك، عقليةٌ تجاوزها الزمن كانت سائدة فعلا لدى هذه الكتابات وموقفنا منها موقف الحذف التام لأنها لا تزيد في التاريخ شيئا، وهذه الدسائس الإسرائيلية استمرت أيضا مع التاريخ الإسلامي وأحواله من روايات يعجب بها المؤرخون، وتوجد في كتاباتهم فليس من الصعب علينا أن نغربل هذه النصوص من هذه القضايا وأن نكتفي بسرد الأحداث، والذي يبدو أنه يكون أقرب إلى الواقع، وكما ذكرت.

 

 المؤرخون يأخذ بعضهم عن بعض فيناقض بعضهم البعض، وبالمقارنات النقدية والتدقيق في ذلك قد نصل إلى جانب من الحقيقة، أما الوصول إلى الحقيقة كما هي فذلك ليس عملا بشريا لماذا؟ لأن راوي الأحداث وهو يعيش الحدث، مثلا أنت تعيش اعتصاما أو مظاهرة كما يقال اليوم فأنت في الحدث في زاوية واحدة والحدث يغطي المدينة كلها فعندما تروي الحدث تروي الحدث من المكان الذي أنت فيه فأنت صادق في ذلك، أو تأتيك الأخبار عما يقع في بقية الجهات فروايتك عن الحدث الذي عشته وتعيشه صحيح أما ما جاءك من أخبار فهو منقول يحتمل الصدق والكذب، وأنت أيضا في مكانك تنظر للحدث ليس من كل الأبعاد لأن قدرتك العقلية والسمعية والبصرية لا تستوعب ذلك فتنظر من زاوية واحدة وأنت تعيش الحدث فتنقل ما رأيته، ولعل الذي رأيته هو ضرب من التمويه من الذين يسيّرون هذه المظاهرة فتروي رواية يناقضك فيها واحد هو معك في نفس الساحة وأنا أقول دائما لأبنائي الطلبة آخذ كتابا مثلا وأقول انظروا إلى هذا الكتاب مستطيل فمن ينظر إلى مقدمة الكتاب يعطيك رواية، ومن ينظر إلى قفا الكتاب يعطيك صورة ثانية، ومن ينظر إلى الجهة المستطيلة الدقيقة من الكتاب يعطيك صورة أخرى، فحينئذ الكتاب عندما ينظر إليه من زوايا يعطيك صورا متعددة والوصف يأتي مختلفا، فعلى القارئ الآن أن يتتبع عديدا من القراءات وعديدا من الروايات عسى أن يقترب من الحقيقة.

 

أكبر المشاكل كُتّاب المقالات

* المحاور: الأشعري والبغدادي وابن حزم وغيرهم ممن كتبوا عن الفرق الإسلامية لم يكونوا مؤرخين بقدر ما كانوا حكاما يدخلون من شاؤوا في الإسلام ويخرجون منه من شاؤوا فهل يعدّ  ذلك من الناحية الموضوعية كتابة أو حديثا عن الفرق الإسلامية؟

*الدكتور الجعبيري: من أكبر المشاكل اليوم في حضارتنا الإسلامية كُتّاب المقالات، فالصراع بين الفرق الذي تذكّيه السياسة والمذاهب أيضا حوّل واقع المسلمين إلى واقع مرّ وإلى صراع عنيف وصل إلى الصراع الدموي، وشاع في أذهان الناس أو كثير من الناس على الأقل أن كتب المقالات ضرب من الكتب المقدسة، وهؤلاء الكتاب ظلوا يتناقلون الأخبار عن بعضهم البعض فما جاء عند أولهم تجده يتكرر عند آخرهم، وهذا فعلا يجعل القارئ يصاب بدهشة لأن آخر من كَتب في المقالات لا يزال يصدق أقوالا جاءت تكفّر فرقا إسلامية وينقله بحرفيته دون أن يُعمل عقله فيه، على أن هؤلاء الذين كتبوا أنصفوا.

 

 وأنا أكثر معايشة لهؤلاء الكُتّاب لأني اهتممت كثيرا بالقضايا العقدية من زوايا متعددة وكتبت عن العقيدة الإباضية في أطروحاتي العلمية فوجدت أن النظرة يجب أن تدقّق، وأن كلمة واحدة يمكن أن تقلب المعنى كله، فكتاب المقالات عندما تنتهي من قراءة نصوصهم ستجد أنهم ـ بشعور أو بدون شعور – ويتحملون مسؤولية ذلك ـ تجد أنهم ينحازون إلى الفرقة التي يتبنونها ويقيسون من خلالها بقية الفرق، ويرون أن الفرقة الناجية هي فرقتهم وأن بقية الفرق هالكة ولهذا عندما تقرأ هذه الكتب ستجد أنك إذا قرأت لها من منظومتها ستضع الناس جميعا في الجنة.

 

 وإذا قرأت قراءة كل فرقة من الفرق الأخرى ستجد أن الناس جميعا في جهنم، وهذا ليس من الصواب في شيء، لأن كل فرقة فيها صالح وطالح، والناجي هو الصالح من جميع الفرق كما قال شيخنا علي يحيى معمر الذي كتب في هذا الباب فعلى هذا الأساس يجب أن نقرأ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يذكر الفرقة الناجية  وقد جاء في روايات متعددة تحتاج إلى نظر وتمحيص وحاشا للرسول عليه الصلاة والسلام أن يميز بين أتباعه بدون مقياس إيماني ومقياس راسخ مع القرآن الكريم ومع سنة الرسول عليه السلام فالذي ندعو إليه الآن أن نقرأ هذه النصوص وأن نقيسها بالقرآن الكريم وأن نسعى إلى إحسان ظن بعضنا ببعض سوى بعض المهاترات التي وصلت فعلا إلى تجسيم المولى تبارك وتعالى أو تشبيهه تشبيها فظيعا بمخلوقاته فذاك لا يقبله القرآن الكريم ولا تقبله سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فنصوص المقالات تحتاج إلى نظر ثاقب وقلّ من لم ينحز إلى مدرسته ولم يتّهم المدارس الأخرى ولم يضعها في دائرة مغايرة للتي يضع فيها دائرته.

 

 وأنا لا أريد أن أسمي مؤرخا من مؤرخ ولا كاتب مقال من كتاب المقالات وإنما جملة ما جاء هكذا، لأن أول من كتب عن الفرق هو الأشعري حشر هؤلاء الإباضية في زمرة الخوارج ومن جاء بعده ظل يحشرهم إلا من المتأخرين  ممن وضعنا بين أيديهم نصوص الإباضية وكتاباتهم ففهموا بصعوبة  وكثير منهم أنصف وينصف في كل مكان وبعضهم يمسك في المجالس العامة ولكن في مجالسه الخاصة لا يزال يتشبث بالرأي القديم فنحن نقول عوض أن نعتمد على نصوص أصحاب المقالات بأنها مقدسة بل نرجع لكل فرقة ما كتبه علماؤها بأقلامهم ونقرأ بتفهم ما كتبوه دون انحياز مع فهم للمنظومة الكاملة بدون مقياسها بمصطلحات المنظومة الأخرى لأنك إذا قرأت المنظومة الأشعرية وقستها بالمنظومة الاعتزالية فإنك ستقع في مطب وإنما تقرأ المنظومة كاملة، منظومة أهل العدل والتوحيد وتحاول أن تفهم أصحابها لماذا اتجهوا في هذا الاتجاه وأن تقرأ من المدرسة الأشعرية من داخل المنظومة، وأن تقرأ المدرسة الإباضية من داخل المنظومة، وأن تجعل جميعا على قدم المساواة أمام نص مقدس أمام القرآن الكريم وأمام ما صحّ عن النبي عليه الصلاة والسلام، وبدأ الناس يقولون الآن فكرة علم الكلام الجديد وبدأ هذا التوجه ينتصر له عديد من المؤرخين ولا تزال في جذوره الأولى، أقول أيضا هذا الاتجاه الجديد يجب أن يؤخذ بحذر حتى لا تقع قطيعة بين الكتابات التقليدية وبين الكتابات المعاصرة الجديدة، ونتحول إلى لغة لا ندري مآلها في مستقبل الأيام، هذا خلاصة ما يمكن أن يقال عن كتاب المقالات.

 

العداء يورّث التهميش

* المحاور: تعرض الإباضية في كتب هؤلاء المؤرخين إلى التنكيل بهم وزجهم في مجموعة ما يسمى بالخوارج دون تثبت مما يكتبون هل تعتقدون أن الدولتين الأموية والعباسية لهما اليد الطولى في تحديد هوية الفرق الإسلامية؟

*الدكتور الجعبيري: السياسة وما أدراك ما السياسة، كل معارض يوضع في خانة العداء، والعداء يورّث التهميش، ووصل إلى الاتهام والقتل، قضية الإباضية قضيةٌ الخلل فيها عبر التاريخ ناتج عن الطرفين، عن الناس عامة وعن الإباضية خاصة، فالإباضية كغيرهم أو أكثر من غيرهم مروا  بمحن عديدة وهذه المحن جعلتهم يستأثرون بمعلومات لأنفسهم لأنها تورطهم إذا صرّحوا بها، فكتموا كثيرا من المعلومات عن حقائقهم نتيجة ضغط الحجاج ومن جاء بعده، فهذا الكتمان وهذا التخفي وعدم الظهور جعل الناس لا يعرفونهم معرفة جيدة لأن إنتاجهم لما ظهر أدّاهم إلى بلاء مبين  فنفهم السر في إخفائهم حقيقة أمرهم، والآخرون لأنهم يكتبون من الجانب السياسي، والجانب السياسي الذي يعتبر أن هؤلاء أهل ثورة وأنهم ضمن ما أطلقوا عليه كلمة خوارج، وهذه الكلمة سلاح حاد أطلقته الدولة الحاكمة الأولى وهي الدولة الأموية ضد من خالفها في السياسة.

 

ومعروف أنّ – ولا أقول الخوارج – وإنما المحكّمة التي نبع منها الإباضية وقضية التحكيم هذه قضية فيها كلام كثير، والواقع التاريخي أثبت أن وجهة نظر الإباضية كانت واضحة في هذا الباب، وأن هذه الجماعة كانت من أنصار الإمام علي كرم الله وجهه، بعد ذلك انقلبت الدوائر مع معاوية الذي كان أول من لم يقبل برأي الإمام وتمسك بولاية الشام حتى يفَضَّى أمر أخذ الثأر أو التحكيم في شأن دم عثمان فهذه المشكلة حولت وجهات النظر تحويلا كثيرا وجعلت الدولة الأموية اعتبرت هؤلاء أصحاب عبد الله بن وهب الراسبي وجماعة النهروان أنهم أعداء واختلط أمر هؤلاء الناس في وجهة النظر بسرعة، فعبد الله ابن إباض ومعه الإمام جابر بن زيد والجماعة اختاروا فكرة القعود والاستعداد للمستقبل وهذا ما لا يفهمه المؤرخون الآخرون إلا بصعوبة، وتركوا تيار نافع ابن الأزرق والصفرية واستقاموا لأنفسهم.

 

 والدولة لا تميز بل بالعكس هي تريد أن تضرب الجميع فحينئذ الإباضية لا يقبلون نسبتهم إلى الخارجية وإنما يقبلون التسمية الحقيقية التي أطلقها أسلافهم الأول على أنفسهم وأطلقها عليهم مخالفوهم لأنهم أهل التحكيم وأنهم محكّمة وما جاء بعد ذلك بأن الخارجي معناه الخروج عن الإسلام أو خروج عن الإمامة وهو أيضا قيس بمقياس الإسلام الصحيح الخروج عن الإمام العادل في النهاية خروج  عن الإسلام وعن سياسة الدولة الإسلامية وفهم عديد من المؤرخين المعاصرين عندما طالعوا نصوصنا الأولى التي أرّخت من نوع كتاب السير والجوابات وكتابات أبي سفيان محبوب بن الرحيل، فالكتابات الأولى وما جاء بعدها مُحّصت.

 

 ومن خير من محّص نصوصنا هذه  الدكتور عمرو خليفة النامي رحمه الله في كتابه دراسات عن الإباضية ومهدي طالب هاشم في دراسته عن الحركة الإباضية في مرحلته الأولى وهو عراقي غير إباضي وعوض خليفات وهو أردني عن الحركة الإباضية فهذه الكتابات المعاصرة مع ما كتبته بنفسي في هذا الباب محّص هذه القضايا وحاولنا أن نراعي شعور جميع الاتجاهات حتى لا نقع في مطب سباب وشتم الآخرين.

 

 فنحن نعذر المؤرخين الذين كتبوا لأنهم كتبوا دون أن يطلعوا على نصوصنا، فلهم الحق بأن يتوارثوا نصوص المؤرخين وكتب الفرق والمقالات، لكن اليوم لا مبرر بأن تجد كتابات لا تزال تكتب في هذا التيار المعادي لهذه الفئة القليلة في العالم الإسلامي المنحصرة في عددها الأكبر في السلطنة وفي بلاد المغرب في جبل نفوسة في ليبيا وزوارة وفي تونس في جزيرة جربة وفي الجزائر في وادي ميزاب وفي تنزانيا في شرق إفريقيا في جزيرة زنجبار مع توسع لعدد من هؤلاء الناس في الأسواق العالمية، لأن الإباضية يشتغلون التجارة، فهم شتات في جميع أنحاء البلاد التي ينتمي إليها مذهبهم وفي جميع أنحاء العالم.

 

 نقول نحن هذه كُتُبُنا الآن طبعت بفضل وزارة التراث والثقافة في عمان وبفضل نشاط إخوتنا في وادي ميزاب ونشاطنا في الجزيرة بقدر الإمكان فجل النصوص الآن خرجت مع أن هذه النصوص يجب أن تحقق تحقيقا جديدا يفهّمها الإباضية لغيرهم، وفعلا وجدنا ممن أنصف والمحافل الآن عامة والندوات التي تنعقد.

وفي 11 و12 أكتوبر الماضي انعقد ملتقى في جامعة آل البيت سمعنا أناسا طالعوا نصوصنا ويذكرون الأمر على حقيقته وهذا يتطلب منا معاشر الإباضية جهدا أكبر ويتطلب من إخوتنا من عالمنا الإسلامي الذي نرجو له الوحدة والاتحاد ليجابه التيارات التغريبية والتيارات التشكيكية والتيارات الإلحادية وما أحوج أمتنا اليوم إلى أن تتحد جميع الفرق والمذاهب لتكون كتلة إسلامية لا نقول زاحفة وإنما كتلة إسلامية واعية تسعى إلى أن تنشر الخير في العالم وأن تبصر أهل المادة وأهل الطغيان ليرجعوا إلى التعايش مع العالمين تعايشا حضاريا راقيا يحترم فيه الغني الفقير ويحترم فيه الفقير الغني، والعالم الآن واضح منقسم إلى جماعة في أقصى تيارات الرقي والمادة والأموال وجماعة أخرى في الحضيض فيا ليت أهل الحضارة اليوم يتعاونون فيما بينهم ليعيش الناس في أمن وسلام.

--------------------------

جريدة عمان: الجمعة, 10 صفر 1435هـ. 13 ديسمبر 2013م 

 

 

-------------------------------------------------------------------------------------------------------------

التاريخ الإسلامي كيف نقرؤه؟ (2) -

د. فرحات الجعبيري:

التقدم العلمي والدراسات المعاصرة أكسبت القضايا التاريخية وجها جديدا -

أجرى الحوار ــــ فوزي بن يونس بن حديد -

اكد الشيخ الدكتور فرحات بن علي الجعبيري أن المرحلة الأموية والعباسية جزء من التاريخ أحبّ من أحبّ وكره من كره.

وقال: الواقع الآن أن الدراسات الأكاديمية تحاول أن تقرأ ما كُتب من قبل قراءة جديدة وواجبنا أن نعيد قراءة جميع ما كتب بالنسبة إلى التاريخ وإلى غيره.

وأوضح أن التطور الحضاري يجعل الإنسان يكتشف من خلال النصوص القديمة وتوجيهها بقراءات وبمناهج متعددة ويعطينا أشياء جديدة وينبّهنا إلى أحوال لم يكن الذين سبقونا ينتبهون إليها.

وبين ان التقدم المعاصر والطباعة والدراسات المعاصرة أكسبت القضايا التاريخية وجها جديدا.

وأشار الى  ان في الحضارة الإسلامية جوانب مشرقة وجوانب قاتلة فنستفيد ونتأسى كما علمنا الإسلام بالحسن وبالطيب ونعتبر مما وقع فيه القوم من أخطاء.

واكد ان الغث والسمين موجود في كل زمان وفي كل حضارات الإنسان لأن الإنسان ليس كاملا.

وقال: نحن لسنا من الذين يقولون لم يترك السابق للاحق، فالإنتاج الحضاري مفتوح ومن واجبنا معاشر الإباضية أن نقيم أعمالا موسوعية ـــ والحمد لله ـــ بدأنا في هذا الخط ومن ذلك: معجم أعلام الإباضية والمصطلح الحضاري عند الإباضية.

واوضح ان الإمامات الإباضية عرفت مراحل ازدهار ومراحل صراع وانحطاط، فكل هذا يجب أن يدرس وأن يُتحقق منه.

وبين ان إخوتنا في وادي ميزاب الآن دخلوا خلال الديار وأخرجوا مكتبات عدة للوجود، والموسوعة المنتظرة هي موسوعة المؤلفات الإباضية عبر الزمان ومؤلفات الذين كتبوا عن الإباضية.

وأشار الى ان الكتابات في تاريخ الحضارة الإنسانية وفي العلوم الإنسانية لا يمكن بأية حال من الأحوال أن يتجرد الكاتب من كيانه من ذاته من ميولاته.

واكد أن الإباضية الذين خرجوا أو ولدوا من رحم تيار المحكّمة هم أقرب إلى الواقعية وما تحتاج إليه البشرية وإلى سيرة الرسول عليه السلام من حيث التمسك بالشورى وعدم الاعتماد على النسب كما هو الشأن بالنسبة للتيارات الإسلامية الأخرى.

وقال: إن الأغلبية الساحقة ليس بالضرورة أن يكون معها الحق ولو كان الحق مع الأغلبية لانتهت رسالة التوحيد من زمان لأن أغلب من يعيشون على الأرض ليسوا من رسالات التوحيد في شيء.

واوضح ان الحق عندنا في الإسلام هو أن الحسن ما حسنته الشريعة والقبيح ما قبحته الشريعة هذه عقيدة نشترك فيها مع أغلب الفرق الإسلامية.

وبين أن الخلاف بالاتفاق جائز بل سعة الاختلاف هي التي جعلت الإسلام  قادرا على أن يستوعب جميع مشاكل البشر عبر الزمان والمكان، وبالفقه كان الإسلام خالدا.

وقال: ما دام المسلمون يقيمون الضجة حول بعضهم البعض حول خلاف فقهي بسيط فإنه يصعب أن يتوصلوا إلى التوحد فنحن أحيانا نسمع زوابع في الصحافة لا لشيء إلا لأن هذا خالف في فرع من فروع الطرف الآخر.

ونحن نقول: أيها المسلمون علينا أن نجتهد ونسعى إلى الرشاد ونقترب من بعضنا البعض وأن يعذر بعضنا البعض في ما اختلفنا فيه.

اسئلة عديدة يكشف لنا بعضا مما خفي فيها عن الناس فضيلة الشيخ الدكتور فرحات بن علي الجعبيري المؤرّخ والكاتب في الحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي والملمّ بأحوال الأمة قديما وحديثا، فإلى نص ما قاله في الحلقة الثانية والأخيرة من هذا الحوار.

 

نحن لا نقف هذا الموقف

* الشيخ الدكتور فرحات الجعبيري ما تعقيبكم على قول الشيخ علي يحيى معمر أن الحقبتين الأموية والعباسية ليستا من التاريخ الإسلامي في شيء؟

 ـ وأسألك من أين لك هذا الكلام؟

*من خلال مؤلفاته عن الفرق الإسلامية وحديثه عن الفرقة الإباضية بين الفرق الإباضية وأن التاريخ الإسلامي في تلك الفترة مليء بالمآسي والحروب وعدل عن الكتابة فيهما.

ـ على كل هذا موقف نحترم فيه الشيخ علي يحيى معمر ونحن لا نقف هذا الموقف، فالمرحلة الأموية والمرحلة العباسية جزء من التاريخ أحبّ من أحبّ وكره من كره وكما ذكرت في جواب عن سؤال سابق، هؤلاء الناس قدموا للأمة الإسلامية خيرا ووقعوا في مطبات فنحن نستفيد من الجانب الحسن ونعتبر من الجانب السيئ.

 

قراءة جديدة للتاريخ

* برأيكم هل يجب إعادة كتابة التاريخ الإسلامي من جديد وبطريقة أقرب إلى الموضوعية والحيادية التامة أم أن الأمر يحتاج إلى غربلة فحسب؟

 ـ الواقع الآن أن الدراسات الأكاديمية تحاول أن تقرأ ما كُتب من قبل قراءة جديدة وهذا على مستوى العالم الإسلامي والعالم الغربي وهذا ليس خاصا بحضارتنا وإنما كل الكتابات المتقدمة لأنها كُتبت بلغة القوم وبطريقتهم، وما تحوّل في دراسات العلوم الإنسانية من اكتشاف مناهج وإحداث أنواع كثيرة من القراءات، واجبنا أن نعيد قراءة جميع ما كتب بالنسبة إلى التاريخ وإلى غير التاريخ، لأن التطور الحضاري يجعل الإنسان يكتشف من خلال النصوص القديمة ومن خلال توجيهها بقراءات متعددة وبمناهج متعددة يعطينا أشياء جديدة وينبّهنا إلى أحوال لم يكن الذين سبقونا ينتبهون إليها، وفعلا التقديم المعاصر والطباعة المعاصرة والدراسات المعاصرة أكسبت هذه القضايا التاريخية وجها جديدا وكما ذكرت في كل حقبة ولدى جميع الناس في الحضارة الإسلامية جوانب مشرقة وجوانب قاتلة فنستفيد ونتأسى كما علمنا الإسلام بالحسن وبالطيب ونعتبر مما وقع فيه القوم من أخطاء، والقرآن الكريم فعلا عندما  قصّ علينا قصص الأنبياء بيّن لنا صراعهم مع أقوامهم الذين كانوا رمز الباطل، وكثير من الباطل تعلمنا اجتنابه من سيرة  فرعون ومن غير فرعون فلذلك الغث والسمين موجود في كل زمان وفي كل حضارات الإنسان لأن الإنسان ليس كاملا والإنسان كان يقع في أخطاء، أحيانا يتعمد وأحيانا من باب السهو، فقراءتنا دائما عندنا معاشر المسلمين نقيس كل شيء بما قال تعالى وما صح مما قال عليه الصلاة والسلام.

 

الإنتاج الحضاري مفتوح

* هل يكفي ما كتبه الشيخ علي يحيى معمر والشيخ السالمي والشيخ سالم بن يعقوب عن التاريخ الإباضي أم أن الأمر يحتاج إلى تجنيد المؤرخين الإباضية الجدد لتسخير أقلامهم وتوضيح اللبس الذي وقع فيه من سبقهم؟

- طبعا نحن لسنا من الذين يقولون لم يترك السابق للاحق، فالإنتاج الحضاري مفتوح بل من واجبنا معاشر الإباضية اليوم أن نقيم أعمالا موسوعية والحمد لله بدأنا في هذا الخط مع مؤلف أول هو معجم أعلام الإباضية ومؤلف ثان هو المصطلح الحضاري عند الإباضية وطبعا جاءت كتابات من هنا وهنالك لكن إلى الآن لم تفكر الجماعة بعد في موسوعة تاريخية كاملة، فالمحاولات موجودة في المغرب والمشرق، فكتب الدكتور بحاز عن الدولة الرستمية وهي جانب من الجوانب التاريخية في المغرب وكتبت أنا عن نظام العزابة وهو أيضا جانب تاريخي اجتماعي ديني واقعي وكتب الإخوة العمانيون عن دولهم وعن تطوراتها وإن شاء الله من خلال هذا السؤال نحاول مع أهل الاختصاص  في هذا الباب من الإباضية ومن غير الإباضية المنصفين الذين نضع بين أيديهم هذه النصوص ونصدر موسوعة أو موسوعات، لأن الموسوعة الواحدة لا تكفي لكتابة تاريخ الإباضية  في المشرق والمغرب، نوجهها بصورة أنها تشمل كل الجوانب الحضارية للحياة الإباضية عبر تطوراتهم وفي جميع أحوالهم، أحوال الازدهار وأحوال الانحطاط لأن الإمامات الإباضية عرفت مراحل ازدهار وأيضا عرفت مراحل صراع وانحطاط، فكل هذا يجب أن يدرس وأن يُتحقق منه من خلال ما يتوفر لدينا من نصوص  وما نزال إلى اليوم نكتشف مخطوطات كنا نعتبرها مفقودة، وإنما هي كانت مغمورة وتظهر للوجود يوما بعد يوم، فإخوتنا في وادي ميزاب الآن دخلوا خلال الديار وأخرجوا مكتبات عدة للوجود، والموسوعة المنتظرة هي موسوعة المؤلفات الإباضية عبر الزمان ومؤلفات الذين كتبوا عن الإباضية نسأل الله تعالى أن ييسر صدورها قريبا، فهي فعلا تيسر هذا العمل وإن شاء الله نحن قريبا سنعقد ندوة سميناها ندوة المخطوطات سنحقق مخطوطا عن بلاد المغرب وعن إباضيته من كتابات أبي عمر خليفة السوفي رحمه الله كتبه في القرن السادس لهجرة الرسول عليه الصلاة والسلام وفيه أخبار طريفة مع استغلال كتب الفقه وكتب العقيدة وكل ما كتب لنقرأها قراءة تاريخية تفيد في معرفة كثير من الأشياء الحضارية التي يتفق فيها المشارقة مع المغاربة وكثير من القضايا الحضارية جعلت المذهب الإباضي يتأقلم بشكل في المشرق ويتأقلم بشكل آخر في المغرب، كل هذا نحن مطالبون به على الأقل نخطط له في جامعاتنا، الإباضية وغير الإباضية واستنفار الباحثين في ذلك لاتجاه العمل الموسوعي ثم بعد ذلك العمل التفصيلي الجزئي، والحمد لله الآن توفرت العديد من النصوص بفضل وزارة التراث والثقافة بالسلطنة وبفضل مجهوداتنا الفردية هنالك في المغرب مما يجعلنا فعلا قادرين على القيام بهذا العمل وهو تجديد لا بد منه حتى لا يبقى تراثنا راكدا كما بقي راكدا حقبا من الزمن، والشيخ سالم بن يعقوب رحمة الله عليه فضله كبير والشيخ علي يحيى معمر فضله كبير وكل من كتب قبلنا نحن نستفيد من كتاباته ونعلم أن نصوصا هي متوفرة لدينا اليوم لم تتوفر لدى الذين تقدمونا.

الموضوعية المطلقة غير موجودة

*- برأيكم ما هي الصفات الحقيقية التي يجب أن تتوفر في المؤرخ حتى يكون موضوعيا وحياديا؟

 ـ الموسوعة ليست عملا فرديا فمجموعة من العلماء باتفاق يكونون لجنة علمية وهذه اللجنة العلمية تضع ضوابط، وهذه الضوابط عادة توصّل إلى أقرب ما يكون إلى الموضوعية، أما الموضوعية المطلقة فصدّقني هي وهم، ولا توجد الموضوعية المطلقة إلا في القضايا الإسلامية الأساسية في العلاقة مع المولى تبارك وتعالى حيث يعلم المسلم أنه حرام عليه أن يكذب أو أن يموّه،  بينما الكتابات في تاريخ الحضارة الإنسانية وفي العلوم الإنسانية لا يمكن بأية حال من الأحوال أن يتجرد الكاتب من كيانه من ذاته من ميولاته، وإنما كما ذكرت العلوم العصرية والمناهج العصرية تضبط ضوابط محددة وشروطا يلتزم بها الجميع الذين يلتزمون بالكتابة.

، ونحن شاركنا في كتابة موسوعات وكلفنا بالكتابة عن الإباضية حسب شروط واضحة اتفقت عليها اللجنة المهيئة لهذه الموسوعة وهذا طبعا يجعل العمل قريبا من الواقع، مثبتا ما للناس وما على الجماعة الإباضية عبر الزمان وعبر المكان ونحن من منطلق إسلامي أعتقد بكل وضوح أن الفكر الإباضي عبر الزمان وأن الجماعة الإباضية مرت بمراحل ازدهار  ومراحل انحطاط، وقعت فيها أخطاء كما ذكرت كنا نعتبر منها ومراحل ازدهار وهي التي يقتدى بها وفعلا خاصة في عالم السياسة وفي عالم الشورى، المحكمة والإباضية الذين خرجوا أو ولدوا من رحم هذا التيار، تيار المحكّمة هم أقرب إلى الواقعية وما تحتاج إليه البشرية وأقرب إلى سيرة الرسول عليه السلام من حيث التمسك بالشورى وعدم الاعتماد على العرق وعدم الاعتماد على النسب كما هو الشأن بالنسبة للتيارات الإسلامية الأخرى، ونحن نحترمها ولها مبرراتها.

 بينما الفكر الإباضي من البداية جعل من شروط الإمام أن يكون متكاملا خَلقا وخُلقا وأن يكون من أي جنس ومن أي فئة، الأساس أن يكون عدلا وأن تتوفر فيه جميع الشروط  بدون الالتزام بشرط القرشية أو شرط آل البيت وهذا يتماشى اليوم مع جميع أنواع الحكم الذي تنادي به البشرية، ومازالوا إلى اليوم لم يوفقوا حتى هذه الديمقراطيات في ظاهرها صورة ولكن في باطنها صراع مرير وإنفاق كبير وذمّ للطرف الآخر عنيف فهذا ليس من مسلك المسلمين، فالذي خالفك يمكن أن يخالفك في وجهة نظر لكن ليس من حقك أن تتهجم عليه وأن تهول من جميع أعماله وأن تضعه في الحضيض ونحن نعلم الآن الصراع المرير بين الأحزاب والأموال التي تنفق والإغراءات التي تقدم، ثم هذه الأغلبية الساحقة ليس بالضرورة أن يكون معها الحق ولو كان الحق مع الأغلبية لانتهت رسالة التوحيد من زمان لأن أغلب من يعيشون على الأرض ليسوا من رسالات التوحيد في شيء.

 وإنما الحق عندنا في الإسلام هو أن الحسن ما حسنته الشريعة والقبيح ما قبحته الشريعة هذه عقيدة نشترك فيها مع أغلب الفرق الإسلامية سوى أهل العدل والتوحيد الذين انقرضوا الآن من الوجود والذين قالوا: ان العقل هو الذي يحسن وأن العقل هو الذي يقبح، والإباضية رغم تعايشهم مع فكر أهل العدل والتوحيد لكنهم سلكوا المسلك المعتدل واعتبروا أن حجة الله على الناس إنما هم الرسل والكتب المنزلة وفي المرحلة الأخيرة منذ أن جاء محمد عليه الصلاة والسلام فهو الحجة على الجميع، وعلى بقية الرسالات السابقة أن تنضم لأنها كلها جاء فيها التبشير بالرسول عليه الصلاة والسلام ودعت في نصوصها الأصلية غير المحرفة إلى اتباع خاتم الأنبياء عليه السلام إلا أن الناس تكبروا وكابروا وأبوا إلا أن يضعوه صراعا – كما يقولون- بين الأديان وهو في الحقيقة فيه صراع بين الأديان بين دين التوحيد لأن الله تعالى يقول:” إن الدين عند الله الإسلام” وفيه صراع داخلي بين الرسالات رسالة سيدنا موسى عليه السلام وسيدنا عيسى عليه السلام وفيه أيضا صراع داخلي في المنظومة الإسلامية بين الفرق الإسلامية خاصة في الجانب العقدي، وهنا مكمن الخلاف والصراع، والصراع المذهبي وكان في الأصل لا ينبغي أن يكون صراعا مذهبيا لأن الخلاف بالاتفاق جائز بل سعة الاختلاف هي التي جعلت الإسلام  قادرا على أن يستوعب جميع مشاكل البشر عبر الزمان وعبر المكان.

 وبالفقه كان الإسلام خالدا لأن القرآن لم يضبط الناس في أحكام محددة وإنما جعل أصولا وثوابت وجعل أشياء قارة وأطلق الأمر بعد ذلك لاجتهاد المجتهدين بحيث هذه النصوص محدودة والقرآن محدود والسنة النبوية محدودة والقرآن فصيح وصريح في هذا مكّن الناس من الاجتهاد بالنسبة إلى المتحولات وإلى ما لم يرد فيه النص  ونعلم العلاقة الجدلية بين العقل والنص كيف أن العقل في البداية هو المسيطر على النص إذ لا بد للعقل أن يسيطر على النص حتى يقبل النص ولم يعتد الناس في الإسلام، هكذا وإنما فكروا في النص ولما ثبت عندهم أنه معجزة وأن محمدا عليه السلام رسول آمنوا تحولوا إلى المرحلة الثانية حيث إن العقل يصير خاضعا للنص وعليه أن يقول: سمعنا وأطعنا خاصة في القضايا التعبدية حيث إن كثيرا من الأمور غير معقولة المعنى ولكن على الإنسان كما قال عمر بن الخطاب: هذا الحجر لا ينفع ولا يضر ولولا رأيت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك، فالطاعة الكاملة أما بعد ذلك فتأتي مرحلة أخرى النص يخضع للعقل بالنسبة إلى المتحولات ومن هنالك يبدأ بالإفتاء في نوازل معينة ثم هذا الإفتاء يتحول إلى تنظير ويدخل في ميثاق المقدس ونحن نرى اليوم أن القضايا المعاصرة من طفل الأنبوب والاستنساخ وما إلى ذلك تكونت لها مجامع علمية وصدرت الفتاوى صريحة ودخلت الآن المنظومة الفقهية التقليدية وأكملتها وما تزال تطالعها كل يوم بل أحيانا كل ساعة أشياء ومكتشفات جديدة على المسلمين أن ينظروا في شأنها والمجامع ما تزال مجتهدة والحمد لله رب العالمين.

 

المؤرخ حرفي اختيار المنهج

*  هل يبقى التأثير السياسي في كل عصر هو القيد الذي يكبل عنق المؤرخ فيكتب وفق أهواء الدولة السياسية أم أن الأمر أبعد من ذلك؟

_  اليوم تحولت الأحوال، من قبل ليس هناك مؤسسات حرة، وأما الآن إما أن ينخرط الإنسان في المنظومة السياسية وهو يتحمس لها إما أنه يؤمن بذلك أو أنه ينتفع من ذلك ورأينا في المرحلة التي عشناها في بلادنا تونس طائفة من الناس تحمست للزعيم الأول بورقيبة وألّهوه وكتبوا في شأنه على أنه القمة في العطاء وما إلى ذلك، وأيضا بالنسبة للرئيس الذي جاء بعده زين العابدين ولكن إلى جانب هؤلاء هناك فئة أخرى منهم من كتب مباشرة وتجرأ وانتقد زمن الرئيس الأول وحوكم وصودر ما كتب وتحمل مسؤوليته في ذلك في المعارضة في إظهار الحقائق وأيضا بالنسبة للرئيس الموالي وهكذا في سائر البلدان الإسلامية وفي سائر بلدان العالم، جماعة منخرطة في منظومة سياسية وجماعة إن استطاعت أن تكتب في زمن وحياة ودولة ذاك الطاغية كتبت وإن لم تستطع أجلت الكتابة في ما بعد، فللمؤرخ اليوم أن يختار لنفسه المنهج الذي يريد ونعلم أنه صدرت كتابات عدة حول الأوضاع السياسية المنتمية للتيار السياسي، وصدرت كتابات أخرى والحقيقة أن هذه الكتابات الثانية هي التي تحلو، تُضايَق، تُحاصَر، تُصادَر، تُجمَّع من الأسواق إلا أن الناس يتهافتون عليها وفعلا حال سقوط النظام في تونس عديد من الكتابات التي كتبت دخلت واجهة المكتبات ودخلت الشبكة العنكبوتية، وأصحابها منهم من تجرأ وأصدرها من قبل ولكنها حوصرت ومنهم من لم يصدرها وهو يصدرها الآن بصورةِ أن الإنسان عليه أن يستفيد من الكل لأن المعارض يكنس كل شيء والموالي يطمس كل شيء للطرف الآخر، فبعد ردح من الزمن الجامعات تعتني بهذه القضايا وتكلف الطلبة ذوي الأطاريح والماجيستير والدكتوراه وعادة هذه الكتابات الأكاديمية تكون أقرب ما يكون إلى الحقيقة لأن أصحابها يكتبون من أجل نيل شهادة ويحاسبون عليها من لجان تُشكَّل من أساتذة عادة يعارض بعضهم البعض فبصورة أن طالب الدكتوراه لا يستطيع أن يكتب في اتجاه واحد لأنه يعلم أن لجنة المناقشة سوف يوجد فيها من يعارض الفكرة التي هو يتبناها ومن يحايد ومن يوافق فلذلك نحن نعرف من خلال ذلك الاحتياطات الكاملة التي يتبناها الطالب ولا يكتب إلا ما هو مقتنع به وله الحرية الكاملة في ذلك بشرط أن يكون قادرا على الدفاع عن نظرته، والأطروحة نظرية جديدة وتحليل جديد لم يسبق من قبل فإذا كان قادرا على المدافعة عن هذه الأطروحة فإنه يبز أساتذته الذين يناقشهم وهي مناظرات قد تدوم 6 ساعات أو 8 ساعات من الحوار ومن النقاش البناء.

 والطالب ليس مقهورا في ذلك المجلس وإنما من حقه ويفسح له المجال كاملا ليرد على مناقشات الأساتذة وهي لجنة تحكيم فعلا محكمة ورئاستها موقرة، وكثيرا ما يقع فيها بعض الصراع الذي يصل إلى العداء ولكن في النهاية أغلب اللجان تناقش هذه الأطاريح وتحاول أن تصوب ما قد لا ينتبه إليه الطالب طبعا إذا اعترف هو بذلك وقبل هذا التصويب أما ما لم يقبل تصويبه فواجبه أن يدافع عنه دفاعا مستميتا وأن يزيد من الحجج الارتجالية مباشرة ولا تخرج الجماعة إلا باقتناع على أن ما في الأطروحة سائغ ويمكن أن ينتشر بين الناس.

 

العودة إلى الكتاب والسنة

* إلى أي حدّ يمكن أن تساهم إعادة كتابة التاريخ في لمّ شمل المسلمين والتقارب بينهم؟

- المسلمون لن يجمعهم إلا ما قال تعالى وقال عليه السلام فإذا عادوا إلى الكتاب والتزموا به وعادوا إلى السنة النبوية الشريفة والتزموا بها وحاولوا أن يوفّقوا بين قراءاتهم للنص واجتهدوا في ذلك فإنهم سيكونون سادة العالم، وما دام المسلمون يقيمون الضجة  حول بعضهم البعض حول خلاف فقهي بسيط فإنه يصعب أن يتوصلوا إلى التوحد ما بالك إذا كان الأمر يتعلق بقضايا عقدية من مثل خلق القرآن وقدم القرآن فالأمر أدهى وأمرّ، فنحن أحيانا نسمع زوابع في الصحافة لا لشيء إلا لأن هذا خالف في فرع من فروع الطرف الآخر نقول: أيها المسلمون علينا أن نجتهد ونسعى إلى الرشاد وأن نسعى بأن نقترب من بعضنا البعض وأن يعذر بعضنا البعض في ما اختلفنا فيه إذا أردنا أن ترقى أمتنا وإذا أردنا أن تخرج عن الدسائس وما يُكاد للمسلمين هذا لا يخفى على أحد، فقوى العالم بجميع تياراتها ترى أن أخطر ما في الوجود أن يرجع المسلمون إلى إسلامهم ولذلك هم يفجّرون المجتمعات الإسلامية تفجيرا ويشتّتونها تشتيتا بكل أنواع الأمر أحيانا بالمساعدة وهم قادرون على المساعدات ورأينا ذلك في أحوال تعيشها الأمة اليوم وأحيانا بالإيعاز وأحيانا بالإيجار وأحيانا بكل الوسائل، فهمّ القوى العالمية أن لا يسود الإسلام.

 ويا ليت هؤلاء الناس يفهمون أن سيادة الإسلام هي سيادة لهم لكن أنّى لأبي جهل أن يفهم هذا وهو يقول منكم رسول وليس منا رسول فلن تستقيم أبدا ومات أبو جهل وهو يحارب الإسلام والقوى العالمية ستموت وهي تحارب الإسلام، وماتت الشيوعية والاشتراكية من زمان وهي العدوة اللدود للدين لأن الدين عندها أفيون الشعوب فماتت هي وبقي الإسلام وبقيت الأديان والتيارات الأخرى أيضا هي كلها بجميع أشكالها رأسمالية قريبة وسطية فإنها ترى أن هذا التسامح وهذه المحبة وهذا التعايش الذي يدعو إليه الإسلام لا يسمح للإنسان بأن يستبد بالإنسان وهم يرغبون  في استعباد الآخرين حاربوا الاستعباد الفردي فحوّلوه إلى استعباد الشعوب وما تزال قوى الشر وقوى الشيطان تدفع بهذا، وبذلك يستمر الصراع بين الحق والباطل وفتوحات الرسول عليه السلام وغزواته علمتنا: نصرٌ مبين في غزوة بدر وغلبة في غزوة أحد ونصر مبين في غزوات أخرى وغلبة في غزوة حنين ولكنها تبلورت كلها معا وعلمت المسلمين أن المسلم وإن كان ربانيا وإن كان مع القرآن يمكن أن ينتصر فينال أجر النصر ويمكن أن ينهزم فيُبتلى بذلك فيصبر ليهيئ العدة لأمر آخر، ومرحلتنا لحسن حظنا أو لسوء حظنا نحن مبتلون بوضع منهار نصارع  ونجتهد لأن ترتقي أمتنا ونهيئ لذلك والله الموفق إلى أقوم السبل.

------------------------

 

جريدة عمان: الجمعة, 17 صفر 1435هـ. 20 ديسمبر 2013م